نصارى أم مسيحيين؟ قراءة في تاريخ المسيحية المبكرة

تكوين

استخدم القرآن الكريم لفظ النصارى عند الحديث عن أتباع المسيح عيسى بن مريم. هذا اللفظ لم يرد على الإطلاق في العهد الجديد/ الأناجيل، الأمر الذي تسبب في طرح سؤال حول مفهوم هذا المصطلح، والعلاقة بينه وبين مصطلح المسيحيين. في هذا المقال نحاول أن نجيب على هذا السؤال الشائك، وأن نستعرض الموقف الإسلامي/ المسيحي من مصطلح النصارى، وذلك من خلال الرجوع لمجموعة من المصادر التاريخية المرتبطة بحقبة المسيحية المبكرة.

 

من هم النصارى

في القرآن والحديث والمصادر التاريخية: الفهم الإسلامي لمفهوم النصارى

وردت كلمة “النصارى” لأربعة عشر مرة في القرآن الكريم، أما كلمة “المسيحيين” فلم ترد فيه على الإطلاق. الأمر نفسه وقع في مدونات الحديث النبوية، ومنها صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند أحمد بن حنبل.

العلماء والمؤرخون المسلمون، قدموا مجموعة من التفسيرات لأصل كلمة النصارى. من ذلك ما نقله محمد بن جرير الطبري المتوفى 310ه، في كتابه جامع البيان في تفسير القرآن، عن عبد الله بن العباس “إنما سُمِّيت النصارى نصارى، لأنَّ قريةَ عيسى بنِ مريمَ كانت تُسمَّى ناصرةَ، وكان أصحابُه يُسمَّون الناصريِّينَ، وكان يُقال لعيسى: الناصريُّ…”، وما ذكره أبو الثناء الألوسي المتوفى 1270ه في تفسيره، بأنهم قد عرفوا بهذا الاسم “لكونهم أنصار الله تعالى…”. في العصر الحديث، فرق الكثير من رجال الدين المسلمين بين مصطلحي النصارى والمسيحيين، فاعتبروا أن الأول -نصارى- ينطبق على من بدلوا دين المسيح، وأشركوا بالله، أما الثاني -مسيحيين- فهو المصطلح الذي يُقصد به المؤمنين الحقيقيين الذين اتبعوا المسيح وساروا على درب العبودية الخالصة لله وحده. الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز، كان واحدًا من هؤلاء، إذ ورد في فتاويه “معنى “مسيحي” نسبة إلى المسيح بن مريم عليه السلام، وهم يزعمون أنهم ينتسبون إليه، وهو بريء منهم، وقد كذبوا؛ فإنه لم يقل لهم إنه ابن الله، ولكن قال: عبد الله ورسوله. فالأولى أن يقال لهم: “نصارى”، كما سماهم الله سبحانه وتعالى…”.

 

بين الرفض والقبول:

موقف المسيحيين من تسميتهم بالنصارى

عرف المسيحيون في الفترة المبكرة من تاريخهم بعدد من الأسماء، منها “الجليليين” نسبة لمنطقة الجليل التي جاء منها يسوع وأغلبية تلاميذه، و”الناصريين” نسبة لمدينة الناصرة الذي نُسب إليها يسوع. اسم المسيحيون، عُرف بعد فترة من انتشار المسيحية، وبحسب ما ورد في الأصحاح الحادي عشر من سفر أعمال الرسل، فإن ذلك الاسم قد ظهر للمرة الأولى في مدينة أنطاكية “فَحَدَثَ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا -المقصود بولس وبرنابا- فِي الْكَنِيسَةِ سَنَةً كَامِلَةً وَعَلَّمَا جَمْعًا غَفِيرًا. وَدُعِيَ التَّلاَمِيذُ «مَسِيحِيِّينَ» فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلًا”. بعد ذلك انتشر هذا الاسم وعُرف به أتباع المسيح على مر السنين. فيما يخص مصطلح “النصارى” فلم يرد في أي من أسفار العهد الجديد، ولكن مع وقوع التوسع العسكري العربي في منطقة الشرق الأدنى في القرن السابع الميلادي، بدأ المسيحيون في كل من مصر والشام والعراق يتعاملون مع المسلمين، ووجدوا أن الاسم الذي يطلقه القرآن عليهم هو النصارى. الأمر الذي تم رفضه في بعض الأحيان، بينما تم قبوله والاعتراف به في أحيان أخرى.

من الآراء المسيحية المعبرة عن رفض تسمية النصارى، ما ذكره لويس روفائيل الأول ساكو، بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق، إذ يقول: “…من الأصح أن يسمى أتباع الديانة المسيحية بـ”المسيحيين”، كما هي حقيقتهم، وكما هم يُسمّون أنفسهم، ويرغبون، وهم بالتالي يختلفون عن “النصارى”، ولهم الحق في أن يُحترم اسمهم كما هو، ولا حق لأحد أن يفرض عليهم تسمية يرفضونها“. وما ذكره المفكر القبطي المصري لطيف شاكر في كتابه “المسيحيون ليسوا نصارى”، والذي أوضح فيه أن اليهود سموا المسيحيين بالنصارى، كنوع من أنواع التحقير، وأن ذلك الاسم مرفوض من جانب السواد الأعظم من المسيحيين المصريين.

كيف ساهم المسيحيون في النهضة العربية؟

على الجانب المقابل، سنجد أن البابا شنودة الثالث، البابا السابق للكنيسة القبطية في مصر، قد أعلن قبوله عن تسمية المسيحيين بالنصارى، وقال: إن ذلك الاسم يرجع ليسوع الناصري، وأنه لا فارق بين تسميتي النصارى والمسيحيين.

بشكل عام، قبول المسيحيين العرب بتسميتهم بالنصارى وقع في المجتمعات الإسلامية بسبب التأثر بالثقافة الإسلامية الغالبة في بلادهم. الأمر الذي يمكن ملاحظته -بصور شتى- في المفردات الطقسية والفلكلورية. على سبيل المثال، توجد ترنيمة مشهورة في الكنيسة القبطية، بعنوان “معشر النصارى يا خير الشعوب”، كما أن هناك العديد من الأمثلة المصرية التي يظهر فيها اسم النصارى، والتي لا يجد المسيحيون بأسًا من استدعائها واستخدامها، ومن ذلك “إذا غطس النصراني طلع الدفا التحتاني”، و”بالعمارة والتمارة وجيزة النصارى”، و”أسلمت سارة لا زاد المسلمين لا قلت النصارى”، و”عاش النصراني ومات وما أكلش لحمة برمهات”.

 

 

مدينة الناصرة وطائفة الإيبونيين:

التطور التاريخي لتسمية النصارى

يمكن للبحث التاريخي أن يساعد في إزالة الكثير من الالتباسات المحيطة بمصطلح النصارى. ترجع الأصول الأولى لذلك المصطلح إلى مدينة الناصرة، والتي تقع على مسافة 105 كيلومتر شمالي مدينة القدس الحالية/ أورشليم القديمة. في هذه المدينة ولدت السيدة مريم العذراء، وقد عاشت فيها لفترة قبل أن تنتقل لأورشليم. بحسب ما ورد في إنجيل لوقا، فإن يوسف النجار قد اصطحب مريم أثناء حملها بيسوع، وذهبا إلى بلدته في بيت لحم، وهناك ولد المسيح، وبعدها رحلت العائلة المقدسة إلى مصر هربًا من ملاحقة ملك اليهود، المعروف بهيرودس. عقب رجوع العائلة المقدسة إلى فلسطين، استقروا في الناصرة، وفي ذلك المعنى جاء في الأصحاح الثاني من إنجيل متى “وأتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرة.  لكي يتم ما قيل بالأنبياء أنه سيُدعى ناصريًا“. من هنا، فإن المسيح يسوع/ عيسى، سيُعرف بالناصري، وكذلك سيعرف أتباعه الذين اجتمعوا حوله في الفترة المبكرة من المسيحية.

في سنة 50م تقريبًا، وفي أثناء عمل رسل/ تلاميذ المسيح لنشر المسيحية، سيقع اختلاف كبير بينهم وبين بعض، ذلك أن بعض المبشرين قد نادوا بعدم إلزام المسيحيين الجدد بالشعائر اليهودية التقليدية، للتخفيف عنهم وتسهيل ضمهم إلى الكنيسة، أما بقية الرسل فقد أصروا على أن يلتزم المسيحيين الجدد بكافة الشعائر اليهودية، وأن يتم ختانهم مثل باقي اليهود. لحل تلك المشكلة، اجتمع الرسل في مجمع أورشليم، تحت قيادة يعقوب البار –المعروف بأخي الرب- ووقعت العديد من المناقشات التي يذكرها الأصحاح الخامس عشر من سفر أعمال الرسل “فبعد ما حصلت مباحثة كثيرة قام بطرس وقال لهم: أيها الرجال الإخوة، أنتم تعلمون أنه منذ أيام قديمة اختار الله بيننا أنه بفمي يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون… فالآن لماذا تجربون الله بوضع نير على عنق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله. بعدها، قام يعقوب بحسم المسألة، إذ قال: “…أنا أرى أن لا يثقل على الراجعين إلى الله من الأمم، بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام، والزنا، والمخنوق، والدم…”. رغم أن السواد الأعظم من المسيحيين قد رضوا بقرارات المجمع، إلا أن البعض قد رفضها، وأصر على التقيد بالشعائر اليهودية كالختان، وتعظيم الهيكل، والراحة يوم السبت، وقد عُرف هؤلاء باسم “اليهود المتنصرين”.

التحول المهم في مصير جماعة اليهود المتنصرين وقع في حدود سنة 70ه، بالتزامن مع خراب أورشليم على القائد الروماني تيطس، إذ قام الكثير من أفراد تلك الجماعة بمغادرة فلسطين، ورحلوا في اتجاه هضبة الجولان، وبعدها تشتتوا في شبه الجزيرة العربية وسوريا، وذلك بحسب ما يذكر  أبو موسى الحريري في كتابه “قس ونبي”.

بحسب ما ذكره المؤرخ يوسابيوس القيصري في كتابه “تاريخ الكنيسة”، فإن جماعة اليهود المتنصرين سترتبط بواحدة من الجماعات الشهيرة التي ظهرت في القرن الأول الميلادي، وهي الجماعة المعروفة باسم الإيبيونية، والتي تُعد أحد أشهر الهرطقات التي عرفها التاريخ المسيحي المبكر.

في كتابه “المُفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، تحدث المؤرخ العراقي جواد علي عن الإيبيونيين، فذكر أن هناك اختلاف في تفسير معنى اسمهم، إذ يُقال إن: الإيبيونية تعني الفقراء، كما يُقال إن هذا الاسم مشتق من أبيون، وهو الزعيم الأول لتلك الطائفة الغامضة. بحسب جواد علي، فإن أفراد تلك الطائفة قد انتشروا في بلاد الحجاز، وكانت لهم مجموعة من العقائد التي تخالف العقائد المسيحية المعروفة، ومنها أنهم –أي الإيبيونيين-  كانوا لا يتبعون تعاليم بولس، وكانوا لا يعترفون إلا بالنسخة العبرانية لإنجيل متى وحده دونًا عن سائر الأناجيل التي اعترف بها المسيحيون. أيضًا، قيل إن أفراد تلك الطائفة قد انقسموا إلى فريقين، الأول يؤمن بأن المسيح ولد بشكل طبيعي، وكان ثمرة لزواج يوسف النجار من مريم، وأنه قد بورك بعد ولادته، فاختاره الرب لحمل رسالته. أما الفريق الثاني فوافق الرأي المسيحي العام، الذي يذهب إلى الولادة الإعجازية للمسيح، وأنه قد ولد بدون أب بشري.

بعض الباحثين ذهبوا إلى أن الطائفة الإيبيونية/ النصارى قد أثرت كثيرًا في الإسلام المبكر،  وذلك من خلال القسيس ورقة بن نوفل، الذي كان قريبًا للسيدة خديجة بنت خويلد، الزوجة الأولى للنبي محمد. وفي كتابه “مدخل إلى القرآن الكريم” رجَّح المفكر المغربي محمد عابد الجابري أن تكون فرقة الأبيونيين هي الفرقة التي أشار إليها القرآن الكريم في الآية الثانية والعشرين من سورة المائدة لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ“.

بناءً على كل ما سبق يمكن القول إن فرقة النصارى التي أشار لها القرآن الكريم، هي فرقة مختلفة عن باقي الفرق المسيحية التي كانت معروفة في القرن السابع الميلادي، وأن القرآن قد اختص تلك الفرقة بالإشارة والذكر، لكونها الفرقة التي عاشت بالقرب من المسلمين الأوائل في مكة والمدينة، ومن هنا فإن هناك فوارق كبيرة بين مصطلح النصارى الذي تم استخدامه بشكل تاريخي في فترة بعينها، وبين مصطلح المسيحيين الذي يعبر عن التيار العام لمعتنقي الديانة المسيحية، في شتى البقاع، عبر القرون.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete