تكوين

 أكثر ما يُغري في مقاربة المدينة بوصفها نصًا هو عدم استبعاد كل أنماط القراءة إذ ثمة تداخلات جمة تبني النص بدءًا من إلحاح الذاكرة مرورًا بثقل الحاضر الفج وصولًا إلى رصد آمال المستقبل الغائم الدلالة والإمكانات. ليست المدينة في سياق مقاربتها بوصفها نصًا محضُ واقعة مكانية متعينة في الأفق الجغرافي المحدود، إذ ثمة محايثة عميقة بهذا الصدد بين المكان والكلمات، بين المكان وتخيلاته فضلًا عن ذلك التحايث بين المكان وتعدد الألسنة. فنحن هنا إزاء صدّ وانفتاح، تقليد ومغايرة وأيضًا إزاء تشبّث وتصدّع في كل اتجاه.

لا ريب أن المدينة في بعض متونها لا تُلبي شرط الانتماء بالمطلق إنما الوقوف عليها بوصفها واقعةً نصية ربما يؤسس لانتماءات من نمط آخر غير محدودة الآفاق والتحيزات وبخاصة هي انتماءات غير متوقّعة على الإطلاق.

قد يقع الظن ببعضهم أن سُبل الاستحواذ على آفاق المدينة بالإجمال هو دائمًا في متناول اليد، لأن هذا الوهم سرعان ما يصير محل تبدد وتلاشٍ لدى اجتراح المدينة بوصفها نصًا، أو واقعةً مبثوثةً بين دفتَي كتاب مفتوح على الدوام. إنه الكتاب الذي يتداخل فيه بعمق المتن والهامش، المنصوص واللامنصوص ويتداخل فيه أكثر ما يتداخل المُصرح عنه والمكبوت بعنف. في مقال نَشره في عام ١٩٢٦ يقول الارجنتيني خورخي لويس بورخيس:

إن الهدف الدائم للأدب هو عرض أقدارنا.

ربما ما ينطبق على الأقدار في سياق القول البورخيسي ينطبق أيضًا على المدن. فالمدينة في كل نواحيها هي قدر ناسها، وغرسها في الوعي بوصفها نصًّا يُعاضد التصالح بين متناقضاتها من جهة ويطمُر فجوة المسافات بين إنسانها واغترابه عن ذاته من جهة أخرى. إن التباينات في هذا الصدد هي واحات للتأمُّل وللانخراط في المختلف وللنظر إلى الذات بعيون الآخرين. لا انصياعًا لخرائط محددة لدى معاينة المدينة بوصفها نصًّا، فللكلمات وجاهتها ولها تلك القدرة الفائقة على إعادة رسم الخرائط ثم موضعتها بما يتجاوز المتوقّع أو المُجمع عليه مهما كان مدى تجذُّر هذا الإجماع في التاريخ وفي وعي ناسه.

إن المدينة وهمٌ خارج حدود الكلمات ومع الكلمات تصبحُ المدينة فضاءً شاسعًا لا يتناهى فيه التأويلات. إن العلاقة مع المكان تتكثَّف بشدة لدى مقاربة المكان بوصفه نصًا، حيث حدود التأويل في هذا المحل تتجاوز حدود الانتماء أو النفور أو حدود الخطأ والصواب. فاليقين في المدينة بوصفها نصًّا هو علامة سؤال والخطأ عابر سبيل. نحن مع نصٍ مفتوح ومتعدد الدلالات شديد الوضوح والتبيان لعدم احتكار المعنى، وما تحتاج إليه المدن في كل لحظة من لحظات تاريخها هو التخلُّص من هذا الاحتكار الفج للمعنى، ومن ثم التخلُّص من التعيينات الحديدية المُفَرْمِلة لكل إمكانات القول.

إن التخلُّص من السرد الباهت للمدينة هو بالعمق تخلُّص من محدودية حاجات بعض ناسها، بعض أولياء أمرها بالتحديد. فالمدينة بعامة هي في بعدها الأعم نصٌ يتجاوز حدود كاتبه وحدود حراسه. هي نصٌ غير منتهِ على الدوم ويرفض ترويض آفاق الحاضر وفق مقتضيات بعض سادة هذا الحاضر وهو ما ينطبق بالمثل على آفاق المستقبل.

جاء في تراثنا العربي قول العماد الأصفهاني:

“إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا وقال في غده، لو غُيَّر هذا لكان أحسن ولو زِيد كذا لكان يُستحسن ولو قُدَّم هذا لكان أفضلُ، ولو تُرك هذا لكان أجملُ، وهذا من أعظم العبر”.

نحن مع هذا النص في حيِّز المدينة بوصفها عدمًا واكتمالًا وسعيًا دائمًا في إعادة النظر وأكثر ما نحن بإزائه مع العماد الأصفهاني هو أن أعظم العبر تكمن في عدم البتِّ وعدم استخلاص النتائج النهائية. فالنهايات هي ترهُّل الكلمات وترهُّل المدن والناس وهي في نهاية المطاف موت معنوي وابتكاري. إن عدم استخلاص النتائج النهائية لتكون يقينيات موصوفة هو لحظة مهمة في عملية الإصغاء وترميم الذات. فالمدينة بوصفها حدثًا مؤقتًا على الدوام وذلك عبر معايشتها بوصفها نصًا هو تجديد دائم لشبابها في عين قرائها، بل تراها بهذا المنحى تحثُّ القراء على استبدال الابتسامات الساذجة لليقين بروعة ملامح الحيطة والحذر.

إقرأ أيضًا: العولمة الثقافية والمواطنة العالمية

إن مغالبة المعنى ثم الاسترسال في تفكيك تلبُّداته يتيح للقارئ البوح بما يُضاد تاريخ هذا المعنى وتجذراته، والمدينة بوصفها كتلةً ضخمة من الكلمات هي دعوة مفتوحة لقرائها من أجل إعادة النظر في سائر أنماطها السائدة تاريخيًا بغض النظر عن قدسية هذه الأنماط أو دنيويتها. فغبش الدلالة هو على الدوام دفع إلى فعل القراءة وقراءة المدينة لا يعيب على الإطلاق غبش دلالاتها، تلك الدلالات المنسية أو التي تكمن في مستحيلات المدن. فتاريخ المدينة هو في وجهه الأعم تاريخ كلماتها وفاعلية القول تكمن أكثر ما تكمن في تعقّب تاريخ الكلمات. إنه إلحاح الذاكرة التي لا تستكينُ حيث طوبوغرافية المدينة عندئذ ليس في محض جغرافيتها، إنما ترى هذه الطوبوغرافية مجسدة أكثر في دهاليز الكلمات وتراكماتها وتداخل دلالاتها ثم انتفاء هذه الدلالات واستبدال دلالات أخرى بها مع تعاقب الحقب التاريخية وتعاقب السطوات وأمزجة المعرفة أو الإبستيميات السائدة.

إن التفرُّس في وجه المدينة بوصفها نصًا يُلبي إلى حدٍّ كبير شرط التوفيق بين العناصر المتنافرة لإرثها الثقافي والديني والشعبي مهما كان هذا الإرث متوغلًا في أعماق التاريخ وعتماته. فتباينات المكبوتات في النصِّ هي بمنزلة اللوح المسطور لجملة هذا النص، ولكل مدينة في العالم لوحها المسطور وهو لوح تراه يُشِعُّ بظلال أقرب إلى الإبداع وفي البال بهذا السياق الناقد الأميركي هارولد بلوم صاحب “خريطة القراءة الضالةإذ تصالح التناقضات هو غاية القراءة ومبتغاها.

جاء في المأثور اللاتيني قولهم: Habent sua fata libelli أي للكتب أقدارها. إلا أن ما يُخفف من وقع كلمة أقدار في هذا القول هو أن القارئ بوصفه مُتلقيًا له الدور الأكبر في رسم هذه الأقدار وما ينطبق على الكتب بهذا الصدد ينطبق تمامًا على المدينة. إن المدينة بوصفها نصًا تقع خارج أية جوهرانية مفارقة، ذلك أن تدقيق النظر في متنها وفي هوامشها وفيما يداخل زحمة سطورها من غموض وترحال يُرهق هذه الجوهرانية ويُجيز النظرة الغوَّارة إلى الأعماق وصولًا حتى إلى ما لم يُسبق له أن استُلهم من المدينة بعد. وإذا أردنا أن نستعين بمعجم النقد الأدبي فإن المدينة بوصفها نصًا مسرودًا (Narratized Discourse) على الدوام يجعل تاريخها -تاريخ المدينة- واقعة مغرية للتأويل دون التحيُّز إلى معنى بعينه.

كل شيء يحمل على الظن أن النص لا يبدأ ولا ينتهي وهو ما أشار إليه الفرنسي مالارميه في واحدة من شطحاته الرائعة وموافقة الإنسان مع اللابداءة من جهة واللانهاية من جهة أخرى يُجيز له أن يستودع أمكنة المدينة ورموزها ومقدساتها وأبطالها في حيِّز من القول أيضًا لا بداءة له ولا نهاية له من جهة الدلالة. فالتأويل وإن كان لدى بعضهم هو واقعة انتقائية تحكمها براغماتية الحاجة والمآرب، إلا أن فعل التأويل بالمخاض الأخير هو فعل تنقيبي يستدعي أكثر ما يستدعي فرط الحيرة والتردد وعدم الإخلاص النبيل. إن الحيرة في هذا السياق ليست سمة من سمات الضعف والتيهان ذلك أنها تستمدُّ وجاهتها بطريقة أساسية من عد القارئ واحة استطراد في نص المدينة أو تراه قد يكون هامشًا من هوامشها أو نص غير مدوَّن من فورة نصوصها.

ليست المدن هياكل ضخمة إلا عطفًا على ما تختزنه من غموض، وفاعلية هذا الغموض المشرق تستبطن حُكمًا، فض الاشتباك مع المنسي ومن ثم التحام الآفاق بالمعنى الذي ذهب إليه غادامير Fusion of Horizons إذ الأحكام التاريخية تتأسس على التأثير المتبادل بين الماضي والحاضر، بين المنسي والمعيش وبين المكبوت والواضح.

إقرأ أيضًا: الاختلاف وسُبل العيش معًا

قد يعقد الارتياب حاجبي المنغمس في المدينة بوصفها نصًا، إذ تتكثّف سحب الماضي ويتململ الحاضر ويتشتت المستقبل بيد أن تنقير الذهن في سائر أزمنة المدينة والخروج بهذه الأزمنة من المعجم المتعارف عليه يُلبِّي الحاجة بلا شروط مُسبقة لإيفاء المعاجم الأخرى حقها. غالبًا ما يُخالط العيش في المدينة مزاج التَمنيoptative mode  وهو مِزاج أكثر ما يدفع بالعبارات، عبارات المدينة، إلى أن تعاود نبضها من جديد.

إن المدينة وبالعودة إلى معجم النقد الأدبي، ليست سردًا وحيدَ الصوت Monologic Narrative، بل هي جملة من الضوضاء والصمت والهسهسة وأصوات تزاحم أصوات. إنه سرد مسترسل أبدًا واستدراك هذا الاسترسال من متلقي المدينة بوصفها نصًا هو دعوة إلى الوقوف على ما فاته من أمزجة هذا النص وعدم سجنه في حيّز واحد من طقوس القراءة والفهم.

قد تكون المدينة مجازًا أو استعارة أو كناية أو تَلبُّكًا بلاغيًا وليس جمع أوصالها بوصفها نصًا إلا بمنزلة الاعتكاف عن كل ضروب الدوغمائيات ذلك أن جمع الأوصال في هذا السياق ينطوي حكمًا على إعادة تفكيكها بالمعنى الذي ذهب إليه جاك دريدا لكلمة تفكيك. إن تعليق الفهم المُسبق أو اليقينيات المؤسسة تاريخيًا حيال هذه المدينة أو تلك هو ممارسة اللعب الحر مع الذاكرة الأولى وصولًا إلى النسيان وليس النسيان بهذا الصدد إلا تمهيدًا للإبداع وفي البال ذلك الربط الطريف بين الكتابة والذاكرة والنسيان والذي قد بثَّه برنار نويل في “كتاب النسيان” حين يقول:

“إن الكتابة عندما تخضع للذاكرة تُعيد إنتاج نفسها أما عندما تتوجه صوب النسيان فهي تخترع وتُبدع”

والمدينة بوصفها نصًا مفتوحًا هي فعل استدراج لهذا الاختراع ولهذا الأبداع. فأن يُحيط المرء ذاكرة مدينته بجملة من النسيانات فإنه بهذا يستوفي عدة الإغارة التي عبرها يستطيع إعادة رسم حدود المدينة وفحوى ما تحبل به من إغماض ومن خفاء ومن تشردات المعنى.

في رائعته الأدبية “مدن لا مرئية” يقول الإيطالي إيتالو كالفينو، “لا لغة دون خداع” وهو ما يستبطن ربما أن المدينة واقعةً لُغويةً هي على الدوام محل مراوحة بين التواري والانقشاع. إنها بهذه الرؤية بمنزلة “قلق العبارة” إذا ما أردنا أن نستلهم ما جاء في التراث العربي من عبارات، لكنه القلق الذي لا يُفضي إلا إلى مباغتة النص، نص المدينة، بإمعان التشريح. فـ “قلق العبارة” هي دعوة إلى الركون عن كل تواصل رخوٍ مع النص، مع المكان بوصفه نصًا. إن السيادة على العبارات هو فعل تَشَفٍّ بحق المدينة وهو يُضاد تمامًا المدينة بوصفها نصًا يقوم على “قلق العبارة” إذ استئناف البدء هو فعل لا يكفُّ عن المثابرة أما الأصل الذي لا يرْقى إليه شك فهو في حضرة العبارة القلقة محل وهم وربما اندثار.

من بيروت إلى القاهرة مرورًا بجملة من المدن والعواصم رأيتني دائمًا محل استقطاب حاد لمكاشفة المدينة بوصفها نصًا محضًا. قد تخون الأقدار التوقعات حيال هذه القراءة أو تلك وقد ترتَّب الأقدار جملة تلك التوقعات، إنما المدينة لم تغادر وعيي بوصفها نصًا وكأن ثمة وثيقة سرية بيني وبينها مفادها أن يسرِّي كل منا عن نفسه عبر الكلمات. إن مقاربة المدينة بوصفها نصًا يجعل اللحظات أكثر اتساعًا إذ تستيقظ رُوح الفضول بُغية الوقوف ليس فقط على الظاهر العياني إنما أيضًا على المتواري خلف النصوص وخلف الكلمات وخلف التاريخ والأمكنة.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete