ميتافيزيقا الهُويَّة…عن الهُويَّة بوصفها مؤسسة الميتافيزيق

تكوين

 [I] كيف نتساءَل عن ميتافيزيقا الهُويَّة؟

يندرج التَّساؤل عن ميتافيزيقا الهُويَّة في التَّساؤل عن القَبْليِّ Priori الذي يجعل من أي هُويَّةٍ هُويَّةً. إنَّ ما يجعل الهُويَّة على هذا النحو إنَّما هو جملة القَبْليِّ بوصفه منظومة معقدة من المفاهيم والأفهام المُسوَّغة، ضمن ضروب تحديد الفهم ككُلِّيَّة في كلِّ مرَّةٍ، وشَرعَنته. وحتى نتعرف إلى القَبْليِّ علينا أن نتوقف عند طَرَفَيْ ثُنائيَّة [القَبْليِّ Priori- والبَعْديِّ Posteriori] على نحو الوحدة الأُنطولوجية- الإبستيمولوجيَّة التي من شأن مفهوم الهُويَّة. إنَّ وعي الكينونة، ضمن ضرب من ضروب التهيُّؤِ لـ [أن- نوجد- نحو- الخارج] إنَّما هو يعبر عن القَبْليِّ في الهُويَّة، في كلِّ مرة؛ وإنَّ حقل الوجود المجتمعيّ، أي بعد الذِّهاب إلى الخارج، يتضمَّنُ معنى البَعْديِّ الذي من شأن الهُويَّة؛ أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ. بَيْدَ أنَّ ما يتضمنه التهيُّؤ هذا، والوجود المجتمعيّ ذا، إنَّما هي تلك المحدِّدات التي تجعل من كل وحدة بين طَرَفَيْ الثُنائِيَّة أعلاه، آتيًا إلى مستوى الفكر، والفعل؛ باِعتبار أن الفكر والفعل يشتملان على صيرورة إنتاج ضروب التحديد، وإعادة إنتاجها.

لم يعد النقاش، بدءًا من ميشيل فوكو، عن ثُنائيَّة [المعرفة- والسلطة] مسألةً إشكاليَّة تتطلَّب توقفًا طويلاً عند اِتجاهات ومسارات الفهم في ما يتعلَّق بمفهوم الحقيقة داخل مفهوم الهُويَّة. المسألة قامت على أن ثَمَّةَ، دائماً قَبْلِيَّاً، معرفةً تريد السلطة أن تجعلها سائدة، ومتعارفًا عليها، وسيِّدةً على العقول والأفهام والأفكار.

لكن، ما قد نُسي، في ضرب عميق من نسيان التَّساؤل عنه، إنَّما هو الميتافيزيقا التي تضع السلطة المجتمعيَّة الكُلِّيَّة، أعني السلطة في بِنيَة الثقافة وحقولها (مثلاً حقل الدِّين، والمؤسسة الدينية)، والسلطة في بِنيَة الاِقتصاد وحقولها (مثلاً حقل التوزيع)، والسلطة في بِنيَة السياسة وحقولها (مثلاً حقل الشرعية المجتمعيَّة)، أسسها ومبادئها ومحدِّداتها في كل مرَّة.

ولأنَّ كلَّ ميتافيزيقا جديدة، تحدِّدها السلطة، على هذا النحو أو ذاك، تتطلَّب فيزيقا جديدة، أي واقعًا جديدًا، فإننا، في التَّساؤل عن الوجود المجتمعيّ، نكون، على الدوام، أمام واقعٍ مُضاف تريد السلطة أن تستبدل الواقع الواقعيّ به. يمكن ملاحظة ذلك، بسهولة، في الواقع وتعامل السلطة معه، متى ظهر شيءٌ مجتمعي متوفِّرٌ على إمكان التفلُّتِ من تحديدات السلطة له، ولمسارات فعله.

[II] أنطولوجيا الذَّات، والوجود المجتمعيّ:

حينما يبدأ التَّساؤل على هذا النحو، فإنَّ الإنسانَ في ميتافيزيقا الكائن بعامَّةٍ، أي في كل ضروب التهيُّؤِ للإتيان إلى مستوى الوجود المجتمعيّ، لا يُأخَذُ من جهة كونه فاعلاً مجتمعيَّاً، كما أراد آلان تورين ذلك، فحسبُ؛ بل أيضًا، يُفهم من حيثُ إنَّه كائنٌ يتوفَّر على إمكان أن يُزيَّفَ في ضروب إمكان وجوده المجتمعيَّة. أعني، أن فعل الفاعل هذا يمكن أن يكون فعلاً، من حيثُ وعى ذلك أم لا، ذا مضامين ليست بالضرورة ذاتية في الاِختيار والتحديد والتفعيل. هذه الذاتيَّة Subjectivism، أو ما يجعل منها كذلك، تأتي إلى مستوى التَّساؤل عنها، متى كانت ماهيَّة التَّساؤل، بالأساس، قائمة على الحُرِّيَّة بوصفها ماهيَّة العقل العلميّ الجديد. وعليه، يُصبح التساؤل في أنطولوجيا الذَّات بخاصَّةٍ، فاتحًا لمسارات الفهم على نحو جديد، حينما يُتناول من ثُلاثيَّة [الهُويَّة المجتمعية- والمؤسسة- والتذوُّت]؛ على نحو التَّساؤل عن ماهيَّة الفهم الذي يفتح آفاق إشكالات وإشكاليات جديدة، قائمة على وحدة الأطراف الثلاثة هذه، فيما يتعلَّق بالإنسان بوصفه هُويَّة. في هذا السياق، ثَمَّةَ أربع مستويات علينا أن نلج إليها عَبرَ التَّساؤل عن مفهوم الهُويَّة.

نفهم الإنسان ميتافيزيقيَّاً من جهة كونه هُويَّةً، على هدي التَّساؤل عن مفهوم الوجود المجتمعيّ الذي له؛ كما يمكن أن نتساءَل عن الإنسان أنطولوجيَّاً، من جهة الوجود الأكثر عمقًا الذي من شأنه، عَبرَ تحريك التَّساؤل عن الذَّات مأخوذةً كفعل، وإمكاناته في الخارج. وهكذا، متى قام التَّساؤل الجديد عن الإنسان، من منظار العالَميَّة، والمجتمعيَّة، إنَّما علينا أن نتوقف عند محطات ثلاث على أقل تقدير: مفهوم الهُويَّة، ومفهوم المؤسسة المجتمعيَّة، ومفهوم التذوُّت المجتمعيّ. إذن ماذا نعني حينما نريد أن نفهم الإنسان بوصفه هُويَّة؟

ماذا قال الفلاسفة عن الميتافيزيقا؟

[III] مستويات الميتافيزيقا الهَوَوِيَّة:

إنَّ للإنسان على الأرجح، ومن جهة ما اِختُصَّ به، نزعةً نحو أن يعرف ذاته من خلال الخارج، في التعالق الذي له مع الآخر. إنَّ اِختلافًا ضمن ذلك، يشير إلى الهُويَّة من جهة كونها لا تُعرف إلاَّ بتوسُّط خارجٍ ما؛ لكن ليس ذلك فحسبُ. بل إنَّ الإنسانَ يتوفَّر على ضروب إمكان إعادة تعيين الهُويَّة من خلال ما يتعلَّق به، بتوسُّطِ الوعي: وعي الذَّات بوصفه قابلية عقلية، أو وظيفة العقل الحديث (ما قَبلَ السايبر). لكن ذلك لا يكون، إلاَّ بعد أن تأتي الذَّات إلى مستوى الخارج على نحو الفعل المجتمعيّ.

وهكذا، متى فُهم الإنسان من جهة [التعدُّد- في- الفهم] الذي يقوِّمُ الاِتجاهات والمدارس والتوجُّهات الفكريَّة في حقول الفهم الخاصَّة بالفلسفة، وتلك التي تتعلَّق بعلوم المجتمع والإنسان، الحديثة وما بعد الحديثة؛ فسوف نكون مباشرةً أمام أربع مستويات علينا أن نلج إليها عَبرَ التَّساؤل عن مفهوم الهُويَّة، في تواشج بنيوي مع ضروب التذوُّت التي للإنسان، من ذاك النوع من [التعالق- مع- …]، الذي يفتح إمكانات الإنوجاد المجتمعيّ على نحو جديد، في كلِّ مرَّةٍ. تتمثَّل هذه المستويات في: -I المستوى الأول: [الـ- ميتا- هُويَّة]، و -II المستوى الثَّاني: مصادر الهُويَّة، و -III المستوى الثَّالث: معايير الهُويَّة في تحديد [الوجود- نحو- الخارج]، و -IV المستوى الرَّابع: الهُويَّة مأخوذةً كحقول وجودية- مجتمعيَّة. ولكن، في أيَّة معانٍ يمكن لنا أن نوجِّهَ الفكر نحو ذلك؟ وبالاِعتماد على أيَّة سبل تساؤل، وتفكير، وفهم؟

متى تساءلنا عن الإنسان من جهة كونه كائنًا متوفِّرًا على إمكان الوعي بذاته، في ما هي، وفي كيف هي، وحينما تندرج الفاعليَّات التي للإنسان ضمن مستويات وجوده الأربعة المختلفة، والمتمايزة حدَّ الصراع- التكامل بينها، أي المستوى الأعم، والعام، والخاص، والأخص؛ نكون أمام حركة الفكر من السطح إلى العمق على نحو الحركة من الأعم إلى الأخص. لأنَّ ما اِختُصَّ به الإنسان، في كل الأحايين، إنَّما هو العقل مأخوذًا كفاعلية [الإدراك- والفهم- والوعي]. ومن جهة ما هو كائن [متجاوز- لـ -…]، أي قادرٌ على أن يتجاوز المستويات المختلفة التي للفهم، وما يضعه هذا الأخير فيها من مفاهيم وعلاقات مفاهيم بعينها، فإنَّ للإنسان، على الأرجح، متى أُخِذَ على أنَّه مدفوعٌ نحو الترانسندنتالية، أي [الـ – ما- فوق- تعيُّنيَّة]، فإنَّهُ يتشكَّلُ، في لحظة أولى، ويتفاعلُ، في لحظة ثانية، ويُؤخَذُ، في لحظة ثالثة، ويتصيَّرُ، في لحظة رابعة.

[IV] إنتاج الذَّات، والتذوُّت:

إنَّ اللحظات الأنطولوجية هذه، من حيثُ إنَّ الإنسان [كائنٌ- مما- فوق- الهُويَّة]، أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ، أي هو كائنٌ قادر على، أو يتوفَّر على جملة الإمكانات في أن يكون قادرًا على أن يتجاوز التعيُّن، وضروبه، ومعاييره، فإنَّها تتمثَّلُ في ضروب الحُرِّيَّة، والحَذَر- الشكِّ، والاِنفتاح، والتصيُّر بمعنى البناء وإعادة البناء.

إنَّ [بعدَ- الهُويَّة] بوصفه نمطَ وجود خاصِّ بالإنسان، و[قَبلَ- الهُويَّة] بوصفه نمط وجود خاصّ بالذات، وما بينهما، يشكِّلان الإنسان في ضروب تصيُّرٍ ديالكتيكية؛ لكن أيضًا بواسطة [النَّظَر- إلى- الداخل]. لا يقوم النَّظَرُ هذا على أن الإنسان كائن مأخوذٌ بذاته، في ضروب ثرثرة تنتجها الفردانية والأنانية، والذاتيَّة في المعنى السطحي الذي من شأنها، بل هو النَّظَرُ إلى أن الإنسان كائنٌ بنَّاءٌ- صانعٌ في ذاتِ نفسه العميقة.

ومن أجل ذلك، نحن معشر [الإنسان- بعامَّةٍ] لا نكون إلاَّ بعد أن نكون كائنات [ميتا- هَوَوِيَّة]؛ أي مما قَبلَ / فوقَ التعيُّن. وحينما نشير إلى التعالق، بوصفه ضروب بناء العلاقات، العلاقات المجتمعيَّة القائمة على [النموذج- المثال Ideal-Type] الذي للإنسان بوصفه فعلاً، فإننا في الحقيقة نشير إلى ما بعد التعيُّن، ولكن في طريق مؤجَّلةٍ إلى التَّتِمة.

إقرأ أيضاًًًًًً: الألتراس والصراع الاجتماعي .. جدل الدين والهوية في الهامش

إنَّها، خلافًا لما يُتصوَّر ليست تَتمَّةً مجتمعيَّة فحسبُ؛ بل هي ضروب التكامل التي للإنسان في كونه يتشكَّل ويتشظَّى في ذاتِ نفسه العميقة. ولكن، من أجل أن ثَمَّةَ ترانسندنتالية، على الدوام، وعلى نحو قبلي دائماً قَبْلِيَّاً، تسبق كل ضروب الديالكتيك، صارت [الـ – ميتا- هُويَّة]، وكانت؛ من أجل أن تشكُّلَ الإنسان والتَّشظِّيّ الذي من شأنه، إنَّما هما حيثيَّتان خارجيَّتان، في هذا المعنى أو ذاك. ولأنَّ التكامل ضربٌ من ضروب الذِّهاب نحو الخارج، صارت الإمكانات الموضوعيَّة، أي الاِحتمالات المتوفِّرة في [الوجود- في- المجتمعيّ] وعبره، تقوم على ثُنائيَّة [القبول- والرفض]. أن يقبل الإنسان بأن يذهب إلى الخارج، في إمكان تكامله، وأن يبقى الإنسان في الداخل، رافضًا الذِّهاب نحو الخارج، في إمكان تناقصه.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete