خلف سقوط نظام الحكم في الدولة العثمانية 1924م، ردة فعل نفسية في العالم الإسلامي السني كان من نتائجها ظهور الإسلام السياسي 1928م، الذي بنى مشروعه وشرعيته على  خميرة بناء شرعية دينية تمثل المسلمين في كل مكان، أما في العالم الإسلامي الشيعي الذي تحكمه تصورات مخالفة لموضوع الإمام والإمامة، وهي تصورات مفارقة لتصورات العالم السني، فسقوط الحكم في الدولة العثمانية 1924م، قد ترتب عنه اتساع دائرة التفكير في إيجاد حل لموضوع الامامة، التي توقفت عند الشيعة بغياب الإمام الذي ينتظرون عودته، وقد جاء الحل في إحياء فكرة ولي الفقيه، الذي يحل محلَّ الإمام الغائب، وهي الفكرة التي كانت خميرة للثورة الاسلامية الشيعية 1979م، والتي سعت لبناء الدولة الدينية التي كانت هدف الإسلام السياسي مع الاخوان المسلمين وغيرهم.

مطلب الدولة الدينية مطلب واحد، مع فارق في التصور، ما بين الإسلام السياسي في العالم السني، والعالم الشيعي، وكلا الطرفين معجب بالآخر، وهذه مسألة بديهية ومعروفة، من بين أوجهها ترجمة السيد علي الخامنئي (مرشد الثورة الإسلامية في إيران) لكتاب سيد قطب تفسير “في ظلال القرآن” إلى الفارسية وقد نشرته مؤسسة الثورة الاسلامية للثقافة والأبحاث. وقد وبدأ بترجمة الكتاب في عام 1969م على عهد النظام الملكي البائد وكان عمره آنذاك 30 عاما.

 

  • الإسلام لم يحدد نموذجا محددا للحكم

الراجح بأن الإسلام لم يحدد نموذجا محددا للحكم، وهذا أمر بين وظاهر من خلال القرآن الكريم، لا يهم إن كان الحكم ملكا بالوراثة، أو حكما باختيار الحاكم أو التوافق عليه، القيمة التي اهتم بها القرآن كثيرا في حديثه عن تدبير شؤون الجماعة، هي قيمة الحوار والشورى؛ ما بين مختلف الفاعلين والمتدخلين بآرائهم ووجهات نظرهم في تدبير أمور الجماعة التي تجمعها مصالح متباينة أحيانا، وتحتاج الى توافق وموازنة؛ وقد جاء في القرآن الكريم قال تعالى:﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(الشورى/38) قال تعالى:﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر﴾(آل عمران/159) كما أن قوله تعالى: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)“(النساء) فقد جعل الله هنا أولي الأمر منا وليس فينا وليس علينا.

فمنا تقتضي بأن ولي الأمر ينتمي إلى مختلف فئات المجتمع، فلا يهم نسبه وحسبه مادام اتفقت عليه الجماعة، بالوراثة أو الاختيار، أو الغلبة. وقد ورد في الحديث “إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة”.[2] أما فيكم فتقتضي انفراد فئة محدد بالسلطة دون غيرها، وفق مواصفات خاصة تظن بأنها تميزت بها عن غيرها. أما علينا فذلك بانفراد جماعة بالحكم بوهم الاستعلاء والأفضلية وبأنها هي مصدر مختلف التشريعات.

فصيغة منا؛ تستوجب استيعاب رأي وتوافق مختلف فآت المجتمع على أساس المواطنة؛ فالحاكم حاكم بموجب البيعة؛ وهي عقدٌ يترتّب عليه التزامات على كلٍّ من وليّ الأمر (الحاكم) والرّعية (المواطنين)، وذلك باختيار أهل الحلّ والعقد، أو اختبار عموم المواطنين في انتخابات عامة رجلاً، يتولى أمر الأمّة لجلب المنافع الدّينية والدّنيوية، ودفع المضار عنها، وتترتب عن البيعة (الفوز بالانتخابات) الالتزام بطاعة وليّ الأمر (الحاكم) في غير معصية الله تعالى. عندما ينظر الحاكم الى نفسه بأنه من المجتمع وإليه؛ فهو يمثل مختلف فآت المجتمع ويحرص على مصالح الجميع، ويفسح المجال للرأي والرأي المخالف…أما إن نظر الى نفسه والى شؤون الحكم من زاوية الفئة التي هو فيها، فقد تستبد به فئته والمقربين إليه، ويجلب عليه ذلك غضب مختلف فآت المجتمع الأخرى. أما إن نظر الى الحكم من زاوية أنه على المجتمع وليس منه وليس فيه؛ فذلك يأخذه الى دائرة الاستبداد الفردي في السلطة فهو لا يري شعبه إلا ما يرى قال تعالى: “ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)“(غافر) قال تعالى: “ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)“(الزخرف).

الصيغ الثلاث التي توقفنا عندها وردت مجتمعة في الآية 151 من سورة البقرة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: “كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)”(البقرة) فبموجب الرسالة كانت بعثة الرسول فينا؛ وبموجب الدعوة والهداية الشورى فهو منا، وبموجب الوحي (القرآن) فهو علينا، القارئ للقرآن الكريم سيقف عند كثير من الآيات؛ فيها توجيه بأن ينظر الرسول الى الناس (المجتمع) بدرجة أولى؛ من زاوية أنه منهم بمعزل عن أنه فيهم أو عليهم قال تعالى: “ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)“(آل عمران) قال تعالى: “ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)“(الغاشية) فالذي ينظر الى الناس بأنه فيهم وعليهم، ليس في حاجة لمشورتهم، فقد يتصرف بمعزل عن رأيهم كيفما كان الرأي؛ بينما الذي يعتبر نفسه من الناس فيعيد الأمر اليهم، وهم يشيرون عليه أو يتشاورون معه فيما فيه مصلحة للصالح العام.

السؤال هنا؛ إذا كان الأمر على هذه الوضع؛ ما هي الفائدة من ربط صيغة “فيكُمْ” و “عَلَيْكُمْ” بشخص الرسول الكريم، كما هو وارد في الآية 151 من سورة البقرة؟ الإجابة تكون بالعودة الى الآية 59 من سورة النساء قال تعالى: “ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)“(النساء)، فطاعة الرسول بمجوب أنه صاحب رسالة وقد بعث فينا نحن معشر أتباعه؛ فالله جل وعلا اصطفاه ولم يقع عليه الاختيار من أحد؛ وطاعته هنا ليست بالطاعة العمياء التي تلغي ملكة السمع والبصر والفؤاد، فنحن نطيعه فيما بلغ عن ربه قال تعالى: “ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)“(المائدة) وبكونه مبلغ ما جاءه عن ربه فهو علينا؛ وقد ذكرنا القرآن بأنه ليس له من الأمر شيء فيما يخص من آمن به أو أعرض عن دعوته.[3] فالرسول في مقام البلاغ بينما البيان يكمن في البلاغ (القرآن)، وقد نص على تعدد الشرعة والمنهاج[4] قال تعالى: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا“(المائدة/48) صحيح بكون سياق الآية يرتبط بطبيعة تعدد الشرعة والمنهاج بين الإسلام وما قبله من الكتاب، ولكن الذي ينبغي أن لا نغفله بأن هذه الآية ترتبط بسنة تاريخية، وهي أن الشرعة والمنهاج تتجدد وتتحول من زمن الى آخر، فشرعتنا اليوم ومنهاجنا ليس بالضرورة أن يكون مطابقا لنفس المنهاج والشرعة في القرن السابع الميلادي أو العاشر الميلادي؛ رغم وحدة الدين والارتباط بنفس البلاغ (القرآن)، فالبلاغ والدين واحد بموجب أن الرسول فينا وعلينا، بينما الشرعة والمنهاج متعدد بموجب أن الرسول منا.

فكل الصيغ الثلاث تلامس مجال الديني والسياسي، والحقيقة أن الديني والسياسي لم يجتمع إلا في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. فقد اجتمع في شخص الرسول ما تفرق في غيره، فمن جهة كان الرسول رجل رسالة دينية لا تخص قومه لوحدهم بل تخص الناس أجمعين وفقا لما نص عليه النص القرآني (فينا وعلينا)، ومن جهة ثانية كان هو رجل الدولة المدبر لتنزيل الرسالة “القرآن” على الواقع الذي عايشه (منا).

ولا أحد من الناس بعده يحق له ان يستبد بأمر الدين ويرى في نفسه بأنه في الناس وعليهم وليس منهم فالرسول لوحده هو من كان فينا وعلينا بموجب الرسالة وما أوحي له من ربه قال تعالى: “ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) “(الأنعام)، العلماء في أمر الدنيا والدين ينبغي أن يتعاطوا مع مختلف القضايا التي تواجههم بنفس أنهم من الناس وليسوا فيهم أو عليهم، ولا يحق لهم أن يستبدوا بالرأي بمعزل عن رأي الجماعة والمجتمع؛ وهذا يقتضي مراعات طبيعة المجتمع وما يقتضيه الواقع وما يتطلبه من حلول تنسجم معه؛ فأمر الدين هو أمر للناس جميعا.

بعد التحاق الرسول عليه السلام الى الرفيق الأعلى، أصبح أمر الدين والعلم به في مجمله بيد المجتمع (العلماء)، أما أمر السياسة والدولة فهو بيد الحاكم، وهو من يملك بيده قرار أمر الجيوش والسياسة ومهام الدولة وحمايتها وصون وحدة الجماعة، الى جانب وجهاء المجتمع والعلماء؛ وليس هناك حاكم بشكل عام توفق في أن يجمع بين يده السلطة الدينية والسياسية، وهذا لا يعني أن الحاكم مفصول كليا عن أمور الدين، ولكن القول فيها والاجتهاد بشأنها فيما يخص أمر الجماعة يلزمه العودة إلى المجتمع؛ أي العلماء. فأمر الدين هو أمر للناس وللمجتمع،

وهذا يعني أن التاريخ الإسلامي عرف نوع من الفصل والوصل بين الديني والسياسي، فالذين يتخيلون أن تدبير شؤون الدولة والجماعة في التاريخ الإسلامي كانت كلها بيد الفقهاء فهم على خطأ، ومن يتخيل شؤون الدولة والجماعة في التاريخ الإسلامي كان كلها بيد الحاكم (الخليفة، أمارة المؤمنين…) فهم على خطأ، بمعنى أن التاريخ الإسلامي لا يعرف مفهوما للدولة الدينية أو الحكومة الإسلامية، كما يتوهم الإسلام السياسي.

  • التاريخ الإسلامي: لحظة الفتنة

عرف التاريخ الإسلامي لحظة عسيرة عرفت بزمن الفتنة وقد وصفها طه حسين بالفتنة الكبرى؛ وتوقف هشام جعيط عند كلمة الفتنة دون وصف، بغاية الحياد الموضوعي في قراءة الحدث، فكتاب الفتنة الكبرى لطه حسين، وكتاب الفتنة لهشام جعيط، من بين أهم الكتب التي تناولت هذه الحقبة المهمة من التاريخ الإسلامي المبكر. وهي حقبة لها ما بعدها، ولازالت صدى أحداثها ممتد حتى زماننا هذا، بفعل مختلف الأيدولوجيات الطائفية والمذهبية الضيقة، التي اتخذت من السرديات التاريخية كما تتصورها، سلطة على جمهور أتباعها ومريديها.

بعد التحاق الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، وبعد خلافة كل من أبو بكر عمر، شكل مقتل عثما وما صاحبه من ردود فعل ووقائع وأحداث زمن الخليفة علي، لحظة انقسام المسلمين إلى فرق، وقد اتسعت الفرقة والاختلاف فيما بينهم، حتى بلغت ذروتها بسبب موقعة صِفِّين التي وقعت بين أتباع معاوية بن أبي سفيان والي الشام، وبين جيش علي بن أبي طالب في سنة 37 هـ. ومن أبرز الفرق بعد معركة صفين فرقة الذين شيعوا علي وانتصروا له “الشيعة” مقابل فرقة الذين خرجوا عليه “الخوارج”، وقد عرفت فرقة الشيعة، مدارس متعددة عبر التاريخ، فهناك الإمامية، والعلويون، الزيدية، الإسماعيلية…

بعد هذه الواقعة تشكلت ملامح اتجاهين في النظر الى موضوع الامامة ما بين الشيعة والسنة. فالإمامة عند أهل السنة ليست ركناً في الدين ولا أصلاً من أصوله، وإنما وضعت لرجل يخلف النبي ويحرس الدنيا بالدين، فأمر الدين اكتمل باكتمال الوحي والتحاق الرسول بالرفيق الأعلى؛ ولا يتبقى الا الاجتهاد في فهمه. يرى الماوَرديُّ: الإمامةُ مَوضوعةٌ لخِلافةِ النُّبُوَّةِ في حِراسةِ الدِّينِ وسياسةِ الدُّنيا.  ويرى ابنُ خَلدون عنِ بأن الإمامةِ خِلافةٌ عن صاحِبِ الشَّرعِ في حِراسةِ الدِّينِ وسياسةِ الدُّنيا به.

بينما عند الشيعة، فالإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في النبوة، بمعنى أن الإمام عندهم قد يتلقى أمر من الدين، وهي بهذا ممتدة من جهة الوراثة من نسل الامام الذي شيعوه وهو علي. ويعتقد جمهور الشيعة بعصمة الأئمة وهي صفة جعلتهم في استقامة على طريق الإسلام ولم يثبت التاريخ في حقهم أي زلة أو ما يحط من قيمتهم، فكلهم كانوا مصدر علوم ولم يحتاجوا إلى غيرهم في شيء، و ورثوا العلم و الرئاسة و العصمة بشكل متراتب أبا عن جد، بخلاف من هم دونهم، وحجتهم في ذلك، ما ورد في القرآن من آيات و روايات نبوية تدل على ذلك، منها آية التطهير لقوله تعالى: ﴿ … إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾(الأحزاب/33).

ويعتقد الشيعة الاثنا عشرية، أن شخصية أبو القاسم محمد بن الحسن المهدي أنه المتمم لسلسلة الأئمة، فهو الإمام الثاني عشر والأخير عند الشيعة الاثنا عشرية(-329ه) الذي سيأتي: ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا، ولكن من يحل محله قبل مجيئه؟ الجواب يكمن في القول بولاية الفقيه عند من يقول بها من الشيعة وهي: ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام المنتظر في قيادة الأمة وإقامة حكم الله على الأرض. وهي فكرة حاضر في التراث الشيعي وقد جدد القول بها، أحمد بن مهدي النراقي (-1828م) في كتابه “عوائد الأيام في مهمات أدلة الأحكام” ففي القرن العشرين، ارتأى الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية في أول فقرة من مقدمة الكتاب بأن “ولاية الفقيه فكرة علمية واضحة، قد لا تحتاج إلى برهان… فالحاجة إلى الخليفة إنما هي من أجل تنفيذ القوانين، لأنه لا احترام لقانون من غير منفذ. وفي العالم كله لا ينفع التشريع وحده، ولا يؤمن سعادة البشر، بل لا بد من سلطة تنفيذية يكون افتقادها في أية أمة عامل نقص وضعف”. فهو يرى في مواضع أخرى من الكتاب بأن الفقهاء أمناء الرسل في قيادة الجيوش وقيادة المجتمع والدفاع عن الأمة والقضاء بين الناس. فالقيه في نظر الخميني هو القائم على رأس الحكومة، فهو ينهض بكل ما نهض به الرسول عليه السلام، لا يزيد ولا ينقص شيئان فيقيم الحدود كما أقامها الرسول، ويحكم بما أنزل الله، ويجمع فضول أموال الناس، كما كان ذلك يمارس على عهد الرسول وينظم بيت المال ويكون مؤتمنا عليه. وبهذا الفهم يسقط الخميني الماضي على الحاضر.

القول بالحكومة الإسلامية في العالم الإسلامي، جاء كرد فعل على سقوط الخلافة الإسلامية 1924م، وهو حدث كان سببا في تجدد سؤال الحكم والامامة في الإسلام. وقد كتب علي عبد الرازق (-1966م) كتابه المشهور “الإسلام وأصول الحكم، صدر سنة، 1925م” بين فيه بالأدلة الشرعية عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، فطبيعة هيكل الدولة أـمر يخص الناس، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة، وقد أثار الكتاب جدلا واسعا بين مؤيد ومعارض.

وقد كثرت المناقشات حول الخلافة بعد سقوطها بين العلماء، وكان رشيد رضا (-1935م) طرفاً هاماً في هذا النقاش، وألف كتاباً مستقلاً بعنوان الخلافة، فقد عرف الخلافة والإمامة، فقال: “الخلافة والإمامة العظمى، وإمارة المؤمنين، ثلاث كلمات معناها واحد، وهو: رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا.[5] لا شك بأن رأي رشيد رضا لا يتطابق مع مواقف وأراء وطموح حسن البنا (-1949م) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين 1928م

تصورات الخميني حول الحكومة الإسلامية هي نفس تصورات الإسلام السياسي مع حسن البنا ومن سار على نهجه، وهي نفس التصورات التي قالت بها التنظيمات المتطرفة من بينها “القاعدة” و”داعش” التي أعلنت الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهي تتبنى عقيدة سلفية جهادية، وشكَّل خلال الفترة 2014م/2017م شبه دولة سابقة غير معترف بها دوليًا. فالاختلاف بين كلا الطرفين الإسلام السياسي الشيعي والسني هو اختلاف في العقيدة فقط.

  • ولاية الفقيه

نعود الى مقولة ولاية الفقيه، لا يعني أن كل مرجعيات الشيعة تتفق على مقولة ولاية الفقيه، فلا شك أن هناك أراء متباينة حول الموضوع حتى هذه اللحظة، فمن المخالفين لولاية الفقيه السيد محمد حسين فضل الله المرجع الشيعي اللبناني الذي يرى أن ولاية الفقيه نظرية لا يراها أكثر فقهاء الشيعة، ويذكر من بين من لا يراها من الشيعة أبا القاسم الخوئي ومحسن الحكيم. وقد عارض آية الله حسين علي منتظري الولاية المطلقة التي دعا إليها الخميني فقال: نفي الولاية المطلقة للفقيه لا يستدعى دليلا، إذ الأصل الأولي يقتضي عدم ولاية أحد على أحد، بل إثباتها يستدعى ‏دليلا قاطعًا، ولم أعثر على ذلك في الكتاب والسنّة ولا في حكم العقل. ولكن كيف تمكن تغليب الاتجاه الذي يقول بولاية الفقيه؟

الواقع أن ذلك له علاقة بمصلحة سياسية في الاستلاء الكلي على السلطة، فولي الفقيه يستمد المشروعية من نيابته عن الامام والرسول وقد نصت المادة الخامسة من الدستور الإيراني على أنه “فـي زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة فـي الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير”. تولى الخميني منصب الولي الفقيه من 1979م إلى وفاته في 1989م. خلفه بعدها علي خامنئي. فالموضوع لم يعد مسألة تتعلق بوجهة نظر ونقاش حول ولاية الفقيه، كما كان قبل الثورة الإيرانية، بل أصبح يرتبط بمصالح الدولة الإيرانية في بعدها الإقليمي والدولي، وأي تحول في الدولة الإيرانية سيكون له تأثير على موضوع ولاية الفقيه.

وخلاصة ما في الأمر لم يعرف التاريخ الإسلامي شيء اسمه الدولة الدينية وهي دولة يتحكم فيها الفقهاء في كل شيء ويجعلون أنفسهم بأنهم في الناس وعليهم ولا يرضون بأن يكونوا منهم، كما يصورها الإسلام السياسي الشيعي أو السني، ووفقا لما أثبتته تجارب الواقع والتاريخ القريب، فالدولة الدينية فيها تجني على الدين والدولة معا.

قائمة المراجع:

[1]  كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2]  أخرجه الإمام الدارمي

[3]  قال تعالى: “ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) “(آل عمران)

[4]  قال تعالى: “ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) “(المائدة)

[5]  رشيد رضا، الخلافة ، الزهراء للإعلام العربي، 1408هـ. ص.17

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete