نحو كلمة سواء للحدود فى الفقه الإسلامى

محاولة للفهم

تكوين

يشعر بعض أبناء هذه الأمة بأٍسي، بينما يتجاوز آخرون ذلك بنظرة باشمئزاز عند الحديث عن مسألة الحدود، باعتبارها طرح قروسطى سخيف يجب الإقلاع عنه فى زمن تجاوز عصر الفضاء، والذرة، والحداثة، للنانو تكنولوجى، والفمتوثانية، والرقمنة، وإنسان الروبوت والواقع الإفتراضى، وما بعد الحداثة؛ حيث تبدلت أعراف، وانتهت فلسفات.

واُجبرت النظم التعليمية والتربوية والتشريعية على اللهاث لعلها تفوز بمحاولة الإقتراب من هذا الواقع، الذى أًصبح الخيال فيه واقعًا، والواقع ماض جاء بعده جديد، بعدما تغيرت المعارف، وتضاعفت.

فالمعرفة عنصر رئيس فى تشكيل الواقع، والواقع أحد أركان الفتوى، وتعلق الحكم الشرعى بصاحبة، وصاحبه يعيش هنا فى هذا القرن الأعنف، والأسرع تغيراً.

كانت المعارف البشرية بطيئة فى تغيرها لدرجة يمكن رؤيتها ثابتة، حتى عام 1900م حيث أصبحث المعارف البشرية تتضاعف كل 100 عام، وبعد الحرب العالمية الثانية(1939م : 1945م) أصبحت تتضاعف كل 25 عام، وفى عام 2020م أصبحت تتضاعف كل 12 ساعة، واليوم أصبحت تتضاعف فى وقت أقل من ذلك بلا شك.

تتضاعف المعارف هكذا تسمع اُمتنا وترصد على أقصى تقدير، فهى خارج هذا السباق تائهة تكافح لتخرج من الماضى، فهى غير قادرة على عيش الحاضر كما ينبغى، فضلًا على أن تؤثر فيه، أوتستطيع العبور للمستقبل.

هزيمة حضارية قاسية، وهوية مفقودة، وماض لم يحسم بعد، وحاضر فى لججه نبحر، ومستقبل ترف لم يحن وقته؛ إذ القضية المطروحة الآن كيف نصل للواقع؟ كيف نتجاوز هذه الهزيمة المروعة؟

الإنسحاب للماضى

هنا تعددت الآراء والنظريات، بين من يري استعادة المجد المفقود بالعودة للماضى وتطبيقه تطبيقًا حرفيًا؛ فتلك أمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وإذا استحال إرجاع الزمان فليس مستحيلًا إن نرجع نحن لهذا الزمان لنعيش فيه!، وكأن الزمان وقت مضى بلا معارف تطورت وحضارة تغيرت.

تعددت أليات هذا الطرح ووسائله، وتخندق مدافعًا عن وجهته، بدءاً من الكلمة الحانية الناصحة، مرورًا باحتكار المؤسسات التعليمية الكلمة العليا، واستخدام قوتها فى ثبيت هذا الطرح والإنكار على مخالفيه، وانتهاءً بالتكفير والتفجير، من قبل جماعات مهوسة بهذا الماضى المتخيل، وبين هذا وذاك مساحات ومسافات من تفسيق وتبديع وإزدراء.

فى حين تجاهل طرف ثان هذا كله بالصمت الرهيب والعجز المبين، فإذا ما استنطقته قال كلمات لا تعبر عن شيئ، ولا تأتى بجديد.

الخروج من المتاهة

آخرون استشعروا الخطر فحملوا مشاعل التجديد وحاولوا رسم طرق وخرائط شتى للخروج من متاهة الماضى.

تراوحت أماكنهم بين أقصى اليسار الذى يطالب بالقطيعة مع التراث بضربة واحدة وكلمة لا ثانى لها، فهو ماض لا حاجة لنا به.

وآخر مبرر له أحيانًا، أو محاولًا تجديده أحيانًا، حتى لو أدى هذا لنقد أو نقض أصوله، يعود للماضى عودة مناهج لا عودة زمان المستحيل، ولا المسائل؛ لأجل البناء الحضارى؛ ولكى لا تفقد الأمة إتصالها، فتتوه عن ذاتها، وتعانى غربة ممرضة، ومتاهة مزمنة.

قديمنا يقفز لحاضرنا وماضينا يحكم واقعنا

هنا تصبح معركة الحدود ظاهرة فى كل هذه الطروحات السابقة، ومن ثم فى حاضرنا شئنا هذا أم أبينا.

ففي عام  ٢٠١٤م أعلن سلطان بروناي، أنَّ الدولة سَتَشرُع في تطبيق القانون الجنائي للشريعة الإسلامية، بما في ذلك الحدود[1].

الدعاية السوداء

وحينما يمارس الغرب دعايته السوداء ضد هذا الدين تكون الحدود هى المثال الأفضل للصد عنه ووصمنا بالمجتمعات البربرية[2].

موجات الإرهاب التى لا ينقطع

ومازالت، لدينا جماعات شتى ترى أن هذا هو الحل، فتشق صف الأمة، وتخونها مع عدوها بكل قوة؛ لتوهن قوتها؛ وتذهب ريحها، وتبدد طاقتها، بل تقتل وتقاتل على هذا، وتمارس أقسي درجات الرعب، والهدم، والدم، فى دورات من الإرهاب لا تنتهى واحدة حتى تبدأ اُختها.

الإستغلال والتوظيف السياسي

حتى على مستوى الأنظمة السياسية، والدول[3]، لا تخلو المسألة من توظيف[4]، واستخدام، وتسيس منا، أو من الآخر، لنا أو علينا، فمنا من يستمد شرعيته، ودعوى مقاومة النظام الغربي، وحفظ هوية الأمة الإسلامية من خلال هذا النظام، أو أنه يُمَثِّل الإسلام الصحيح من خلال هذا النموذج.

ويدعى أخرون أنهم يقفون ضد فرض الثقافة الغربية، وتذويب الهوية الأصلية، أيضًا من خلال تطبيق ذات النموذج، والتمسك به.

ويجعله آخرون فرصة لبسط الهمينة، وفرض السيطرة، واختطاف السلطة، وقمع الحريات، وغياب الشورى، والديمقراطيات، من خلال التوحد مع هذا النظام الشرعى، فيصبح هو حامى النظام الشرعى، أوحامى الشرع، ومن ثم فنقده نقدًا للشرع ومناوئته، مناوئه لله ورسوله!.

 كارثية النتائج

أصبحت معظم الجماهير العربية، والإسلامية؛ نتيجة هذه الدوعاوى المكثفة ترى تطبيق الشريعة يعنى تطبيق الحدود، وتؤمن فى تطبيقها بالصورة الذهنية التراثية، المقدمة من تلك الجماعات، أو المؤسسات التقليدية، خالية من أى روح، مفعمة بالمادية، والسطحية، وغياب الروح المقاصدية، منطلقة من أرض السُخط، والغضب، والرغبة فى الإنتقام، مؤمنة أننا لا نطبق الشريعة، ولا نتحاكم لها؛ لغياب تلك الصورة.

الأزهر وصناعة الإرهاب جانى أم مجنى عليه؟

هذا يعنى حضور قوى لهذه المسألة فى واقعنا، خاصة حينما تكون مؤسسة الأزهر، أكبر المؤسسات الشرعية الرسمية فى الوطن العربي والعالم الإسلامى، تُخرج لنا عشرات الآلاف سنويًا يتصدرون العمل الدعوى، والتعليم الشرعى، وهم يحملون فقه الحدود وفقًا لمناهج تراثية غاب عنها الأفق التحليلى، أو التجديدى.

مما يطبع فى الأذهان نتيجة واحدة؛ الشريعة غائبة، ليت الأمر يقتصر على هذا الذهن الأزهرى الذى ربما تكون لديه القدرة أحيانًا-إن اجتهد- على حل هذا الإشكال، لكن عمق المشكلة يكمن فى أن هذا العقل الأزهرى سيكون هو مصدر الدعوى لترسيخ هذا النمط التشريعى فى المجتمع، والوقوف ضد أى محاولة للمساس به، فالمساس به خارج المنهج الناقص الذى يعرفه.

وهذا بالضرورة سيصب حتمًا فى صالح تلك الجماعات المتطرفة، والأفكار الهدامة المخربة بشكل أو بآخر.

موقف السلطة السياسية

أما السلطة الحاكمة-على العموم فى مصر-صاحبة المؤسسات والإمكانيات والقدرات المؤثرة؛ متى أرادت، فهى لا تتحرك ولا تُحرك هذه المسائل إلا فى وقت حروب السلاح مع جماعات الإسلام السياسي، وبقدر محسوب، أما فى غالب الأحوال فهى صاحبة حياد مفتعل، أو استخدام لأقصى اليمين المتطرف أو اليسار أو للاثنين معًا لتصفية خصومها[5].

 أطراف المواجهة

نتيجة لذلك كله تجد هذه القضية محصورة دائمًا على مستوى الأهمية والنقاش بين فريقين:

التيار المدنى بكل أطيافه سواء على المستوى السياسي أو الثقافى، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، فى مواجهة جماعات الإسلام السياسي، ذات الصوت العالى، وصاحبة القدرة الكبيرة على حشد الجماهير؛ نتيجة عقود طويلة من اختطافهم الخطاب الدينى، والسياسي أيضًا، وامتلاك فضائه بلا منافس حقيقى؛ حتى نجحت فى تغيير بنية المفاهيم الدينية لدى العامة، والخاصة، لصالحهم فأصبح الناس يتكلمون بلسان هذه الجماعات، ويفكرون بعقولهم، ويعملون لصالحهم دون أن يشعروا، فى عملية أصطلح على تسميتها بالسلفية السائلة؛ فبالإضافة لكون الجماهير محافظة بطبعها أصبحت سلفية العقل والهوى والحركة بعفل فاعل.

مشكلة التيار المدنى

افتقد التيار المدنى -إلا ما رحم ربي- سواء على مستوى السياسة، أو الثقافة، أوكليهما اُناس فى عمق وقيمة، محمد عبده، وعلى، ومصطفى عبد الرازق، وطه حسين، والعقاد، والسنهورى، ومحمد حسين هيكل وزير المعارف الأسبق وصاحب كتاب “حياة محمد” فى السيرة النبوية، رجل السياسة، والثقافة، والمعرفة الدينية، التى فرضت على شيخ الأزهر”مصطفى المراغى” آنذاك، أن يقدم هذا الكتاب ويحتفى به، مقدمًا بعض حججه فيما اختلف فيه مع صاحب الكتاب وحسب، لكن فى المجمل فرض صاحب الكتاب بعمق المنهجية والمعرفة، والدراية، رؤيته التى لم يملك إزائها شيخ الأزهر سوى الإختلاف معها برُقى.

خطاب التيار المدنى

خلت أجواء هذا التيار-المدنى فى الأعم الأغلب-إذن من مثل هذه القامات، أو أشباهها، وهو طرف أصيل فى المواجهة، فأصبح لا يقدم –فى أغلبه أيضًا-سوى خطاب سحطى، مهترئ المنهج، متعالى، فارغ المضمون، يملك من الغرور أكثر مما يملك من المعرفة، فزاد الطين بلة، وصب فى صالح تكريس خطاب جماعات الإسلام السياسي، وأحرز فى مرماه أهدافاً كثيرة مروعة.

تقاعس هذا التيار-المدنى- ولم يبن بناء حقيقًا، فى حين راحت جماعات الإسلام السياسي تُعد أجيالًا تتخلى عن سمتها المعهود، وتملك أوراقًا ثقافية وتعليمية جديدة بعضها صُنع فى أوربا، وأكبر الجامعات الدولية على أرضنا، يعرفون كيف يخاطبون الغرب، ويفتحون بل يمتلكون فضاءات فى ساحات الفن، والثقافة والرياضة، والسياسة.

وجه الشبه بين خطابين متناقضين

وجه آخر أشد خطورة فى تناول مثل هذه القضية-قضية الحدود وما يشبهها-يتمثل فى أن جماعات الإسلامى السياسي تنطلق فى طرحها لهذه القضية من أرضية غياب الدين عن هذا المجتمع وغياب الحدود أكبر دليل على هذا

فى حين ينطلق بعض أصحاب الصوت العالى من التيار المدنى، من مجرد السخرية، والرفض لهذه القضية، ولوكان هذا هو الدين فالمجتمع لا يريد هذا الدين.

ومن ثم اختلف الاثنان فى الاتجاه واجتمعا على دين المجتمع حكمًا وتجريدًا ومن حيث يعلمون أو لا يعلمون، ويا ويح هذه المجتمعات فى ظل صمت الصامتين وحديث مثل هؤلاء المتحدثين.

لماذا هذا الطرح بهذه الطريقة

وفى اعتقادى أن المعركة، وصالح البلاد، والعباد، تحتاج لمثل هؤلاء-طه حسين، والعقاد، ومحمد حسين هيكل، ومحمد عبده، وعلى عبدالرازق-تحتاج للعقل الأزهرى الواعى المستنير بكافة درجاته، والعقل الثقافى، والسياسي، المحيط الملم، الواعى، المتواصل مع تراثه بكافة درجارته أيضًا، تحتاج لهؤلاء، ومن يتشبه، بهم فى عملية بناء راسخ، وصناعة ثقيلة؛ ليكونوا روافع تحمل مجتماعاتهم للإمام، لا فقاعات تنجح فى سوق العصر من جنى ثمار الترند، وتكديس الثروة؛ ولتخسر الأوطان، وقضاياه الملحة، وتذهب حيث شاءت.

لذا جاءت هذه المحاولة-مجرد محاولة-للتشبه بهذا الجيل، فى طرح-مجرد طرح- جاد لقضية الحدود الفقهية؛ عسانا ننجح فى محاولة فهم أفضل يصل الماضى بالحاضر، ويدفعنا نحو المستقبل.

الرؤية الكلية

وتنطلق هذه الرؤية الكلية لهذه المحاولة من أمرين فى غاية الأهمية؛ واضح أن هناك تغافل عنهما؛ ليس فقط لكتوين رأى صائب فى هذه المسألة وإنما للوصول لكلمة سواء.

الأول؛ الإحاطة الكافية بفقه الحدود القديم، الثانى؛ غياب الأفق التحليلى والتجديدى لهذا القفه سواء من ناحية الإطلاع، أوالاعتبار، أوالبحث والمحالة.

هذا التغافل ناتج فى -أغلب الأحوال- عن جهل مريع بهذا التراث[6]؛ أو عن عمد فى فى أحوال أخرى؛ لغرض ما، وفى اعتقادى أننا لوتدركنا الأمرين لوصلنا فى ساحة الفكر، والحجة، والدراسة والنظر؛ لأمر سواء، وبناء متماسك لدى العقلاء، بلا احتراب، أو لجج، وهذا ما سنحاول فعله وطرقه فى هذه المقالات البحثية التى قسمتها لمحورين أساسيين لخدمة هذا الغرض، المحور الأول: فقه الحدود بين الطالبين والرافضين الممكن والمستحيل. المحور الثانى: التجديد فى فقه الحدود محاولة تقريرية تأصيلية. يأتى تحت كل محور من هذه المحاور فروع مختلفة نبينها بين ثنايا هذه الدراسة، فلننتظر.

المراجع

[1] – انظر: كيف ستطبق بروناي “الحدود” على المثليين واللصوص؟  BBC

[2] -على سبيل المثال أفلام روبين هود، برنس أوف ثيفز (١٩٩١) والأفلام الترفيهية التي تٌعْرَض مباشرةً في التلفاز مثل: اسكيب، هيومان كارجو (١٩٩٨م)

[3] -ففى الواقع هناك عدة دول إسلامية وعربية تتبنى هذا النموذج بشكل أو بآخر، كلى أو جزئى مثل: دولة إيران – أفغانستان – باكستان – اندونيسيا – العراق – مالي – نيجيريا – المملكة العربية السعودية – السودان – الصومال.

[4] -فالجماعات الإسلامية بمختلف مسمياتها تبنى شرعيتها فى الشارع بين الجماهير من خلال الدعوة لتطبيق هذا النموذج والتبشير به وفى ذات ما هى  إلا:  جماعات وظيقبة فى خريطة العلاقات الدولة. تستخدم من قبل دول وتوظف لخدمة أغراض هذه الدول أيًا كانت هذه الأغراض.

[5] -مقتل الدكتور فرج فودة نموذج صارخ لهذه الفكرة.

[6] -والجهل بلا شك يؤثر على تصور المسألة، وإدراكها على وجهها الصحيح؛ فيتصور صاحبه نتائج، ومطالب، غير حقيقية، غير واقعية غير عملية بالمرة، وصدق سقراط: لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف.الغريب أن هذا الجهل ربما يكون قاسم مشترك بين طرفين متناقضين؛ لأجل ذلك تسمع عجب، وتوقن أن أزمتنا ستشتد، أوعلى الأقل لم يحن وقت خروجنا بعد.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete