ولاية الفقيه السُّـنـّيَّة: قراءة في كتاب “غياث الأمم” لأبي المعالي الجويني

“وَمِمَّا أُلْقِيهِ إِلَى الْمَجْلِسِ السَّامِي: وُجُوبُ مُرَاجَعَةِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، فَإِنَّهُمْ قُدْوَةُ الْأَحْكَامِ وَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ، وَوَرَثَةُ النُّبُوَّةِ، وَقَادَةُ الْأُمَّةِ، وِسَادَةُ الْمِلَّةِ، وَمَفَاتِيحُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَصْحَابُ الْأَمْرِ اسْتِحْقَاقًا(الجويني، غياث الأمم)

 

المحتويات

مقدمة

أولاً – الدراسات السابقة

1) حضور كتاب “غياث الأمم” في الدرس الأكاديمي الحديث

2) سبب غياب مبحث سلطة الفقيه في الكتابات التراثية والحديثة

ثانياً – في المنهج

1) تبرير استخدامنا لمصطلحات سياسية حديثة في دراسة كتاب تراثي

2) ضرورة الخروج عن كلام الفقهاء عن أنفسهم لموضعة مجال البحث – يجب الانفصال عن ذاتية الفقه

ثالثاً – سلطة الفقيه في وجود الإمامة

1) ليس الركن الأول نظرية تقليدية في الإمامة

2) سلطة الفقيه في وجود إمامة شرعية

3) سلطة الفقيه في وجود إمام لا تتوافر فيه شرائط الإمامة

رابعاً – تقييد سلطة الإمام بالشريعة وبسلطة الفقيه

1) مهام الإمام تنفيذية

2) تقييد الإمام بالشريعة

3) تقييد سلطة الإمام بسلطة الفقيه

خامساً – الإمامة من إجماع الأمة إلى شرعية مبايعة الواحد ذي الشوكة

1) نقطة البدء: الإمامة بالإجماع واختيار أهل الحل والعقد

2) بداية التحول في الموقف: الإجماع ليس منصوصاً عليه

3) الإجماع و العرف المُطَّرِد والعادة المستقرة

الكتاب “قليل الجدوى”، لأن الإمامة صارت قليلة الجدوى، والكلام فيها قليل الجدوى

4) مقارنة مع علي عبد الرازق

5) يُسقِط الإجماع ويقول بمبايعة الواحد إذا كان ذا شوكة – شرعنة الانقلاب

سادساً – طبيعة سلطة الفقيه

1) ولاية الفقيه دينية واجتماعية وليست عسكرية، لكنها رغم ذلك سياسية

2) تصور الجويني لسلطة علماء الدين

3) عالم الزمان هو الوالي عن حق

4) الفقيه خليفة للنبي عند الخميني، والجويني كذلك

سابعاً – تقييم عام

1) لغة الجويني المستورة – ربط الوجوب بالإمكان

2) شرائط الإمامة مستحيلة التحقق – مثالية وعلى نموذج الراشدين الاستثنائي

خاتمة

مقدمة

كانت مسألة السلطة طوال التاريخ الإسلامي متمحورة حول “الإمامة” أو الخلافة، وكان صاحب السلطة العليا هو الإمام أو الخليفة، وذلك قبل إلغاء الخلافة العثمانية في تركيا سنة 1924، ذلك الإلغاء الذي أدى إلى إعادة طرح سؤال السلطة في الإسلام وشيوعه لدى تيارات الإسلام السياسي والحركات والأحزاب الإسلامية. ولكن قبل ذلك التاريخ كان مبحث السلطة هو مبحث الإمامة. وكان هذا المبحث ثابتاً في الكثير من الأدبيات الفقهية والأصولية والكلامية الإسلامية، بل والفلسفية أيضاً، ولدى السنة والشيعة معاً. هذا التركيز الشديد والحصري على الإمامة غطى على سلطة أخرى وجعلها غير بارزة وهي سلطة الفقيه. إن للفقيه سلطة، بل سلطات عديدة، في التراث الإسلامي، فهو الحامل للشريعة المتحدث باسمها. إنه على علاقة مباشرة بالمصدر الأصلي للسيادة وهو الشريعة. صحيح أن الفقهاء حرصوا على تقديم مثل هذه السلطة على أنها “علمية”، باعتبارهم “علماء”، إلا أنها سياسية في الوقت نفسه، لكونها مهيمنة على كامل المجال الاجتماعي والشخصي للمسلمين.

وأبرز من قدم نظرية متكاملة وتبريراً لسلطات الفقيه في التراث الإسلامي هو أبو المعالي عبد الملك الجويني (419-478هـ / 1028-1085م)، الشافعي الأشعري، في كتابه “غياث الأمم في التياث الظُلَم”[1] المعروف بـ”الغياثي”. لقد ألحق الجويني بالفقيه سلطات عديدة، تقترب من أن تشكل ولاية فقيه متكاملة، أوضح وأشمل من مثيلتها في الفقه السياسي الشيعي الإثنى عشري كما سوف يتضح في سياق هذه الدراسة. إنها سلطة واسعة تتعدى القضاء والإفتاء، وتصل إلى المهام الإدارية والسياسية. فالفقهاء عنده هم على رأس أهل الحل والعقد الذين ينصبون الإمام، وهم من لهم حق مراقبة الإمام وتوجيهه، وهم أيضاً الذين يعزلونه إذا خرج عن شروط العقد أو فَسَقَ أو صار بأي جهة غير مستحق للمنصب.

قسم الجويني كتابه إلى ثلاثة أركان، يتضح من الركن الثاني منها نظريته في سلطة الفقيه. فالركن الأول في الإمامة وشرائطها، والثاني “في تقدير خلو الزمان عن الأئمة وولاة الأمة”، وهنا تظهر سلطة الفقيه بديلاً عن الإمام، متولياً نفس سلطاته ومهامه كلها. أما الركن الثالث فهو “في تقدير انقراض حملة الشريعة”، وهي الحالة التي يغيب فيها الفقهاء المجتهدون أنفسهم، وفيها يجب على الناس أداء “فرائض الكفايات” (394/ 390)[2]، أي الالتزام بكليات الشريعة إجمالاً وبالشعائر الدينية. وعلينا أن نلاحظ أن “خلو الزمان” عن الأئمة يناظر غيبة الإمام لدى الشيعة الإثنى عشرية: الخلو يناظر الغيبة، وهو ما يجعل الفقيه السني متولياً سلطات الإمام، ويجعله ولياً فقيهاً بمعنى مقترب للغاية من ولاية الفقيه الشيعية.

وليست سلطات الفقيه عند الجويني مقتصرة على توليه سلطات الإمام عند شغور المنصب نفسه أو شغور الزمان عن شرائط الإمامة، بل هي تشمل سلطات للفقيه أثناء وجود إمام شرعي. فكما قلنا، الفقيه هو الذي ينصب الإمام وهو الذي يعزله لكونه من أهل الحل والعقد. كما أن الجويني قد حصر سلطة الإمام في السلطة التنفيذية وحدها، باعتباره منفذ شرع الله مطبقاً لأحكامه على العباد؛ يقول في ذلك: “فإن الأئمة إنما تولوا أمورهم ليكونوا ذرائع إلى إقامة أحكام الشرائع” (533/ 458)؛ “والإمام… إنما هو ذريعة لحمل الناس على الشريعة” (488/ 434). وفي حين يتولى الولي الفقيه ولايته نائباً عن الإمام الغائب في الفقه السياسي الإثنى عشري، فإن الإمام نفسه لدى الجويني نائب في تنفيذ الشريعة: “…الإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، ولكن مُستناب في تنفيذ الأحكام…” (395/ 391). أما عن كيفية تحديد هذه الأحكام وتعيين ماهية “شرع الله” وكيفية تنفيذه فهي في يد الفقيه، فهو الذي يُملي على الإمام أحكام الشرع الواجب تنفيذها. والإمام عند الجويني ليست له سيادة بل له سلطة، والسيادة للشريعة التي هو مجرد منفذ لها، والفقهاء هم حملة الشريعة الحافظون لها القيمون عليها، وبذلك يضع الجويني الشريعة كمصدر للسيادة العليا في يد الفقهاء.

أما في الركن الثاني فقد أسهب الجويني في سلطات الفقيه في حالة خلو الزمان عن الإمام، ووضع نظرية يمكن أن نعدها ولاية فقيه متكاملة. والمدهش في الأمر أنه أعطى للفقيه سلطات تفوق سلطة الأئمة، وصلت إلى حد حق نسخ أحكام الله (542/ 463)، والقيام مقام النبوة ذاتها تشريعياً: “فإذا لم يكن في العصر نبي، فالعلماء ورثة الشريعة” (542/ 462)؛ “فعالم الزمان في المقصود الذي نحاوله، والغرض الذي نزاوله، كنبي الزمان” (541/ 462). إن الفقيه عند الجويني لا ينوب عن إمام غائب أو يتولى مهام إمام عند “خلو الزمان” عن الأئمة وحسب، بل هو يقوم مقام النبي نفسه، نائباً عن النبي لا عن إمام غائب.

 أولاً – الدراسات السابقة

1) حضور كتاب “غياث الأمم” في الدرس الأكاديمي الحديث

سبق لعدد من الباحثين المعاصرين تناول كتاب “غياث الأمم” بالتركيز على المسائل التي شغلتهم: فقد تناوله عبد المجيد الصغير من منطلق العلاقة الجدلية بين المعرفة الفقهية والسلطة السياسية، وعالجه على أنه مثال على السلطة العلمية للفقيه، لا السلطة السياسية[3]؛ وتناوله أحمد عاطف أحمد من منطلق ما أسماه “فتور الشريعة”[4] عند خلو الزمان من الأئمة والمجتهدين وحملة الشريعة؛ وتناوله وائل حلاق من منطلق أن “غياث الأمم” كان أيديولوجيا تبريرية تضفي الشرعية على الحكم السلجوقي وعلى وزير السلاجقة نظام الملك[5]؛ وتناوله أحمد عبد المجيد من منطلق نظرية الحالة الاستثنائية التي يستقيها من الفقيه الدستوري الألماني كارل شميت، ونظر إلى “الغياثي” على أنه يُنظِّر لدور الفقيه في الحالة الاستثنائية المتمثلة في خلو الزمان من الإمام، ويذهب إلى أن نظرية الجويني تحافظ على المجتمع المسلم في هذه الحالة الاستثنائية عن طريق سلطة الفقيه[6]؛ وتناولته سهيرة صديقي من منطلق احتوائه ضمناً على تمييز بين القوة Power والسلطة Authority ، والقوة في نظرها هي السيادة العليا المتمثلة في الإمام أو الشريعة (وهي ليست حاسمة في إسناد السيادة العليا إلى أيهما، لكنها للشريعة وفق تحليلي للجويني كما سيلي)، والسلطة المتمثلة في الولاة والأمراء، أما الفقيه حسب دراستها للغياثي فهو الذي يتوسط بين السيادة والسلطة[7]. لكن لم يتناول أحد هؤلاء الباحثين سلطة الفقيه ذاتها عند الجويني، وحقه الذي يبرره الجويني باحترافية في أن يتولى كل مهام ووظائف الإمام عند خلو الزمان من الأئمة وشرائطها، مما يجعل كتاب “الغياثي” محتوياً بوضوح على نظرية في ولاية الفقيه تفوق في دقتها وإحكامها النظرية الشيعية.

ومن جهة أخرى غاب كتاب “الغياثي” عن الكثير من الأعمال المعاصرة التي تناولت السلطة في الإسلام، إذ ركزت على الإمامة، سواء الإسلاموي منها مثل أعمال محمد عمارة، أو التنويري مثل أعمال علي مبروك وعبد الجواد ياسين.

2) سبب غياب مبحث سلطة الفقيه في الكتابات التراثية والحديثة

تدور أغلب كتب الفقه السياسي السني الحديثة (أمثال أعمال محمد عمارة ومحمد سليم العوا) حول الإمامة، متبعة في ذلك أغلب المؤلفات التراثية، ويغيب عنها الفقيه وسلطته. الخلافة سيطرت على المخيال السياسي الإسلامي عبر تاريخ الإسلام كله، نظراً لما تعرض له عصر الخلفاء الأربعة الأوائل المسمون بالراشدين إلى التصعيد المثالي والنمذجة المثالية، ونظراً لأن كل الصراعات السياسية الدموية التي دخلها المسلمون وورطوا الدين معهم فيها منذ الثورة على عثمان بن عفان والحرب الأهلية التي تلتها والمسماة بالفتنة كانت حول الإمامة، ونظراً لأن الأمة انقسمت إلى فرق ومذاهب بسبب الإمامة، ولا تزال حتى الآن. ضف إلى ذلك أن إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924 أعاد طرح مسألة الخلافة أمام العقل الإسلامي الحديث؛ فقد أخرج علي عبد الرازق كتابه “الإسلام وأصول الحكم” سنة 1925، أي في العام التالي مباشرة لإلغاء الخلافة العثمانية، وأثار ردود أفعال عنيفة وواسعة وتمسكت بمبدأ الخلافة ودافعت عنه؛ ومن بعده أسرع عبد الرزاق السنهوري في الدفاع عن نظام الخلافة في رسالته للدكتوراه التي أعدها في جامعة ليون بفرنسا والمعنونة “الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية”[8]. كل هذا أدى إلى بروز الإمامة أو الخلافة في المقدمة، وحجب ما للفقيه من سلطة، فعلية قائمة، على المستوى النظري وعلى المستوى الواقعي العملي. في هذه الدراسة أتناول أبرز وأهم عمل تراثي تعرض لسلطة الفقيه، سلطته السياسية تحديداً لا مجرد دوره الديني والعلمي، وهو كتاب أبي المعالي الجويني “غياث الأمم في التياث الظلم”.

والجدير بالذكر أن رشيد رضا قد وضع كتاباً سنة 1922 يسمى “الخلافة”، وذلك بين إلغاء السلطنة في تلك السنة وإلغاء الخلافة سنة 1924. وهو يثني على الشعب التركي إلغاءه للسلطنة العثمانية ويدعوه إلى إعدة تأسيس الخلافة الإسلامية، على أسس شرعية منضبطة يضعها في كتابه كي يهتدي بها الشعب التركي !! وإنني أندهش من موقف رشيد رضا هذا، فهو يصر على إعادة تأسيس نظام الخلافة باعتباره دعامة الدين نفسه، ويصر على أن يعيد الترك تأسيسه مرة أخرى؛ وقد كان الأزهر بجانبه وهو أعلى سلطة دينية في العالم الإسلامي، فلماذا لم يقترح أن يكون شيخ الأزهر هو الخليفة مثلاً؟

ثانياً – في المنهج

1) تبرير استخدامنا لمصطلحات سياسية حديثة في دراسة كتاب تراثي

في معالجتنا للجويني سوف نستعين بنظرية ميشيل فوكو في السلطة الرعوية والسلطة الحيوية. السلطة الرعوية pastoral power هي نمط السلطة الذي كان سائداً في عصور ما قبل الحداثة وخاصة في المجتمعات الشرقية؛ درس فوكو استمرار رعوية السلطة في العصر المسيحي وعصر الحداثة الأوروبية، واتخاذ الدولة في هذا العصر لملامح رعوية واضحة، وقد كان فوكو ثورياً في هذا التحليل، لأنه كان يواجه به النظريات الليبرالية والتعاقدية في الدولة؛ ليس هناك تعاقد ولا حقوق أساسية ولا فردية أصلية في نظر فوكو، بل هناك سلطة رعوية مستمرة من العصر القديم وخاصة في الشرق وموروثة من التراث الديني الإبراهيمي وممتدة عبر العصور الوسطى في شكل الكنيسة وواصلة إلى العصر الحديث[9]. ولم يعمل التحديث والعلمنة على تغيير هذه الطبيعة المتأصلة في السلطة. والفقه الإسلامي وفق هذا التوصيف هو تأكيد على الطابع الرعوي للسلطة في الإسلام، والنمط الرعوي لسلطة الفقيه. و”الرعية” مصطلح شهير في الأدبيات التراثية الإسلامية. الفقيه يحكم المجتمع رعوياً. وسلطته كذلك حيوية bio-power، لأنه يحكم المجال الحيوي البيولوجي للمسلمين (فقه الطهارة مثالاً، الطهارة الطقوسية) (اربط مع تحليل حنا أرنت للمجال الحيوي البيولوجي للسلطة في كتابها The Human Condition). هذا بالإضافة إلى أن الفيلسوف الحاكم عند أفلاطون والذي يحكم ويتخذ شرعيته من معرفته وتجسيده للعقل، ينعكس في فكر الجويني في صورة الفقيه الذي يتخذ شرعية الحكم من “علمه”؛ الأكثر علماً هو الأحق بالحكم، عند أفلاطون (الفيلسوف) وعند الجويني (الفقيه).

ومعيارنا في اعتماد المصطلحات السياسية الحديثة لدراسة كتاب تراثي هو أن يكون المصطلح مناسباً للمادة التراثية، إذ ما تم نحته خصيصاً لغرض فهم عالم ما قبل الحداثة، مثل مفهوم السلطة الرعوية عند فوكو.

وعندما نستخدم مصطلحات مثل السيادة والسلطة والقوة والشرعية والسلطة الأبوية والسلطة الرعوية والسلطة الحيوية والسلطة الانضباطية والأيديولوجيا في دراسة كتاب الجويني، فإننا على وعي كامل بأن هذه المصطلحات حديثة وتنتمي لجهاز مفاهيمي ونظرية تفسيرية ومنهجية لم تكن معروفة في التراث السياسي الإسلامي الذي ندرسه، وليس معنى هذا أننا نقحم مصطلحات حديثة على مجال بحثي لا يناسبها. صحيح أن المصطلحات السابقة لم تكن حاضرة بذاتها في المدونات السياسية التراثية، لكن معانيها الكاملة حاضرة في صيغ خاصة بالتراث القديم. ناهيك عن أن المصطلح الحديث للغاية وهو الحاكمية لم تعرفه الأدبيات السياسية الإسلامية التراثية بالمعنى المقصود به الآن، وقد انتشر بدءاً من أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، ومن بعدهما الخميني. وما يبرر لنا جهازاً مفاهيمياً حديثاً لدراسة السلطة في الإسلام، هو أن الإسلام في العصر الحديث لم يشهد قطيعة مع تراثه القديم، لا قطيعة معرفية ولا قطيعة ثقافية ولا قطيعة اجتماعية، بل شهد تواصلاً واستمراراً، وكذلك إحياءً وصحوة. فإذا كان لنا أن نفهم السلطة في الإسلام الذي لم يشهد قطيعة معرفية ولا تحديثاً ولم يمر بعصر إصلاح ديني أو عصر تنوير، فإن الاستمرارية ذاتها في عصرنا واستمرار سؤال السلطة في الإسلام حتى الآن إشكالياً ومُلغِزاً، يبرر لنا هذا الجهاز المفاهيمي الحديث. الموضوع إما أم يُدرس لذاته وفي سياقه التاريخي الخاص به، وإما ندرسه نحن لأغراضنا وفق شروطنا المعرفية والثقافية، أو الإثنين معاً، ونحن نقوم بالإثنين معاً.

2) ضرورة الخروج عن كلام الفقهاء عن أنفسهم لموضعة مجال البحث – يجب الانفصال عن ذاتية الفقه

إن الاعتماد على خطاب علماء أصول الفقه عن أنفسهم باعتبارهم سلطة علمية ورجال علم هو وقوع داخل الخطاب المدروس والتسليم به دون نقد وعدم استطاعة لأخذ مسافة نقدية منه، لإدراكه في ذاته باعتباره سلطة انضباطية، وسلطة أبوية ورعوية وحيوية، وهذا رد على عبد المجيد الصغير. كذلك ما يسميه “استقلال الفقيه عن السلطة”[10]. إنه ليس استقلالاً بالعلم الخالص، بل استقلال سلطة عن سلطة، تجاور وازدواجية في السلطات لا نزال نعاني منها إلى الآن، كما اتضح من تعليق الرئيس السيسي حول موضوع الطلاق الشفهي أمام شيخ الأزهر: “تعبتني يا فضيلة الإمام”، وفي مناسبة أخرى: “سوف أحاجيكم أمام الله يوم القيامة”. قبل أن نقر باستقلال الفقيه عن السلطة يجب أن نعي مصدر هذا الاستقلال. إن الذي يجعل الفقيه مستقلاً نسبياً عن السلطة السياسية في الإسلام أن الفقيه في حد ذاته يمثل سلطة على المجتمع. النفوذ والسيطرة الاجتماعية ورأس المال الرمزي الهائل الذي يمثله الفقه الإسلامي هو الذي وفر للفقيه الاستقلال أمام السلطة السياسية. لكن يجب أن نأخذ دعوى الاستقلال بالكثير من الحذر، فأي استقلال هذا عندما كان الأزهر مؤسساً من بدايته كمؤسسة دينية شيعية على يد جوهر الصقلي القائد الفاطمي وكان الهدف منه نشر المذهب الشيعي الإسماعيلي في مصر؟ وأين هذا الاستقلال عندما أغلق صلاح الدين الأيوبي الأزهر ثم أعيد فتحه في عصر المماليك ليكون مؤسسة دينية سنية؟ أم أن عبد المجيد الصغير يقصد استقلال فقهاء الشيعة عن الدول السنية التي وجدوا فيها؟ كل هذا كان في عصر ما قبل الحداثة والدولة الحديثة، أما في وجود دولة حديثة فقد صار الفقه سلطة ثانية موازية ومنافسة لسلطة الدولة، شريكاً لها في الحكم المباشر للفرد والمجتمع.

ثالثاً – سلطة الفقيه في وجود الإمامة

1) ليس الركن الأول نظرية تقليدية في الإمامة

توجهت أنظار الباحثين في “الغياثي” إلى الركنين الأول والثاني وركزوا عليهما لما فيهما من جدة وثورية وابتكار، وفاتهم الفحص في الركن الأول الخاص بالإمامة ذاتها لاعتقادهم أن الجويني يقدم فيه نظرية تقليدية في الإمامة، وهذا غير صحيح؛ فالركن الأول يجب فهمه في ضوء الركنين الثاني والثالث. فإذا كان موضوع الجويني الأساسي هو سلطة الفقيه، فقد مهد لذلك بوضع سلطة حقيقية للفقيه داخل الركن الأول، وذلك بتقييد سلطة الإمام والرفع من دور الفقيه أثناء وجود إمام شرعي.

الإمام في الركن الأول مقيد بالشريعة، لكون الإمامة تنفيذية وهي محل السيادة لكنها ليست مصدر الشرعية؛ مصدر الشرعية هو الشريعة والقائمون عليها من الفقهاء. والإعلاء من شأن الشريعة هو إعلاء من شأن القائمين عليها، أي حَمَلَتها من الفقهاء. يقول الجويني: “فَالْمُسْلِمُونَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَالْإِمَامُ فِي الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَوَاحِدٍ مِنَ الْأَنَامِ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَنَابٌ فِي تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ” (395/ 391)[11]. (الأحرى هو القول إن الفقهاء هم المخاطبون، لا المسلمين، لأن العامة لا تقدر على فهم أحكام النص القرآني، والفهم قاصر على أصحاب الفهم، الفقهاء، الذين جعلوا القرآن يخاطبهم هم وحدهم). سلطة الإمام تنفيذية فقط، وهو “مستناب” في تنفيذها من المسلمين، لأنهم هم المخاطبون، لأن تنفيذ الأحكام يقع أصلاً على المسلمين وهم المكلفون بها، أما الإمام فهو “مستناب” عنهم في التنفيذ، اعتبارياً. السلطة التنفيذية للإمام إذن اعتبارية، لأن الاعتبارية داخلة فيها، فالاستناب اعتباري. الإمام نفسه “مستناب”، أي أنه نائب تنفيذ الأحكام. (نظرية ولاية الفقيه الشيعية تجعل من الفقيه نائباً عن الإمام الغائب، أما نظرية الجويني فتجعل الإمام نفسه نائباً، في تنفيذ أحكام الشريعة). الكل خاضع للأحكام والكل عليه تنفيذها وما الإمام سوى مُستناب في تنفيذها، لكن مستناب من مَن؟ من المسلمين أم من الله؟ لا من هذا ولا من ذاك، لأن الاستنابة اعتبارية كما قلنا، لكنها في نص الجويني استنابة حقيقية أو ضمنية من الفقهاء. الإمام إذن مستناب من الفقهاء، لأنهم هم الذين يحددون أحكام الله ودرجة إلزامها ويفرقون فيها بين الواجب والمندوب والمكروه والمحظور والمباح، إنهم القيمون على أحكام الله. هكذا يحول الجويني منصب الإمام ذاته إلى نيابة، فهو نائب في تنفيذ أحكام الشريعة، التي يحددها الفقيه. الإمام إذن منفذ لما يشرعه الفقيه. وهذه ليست مجرد ولاية فقيه سنية، بل هي بالأحرى سلطة تشريعية للفقيه، والإمام مجرد سلطة تنفيذية، ليست ولاية فقيه ينوب عن إمام غائب، بل هي هيمنة للفقيه في وجود إمام حاضر.

2) سلطة الفقيه في وجود إمامة شرعية

وكما ذكرنا، ينقسم كتاب الجويني إلى ثلاثة أقسام، يسميها أركان: الركن الأول في الإمامة، والثاني “القول في خلو الزمان عن الإمام”، والركن الثالث “فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ وَنَقَلَةِ الْمَذَاهِبِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ”.وبنظرة سريعة قد يُعتقد أن سلطة الإمام لا تظهر إلا في الركن الثاني الذي يتناول خلو الزمان عن الإمام إذ يحل الفقيه محله، لكن للفقيه دور كبير وملفت للنظر في الركن الأول.

ويخطئ من يظن أن الجويني يقدم نظرية تقليدية في الإمامة في الركن الأول على شاكلة من قبله مثل الماوردي، إذ هو في الحقيقة يقدم في هذا الركن نظرية في دور الفقيه أثناء وجود إمامة شرعية بشرائطها الكاملة متحققة. لم ينتظر الجويني إلى الركن الثاني كي يحدد دور الفقيه في غياب الإمام وشرائط الإمامة، بل هو يبدأ بالتنظير للدور السياسي للفقيه من الركن الأول ذاته. ولكن لما كان الدور السياسي للفقيه أثناء وجود إمامة شرعية هو دور غريب وليس معروفاً من قبل، ولأن الجويني حذَّر من الكشف عن هذا الدور، فهو لا يصرح به تماما، ويستخدم أسلوباً غير مباشر، ولذلك يطلق على ما قاله في هذا الركن الأول “المرامز”، أي الرموز والأشياء التي تدل وتشير وترمز دون إفصاح عن مقصده الحقيقي وهو التنظير لسلطة الفقيه أثناء وجود الإمام. يقول الجويني: “عَلَى أَنِّي آتِي فِيهَا [أي أبواب الركن الأول]، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَ الْكِتَابِ بِالْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ، وَأُشِيرُ بِالْمَرَامِزِ إِلَى مُنْتَهَى الْغَايَاتِ، وَأُوثِرُ الْإِيجَازَ وَالتَّقْلِيلَ…” (9/ 210). “المرامز” إشارة إلى الدور الخفي غير المصرح به للفقيه أثناء وجود إمام شرعي؛ إن الجويني يستخدم التقية والأسلوب المستور، كما الشيعة. و”منتهى الغايات” هو غرضه الأساسي وهو التأسيس للشرعية السياسية للفقيه، وربما تشجيع نظام الملك على خلع الخليفة العباسي وتولي الخلافة بنفسه، نوع من الانقلاب الشرعي. أما في الركن الثاني وهو خلو الزمان عن الإمام، فالجويني صريح للغاية في وضع سلطة الولاية في يد الفقهاء، وإن لم يكن صريحاً بالمثل في دعوة نظام الملك إلى تولي الخلافة بنفسه. لكنه على كل حال صريح في إلحاق الولاية بالفقيه، إذ يقول: “ثُمَّ أُقَدِّرُ شُغُورَ الْحِينِ عَنْ حُمَاةِ الدِّينِ، وَوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُوَضِّحُ إِذْ ذَاكَ مُرْتَبَطَ قَضَايَا الْوِلَايَةِ” (9/ 210). و”قضايا الولاية” هي مسئوليات الفقيه السياسية تجاه المسلمين بعد شغور الحين عن حماة الدين وولاة المسلمين، وهي ولاية فقيه واضحة، إنها “قضايا الولاية” تلك التي ستكون مسؤولية الفقهاء في خلو الزمان عن الإمام، وهو عصر يفترضه الجويني مثيل لعصر الغيبة عند الشيعة.

إقرأ أيضاً: “ابن الجوزي” واخْتِرَاق حِصْنٌ المَنْظُومَةٌ الحَدِيثية

والدليل على أنه يبحث في دور الفقيه في وجود إمام قائم، أنه في الركن الأول يبحث في احتمال، وإمكان، وربما واقع، وجود إمام لا يصلح للإمامة، فالعمل في هذه الحالة هو دور للفقيه واضح؛ يقول الجويني في ذلك: ” فَأَمَّا إِذَا تَوَاصَلَ مِنْهُ الْعِصْيَانُ، وَفَشَا مِنْهُ الْعُدْوَانُ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ، وَزَالَ السَّدَادُ، وَتَعَطَّلَتِ الْحُقُوقُ وَالْحُدُودُ، وَارْتَفَعَتِ الصِّيَانَةُ، وَوَضَحَتِ الْخِيَانَةُ، وَاسْتَجْرَأَ الظَّلَمَةُ، وَلَمْ يَجِدِ الْمَظْلُومُ مُنْتَصِفًا مِمَّنْ ظَلَمَهُ، وَتَدَاعَى الْخَلَلُ وَالْخَطَلُ إِلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَتَعْطِيلِ الثُّغُورِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِدْرَاكِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُتَفَاقِمِ عَلَى مَا سَنُقَرِّرُ الْقَوْلَ فِيهِ… وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَةَ إِنَّمَا تُعْنَى لِنَقِيضِ هَذِهِ الْحَالَةِ” (151/275 – 276). هذه هي حالة إمام قائم بالفعل، لكنه فاسق وفاسد وظالم، وهنا يبدأ دور الفقيه، سواء كان في عزل الإمام لكون الفقيه من أهل الحل والعقد، أو قبول الإمام القائم حتى ولو كان فاسقاً إذا كان عزله صعباً لتمكنه من القوة العسكرية، وفي هذه الحالة يبرز دور الفقيه باعتباره حاكماً للمجتمع مباشرة منظماً لأحواله، ويكون الحال هو شغور الزمان عن إمام عادل تتوافر فيه شرائط الإمامة. هنا يتولى الفقيه ولاية المسلمين الدينية، أي الشعائرية والاجتماعية والحياتية، لكون الفقه الإسلامي مسيطر على كل هذه المجالات. ومعنى هذا أن شغور الزمان عن الإمام يمكن ألا يعني غيبة كاملة للإمام، بل يعني غياب الإمام العادل، وفي هذه الحالة يظهر الفقيه ليتولى أمر المسلمين وإقامة الشريعة بينهم. يقول الجويني: “إِنْ عَسُرَ الْقَبْضُ عَلَى يَدِهِ الْمُمْتَدَّةِ لِاسْتِظْهَارِهِ بِالشَّوْكَةِ الْعَتِيدَةِ، وَالْعُدَدِ الْمُعَدَّةِ، فَقَدْ شَغَرَ الزَّمَانُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَدُفِعَ إِلَى مُصَابَرَةِ الْمِحَنِ طَبَقَاتُ الْخَلْقِ، وَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي أَحَدِ مَقْصُودَيِ الْكِتَابِ ; إِذْ هَذَا الْمَجْمُوعُ مَطْلُوبُهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ أَحْكَامِ اللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَنِ عَنِ الْأَئِمَّةِ” (153/277)؛ أي خلو الزمن عن الأئمة الشرعيين العدول، ووجود أئمة ظلمة مستعدين بالشوكة العتيدة والعدد المعدة. هنا يكون الإمام قد خالف العقد الاجتماعي الذي تولى على أساسه منصبه، ومن حق الفقهاء، ولاة الأمر الحقيقيون والشرعيون باعتبارهم حملة الشريعة، تولي مهام الإمام، الدينية والشرعية، أي الاجتماعية والحياتية والشعائرية.

وأعود فأقول إنه في الوقت الذي يقفز فيه أغلب الذين تناولوا “غياث الأمم” إلى النصف الثاني من الكتاب للبحث في خلو الزمان عن الإمام وعن أصول الشريعة (وائل حلاق، أحمد عاطف أحمد، أحمد عبد المجيد)، فإنني في هذه الدراسة أبحث في النصف الأول من الكتاب عن الإمامة في ضوء النصف الثاني، فلأن النصف الأول مقدمة للثاني، فالأول يجب فهمه في ضوء الثاني. والجويني هو الذي يوجهنا لهذه الطريقة في دراسة كتابه إذ يقول: “فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْفَصْلَانِ الْغَرَضَ، فَلِمَ أَطَلْتَ فِيمَا قَدَّمْتَ الْقَوْلَ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَأَحْكَامِ الرِّئَاسَةِ وَالزَّعَامَةِ؟ قُلْتُ: لَا يَتَأَتَّى الْوُصُولُ إِلَى دَرْكِ تَصْوِيرِ الْخُلُوِّ عَنِ الْإِمَامِ لِمَنْ لَمْ يُحِطْ بِصِفَاتِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يَتَقَرَّرُ الْخَوْضُ فِي تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ شُغُورِ الْأَيَّامِ، مَا لَمْ تَتَّفِقِ الْإِحَاطَةُ بِمَا يُنَاطُ بِالْإِمَامِ. فَلَمْ أَذْكُرِ الْمُقَدِّمَةَ، وَ [أنا] مُسْتَغْنٍ عَنْهَا. عَلَى أَنِّي أَتَيْتُ فِيهَا بِسِرِّ الْإِيَالَةِ الْكُلِّيَّةِ” (435/ 411). سر الإيالة الكلية هو سر الولاية العامة، في كل جوانبها الدينية والسياسية، وهذا السر هو سلطة الفقيه أثناء وجود إمام سواء كان عادلاً أو ظالماً. والشغور ليس هو خلو منصب الإمام وحسب، بل خلو المنصب من إمام عادل، وعدله يحدده الفقهاء، فهم الحكام على الإمام وهم الذين يقيمون سلوكه وما إذا كان عادلاً أم ظالماً، يستحق العزل أم يستحق الإبقاء عليه وهو ظالم لتعسر عزله لقوته العسكرية.

جدل أصول الفقه والمنطق الصوري وأثره في فلسفة القانون الإسلامية

الفقهاء هم الحكام حقاً، فهم يحكمون على الإمام نفسه، وهم الذين بيدهم تقييم العدل والظلم من الإمام؛ إذ لهم حق تحديد الحالة القائمة وما إذا كانت حالة عدل أو ظلم، وحالة العدل هي الحالة الاعتيادية، وحالة الظلم هي الحالة الاستثنائية التي توجب إجراءات استثنائية، مثل أن يبقى الإمام الظالم لتمكنه من الشوكة، تماماً مثلما يقول شميت إن صاحب السيادة هو الذي يقرر في الحالة الاستثنائية[12]؛ والحالة الاستثنائية هنا هي إمام ظالم، والذي يقرر العمل في هذه الحالة الاستثنائية هم الفقهاء، وبالتالي فلهم السيادة حسب شميت. ولنا ملاحظة على عبارة الجويني “سر الإيالة الكلية”. هذا تعبير مستور، يذكرنا بأسلوب الشيعة وتعبيراتهم.

3) سلطة الفقيه في وجود إمام لا تتوافر فيه شرائط الإمامة

عند خلو الزمان عن الإمام، يبحث الجويني في مقصدين: “أَحَدُهُمَا – تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِمَامِ عِنْدَ تَقْدِيرِ شُغُورِ الْأَيَّامِ عَنْ وَزَرٍ يَلُوذُ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ” (434)، أي تفصيل أحكام ولاية المسلمين في حالة عدم وجود إمام عادل وحتى ولو وجد الإمام وكان ظالماً. إن الأحكام المتعلقة بالإمام هي وظائفه الشرعية التي لم يعد يقوم بها، فمن يقوم بها؟ الفقيه. لكن من الذي له سلطة تحديد أو “تَقْدِيرِ شُغُورِ الْأَيَّامِ عَنْ وَزَرٍ يَلُوذُ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ”؟ إنه الفقيه أيضاً، فهو الذي يقرر هذه الحالة الاستثنائية؛ إنه الحاكم على هذه الحالة الاستثنائية، فهو الذي يقرر فيها وهو الذي يحكم أنها استثنائية تستوجب التصرف الاستثنائي، وهو المقدر لشغور الأيام عن إمام. هذه ليست مجرد سلطة أهل الحل والعقد، بل هي أكبر منها بكثير، ليست مجرد حل وعقد بل هي تقدير للحالة القائمة، إنها سلطة سيادية عليا تعلو السلطة التنفيذية للإمام.

“وَالثَّانِي – بَيَانُ مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْمُكَلَّفُونَ فِيمَا كُلِّفُوهُ مِنْ وَسِيلَةٍ وَذَرِيعَةٍ، إِذَا عَدِمُوا الْمُفْتِينَ، وَحَمَلَةَ الشَّرِيعَةِ” (434). وما يتمسك به المكلفون هو الشعائر الدينية الكلية من طهارة وصلاة وصيام وزكاة ومناكح ومعاملات. إنها التمسك بإسلام الحد الأدنى بعد ضياع إسلام الحد الأقصى وهو الإسلام الإمبراطوري السلطوي، وهي شرنقة تحافظ على هوية المجتمع المسلم الذي ضاعت منه السلطة السياسية. إنها “وسيلة وذريعة” لحفظ المجتمع المسلم قائماً بالمحافظة على المظهر الإسلامي له من طقوس وشعائر، وذلك في غياب “المفتين وحملة الشريعة”.

رابعاً – تقييد سلطة الإمام بالشريعة وبسلطة الفقيه

1) مهام الإمام تنفيذية

سلطة الإمام عند الجويني مقيدة بإقامة الشريعة، فالسيادة لها لا للإمام، والإمامة مجرد منصب تنفيذي. وهنا يسحب الجويني السلطة من الخليفة العباسي في عصره ويمنحها لنظام الملك: “كلُّ مَا نِيطَ بِالْأَئِمَّةِ مِمَّا مَضَى… فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ صَدْرِ الدِّينِ [نظام الملك]، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ إِنَّمَا تَوَلَّوْا أُمُورَهُمْ، لِيَكُونُوا ذَرَائِعَ إِلَى إِقَامَةِ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، فَإِذَا فَقَدْنَا مَنْ يَسْتَجْمِعُ الصِّفَاتِ الْمَرْعِيَّةَ فِي الْمَنْصِبِ الْأَعْلَى، وَوَجَدْنَا مَنْ يَسْتَقِلُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْهَضُ بِأَثْقَالِ الْعَالَمِينَ، وَيَحْمِلُ أَعْبَاءَ الدِّينِ” وليناه الولاية رغم وجود إمام لكن لا تتوافر فيه شرائط الإمامة. (533/458)؛ هنا يشجع الجويني نظام الملك على تولي الإمامة بنفسه.

يعتبر الجويني الأئمة مجرد ذرائع، أي وسائل، لإقامة أحكام الشرع. إن منصبهم تنفيذي بحت، لا سيادي، وتنفيذية المنصب والمهمة تجعل الإمام وغيره سواء، وتجعل الأولوية لصاحب الكفاءة التنفيذية، أي نظام الملك، أو غيره ممن يصلح للتنفيذ. إن الجويني يقدم لنظام الملك المبرر الشرعي لتوليه الخلافة؛ إنها أيديولوجيا سياسية تسحب الشرعية من الخلافة العباسية وتمهد الطريق لنظام الملك. الخلافة العباسية انتهت فاعليتها في نظر الجويني، وما على الفقيه سوى إبداع طرائق للحلول محلها.

2) تقييد الإمام بالشريعة

وكمزيد من تقييد الإمام بالشريعة، وعلى سبيل التأكيد بالتكرار والإطناب والبلاغة، يقول الجويني: “وَالْإِمَامُ فِي الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ، وَتَطَوُّقِ الْإِسْلَامِ كَوَاحِدٍ مِنْ مُكَلَّفِي الْأَنَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ فِي حَمْلِ النَّاسِ عَلَى الشَّرِيعَةِ” (488/ 434). الإمام مجرد ذريعة، أي مجرد وسيلة لتنفيذ الأحكام التي يحددها الفقهاء، وذلك لأن القرآن والسنة هما بيد الفقهاء أصلاً، يستخرجون منها شرع الله والأحكام، وهم حملتها القيمون عليها، والإجماع إجماعهم هم والقياس قياسهم. والسيادة للشريعة التي مصدرها القرآن والسنة وإجماع الفقهاء، لكن الحقيقة أن إجماع الفقهاء هو الحاكم على القرآن والسنة، فهم الذين يقررون ما ينفذ وما لا ينفذ، وهم الذين يُنْزِلون الحكم الشرعي على الحالة المستجدة، وهم الذين ينتجون الأحكام، يصنعونها صنعاً، بإجماعهم وقياسهم. “[فَالْمُتَّبَعُ] فِي [حَقِّ الْمُتَعَبِّدِينَ] الشَّرِيعَةُ وَمُسْتَنَدُهَا الْقُرْآنُ، ثُمَّ الْإِيضَاحُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَالْبَيَانُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ الْمُنْعَقِدُ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْإِيمَانِ” (487/ 434). الشريعة هي قرآن وسنة وإجماع، لقد وضع الجويني إجماع الفقهاء شريعة، أو أحد مكوناتها الأساسية، وهذا الإجماع في الحقيقة هو المهيمن على القرآن والسنة. السيادة للشريعة والفقهاء حملتها، القيمون عليها، المهيمنون عليها بالكامل. الفقهاء جزء أصيل من نسق السيادة، وما الإمام سوى منفذ، مستناب، ذريعة.

3) تقييد سلطة الإمام بسلطة الفقيه

وهو مايتضح في نصوص عديدة من “الغياثي”: “وَنَحْنُ نَرَى لِلْإِمَامِ الْمُسْتَجْمِعِ خِلَالَ الْكَمَالِ، الْبَالِغِ مَبْلَغَ الِاسْتِقْلَالِ أَنْ لَا يَغْفَلَ الِاسْتِضَاءَةَ فِي الْإِيَالَةِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ بِعُقُولِ الرِّجَالِ”، أي الفقهاء (115/ 261)؛ وهنا يعترف الجويني بأن الفقهاء يستخدمون عقولهم، وهو الذي رفض تحكيم العقل في أمور الإمامة في بداية الكتاب؛ “وَسِرُّ الْإِمَامَةِ اسْتِتْبَاعُ الْآرَاءِ، وَجَمْعُهَا عَلَى رَأْيٍ صَائِبٍ… وَلَا بُدَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ كَوْنِ الْإِمَامِ مَتْبُوعًا غَيْرَ تَابِعٍ”، يقول هذا على سبيل المجاملة وحفظ مقام الإمام، لكنه سيرجع عن هذا الرأي في تكملة العبارة: “وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِي دِينِ اللَّهِ، لَلَزِمَهُ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ وَاتِّبَاعُهُمْ، وَارْتِقَابُ أَمْرِهِمْ، وَنَهْيِهِمْ، وَإِثْبَاتِهِمْ، وَنَفْيِهِمْ وَهَذَا يُنَاقِضُ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ، وَمَرْتَبَةَ الزَّعَامَةِ” (116/ 262). الاجتهاد شرط الإمامة، ولو لم يكن الإمام مجتهداً لم يكن إماماً شرعياً، لأنه سيكون تابعاً للفقهاء مؤتمراً بأمرهم وهذا يناقض منصب الإمامة. وهذ شرط صعب للغاية، ناهيك عن أن الإمام الذي يتوافر فيه شرط الاجتهاد يجب أن يكون هو نفسه فقيهاً، واحداً منهم، وهم الذين يقررون ما إذا كان مجتهداً أم لا. الجويني يفرغ الإمامة من معناها وسلطاتها أصلاً، وهو متناقض مع نفسه إزاءها، لأنه سبق أن قال إن الإمام واحد من الأنام مستناب في تنفيذ الأحكام ومجرد ذريعة لتنفيذ أحكام الشريعة،وبعد ذلك يقول إنه لو لم يكن مجتهداً لكان مقلداً العلماء. إنه في الحقيقة ينهي شرعية الإمام، فليس هناك إمام مجتهد في عصره ولا في أي عصر آخر إلا إذا كان من زمرة الفقهاء؛ وربما يكون قصده هو نظام الملك، المعتبر مجتهداً في عصره. والمفارقة هنا هي أنه حسب شروط الجويني فإن الخميني هو الإمام المجتهد، الذي تتوافر فيه شروط الاجتهاد حسب الشيعة والمستحق للإمامة.

ولا يجب على الإمام التدخل في خلافات الفقهاء: “فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ الْإِمَامُ لِفُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ ; بَلْ يُقِرُّ كُلُّ إِمَامٍ وَمُتَّبِعِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ مَسْلَكِهِمْ وَمَطْلَبِهِمْ” (277/ 332). هذا في الفروع، أما في الأصول وهي العقائد فالواجب على الإمام حمل الناس عليها، والأصول عند الجويني هي الأصول الأشعرية التي ذكرها في كتابه “العقيدة النظامية”. يقول الجويني: “فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحَقُّ الَّذِي يَحْمِلُ الْإِمَامُ الْخَلْقَ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِقَادِ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ؟ قُلْنَا: … مَنْ رَامَ اقْتِصَادًا، وَحَاوَلَ تَرَقِّيًا عَنِ التَّقْلِيدِ وَاسْتِبْدَادًا، فَعَلَيْهِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُتَرْجَمِ بِالنِّظَامِيِّ، فَهُوَ مُحْتَوٍ عَلَى لُبَابِ الْأَلْبَابِ، وَفِيهِ سِرُّ كُلِّ كِتَابٍ، فِي أَسَالِيبِ الْعُقُولِ” (279/ 333). يريد الجويني من الإمام فرض مذهب الأشاعرة في أصول العقيدة!!

إن الإمام عنده مجرد أداة لفرض مذهب معين، والجويني يعلم جيداً مدى الخلاف في أصول الدين، إذ يقول: “فِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَكُلُّ فِئَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا النَّاجِيَةُ، وَمَنْ عَدَاهُمْ هَالِكُونَ” (278/ 333). وهو يدعي أن مذهب الأشاعرة في أصول الدين هو مذهب السلف: “إِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ الْعَوَامِّ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ الْأَسْلَمُ” (280/ 334). وهذا استغلال للسلطة السياسية  في فرض مذهب واحد في العقيدة. وهو يدعي أن الخلاف في مذاهب أصول العقيدة بسبب “الشبهات” وهي “دَاعِيَةُ الْغِوَايَاتِ، وَسَبَبُ الضَّلَالَاتِ” (280/ 334). وليس هذا بصحيح، فالمسلمون لم يدخلوا في الفتن التي قسمتهم فرقاً متصارعة بسبب أصول الدين، بل بسبب الخلاف على السلطة، بين عثمان وخصومه، ثم بين علي من جهة وعائشة وطلحة والزبير من جهة أخرى، ثم بين علي ومعاوية، ثم بين علي والخوارج، ثم علي ومعاوية، ثم الشيعة والأمويين والعباسيين… وهي خلافات سياسية على السلطة ولم تكن في أصول الدين؛ ثم انتقل الخلاف على السلطة إلى خلاف على أصول الدين في وقت لاحق، وتم تصعيد السياسي إلى الديني. إن أصل المشكلة أن الفقهاء في ديار الإسلام وطوال العصر الإسلامي كله كانوا يجبرون الإمام أو الحاكم أياً كان على فرض عقيدة مذهبية معينة على الكافة، واستغلوا السلطة السياسية في صراعاتهم[13].

لكن هل الأشاعرة على مذهب السلف حقاً في العقائد كما يدعي الجويني؟ لا بالطبع. لقد ربطوا العقيدة بمقدمات كلامية من وضعهم، وجعلوها من أصول الدين ذاتها، مثل القول بحدوث العالم على أساس نظرية الجزء الذي لا يتجزأ، وبراهينهم على حدوث الأعراض والتي صارت بنوداً إيمانية. ومن جهة أخرى فإن الأشاعرة هم أصحاب نظرية الكلام النفسي، وللجويني نصوص صريحة تؤيد هذه النظرية. ويبدو أن هذه النظرية كانت للخاصة وحدها، أي للأشاعرة فيما بينهم وهم فيها عقلانيون مثل المعتزلة.

خامساً – الإمامة من إجماع الأمة إلى شرعية مبايعة الواحد ذي الشوكة

نشهد في كتاب الجويني تدرجاً، بطيئاً وربما غير ملاحظ وعلى حذر، من البدء بقوله إن الإمامة هي بإجماع الأمة، إلى القول بشرعية الإمامة بمبايعة رجل واحد ذي شوكة، أي مبايعة قائد عسكري قوي للإمام.

1) نقطة البدء: الإمامة بالإجماع واختيار أهل الحل والعقد

بعد أن أقر الجويني أن الإمامة تُعقد بالإجماع، يقر بأن هذا الإجماع يقع بآلية اختيار أهل الحل والعقد: “الِاخْتِيَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ هُوَ الْمُسْتَنَدُ الْمُعْتَقَدُ، وَالْمُعَوَّلُ الْمُعْتَضَدُ” (50/ 232)؛ وذلك كي يُدخل الفقهاء فيهم. وسنده في الإجماع والاختيار من أهل الحل والعقد هو حادثة واحدة فقط هي اجتماع السقيفة، الذي لم يكن اجتماعاً عاماً شاملاً للأعلام البارزين آنذاك، فقد تخلف عنه الكثيرون الذين بايعوا بعد بيعة السقيفة لا أثنائها، وأبرزهم علي بن أبي طالب. ولم يتكرر اجتماع السقيفة في تاريخ المسلمين بعد ذلك، فكيف يؤسس الجويني قاعدة لاختيار الإمام من حادثة واحدة لم تتكرر؟

2) بداية التحول في الموقف: الإجماع ليس منصوصاً عليه

ويعترف الجويني بأن الإجماع ليس منصوصاً عليه، لا في الكتاب ولا في الأحاديث: “لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَصٌّ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ لَا يُقْبَلُ التَّأْوِيلُ” (52/ 232)؛ ومعنى هذا أن الآية القائلة “وأمرهم شورى بينهم” ليست نصاً على الإجماع حسب الجويني لا يحتمل التأويل، وبالتالي فهو يحذف الشورى وآيتها من نسقه النظري السياسي؛ وكذلك يعترف بعدم وجود حديث نبوي في الإجماع: “وَلَا مَطْمَعٌ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ; فَإِنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ عَنْهُ نَصٌّ فِي الْإِجْمَاعِ يَدْرَأُ الْمَعَاذِيرَ، وَيَقْطَعُ التَّجْوِيزَ وَالتَّقْدِيرَ”.

الإجماع إذن ليس بالنص، القرآني أو الحديثي، فكيف يكون؟ وما هي شرعيته. يذهب الجويني إلى أن الإجماع هو بالإجماع!! أي أن شرعية الإجماع هي الإجماع على شرعيته؛ إنه مرجعية ذاته، وهو الواقعة التاريخية (اجتماع السقيفة) التي يأخذها باعتبارها شرعية ثم يعدها شرعاً. إذن من حق الأمة التشريع، ولأعلى منصب في الأمة وهو الإمامة. يقول الجويني: “إِذَا صَادَفْنَا عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ مُجْمِعِينَ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، مُتَّفِقِينَ عَلَى قَضِيَّةٍ فِي تَفَاصِيلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَلْفَيْنَاهُمْ قَاطِعِينَ عَلَى جَزْمٍ وَتَصْمِيمٍ، فِي تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَهُمُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَالْجَمْعُ الْكَثِيرُ، وَعَلِمْنَا بِارْتِجَالِ الْأَذْهَانِ أَنَّهُمْ مَا تَوَاطَئُوا عَلَى الْكَذِبِ عَلَى عَمْدٍ، وَمَا تَوَاضَعُوا عَلَى الِافْتِرَاءِ عَنْ قَصْدٍ، وَهُمْ مُتَبَدِّدُونَ فِي الْأَقْطَارِ، مُتَشَتِّتُونَ فِي الْأَمْصَارِ، مَعَ تَنَائِي الدِّيَارِ، وَتَقَاصِي الْمَزَارِ، لَا يَجْمَعُهُمْ رَابِطٌ عَلَى وَطَرٍ مِنَ الْأَوْطَارِ، ثُمَّ كَرَّتِ الدُّهُورُ، وَمَرَّتِ الْعُصُورُ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى قَطْعٍ مُسَدَّدٍ، مِنْ غَيْرِ رَأْيٍ مُرَدَّدٍ. وَالْأَحْكَامُ فِي تَفَاصِيلِ الْمَسَائِلِ لَا تُرْشِدُ إِلَيْهَا الْعُقُولُ، فَنَتَبَيَّنُ أَنَّهُ حَمَلَهُمْ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ قَاطِعٌ شَرْعِيٌّ، وَمُقْتَضًى جَازِمٌ سَمْعِيٌّ، وَلَوْلَاهُ، لَاسْتَحَالَ أَنْ يَقْطَعُوا فِي مَظِنَّاتِ الظُّنُونِ، ثُمَّ يَتَّفِقُوا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ جَامِعٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّوَاضُعِ عَلَى الْكَذِبِ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّوا عَلَى ذَلِكَ، مَعَ امْتِدَادِ الْآمَادِ عَلَى اسْتِتْبَابٍ، وَاطِّرَادٍ. هَذَا مُحَالٌ وُقُوعُهُ فِي مُسْتَقَرِّ الِاعْتِيَادِ” (54/ 233). أي ربما كانوا على علم بقاطع شرعي أو سمعي جعلهم يجمعون على الإجماع وهم لا يجمعون على كذب. هنا يثق الجويني في إجماع العلماء لمجرد كونهم علماء، في خطابة وعظية أخلاقية لا تقدم برهاناً. مصدر شرعية الإجماع هو إجماع علماء الأمة، خاصة إذا تعددوا في الزمان والمكان والأحوال، وخاصة أيضاً إذا اختلفت مذاهبهم العقائدية، ذلك الاختلاف الذي هو في الفروع؛ أما الأصل وهو الإمامة فهم مجمعون عليه وبذلك يثبت شرعيته، لكن العقائد ليست فروعاً والإمامة ليست من الأصول.

لكن كل ما قاله الجويني غير صحيح، فعلماء الأمة الذين يقصدهم هم علماء السنة وحدهم، والخلاف يبقى مع الخوارج والشيعة والمعتزلة، فعلماؤهم غير مجمعين على الإمامة، لكن يبدو أن الجويني لا يعترف بعلماء الخوارج والشيعة والمعتزلة باعتبارهم علماء الأمة، ويبدو أن “الأمة” في نظره هي السنة وحدها. الإجماع إذن يحيل إلى ذاته وهو مصدر شرعية نفسه، ولا ننسى أن إجماع العلماء هو أحد أركان التشريع الإسلامي الأربعة: القرآن والسنة والقياس والإجماع، الإجماع إذن له جانبان، ديني تشريعي وسياسي. وهكذا يمسك الفقهاء بالدين والسياسة. ويدفع الجويني الإجماع إلى مرتبة الشرع، أي يعتبره ديناً. ثم يرفع الجويني من شأن الإجماع ويقول: “فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مَنَاطُ الْأَحْكَامِ، وَنِظَامُ الْإِسْلَامِ، وَقُطْبُ الدِّينِ، وَمُعْتَصَمُ الْمُسْلِمِينَ” (58/ 236 – 237). وهدفه من وراء هذا الإعلاء من شأن الإجماع وسلطته أن يمهد الطريق لأهل الحل والعقد الذين في يدهم سلطة الإجماع والذين هم الإجماع إجماعهم هم، ثم للفقهاء الذين هم من أهل الحل والعقد.

الإمامة إذن ليست بالنص بل بالإجماع، الذي يرفعه الجويني إلى مرتبة الشرع والدين. لكن ماهو الإجماع في حقيقته؟ إنه اجتهاد فقهي، أي أنه بالعقل، الذي هو اجتهاد الفقهاء، ومن جهة أخرى هو السنة الاجتماعية والسياسية وما جرت عليه العادة من قبل، العرف واطِّراده. الإجماع سنة اجتماعية وسياسية، لا سنة نبوية، يضعه الجويني فوق السنة النبوية الخالية من النص على الإجماع: “مَدَارُ الْكَلَامِ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْعُرْفِ وَاطِّرَادِهِ، وَبَيَانِ اسْتِحَالَةِ جَرَيَانِهِ حَائِدًا عَنْ مَأْلُوفِهِ وَمُعْتَادِهِ، فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّوَلِ، وَالْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، فَالْعُرْفُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى اتِّبَاعِ شَوْفٍ وَمَطْمَحٍ يَجْمَعُ شَتَاتَ الْآرَاءِ، وَيُؤَلِّفُ افْتِرَاقَ الْأَهْوَاءِ ; وَلِهَذَا السَّبَبِ انْتَظَمَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا” (59/ 237). أساس الإجماع هو العرف واطراده، أي انتظامه على وتيرة واحدة، وهو المألوف والمعتاد، أي أن الإجماع على نصب الإمام ليس شريعة وليس نصاً من قرآن أو سنة، بل هو عُرف، والعرف هو حركة المجتمع والتاريخ: “فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ لِلْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْإِمَامَةِ سِوَى الْإِجْمَاعِ تَعْوِيلاً” (62/ 239).

لكن ماذا عن علماء الخوارج والشيعة والمعتزلة الذين لم يجمعوا على الإمامة أو على أئمة معينين؟ هل يخرجون من الملة أم هم مجرد أصحاب رأي مخالف؟ وماذا عن عبد الرحمن بن كيسان؟ ولماذا هاجمه الجويني في مطلع كتابه بسبب إنكاره وجوب الإمامة عقلاً أو نصاً؟ (16 – 17/ 217 – 218)[14]. إن الجويني هو الآخر يقول إن الإجماع الذي تنعقد به الإمامة ليس واجباً عقلاً ولا نصاً لأنه ليس هناك دليل عقلي أو نصي على الإجماع، فكيف للإجماع الذي تنعقد عليه الإمامة أن يكون عرفاً مطرداً وليس مُثبتاً نصاً؟ معنى هذا أنه لن يكون هناك سند لتنصيب الإمامة نصاً أو عقلاً، بل بالإجماع الذي هو مجرد عرف. وإذا كان ابن كيسان قد نظر إلى الإمامة التي وقعت في التاريخ بالفعل على أنها كانت لضرورة دفع الشرور والفتن، فهذا هو فحوى قول الجويني إنها تنعقد بالإجماع الذي هو عرف مطرد، فالعرف المطرد في أي مجتمع هو دفع الشرور والفتن بوضع سلطة سياسية تحمي المجتمع.

3) الإجماع و العرف المُطَّرِد والعادة المستقرة

الإجماع على الإمامة إذن هو العرف والعادة والسنة الاجتماعية السياسية؛ أي هي ما جرت عليه عادة المسلمين، أي أنه نظام بشري وليس إلهياً وليس دينياً وليس منصوصاً عليه في قرآن أو سنة. لماذا إذن تعرض علي عبد الرازق للهجوم عندما أخرج الإمامة من أصول الدين؟ إن إخراجه لها من أصول الدين يعني أنها ليست من أصول الدين، وهذا هو ما يقوله الجويني بالضبط.

وليس الإجماع حول الإمامة وحده هو العرف المطرد، بل كذلك الحديث عنها والتنظير لها حسب متكلم متأخر هو الآمدي، والذي يعتذر لقارئه عن وضعه لفصل في الإمامة في كتابه في علم الكلام، من جهة أنه اتباع لعادة المتكلمين من قبله[15]، مما يدل على أن الإمامة ليست أصلاً من أصول علم الكلام، أي أصول الدين، كما قال علي عبد الرازق بالضبط.

الكتاب “قليل الجدوى”، لأن الإمامة صارت قليلة الجدوى، والكلام فيها قليل الجدوى

يمتلئ كتاب الجويني بالكثير من العبارات الصادمة، مثل “هذا الزمن السخيف”. وهناك عبارة أخرى صادمة: “وَهَذَا الْكِتَابُ عَلَى الْجُمْلَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى، عَظِيمُ الْخَطَرِ ;لَا يَنْجُو مَنْ يَقْتَحِمُ جَرَاثِيمَهُ مَنْ تَعَدَّى حَدَّ النَّصَفَةِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّه” (70/ 243). يقصد الجويني كتاب الإمامة من كتابه “الغياثي”، لماذا؟ لأن الإمامة ذاتها في عصره صارت قليلة الجدوى، فقد انتهى أثرها ولم يبق منها سوى اسمها. لقد ضعفت خلافة بني العباس قبل قدوم الصليببين والتتار الذين قضوا عليها نهائياً، وكانت دوماً في حماية قوى عسكرية غير عربية مثل السامانيين والبويهيين والسلاجقة. وعندما يقول الجويني عن كتاب الإمامة إنه قليل الجدوى فهذه إشارة لقارئه تمهيداً للكتابين الثاني في شرعية سلطة الفقيه والثالث في اضمحلال الشريعة؛ فالكتاب الأول في الإمامة ليس مقصوداً لذاته. لكن لما كان كتاب الإمامة قليل الجدوى فلماذا هاجم عبد الرحمن بن كيسان؟ إن قوله بأنه قليل الجدوى يعني أن كل ما يقوله في شرائط الإمامة وكيفية نصب الإمام وكيفية الخلع والانخلاع، كل ذلك “قليل الجدوى”. الآمدي إذن محق عندما اعتذر لقارئه عن كتابة فصل عن الإمامة في آخر كتابه “غاية المرام في علم الكلام”. فمبحث الإمامة منذ الجويني كان “قليل الجدوى”، ولكنه ظهر قوياً ومُلِحَّاً في القرن العشرين خاصة بعد إلغاء الخلافة العثمانية وصعود الإسلام السياسي. الإمامة في حد ذاتها “قليلة الجدوى”، لكن كتاب الإمامة من “الغياثي” “عظيم الخطر”، لما يتضمنه من تمهيد إلى نظريته في سلطة الفقيه.

4) مقارنة مع علي عبد الرازق

يكرر الجويني التأكيد على أن الإمامة بالإجماع: “فَإِذًا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُطْلَبَ مَسَائِلُ الْإِمَامَةِ مِنْ أَدِلَّةِ الْعَقْلِ، بَلْ تُعْرَضُ عَلَى الْقَوَاطِعِ السَّمْعِيَّةِ” (72/ 244)، لكن ليس هناك قواطع سمعية فيها، فليس عليها نص في القرآن أو السنة كما قال هو نفسه قبل ذلك، “وَلَا مَطْمَعَ فِي وِجْدَانِ نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَفَاصِيلِ الْإِمَامَةِ. وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ مُعْوِزٌ أَيْضًا”، وهو ما قاله علي عبد الرازق[16]. لقد كان علي عبد الرازق على حق، فقول الجويني السابق يعني أن الإمامة ليست أصلاً من أصول الدين بل هي بالإجماع كما سيقول، مما يعني أنها نظام تاريخي وسياسي بحت لا علاقة للإسلام به، وهو ما قاله علي عبد الرازق[17]. “فَآلَ مَآلُ الطَّلَبِ فِي تَصْحِيحِ الْمَذْهَبِ إِلَى الْإِجْمَاعِ، فَكُلُّ مُقْتَضَى أَلْفَيْنَاهُ مُعْتَضِدًا بِإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ، فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ”. ولكن ما الضرر في أن يكون الإجماع عقلياً ويكون المجمعون قد استخدموا عقلهم مع عدم وجود نص؟ وإذا كان إجماعهم على الإمامة وفق الضرورة والمصلحة العامة فهذا هو إجماع العقل أيضاً، فالعقل يحكم بالضرورة والمصلحة، لكن يبدو أن المسلمين لم يكن لديهم مفهوم واضح عن العقل العملي، أي العقل متجسداً في المعاملات والسلوك العملي.

ثم يأتي الجويني بالقول الفصل: “لَيْسَتِ الْإِمَامَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ” (72/ 244)؛ أي ليست من أصول الدين كما قال علي عبد الرازق، “بَلْ هِيَ وِلَايَةٌ تَامَّةٌ عَامَّةٌ، وَمُعْظَمُ الْقَوْلِ فِي الْوُلَاةِ وَالْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَظْنُونَةٌ فِي التَّأَخِّي وَالتَّحَرِّي”. ومعنى قوله “ولاية تامة عامة” أنها هي رأس السلطة السياسية الضرورية لأي مجتمع بصرف النظر عن عقائده ودينه، فضرورتها هي ضرورة وجود سلطة منظمة للمجتمع. لكنها مظنونة إذا ربطناها بالدين ولذلك فهي خاضعة للتأخي أي الفحص والتحري. والشيء المظنون الخاضع للفحص والنظر، أي التأخي والتحري (ويبدو أن الجويني تجنب ذكر كلمة “النظر”، كي لا يفتح المجال أمام العقل للبحث في الإمامة)، هو الشيء العقلي أساساً، فالحكم فيه للعقل، فالتأخي والتحري هما بالعقل، لا بالنص ولا بقواعد العقائد.

5) يُسقِط الإجماع ويقول بمبايعة الواحد إذا كان ذا شوكة – شرعنة الانقلاب

وبعد أن يُخرج الجويني الإمامة من العقائد وقواعدها، وبعد أن يصرح أنها ليست بالنص بل بالإجماع، وبعد أن يبحث في شروط أهل الحل والعقد وعددهم، يُسقِط شرط العدد، ويفاجئنا بإسقاط الإجماع ذاته إذا لم يتوافر ولم يعد ممكناً، ويقول بأن الإمامة تثبت بمباعية رجل واحد من أهل الحل والعقد!!!: “وَأَقْرَبُ الْمَذَاهِبِ مَا ارْتَضَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ [الباقلاني]، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ [الأشعري] – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَةَ تَثْبُتُ بِمُبَايَعَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ” (85/ 249)، وهو الرأي الذي يتبناه الجويني أيضاً.

وهو يدعم رأي الباقلاني في مبايعة الواحد بتبخيسه من شأن الإجماع لأنه يتطلب عدداً: “وَوَجْهُ هَذَا الْمَذْهَبِ [مذهب الباقلاني] أَنَّهُ تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ تَوْقِيفٌ فِي عَدَدٍ مَخْصُوصٍ. وَالْعُقُودُ فِي الشَّرْعِ مَوْلَاهَا عَاقِدٌ وَاحِدٌ”(الفقرة نفسها). أسقط الجويني الإجماع بعد أن ذهب إلى أنه الأساس الوحيد للإمامة. وهو يشدد على هذا الإسقاط بذكره رأي الباقلاني في عدم وجود إجماع على عدد المجمعين، لماذا؟ لأن الإجماع ليس له أصل من كتاب أو سنة!!! وما لا أصل له لا شرائط له وبالتالي لا يمثل العدد شرطاً في شيء ليس له أصل: “فَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَدَدٍ لَمْ يَثْبُتِ الْعَدَدُ، وَقَدْ تَحَقَّقْنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ شَرْطًا، فَانْتَفَى الْإِجْمَاعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَبَطَلَ الْعَدَدُ بِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَلَزِمَ الْمَصِيرُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِعَقْدِ الْوَاحِدِ” (الفقرة نفسها). تعني عبارة “فانتفى الإجماع بالإجماع”: فانتفى الإجماع على عدد معين بالإجماع. كان هذا هو رأي الباقلاني وأيده الجويني، لكن بطريقته الخاصة. فبعد أن يقر بأن مبايعة أبي بكر الصديق كانت من عمر وحده أثناء اجتماع السقيفة، فهذه هي مبايعة الرجل الواحد، لكن عمر كان ذا منعة وقوة في قومه وأشياع يقفون وراءه، فلم يكن مجرد رجل واحد بل كان حلفاؤه وقومه وراءه، وهذا هو شرط مبايعة الواحد، إذ لا يوافق الجويني على مبايعة الرجل الواحد في المطلق وفي كل الأحوال بل بشرط، وهو “إِنْ بَايَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مَرْمُوقٌ، كَثِيرُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَشْيَاعِ، مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَتْ مَنْعَتُهُ تُفِيدُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ” (89/ 251).

مرة أخرى نجد أن اجتماع السقيفة يؤخذ باعتبارها الأصل والأساس والحالة المعيارية النموذجية لإقامة نظرية الإمامة، وهو الحدث الاستثنائي الذي لم يتكرر. هل كان الجويني يضفي الشرعية على مبايعة نظام الملك للخليفة العباسي؟ ربما. هل كان يمهد لمبايعة نظام الملك نفسه خليفة من قبل شخص قوي ذي قوة مسلحة؟ ربما.

وليس هذا وحسب، بل إن الجويني يقبل أن تكون بيعة الرجل الواحد سرية، لا تعلن إلا في الوقت المناسب: “فَأَمَّا لَوْ فُرِضَ رَجُلٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ، رَفِيعُ الْمَنْصِبِ، ثُمَّ صَدَرَتْ مِنْهُ بَيْعَةٌ لِصَالِحٍ لَهَا سِرًّا، وَتَأَكَّدَتِ الْإِمَامَةُ لِهَذَا السَّبَبِ بِالشَّوْكَةِ الْعُظْمَى، فَلَسْتُ أَرَى إِبْطَالَ الْإِمَامَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَطْعًا” (96/ 253). وهذا هو الانقلاب بعينه، المبايعة السرية من رجل عظيم القدر رفيع المنصب، أي قائد عسكري في يده الجيش، لشخص صالح للإمامة، وعدم الإعلان عن هذه البيعة السرية إلا بإظهارها “بالشوكة العظمى”، أي بالجيش. ربما كان الجويني يمهد لنظام الملك تولي الخلافة بمبايعة سلطان السلاجقة.

لكن دعونا نأخذ فتوى الجويني على إطلاقها ونقول إن فحواها إن كل صاحب شوكة عظمى أي قوة عسكرية ضخمة يستطيع أن يبايع وحده سراً شخصاً معيناً وتكون المبايعة شرعية!! هذا هو تبرير وشرعنة القوة المسلحة في عبارات رشيقة، الشرعية للأقوى. بدأ الفكر السياسي السني بالقول إن الأئمة من قريش، ومع الجويني تصير الشرعية في يد الجيش؛ من قريش إلى الجيش، هذا هو المسار التاريخي للفكر السياسي السني.

لكن يعود الجويني في لحظة أخيرة من الصدق مع النفس ويقول: “وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَظْنُونَةٌ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، وَمُعْظَمُ مَسَائِلِ الْإِمَامَةِ عَرِيَّةٌ عَنْ مَسْلَكِ الْقَطْعِ، خَلِيَّةٌ عَنْ مَدَارِكِ الْيَقِينِ” (الفقرة السابقة). هذه عبارة من عباراته الكثيرة الصادمة. لماذا إذن هاجم عبد الرحمن بن كيسان؟ لقد كان ابن كيسان إذن على حق في إنكاره وجوب الإمامة، فهي حسب الجويني “مظنونة مجتهد فيها… عرية عن مسلك القطع، خلية عن مسلك اليقين”. كيف إذن يهاجم الجويني ابن كيسان في مسألة مظنونة؟ لقد كان ابن كيسان على حق، وما هجوم الجويني عليه في مطلع كتابه سوى اتباع لعادة المتكلمين في الإمامة من قبله، إذ اعتادوا الهجوم على ابن كيسان في كتبهم.

سادساً – طبيعة سلطة الفقيه

1) ولاية الفقيه دينية واجتماعية وليست عسكرية، لكنها رغم ذلك سياسية

وبالطبع فإن الفقيه عند الجويني لا يمكنه أن يتولى بنفسه سلطة السيادة العليا مثل تجهيز الجيوش وسد الثغور والقيادة في الحرب، فهذه سياسة خارجية. لكن في المقابل فإن الفقيه يتولى كل ما يتعلق بالحكم الداخلي للمجتمع المسلم، والتنظيم الاجتماعي والتوجيه اليومي لشئون أفراده. والولاية هنا ولاية اجتماعية وليست ولاية سيادية. وإلى هنا فإن ولاية الفقيه لدى الجويني في اتفاق تام مع تاريخ نظرية ولاية الفقيه الشيعية، إذ هي الأخرى كانت ولاية اجتماعية لا سيادية؛ الخميني وحده هو الذي قام بالقفزة واتخذ الخطوة التالية وهي الولاية السيادية السياسية، أي قيادة الدولة ذاتها. ولاية الفقيه السنية عند الجويني لا تزال محدودة بالداخل الاجتماعي، لا بالسياسي الدولي الخارجي. لكن لهذا السبب نفسه فإن ما للفقيه من سلطة، في كتاب الجويني وفي الممارسة العملية التاريخية في المجتمعات الإسلامية، يزاحم السلطة السياسية الحديثة والدولة الحديثة، لأن سلطة الفقيه هذه متعارضة مع مبدأ الدولة الحديثة باعتبارها المتولية لنفس المجال الاجتماعي الحيوي البيوسياسي الذي يتولاه الفقيه تقليدياً وتراثياً[18]. سلطة الفقيه تخلق وضعاً شاذاً ومفارقة anomaly في دولة حديثة. وإذا رد علينا أحد بقوله إن سلطة الفقيه في المجتمعات الإسلامية تشكل ردعاً للسلطة وحماية للمجتمع من تغول سلطة الدولة وجورها، فهذا الاعتراض مردود عليه، لأن آليات ومؤسسات الدولة الحديثة هي الكفيلة بذلك، لا مؤسسة الفقه التقليدي.

لقد نتج عن تاريخ الدولة في الإسلام شيء أسميه الفائض السلطوي، أي قوة متروكة دون أن تتمكن الدولة الحديثة من امتلاكها بالكامل، وهذا الفائض هو الذي استولت عليه مؤسسة الفقه القديمة والمؤسسة الدينية الرسمية الحديثة. إنه رأس المال الرمزي الذي يشكله التراث الديني، وهو مصدر هذا الفائض السلطوي.

إن سلطة الفقيه سياسية وانضباطية وحيوية وليست مجرد سلطة علمية، سلطة قلم. لقد أدت الثنائية التراثية “رجل السيف ورجل القلم”، أو “الأمراء والعلماء” إلى انقسام حاد بين السلطان والفقيه، والاعتقاد في أن سلطة السلطان في السيف وحده وسلطة الفقيه في القلم وحده، وصار الاعتقاد إلى أن سلطة الفقيه علمية ومعرفية بحتة لأنها تخص “القلم” والنصوص، وليس لها علاقة بالسيف. لكن هذه الثنائية الحدية المبسطة لا تستقيم مع واقع سلطة الفقيه الفعلية في التاريخ الإسلامي؛ ذلك لأن سلطته أيديولوجية وحيوية تخص ضبط المجتمع والسيطرة عليه من داخله، والتحكم في السلوك والتفاعلات الاجتماعية، وبذلك فهي ليست مجرد سلطة قلم ونصوص. في بحثنا في كتاب “الغياثي” للجويني، لا يجب علينا التمسك بالاعتقاد في أن سلطة الفقيه هي مجرد سلطة قلم ونصوص، علمية معرفية وحسب. إنها أقرب إلى تشابك المعرفة والسلطة في نظرية فوكو.

كذلك فإن سلطة الفقيه رعوية وأبوية. فعلى الرغم من أن أنجوم يرفض ربط سلطة الإمام بالراعي أو السلطة الرعوية كما حددها فوكو في قراءته لأفلاطون[19]، إلا أن الفقيه هو الراعي بهذا المعنى الفوكوي عند الجويني، لا الإمام. أضف إلى ذلك أن نص الجويني مليء بالمترادفات الرعوية ويتحدث عن الرعية والذئاب. الإسلام نفسه يكرس للسلطة الرعوية: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.

2) تصور الجويني لسلطة علماء الدين

نظر الجويني إلى علماء الدين على أنهم يمثلون أعلى سلطة، بل هم أنفسهم السلطة العليا، وهذا ما يتضح في نصيحته لنظام الملك، التي نفهم منها وعيه الذاتي بالفئة التي ينتمي إليها: “وَمِمَّا أُلْقِيهِ إِلَى الْمَجْلِسِ السَّامِي: وُجُوبُ مُرَاجَعَةِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، فَإِنَّهُمْ قُدْوَةُ الْأَحْكَامِ، وَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ، وَوَرَثَةُ النُّبُوَّةِ، وَقَادَةُ الْأُمَّةِ، وِسَادَةُ الْمِلَّةِ، وَمَفَاتِيحُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَصْحَابُ الْأَمْرِ اسْتِحْقَاقًا…” (462/ 540). إنهم ورثة الأنبياء!! والجويني يرفع شأنهم فوق الإمام، وهم “أصحاب الأمر استحقاقاً” بفضل علمهم وتملكهم للشريعة، أي أصحاب الحكم الحقيقيين، وما الإمام سوى منفذ لرأيهم. “[وَذَوُو] النَّجْدَةِ مَأْمُورُونَ بِارْتِسَامِ مَرَاسِمِهِمْ، وَاقْتِصَاصِ أَوَامِرِهِمْ وَالِانْكِفَافِ عَنْ مَزَاجِرِهِمْ”، وذوو النجدة هم العسكريون في الغالب.

والجويني إما أن يشترط أن يكون الإمام واحداً من الفقهاء لأنه اشترط فيه الاجتهاد وما المجتهد سوى فقيه اعترف به زملاؤه الفقهاء بأنه مجتهد ورسموه على أنه كذلك، وإما أن يتبع الفقهاء إذا لم يكن مجتهداً: “وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْأَمْرِ مُجْتَهِدًا، فَهُوَ الْمَتْبُوعُ، الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْكَافَّةَ فِي اجْتِهَادِهِ وَلَا يَتْبَعُ”، والفقهاء هم الذين يحددون شروط الاجتهاد ويرسمون الفقيه مجتهداً، “فَأَمَّا إِذَا كَانَ سُلْطَانُ الزَّمَانِ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ فَالْمَتْبُوعُونَ الْعُلَمَاءُ، وَالسُّلْطَانُ نَجَدَتُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ، وَقُوَّتُهُمْ وَبَذْرَقَتُهُمْ” (541/ 462)، أي أن السلطان مجرد قوة في يد الفقهاء، أداة لهم؛ “فَعَالِمُ الزَّمَانِ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي نُحَاوِلُهُ، وَالْغَرَضِ الَّذِي نُزَاوِلُهُ كَنَبِيِّ الزَّمَانِ، وَالسُّلْطَانُ مَعَ الْعَالِمِ كَمَلِكٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ، مَأْمُورٌ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى مَا يُنْهِيهِ إِلَيْهِ النَّبِيُّ”(462/ 541)، الفقيه هو نبي زمانه، وهو أعلى من سلطان زمانه مثل علو النبي على السلطان، والسلطان “مأمور” بما ينتهي إليه الفقيه.

هكذا يضع الجويني الفقيه فوق السلطان، وفوق الإمام. إنها أكثر من ولاية فقيه نيابية تنوب عن إمام غائب، إنها بالأحرى تضع الفقيه فوق الإمام والسلطان. الفقه إذن هو تقنية للحكم وليس مجرد فهم لأحكام دينية؛ إنه مصدر السلطة العليا، أو هو السلطة العليا ذاتها، لكونه تنظيماً شاملاً لكل مناحي الحياة. السيادة للفقيه عند الجويني وهو فوق الإمام وفوق السلطان. والجويني بذلك يصنع حوكمة للمعرفة الفقهية بالطريقة التي قصدها فوكو، فهو يصنع من الفقه والفقيه أدوات للحكم ومصدراً للشرعية

ويشدد الجويني على أن الفقهاء يحلون محل الأنبياء: “وَالْقَوْلُ الْكَاشِفُ لِلْغِطَاءِ، الْمُزِيلُ لِلْخَفَاءِ، أَنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ وَالنَّبِيُّ مُنْهِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَصْرِ نَبِيٌّ، فَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الشَّرِيعَةِ، وَالْقَائِمُونَ فِي إِنْهَائِهَا مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ” (462/ 542). لا ينوب الفقيه عن الإمام وحسب ولا يعلو عليه وعلى السلطان وحسب، بل يتخذ مقام النبي، إنه نائب النبي نفسه، والفقهاء “ورثة الشريعة”.

وللفقهاء عند الجويني سلطة نسخ أحكام الله. فلما كانوا ينوبون عن النبي نفسه ولما كانوا هم ورثة الشريعة، ولما كانت الشريعة تنسخ بعضها لتبدل الأحوال وحدوث المستجدات، ولما كان الأنبياء ينسخون أحكام الشريعة لتبدل الزمان، فالجويني ينقل إلى الفقهاء هذه السلطة، سلطة نسخ الشريعة: “وَمِنْ بَدِيعِ الْقَوْلِ فِي مَنَاصِبِهِمْ [الفقهاء] أَنَّ الرُّسُلَ يُتَوَقَّعُ فِي دَهْرِهِمْ تَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ بِالنَّسْخِ؛ وَطَوَارِئُ الظُّنُونِ عَلَى فِكْرِ الْمُفْتِينَ وَتُغَايِرُ اجْتِهَادَاتِهِمْ، يُغَيِّرُ أَحْكَامَ اللَّهِ عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ، فَتَصِيرُ خَوَاطِرُهُمْ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَالَّةً مَحَلَّ مَا يَتَبَدَّلُ مِنْ قَضَايَا أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّسْخِ” (463/ 542). لقد نقل الجويني إلى الفقهاء سلطة الله نفسه في نسخ شرائعه، وسلطة الرسول في نسخ أحكام الشريعة، وجعل الفقهاء مهيمنين بالكامل عليها، وفق “خواطرهم”، أي عقولهم، ولم يرد الجويني التصريح بكلمة العقول لحساسيتها الدينية واستعاض عنها بكلمة “خواطرهم”. والذي يبرر للجويني منح حق نسخ الشريعة للفقهاء أنهم مثل الأنبياء في عصرهم، فهم القائمون على عصورهم مقام النبي[20].

وللفقهاء الهيمنة الكاملة على مجال الأحوال الشخصية، وهي سلطة حيوية. والأحوال الشخصية هي مثل الزواج والطلاق. فمن وظائف الولاية تزويج الأيامى: “ذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ إِلَى أَنَّ [مِمَّا] يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَايَةِ تَزْوِيجَ الْأَيَامَى، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – وَطَوَائِفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَلِيٌّ زَوَّجَهَا، وَإِلَّا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ حَاضِرٌ، وَشَغَرَ الزَّمَانُ عَلَى السُّلْطَانِ، فَنَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَسْمَ بَابِ النِّكَاحِ مُحَالٌ فِي الشَّرِيعَةِ” فما الحل؟ الحل هو: “إِنْ كَانَ فِي الزَّمَانِ عَالِمٌ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي تَفَاصِيلِ النَّقْضِ وَالْإِبْرَامِ وَمَآخِذِ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْمَنَاكِحَ الَّتِي كَانَ يَتَوَلَّاهَا السُّلْطَانُ إِذْ كَانَ” (557 – 558/ 468). ولما كان الفقيه مجتهداً في وجود الإمام، يصير هذا المجتهد مقطوعاً بحكمه نافذاً في حال شغور الزمان من الإمام (558/ 469). ففي غياب الإمام يكون للفقيه الهيمنة الكاملة على الأحوال الشخصية.

وللفقيه كذلك السيطرة على الأموال التي كانت في تصرف الإمام. فإذا خلا الزمان من الإمام، صارت الأموال في يد الفقيه: “ثُمَّ كُلُّ أَمْرٍ يَتَعَاطَاهُ الْإِمَامُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُفَوَّضَةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ، فَإِذَا شَغَرَ الزَّمَانُ عَنِ الْإِمَامِ وَخَلَا عَنْ سُلْطَانٍ ذِي نَجْدَةٍ وَكِفَايَةٍ وَدِرَايَةٍ، فَالْأُمُورُ مَوْكُولَةٌ إِلَى الْعُلَمَاءِ…” (560/ 469). والمقصود بالأمور، الأمور المالية. وكأن الجويني قد شعر عند تناوله للأموال وحق الفقهاء في تولي أمورها في شغور الزمان عن الإمام والسلطان أنه قد وصل بموضوع الأموال هذا إلى قمة السلطة، فالتصرف في الأموال هو الوظيفة والحق الأعلى لأي سلطة، وإذا تولاها الفقهاء فيصيرون هم الحكام على الحقيقة، ولذلك نراه بعد العبارة التالية مباشرة يقول: “وَحَقٌّ عَلَى الْخَلَائِقِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى عُلَمَائِهِمْ، وَيُصْدِرُوا فِي جَمِيعِ قَضَايَا الْوِلَايَاتِ عَنْ رَأْيِهِمْ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَدْ هُدُوا إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَصَارَ عُلَمَاءُ الْبِلَادِ وُلَاةَ الْعِبَادِ“. وحق التصرف في الأموال موجود في الفقه السياسي الشيعي وفي نظرية ولاية الفقيه.

3) عالم الزمان هو الوالي عن حق

يتناول الجويني بضع حالات افتراضية ويوضح رأيه فيها، ورأيه ثابت مهما اختلفت الحالات، فالوالي هو عالم الزمان في حال شغور الزمان عن الإمام. يتناول الجويني حالة استيلاء صاحب كفاية على السلطة، وصاحب الكفاية هو صاحب القوة العسكرية والكفاءة الإدراية، وبذلك يكون هو الوالي الشرعي. ويورد الجويني اعتراضاً ويرد عليه، والاعتراض أنه قد سبق له القول بأن العالم هو الوالي عن حق، وهو الآن يقول إن صاحب النجدة والكفاية هو الوالي، والحل الذي يقدمه هو أنه إذا لم يكن صاحب الكفاية هذا عالماً مجتهداً، يسميه مهتدياً، فالوالي هو العالم المهتدي، وإذا لم يكن العالم صاحب خبرة إدارية فالوالي هو صاحب الشوكة: “وَمِنَ الْأَسْرَارِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الزَّمَانِ كَافٍ ذُو شَهَامَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى مَرْتَبَةِ الِاسْتِقْلَالِ، وَقَدِ اسْتَظْهَرَ بِالْعُدَدِ وَالْأَنْصَارِ، وَعَاضَدَتْهُ مُوَاتَاةُ الْأَقْدَارِ، فَهُوَ الْوَالِي وَإِلَيْهِ أُمُورُ الْأَمْوَالِ وَالْأَجْنَادِ وَالْوِلَايَاتِ، لَكِنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَلَّا يَبُتَّ أَمْرًا دُونَ مُرَاجَعَةِ الْعُلَمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا جَزَمْتَ الْقَوْلَ بِأَنَّ عَالِمَ الزَّمَانِ هُوَ الْوَالِي [وَ] حَقٌّ عَلَى ذِي النَّجْدَةِ [وَالْبَاسِ] اتِّبَاعُهُ، وَالْإِذْعَانُ لِحُكْمِهِ، وَالْإِقْرَارُ لِمَنْصِبِ عِلْمِهِ. قُلْنَا: إِنْ كَانَ الْعَالِمُ ذَا كِفَايَةٍ وَهِدَايَةٍ إِلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ، فَحَقٌّ عَلَى ذِي الْكِفَايَةِ الْعَرِيِّ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَتْبَعَهُ إِنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَالِمُ ذَا دِرَايَةٍ وَاسْتِقْلَالٍ بِعَظَائِمِ الْأَشْغَالِ، فَذُو الْكِفَايَةِ الْوَالِي قَطْعًا، وَعَلَيْهِ الْمُرَاجَعَةُ وَالِاسْتِعْلَامُ فِي مَوَاقِعِ الِاسْتِبْهَامِ، وَمَوَاضِعِ الِاسْتِعْجَامِ” (564 – 565/ 471). وهذه حالة اقتسام سلطة حقيقية وفعلية، ثنائية سلطوية واضحة تذكرنا بالعلاقة بين البابا والدولة في العصور الوسطى، والصراع الدائم بينهما والذي لم ينتهي إلا بحروب الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، والتي أرست مبدأ سيادة الدولة على الدين وأقرت بحق الحاكم في تحديد دين الدولة Cuius regio, eius religio.

ويجب عليَّ أن أعلق على الكلمة التي بدأ بها الجويني الفقرة السابقة: “ومن الأسرار…”. هل في الشريعة اسرار؟ هذا أسلوب شيعي واضح. أم أن الأسرار تخص سلطة الفقهاء والتي لا يفضلون الكشف عنها للعامة؟ ولا حتى للحكام وهي مقصورة عليهم؟ إن استخدام الجويني لكلمة “الأسرار” يدلنا على أن مبحث السلطة السياسية للفقيه وحقه في تولي المنصب السياسي الأعلى وهو الولاية هو من الأسرار. إنه مذهب مستور، يكشف عنه الجويني، أو ربما يؤسسه وينشئه إنشاءً.

وإذا خلا الزمان من إمام أو سلطان، فالواجب اتباع المسلمين لعالم واحد فقط، وهذا هو الولي الفقيه بعينه. وإذا كثر العلماء فالواجب الاتفاق على عالم واحد، وإذا لم يستطع العلماء الاتفاق على واحد منهم وتشاجروا، فعليهم اللجوء إلى القرعة، وبالطبع فالعلماء هم الذين سيقومون بها (561/ 470).

4) الفقيه خليفة للنبي عند الخميني، والجويني كذلك

يقول الخميني في كتاب “الحكومة الإسلامية”: “وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عادل، فإنه يلي أمور المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا. ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية السياسية للناس ما كان يملكه الرسول (ص) وأمير المؤمنين (ع)”[21]؛ وأمير المؤمنين هو علي بن أبي طالب حسب الشيعة. الفقيه يلي الرسول مباشرة وأمير المؤمنين، وهو يحل محلهما ويتولى بنفس سلطاتهما. فلأن الحكومة الإسلامية واجبة وبدونها يقع المسلمون في فوضى، فالواجب والضروري إقامة حكومة إسلامية يتولاها الفقيه العادل: “وقد فوض الله الحكومة الإسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة نفس ما فوضه إلى النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) من أمر الحكم والقضاء والفصل في المنازعات، وتعيين الولاة والعمال، وجباية الخراج، وتعمير البلاد. غاية الأمر أن تعيين شخص الحاكم الآن مرهون بمن جمع في نفسه العلم والعدل”، أي الفقيه، “فالله جعل الرسول ولياً للمؤمنين جميعاً، وتشمل ولايته حتى الفرد الذي سيخلفه، ومن بعده كان الإمام (ع) ولياً، ومعنى ولايتهما أن أوامرهما الشرعية نافذة في الجميع، وإليهما يرجع تعيين القضاة والولاة، ومراقبتهم وعزلهم إذا تقتضى الأمر. نفس هذه الولاية والحاكمية[22] موجودة لدى الفقيه”[23].

والفقهاء عند الخميني هم خلفاء النبي مباشرة. وهو يعلق على حديث منسوب للنبي يرويه الشيعة، يقول “اللهم ارحم خلفائي ” قلنا : يا رسول الله ، ومن خلفاؤك ؟ قال: ” الذين يأتون من بعدي ، يروون أحاديثي ويعلمونها الناس”[24]، ويعلق الخميني: “فالحديث يقصد به أولئك الذين يسعون في نشر علوم الإسلام وأحكامه ويعلمونها للناس، كما كان الرسول والأئمة يعملون، وينشرون ويتخرج على أيديهم الألوف من العلماء”[25]؛ “ولا مجال للشك في دلالة الرواية على ولاية الفقيه وخلافته في جميع الشئون. والخلافة الواردة في جملة (اللهم ارحم خلفائي) لا يختلف مفهومها في شيء عن الخلافة التي تستعمل في جملة (علي خليفتي)”[26].

ويقول الخميني: “والإسلام كله غريب، ولم يبق منه إلا اسمه”[27]، تماماً كما توقع الجويني في الركن الثالث من “الغياثي”. وهو غريب في هذا العصر في نظر الخميني لأنه فقد السلطة، ولأن الفقهاء فقدوا سيطرتهم على المجتمع والدولة. الغربة التي يقصدها الخميني هي غربة سياسية وليست دينية.

سابعاً – تقييم عام

1) لغة الجويني المستورة – ربط الوجوب بالإمكان

يستخدم الجويني في كتاب “الغياثي” لغة خاصة، نستطيع أن نقول إنها مستورة، وذلك لأن غرضه الأساسي هو البحث فيما تفعله الأمة عند خلو الزمان من الإمام، وانخرام الزمان عن شرائط الإمامة، ففي هذه الحالة يعطي الجويني سلطات الإمام للفقيه. الفكرة بسيطة ومباشرة لكن الجويني يبرهن عليها بحجج مطولة، ولا يعطيها لقارئه دفعه واحدة لأنها صادمة. فلأن كل الفقه السياسي السابق عليه أكد على وجوب الإمامة، فهو لا يستطيع نفي هذا الوجوب وهو يعلم جيداً أن الوجوب سقط في عصره لضعف الخلافة العباسية ووقوعها تحت وصاية قوى فارسية وتركية آخرها السلاجقة، ولضعف الخلفاء وفسادهم؛ ولعلمه بكل هذا فهو وكأنه ينفي عن نفسه القول بعدم وجوب الإمامة بمهاجمة عبد الرحمن بن كيسان الذي أنكر وجوب الإمامة صراحة.

وقد استخدم الجويني لغة مستورة كي يضع فيها رأيه الحقيقي في الإمامة وفي حق الفقيه في تولي سلطات الإمام، فنراه يقول: “فَنَصْبُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ” (15/ 217). كلمة السر هنا هي “عند الإمكان”. أي أن نصب الإمام ليس واجباً بالمطلق، بل “عند الإمكان”. وربط نصب الإمام الذي يعتبره واجباً بالإمكان هو ما يجعل هذا الوجوب مشروطاً بالإمكان، وتعلق الوجوب بالإمكان يُسقِط عنه الوجوبية المطلقة، ويخرجه من الواجبات الدينية. فماذا يحدث إذا لم يتحقق هذا الإمكان؟ هذا الإمكان متعدد الأبعاد، فهو إمكان لدى المسلمين أنفسهم، أي قدرتهم على نصب الإمام، وإمكان في تحقق شرائط الإمامة في شخص معين، وإمكان في ظروف العصر. فمن الممكن ألا يتحقق الإمكان لعدم قدرة المسلمين، أو لعدم وجود شخص تتحقق فيه الشرائط، وعلى رأسها الاجتهاد الذي لا يمكن أن يصل إليه شخص ما إلا بترسيم واعتراف من الفقهاء وبأن يكون واحداً منهم من الأصل، أو لعدم توافر ظروف مناسبة في العصر الذي يعيشونه. وفي كل هذه الحالات يسقط الوجوب، المشروط بالإمكان. ففي كل هذه الحالات يتولى الفقيه ولاية المسلمين حسب الجويني كما سيقول في الركن الثاني من كتابه. إن مجمل نظرية الجويني هو الإقلال من شأن الإمامة بتقييد القدرة على نصبها ووضع شرائطها صعبة للغاية، تمهيداً لسلطة الفقيه وحقه في تولي مهام الإمامة. كما يعني “الإمكان” توافر شروط الإمامة في شخص ما وعلى رأسها الاجتهاد. وكي يكون المرء مجتهداً يجب أن يكون فقيهاً، واحداً منهم، ممارساً الفقه والإفتاء والقضاء، ومعترفاً به من هيئة كبار الفقهاء أنه مجتهد. والحكم على فقيه بأنه مجتهد يجب أن يكون صادراً من مجتهد مثله، لأن هذا الحكم ذاته عبارة عن اجتهاد.

إن تعليق الوجوب بالإمكان يدل على أنه يسقط عند عدم توافر هذا الإمكان؛ إنه وجوب مشروط، بالإمكان، أي توافر الشرائط وقدرة المسلمين وظروف العصر. وإذا كان الوجوب يسقط في عدم توافر الإمكان، فلماذا هاجم الجويني عبد الرحمن بن كيسان عندما أنكر وجوب الإمامة؟ فربما رأى ابن كيسان عدم إمكان نصب الإمام في المطلق ولذلك أنكر الوجوب.

هذا بالإضافة إلى أن ارتباط الوجوب بالإمكان في نص الجويني يُحضِر إلى الأذهان مباشرة الثنائي الكلامي “الواجب والممكن”، إذ يلعب بهما الجويني، المتكلم في الأصل، بطريقة ليست ظاهرة لمن ليس متمرساً في الأدبيات الكلامية. وعندما يقول الجويني في بداية كتابه “فَنَصْبُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ”، نعلم أنه يمهد لنفسه في الركن الثاني للبحث في عدم إمكان نصب الإمام لانخرام الزمان من شرائط الإمامة.

2) شرائط الإمامة مستحيلة التحقق – مثالية وعلى نموذج الراشدين الاستثنائي

إن شرائط الإمامة التي يضعها الجويني ومن قبله كل من كتبوا في هذه المسألة تصنع زعيماً كارزمياً وليس مجرد رجل دولة أو رجل سياسة أو مجرد إداري، وهي صفات الحاكم في الدولة الحديثة: شرائط الإمامة تصنع زعيماً كارزمياً بمعنى الكلمة، إذ هو فقيه مجتهد، تقي، صاحب فضائل أخلاقية رفيعة، شخص استثنائي من كل الوجوه. إن الهاجس النبوي الخليفي الراشدي، البكري العمري العلوي، هو الذي يكمن خلف هذه الشرائط، إنها مصممة على نموذج الخلفاء الراشدين بالذات، ولذلك فهي مستحيلة التحقق. (والاستناد على حالة تاريخية استثنائية وتأبيدها باعتبارها معيارية ومصدر شرائط الإمامة هو خروج عن منطق العقل والتاريخ، وتحويل الاستثنائي إلى المعياري؛ وبالتالي فليس انخرام الزمان عن شرائط الإمامة هو الاستثنائي، لأن شرائط الإمامة ذاتها استثنائية). إن قائد الأمة المثالي الذي تصنعه شرائط الإمامة، هو قائد مثالي لأمة مثالية، ولا وجود لمثل هذا القائد والمثالي ولا للأمة المثالية. إن السياسة هي للأشخاص العاديين لا للشخصيات الاستثنائية. ومن جهة أخرى فإن الإمام بهذه الشرائط هو مثل شبح هاملت، شبح الأب المقتول، الذي يظل يظهر في صورته الشبحية فارضاً ذكرى تم تناسيها، ومحرضاً على الانتقام بالعنف: ذكرى مثالية تُستَعاد دائماً: عدل عمر المفتقد دوماً، حلم أبي بكر المأمول فيه، شجاعة علي وإيمانه الصلب وقوته في الحق. إن النماذج المثالية عندما تفرض نفسها باستمرار على عقل المرء وخياله مع عدم قدرة على تحقيقها تتحول إلى أشباح.

خاتمة

نشهد في كتاب “الغياثي” حضوراً واضحاً لكل دلالات ومعاني ولاية الفقيه، أي السلطة السياسية للفقيه وحقه في تولي المنصب الأعلى في الأمة، وحقه في أن يشغل الفراغ الذي تتركه الإمامة، سواء كانت غير متحققة بشرائطها، أو كانت غير شرعية، أو غائبة تماماً وقد خلا الزمان منها؛ بدون حضور المصطلح ذاته “ولاية الفقيه” والذي ظهر متأخراً لدى الشيعة الإثنى عشرية؛ وهو حضور ولاية الفقيه على مستوى المعنى والدلالة لا على مستوى اللفظ.

وقد لاحظنا أن ما يحكم كتاب “الغياثي” هو رؤية للتاريخ نستطيع أن نقول عنها إنها “تدهورية”: فالتاريخ في نظره يتدهور، يسير إلى الأسوأ باستمرار؛ ذلك لأن شروط الإمامة الكاملة التامة والمثالية لم تكن متحققة إلا في عصر الراشدين وفي أشخاصهم، ثم حدث التدهور؛ وحديث الجويني عن خلو الزمان من شرائط الإمامة ثم من منصب الإمام، ثم من حملة الشريعة المجتهدين والمفتين، ثم أخيراً انقراض الشريعة، هو مثال واضح على هذه الرؤية التدهورية للتاريخ، وقد نظر الجويني نفسه إلى عصره على أنه “الزَّمَانِ السَّخِيفِ” (45/ 229). ووفق توصيفه لخط سير التاريخ الإسلامي، فإن الجويني نفسه يقع عند مرحلة انخرام الزمان من شرائط الإمامة مع وجود الإمامة شكلاً في شخص غير مجتهد[28]. ويدل هذا على حس تاريخي عالٍ لدى الجويني.

وقد تأسست كل نظريات الإمامة على خلافة الراشدين وهي استثنائية كارزمية غير متكررة، وهذا هو نموذج واضح على التشريع بالاستثناء، أي الاستناد إلى حالة استثنائية واتخاذها معيارية.

إن الحقل الدلالي للكلام في الإمامة، سواء عند الجويني أو عند غيره من الذين كتبوا فيها من السنة، هو تجربة الخلفاء الراشدين الأربعة، فهي تمثل العصر التأسيسي النموذجي الذي استمدوا منه كل أدلتهم على وجوب الإمامة (الإجماع) وشروطها؛ أما ما بعدها فقد تحولت الخلافة إلى ملك عضود، كسروي قيصري وراثي، فهي لا تدخل في الاعتبار الأصلي للمنصب. إنهم يُنَظّرون لعصر الراشدين ويأخذون منه مرتكزهم التاريخي، ومن ثم يذهب العصران الأموي والعباسي إلى منطقة اللامفكر فيه ويصير هو الاستثناء، وهذا قلب للتاريخ حيث يصير الراشدي الاستثنائي هو المعيار، والأموي العباسي هو الاستثناء، ولا تأخذ نظرية الإمامة مرتكزها إلا من ذلك العصر الاستثنائي القصير للغاية. أما ما تلاه من العصور فلا يطبقون عليه نظرياتهم في الإمامة إلا من جزئها المتعلق بشرعية ولاية المتغلب درءاً للفتن ولسلامة الأمة. والغريب في أمرهم أن العصرين الأموي والعباسي لم يستطيعا درء الفتن وحقن دماء المسلمين، بل كانا مليئين بالحروب الأهلية والثورات والصراعات الدموية على السلطة. أما الخليفة المعاصر لكل فقيه فيبرر الفقيه شرعيته بطرق عديدة، منها طريقة الغزالي الذي لا يجد مبرراً سوى أن الخليفة المستظهر يحمي المذهب السني ويحارب الباطنية (الشيعة الإسماعيلية). أما الجويني فهو الاستثناء الوحيد طوال العصر الإسلامي والذي وضع الشرعية في يد الفقهاء وما على الإمام سوى السلطة التنفيذية، وهو لا يبرر شرعية الخليفة القائم في عصره (القائم بأمر الله 1075 – 1094م)، بل شرعية الوزير نظام الملك؛ الذي قتلته الباطنية بعد ذلك !!!.

والحقيقة أننا نشهد بالفعل ظاهرة واضحة هي استقلال الفقهاء النسبي تجاه السلطة أو السلطان، لكنها ظاهرة ثانوية، تاريخية وليست مؤسِّسة لا للفقه السياسي الإسلامي ولا لكتاب “الغياثي”. كان هناك جدل كثير حول هذا الاستقلال، لكنه كان انعكاساً لشيء آخر، مما يجعله متغيراً تابعاً وليس متغيراً مستقلاً. فهو متغير تابع لطبيعة المجتمع الإسلامي ودور الفقيه فيه وطبيعة الدولة في الإسلام. الفقيه هو الذي يحكم المجتمع مباشرة، وهذا هو مصدر استقلاله النسبي عن السلطة والسلطان.

لا يمكننا الحديث عن استقلال الفقهاء إلا على أساس استقلالهم بمجال مستقل نسبياً بطبيعته عن مجال الدولة وهو المجتمع. حكمهم للمجتمع مباشرة هو أساس استقلالهم (وهم يذكروننا بحكم رجال الدين اليهود للمجتمع اليهودي في ظل سلطات أجنبية، آشورية وفارسية وبطلمية وسلوقية ورومانية). هذا الاستقلال لا يعد حرية ولا يعد ليبرالية ولا ملمح تنويري ديمقراطي ولا فصلاً بين السلطات ولا استقلالاً لمجتمع مدني عن الدولة، فهذه كلها مفاهيم حداثية لا تنطبق على المجتمعات التقليدية السابقة على الحداثة، بل هو وجه آخر من سلطة الفقيه المستقل بالمجتمع عن الدولة. وما يتيح له الحكم المباشر للمجتمع هو الإسلام ذاته باعتباره تراثاً نصياً ورأسمالاً رمزياً دينياً ضخماً، مطروحاً للتوظيف في أشكال متباينة، سنية وشيعية وإباضية، معتزلية وأشعرية وصوفية وفلسفية… إلخ.

وقد ينظر البعض إلى سيادة الشريعة عند الجويني على أنها شبيهة أو مثيلة أو موازية لما يسمى “حكم القانون” أو سيادة القانون بالمعنى الحديث[29]؛ ربما، لكن يجب أن نكون حذرين ونحن نلحق مفاهيم حديثة بمعان قديمة سابقة على الحداثة وعلى الدولة الحديثة (والذي أشار إلى حكم القانون هو أنجوم)[30]. كما يمكن فهم الدور الفاعل والأساسي للفقيه عند الجويني على أنه “استقلال السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية وعلوها عليها”[31]، وهو الاستقلال الذي أكد عليه الفكر السياسي الغربي الحديث واتضح في الممارسة السياسية والتشريعية الحديثة كذلك، من جون لوك ومونتسكيو إلى الآن: فصل بين السلطات مع علو السلطة التشريعية على التنفيذية. لكن يجب أن نكون حذرين أيضاً في هذا الإسقاط وهذا الفهم، لأننا مع الجويني لا نزال في عصر ما قبل الحداثة، ولا يمكن اعتبار أفكاره إرهاصة لأي شيء حديث، أو بداية تطور وصل إلى نضجه مع الحداثة الأوروبية. يجب فهم الجويني في سياقه هو، ثم في السياق التالي له من العصر الإسلامي.

لكن يمكن أن يعترض علينا معترض ويقول: لماذا رفضت هذه المفاهيم الحديثة وقد قبلت غيرها وطبقتها على فكر الجويني مثل السلطة الرعوية والسلطة الحيوية؟ وإجابتي على هذا الاعتراض هي أن “سيادة القانون” و”الفصل بين السلطات” و”أولوية السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية” هي مفاهيم سياسية حديثة، أما “السلطة الرعوية” و”السلطة الحيوية” فهي مفاهيم وإن كانت حديثة إلا أنها مصممة من الأصل لفهم طبيعة السلطة السابقة على الحداثة، ولهذا السبب فهي مناسبة لموضوعنا.

وتجد نظرية الجويني السياسية مشروطيتها التاريخية من خصوصية علاقة الدين والدولة في الإسلام. فلم يكن للعرب دين ولا دولة قبل الإسلام، وبعد الإسلام صار للعرب دين ودولة، وهذا ما أدى إلى الاعتقاد في أن الإسلام أعطاهم الدين والدولة معاً، أو أقاموا بالدين دولة، وفق طبيعة مجتمعهم وظرفهم التاريخي الخاص. ويقول ابن خلدون في مقدمته: “أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة”. الدين ينتج الدولة عند العرب خاصة، وفق طبيعة مجتمعهم وطبائعهم الاجتماعية والنفسية. إن الشروط الاجتماعية والتاريخية التي عاشها العرب فرضت أن تنشأ الدولة من الدين، ليس كمجرد غطاء شرعي، بل كذلك كمنتج للسلطة السياسية لديهم. وظل الإسلام مصدر شرعية وغطاءً للسياسة طوال تاريخ المسلمين. العباسيون أنشأوا دولتهم بدعوة دينية، وكذلك الفاطميون في شمال أفريقيا، ثم الموحدون في المغرب والأندلس أنشأوا دولة بدعوة المهدي بن تومرت، وهو فقيه وعالم مجتهد. ولا شك أن مثل هذه التجارب والسوابق التاريخية كانت في ذهن ابن خلدون وهو يكتب في مقدمته أن العرب “لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية”.

وقد ظل الإسلام مصدراً للسلطة السياسية، لا في الإمامة وحسب، بل في غيرها. الفقيه عند الجويني من حقه تولي السلطة السياسية بل وسلطة الإمام ذاتها، بل وسلطة النبي الدينية كذلك، نائباً عنه. قد تذكرنا هذه الفكرة بنظرية ولاية الفقيه الشيعية، لكنها تتجاوزها بكثير، إذ أن الفقيه يحل محل النبي في التشريع وفي نسخ الشريعة كذلك. في تناولنا للإسلام وسؤال السلطة، يهمنا التعرف على نظرية الجويني في سلطات الفقيه، وحقه في تولي مهام الإمام عند شغور الزمان عن الإمام، وحتى أثناء وجود إمام. إن السلطة في الإسلام إما أن تكون هي الإمامة، وإما أن تكون للفقيه، نائباً عن الإمام الغائب عند الشيعة الإثنى عشرية، أو شاغلاً لمكان الإمام عند خلو الزمان من الإمام وشرائط الإمامة عند الجويني. وبذلك يظهر الجويني باعتباره متفرداً بهذه النظرية بين كل أهل السنة، مما يجعلنا نطلق عليها نظرية ولاية فقيه سنية واضحة، تضاهي مثيلتها عند الشعية الإثنى عشرية، وسنجد أن نظرية الخميني في اتفاق مذهل معها.

إن الفقه السياسي الإسلامي التراثي سابق على الحداثة وعلى ظهور الدولة الحديثة، وهكذا يجب فهمه، وفهم كتاب “الغياثي”، واضعين هذا الفقه في إطاره التاريخي والسياسي الخاص به. إذ يجب أن نضع في اعتبارنا أن التراث العلمي الإسلامي كله بجميع فروعه من الفقه وأصوله وجانبه السياسي كان سابقاً على الحداثة، ومشروطاً بطبيعة الدولة التي نشأت بعد ظهور الإسلام. وهو سابق على الحداثة بمعنى أنه كان مرتبطاً بالمجتمع التقليدي الذي كان ينظمه الدين في كافة جوانبه، الدنيوية والسياسية. ولم تكن كل المجتمعات السابقة على الحداثة ينظمها الدين، ذلك لأن الدول القديمة السابقة على الإسلام لم تكن منتظمة بالدين وإن كانت بها أديان فاعلة. فالحضارات المصرية والسورية والرافدية وحضارات الشرق الأقصى لم تشهد فئة من المتخصصين في أمور الدين تماثل فئة الفقهاء في ديار الإسلام ودورها الاجتماعي الحيوي، وكانت الدولة الناشئة في هذه الحضارات نابعة منها، وفق شروطها الجغرافية والبيئية وأنماط الإنتاج السائدة فيها، فقد كانت دولاً عضوية organic لهذا السبب (انظر كتاب “الاستبداد الشرقي” لفيتفوجيل ودراسته لكيفية تَشَكُّل الدولة داخل نمط الإنتاج النهري والمجتمع الهيدروليكي). أما الدول التي ظهرت في تاريخ الإسلام فلم تكن كذلك، إذ كانت دولاً خارجية، أي أتت إلى المناطق التي تحكمها من خارجها ولم تكن نابعة من أراضيها: قبائل صحراوية استولت على مناطق الحضارات القديمة النهرية، وجاءت من الصحراء المحيطة أو المتاخمة للمناطق النهرية، سواء من شبه الجزيرة العربية أو من أواسط آسيا. هذه الدول الخارجية كانت على مسافة بعيدة من المجتمع الذي تحكمه، إذ كان الحكام زعماء قبائل عسكريون يحكمون شعوباً زراعية مستقرة، وبذلك صار المجتمع مجالاً خالياً من الدولة ومن أدوارها التي تولتها الدول العضوية الزراعية. هذا المكان الخالي ملأه الدين ورجال الدين، وصاروا هم الذين ينظمون المجتمع المتروك من دولة توجهت للفتوحات العسكرية والصراعات الداخلية وجمع الضرائب.

إن تاريخية واستثنائية الفقه الإسلامي جاءت من هذا السياق بالتحديد، وكان كذلك مشروطاً بطبيعة تلك الدولة الناشئة بعد الفتوحات. وبالتالي فالدور الاجتماعي والسياسي للفقهاء في العصر الإسلامي والذي لا يوازيه أي دور آخر لرجال الدين في الدول العضوية القديمة بما فيها دول اليونان والرومان، كان نابعاً من طبيعة الدولة الخارجية التي نشأت في تاريخ الإسلام. ولأن الفقه الإسلامي نشأ في سياق ما قبل الحداثة وفي إطار تاريخي استثنائي ودول خارجية، فقد صار للفقه دور كبير ومتغلغل في المجتمع، وصار الفقهاء هم الحكام الحقيقيون لمجتمعاتهم. قد يظن البعض أن هذا الدور يعبر عن حكم ذاتي للمجتمع من داخله ونوع من الاستقلال عن السلطة السياسية كما يفعل عبد المجيد الصغير وأحمد عاطف أحمد ووائل حلاق، لكنه كان استثناءً؛ صحيح أنه استثناء تاريخي ضخم للغاية، إلا أن استثنائيته هذه هي التي جعلت الفقه الإسلامي غير مناسب لعصر الحداثة وفي حالة صدام دائم مع الدولة الحديثة بدستورها وقوانينها ومؤسساتها. وقد فشلت كل المحاولات في تكييف الفقه الإسلامي كي يناسب الحداثة والدولة الحديثة، وتكييف الدولة الحديثة ذاتها كي تناسب المنظومة الفقهية الإسلامية. وفي ذلك فإن القرابة الوحيدة التي نلاحظها بين الفقه الإسلامي ودوره الاجتماعي والسياسي من جهة واليهودية الحاخامية من جهة أخرى بعد تدمير الهيكل سنة 70 م هي قرابة صحيحة. ففي الحالتين: الفقهية الإسلامية والحاخامية اليهودية، تولى رجال الدين دوراً سياسياً في مجتمعات خلت من السياسة ومن دولة عضوية داخلية.

المصادر والمراجع

أولاً – المصادر والمراجع العربية

الجويني، أبو المعالي عبد الملك، غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق عبد العظيم الديب، دار المنهاج، جدة، 1432هـ/ 2011 م.

  • أحمد، أحمد عاطف ، فتور الشريعة، ترجمة طلعت فاروق، مراجعة سعيد فارس حسن، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017. (Ahmad, Ahmad. Fatigue of the Shari’a. New York: Palgrave MacMillan, 2012).
  • الأشعري، أبو الحسن، مقالات الإسلاميين، نشر هلموت ريتر، دار فرانز شتاينر، فيسبادن، 1980
  • الآمدي، سيف الدين، غاية المرام في علم الكلام، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1971
  • حلاق، وائل، الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، مراجعة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2014
  • الخميني، روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي، الحكومة الإسلامية، وزارة الإرشاد، طهران، 1982
  • السنهوري، عبد الرزاق، الخلافة وتطورها إلى عصبة أمم شرقية، ترجمة كمال جاد الله وسامي مندور وأحمد لاشين، دراسة تحليلية لعلي الزميع، مركز نهوض للدراسات ولنشر، بيروت، 2019.
  • الشهرستاني، عبد الكرين بن أحمد، نهاية الإقدام في علم الكلام، حرره وصححه ألفريد جيوم، لندن، 1934.
  • الصغير، عبد المجيد ، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام – قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، دار المنتخب العربي، توزيع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1994. الطبعة الثانية بعنوان “المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية”، دار رؤية، القاهرة، 2010.
  • طرابيشي، جورج، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، دار الساقي، بيروت، 1998
  • عبد الرازق، علي، الإسلام وأصول الحكم، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2012
  • عبد المجيد، أحمد، “بين الجويني وشميت – حالة الاستثناء الإسلامية”، ترجمة إيمان علاء الدين. مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2021.
  • فهمي، خالد، الجسد والحداثة، الطب والقانون في مصر الحديثة، ترجمة شريف يونس، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2006
  • مبروك، علي، الإمامة السياسة، الخطاب التاريخي في علم العقائد، المركز الثقافي العربي/ مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء، 2015
  • المرتضى، أحمد بن يحيى ، كتاب طبقات المعتزلة، بيروت 1987

ثانياً – المراجع الأجنبية

  • Abdel Meguid, A. (2020). Reversing Schmitt: The sovereign as a guardian of rational pluralism and the peculiarity of the Islamic state of exception in al-Juwaynī’s dialectical theology. European Journal of Political Theory, 19(4), 489–511.
  • ANJUM, O. V. A. M. I. R. (2016). Political Metaphors and Concepts in the Writings of an Eleventh-Century Sunni Scholar, Abū al-Ma‛ālī al-Juwaynī (419 – 478/1028 – 1085). Journal of the Royal Asiatic Society, 26(1-2), 7–18
  • Foucault, Michel (2007) Security, Territory, Population: Lectures at the Collège de France, 1977‐78 Edited by Michel Senellart. Translated by Graham Burchell. (London: Palgrave Macmillan,)
  • Hallaq, W.B. (1984). CALIPHS, JURISTS AND THE SALJŪQS IN THE POLITICAL THOUGHT OF JUWAYN? Muslim World, 74, 26-41.
  • Hassan, Mona (2016) Longing for the Lost Caliphate: A Transregional History (Princeton, NJ: Princeton University Press)
  • Schmitt, Carl (1985) Political Theology. Translated by George Schwab. (Cambridge and London: MIT Press)
  • Siddiqui, S. (2017). Power vs. Authority: al-Juwaynī’s Intervention in Pragmatic Political Thought. Journal of Islamic Studies, 28, 193-220
  • Siddiqui, S. Z. M. (2019). Law and Politics under the Abbasids: An Intellectual Portrait of al-Juwayni. Cambridge: Cambridge University Press

* ) تمت قراءة ملخص لهذه الدراسة في مؤتمر “الإسلام وسؤال السلطة – التجربة التاريخية والسياقات الراهنة”. المعهد العالي للدراسات الإسلامية بجامعة مونستر بألمانيا، بالتعاون مع مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء، المملكة المغربية، 23 – 23 سبتمبر 2022، وهي هنا تُنشر لأول مرة.

[1] ) الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق عبد العظيم الديب، دار المنهاج، جدة، 1432هـ/ 2011 م.

[2]) الرقم الأول للفقرة، والثاني للصفحة.

[3] ) عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام – قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، دار المنتخب العربي، توزيع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1994. الطبعة الثانية بعنوان “المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية”، دار رؤية، القاهرة، 2010.

[4] ) أحمد عاطف أحمد، فتور الشريعة، ترجمة طلعت فاروق، مراجعة سعيد فارس حسن، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017. (Ahmad, Ahmad. Fatigue of the Shari’a. New York: Palgrave MacMillan, 2012).

[5]) Hallaq, W.B. (1984). CALIPHS, JURISTS AND THE SALJŪQS IN THE POLITICAL THOUGHT OF JUWAYN? Muslim World, 74, 26-41.

[6]) Abdel Meguid, A. (2020). Reversing Schmitt: The sovereign as a guardian of rational pluralism and the peculiarity of the Islamic state of exception in al-Juwaynī’s dialectical theology. European Journal of Political Theory, 19(4), 489–511.هذه الدراسة مترجمة: أحمد عبد المجيد، بين الجويني وشميت – حالة الاستثناء الإسلامية، ترجمة إيمان علاء الدين. مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2021.

[7]) Siddiqui, S. (2017). Power vs. Authority: al-Juwaynī’s Intervention in Pragmatic Political Thought. Journal of Islamic Studies, 28, 193-220; Siddiqui, S. Z. M. (2019). Law and Politics under the Abbasids: An Intellectual Portrait of al-Juwayni. Cambridge: Cambridge University Press

[8] ) صدرت الطبعتان العربيتان الأولى والثانية من هذا الكتاب بعنوان “فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية” في الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1989 و1993، وصدرت الطبعة الثالثة عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1994 – 1995، وصدرت الطبعة الرابعة عن مؤسسة الرسالة ومنشورات الحلبي سنة 2000. وقد أعيد ترجمته حديثاً: الخلافة وتطورها إلى عصبة أمم شرقية”، ترجمة كمال جاد الله وسامي مندور وأحمد لاشين، دراسة تحليلية لعلي الزميع، مركز نهوض للدراسات ولنشر، بيروت، 2019.

[9]) Michel Foucault, Security, Territory, Population: Lectures at the Collège de France, 1977‐78 Edited by Michel Senellart. Translated by Graham Burchell. (London: Palgrave Macmillan, 2007), pp. 123 – 128.

[10]) عبد المجيد الصغير، المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية، ص 22.

[11] ) ويقول في معنى قريب: “وَالْإِمَامُ فِي الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ، وَتَطَوُّقِ الْإِسْلَامِ كَوَاحِدٍ مِنْ مُكَلَّفِي الْأَنَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ فِي حَمْلِ النَّاسِ عَلَى الشَّرِيعَةِ”، (488/ 434).

[12]) Schmitt, Carl, Political Theology. Translated by George Schwab. (Cambridge and London: MIT Press, 1985), P. 5.

[13]) انظرفي ذلك، جورج طرابيشي، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، دار الساقي، بيروت، 1998، ص 67 وما بعدها.

[14] ) هو عبد الرحمن بن كيسان المعروف بأبي بكر الأصم (201 هـ / 816م – 279 هـ / 892م)، فقيه ومتكلم ومفسر معتزلي من القرن الثالث، أنكر وجوب الإمامة بحجج كثيرة أوردها مؤرخو الفرق. انظرفي ذلك: الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، حرره وصححه ألفريد جيوم، ص 481 – 485؛ أحمد بن يحيى المرتضى، كتاب طبقات المعتزلة، بيروت 1987، ص 56-57؛ أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين، نشر هلموت ريتر، دار فرانز شتاينر، فيسبادن، 1980، ص 278، 456، 460، 467.

[15]) “وَاعْلَم أَن الْكَلَام فى الْإِمَامَة لَيْسَ من أصُول الديانَات وَلَا من الْأُمُور اللابديات، بِحَيْثُ لَا يسع الْمُكَلف الْإِعْرَاض عَنْهَا وَالْجهل بهَا، بل لعمرى إِن المعرض عَنْهَا لأرجى حَالا من الواغل فِيهَا، فَإِنَّهَا قَلما تنفك عَن التعصب والأهواء وإثارة الْفِتَن والشحناء وَالرَّجم بِالْغَيْبِ فى حق الائمة وَالسَّلَف بالإزراء… لَكِن لما جرت الْعَادة بذكرها فى أَوَاخِر كتب الْمُتَكَلِّمين والإبانة عَن تحقيقها فى عَامَّة مصنفات الْأُصُولِيِّينَ لم نر من الصَّوَاب خرق الْعَادة بترك ذكرهَا فى هَذَا الْكتاب مُوَافقَة للمألوف من الصِّفَات وجريا على مُقْتَضى الْعَادَات”. سيف الدين الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1971، ص 363. ومن قبله افتتح الشهرستاني إيراده للآراء حول الإمامة بقوله: “اعلم أن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد بحيث يفضي النظر فيها إلى قطع ويقين بالتعين…”، نهاية الإقدام، ص 478.

[16]) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2012، ص 25 – 28.

[17] ) “والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة…”، ص 137.

[18]) انظر كتاب خالد فهمي، الجسد والحداثة، الطب والقانون في مصر الحديثة، ترجمة شريف يونس، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2006، وذلك لمعرفة مقاومة الفقهاء لإدخال علم التشريح إلى مصر لأول مرة في القرن التاسع عشر. صحيح أن خالد فهمي يهدف إثبات أن علم التشريح لا يخالف الشريعة الإسلامية، إلا أن أزاهرة القرن التاسع عشر كانوا يرونه على أنه كذلك، مما يشير إلى مقاومتهم الأولى للطب الحديث.

[19]) ANJUM, O. V. A. M. I. R. (2016), p. 16.

[20]) على حد علمي، لم يعرض أحد من الباحثين المعاصرين المذكورة أعمالهم في هذه الدراسة لهذه السلطات الموسعة للفقيه عند الجويني.

[21]) الخميني، الحكومة الإسلامية، وزارة الإرشاد، طهران، 1982، ص 49.

[22] ) ظهر مصطلح الحاكمية بمعناه الحديث قبل الخميني في مؤلفات أبي الأعلى المودودي، ثم سيد قطب.

[23]) المرجع السابق، ص 51.

[24]) رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل، والطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في شرف أصحاب الحديث، كلهم من طريق أحمد بن عيسى العلوي، وهو حديث آحاد، والدارقطني قال في أحمد بن عيسى: كذاب، وحكم الذهبي ببطلان هذا الحديث، بعد أن ساقه بإسناد الرامهرمزي. وقال الألباني أنه ضعيف.

[25]) الخميني، الحكومة الإسلامية، ص 58.

[26]) المرجع السابق، ص 61.

[27]) المرجع السابق، ص 65.

[28] ) للمزيد حول الرؤية الأشعرية التدهورية للتاريخ، انظر علي مبروك، الإمامة السياسة، الخطاب التاريخي في علم العقائد، المركز الثقافي العربي/ مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء، 2015، ص 7، 89.

[29] ) مثلما فعل وائل حلاق في الكثير من كتبه ومنها: الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، مراجعة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2014، ص 278 وما بعدها.

[30]) ANJUM, O. V. A. M. I. R. (2016). Political Metaphors and Concepts in the Writings of an Eleventh-Century Sunni Scholar, Abū al-Ma‛ālī al-Juwaynī (419 – 478/1028 – 1085). Journal of the Royal Asiatic Society, 26(1-2), 7–18 (at 13).

[31]) Ibid.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete