تكوين
ثمة إجماع بين مؤرخي الفكر والثقافة في مصر، وكتّاب سيرة طه حسين، على أنه كان مفكرًا متفردًا بين عديد المفكرين المعاصرين، لأسبابٍ متعددة؛ منها أنه مفكر مخضرم، أدرك ثلاث فتراتٍ مهمة من تاريخنا الحديث، فقد عاش في القترة من 1889 إلى 1917، وإذًا فقد أدرك فترة ما قبل ثورة 1919، ثم أدرك الفترة بين ثورتي 1919 إلى 1952، ثم الفترة التي أعقبت ثورة يوليو 1952 حتى وفاته سنة 1973.
كما أنه قد استوعب ثقافاتٍ متعددة تأثر بها جميعًا، فقد حفظ في طفولته القرآن الكريم، ودرس العلوم العربية والإسلامية في الأزهر الشريف. كما درس الثقافة الأوروبية “الغربية” دراسة عميقة بقديمها، كما يتمثل في تعلمه اللغة والتراث اليوناني واللاتيني، وحديثها، كما يتمثل في اللغة والثقافة الفرنسية.
وقد اتسمت تجربته الذاتية في مجال “التعليم” بالتنوع الشديد، فقد خبر بنفسه ألوانًا مختلفة من التعليم التقليدي والحديث: فمن كُتَاب القرية في أواخر القرن الماضي، انتقل إلى الأزهر، ومنه إلى الجامعة في بداية إنشائها، ثم إلى جامعتي مونبلييه والسوربون بفرنسا[1].
ويكاد يُجمع أبرز من سجلوا سيرة العميد، ومسيرة حياته الحافلة، على كل المستويات، على تقسيم رحلته الإنسانية والفكرية في هذه الدنيا إلى خمس مراحل كبرى؛ يمكن توصيفها بالتالي:
- المرحلة الأولى: النشأة والتكوين (1889-1910) منذ الميلاد إلى الخروج من الأزهر.
- المرحلة الثانية: الاختمار والعبور من “الجامعة” إلى “السوربون” (1910-1919)
- المرحلة الثالثة: العودة من فرنسا “أستاذًا” وصولًا إلى “العمادة” (1920-1930)
- المرحلة الرابعة: (1930-1952) من العمادة إلى الوزارة.. المفكر سياسيًّا
- المرحلة الخامسة والأخيرة: (1952-1973) مفكرًا ومجددًا ومصلحًا
(أ)
ولا أظن أن هناك خيرًا من «الأيام»، في جزئها الأول بالأخص، كي تصور السنوات الأولى في حياة هذا الشاب الذي سيقدر له أن يكون المبشر بنهضة هذه الثقافة التي انتمى إليها ونشأ في ظلها، وأن يكون داعية تقدمها وتطورها، منذ ميلاده في 15 نوفمبر من العام 1889 وحتى التحاقه بالأزهر عام 1902.
كانت فترة التكوين الأولى في حياة طه حسين، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، والعقد الأول من القرن العشرين (1889-1910) هي فترة التعرف الأول على العالم سماعًا بعد أن فقد البصر، وقضي عليه أن يعيش “مكفوفا” لنهاية عمره، فعوضه الله ذاكرة حافظة، وآذانا لاقطة، ونهما لا يشبع في المعرفة والاستقصاء وتعمق البحث والاكتشاف.
وكان على هذا الفتى “الأعمى” أن يقاوم الجهل أولًا بحفظ القرآن الكريم في القرية التي غادرها ليكون برفقة أخيه، مجاورًا في الأزهر، ليتعلم علوم الدين التي هي أليق بمن هو مثله من الذين يعيشون مستعينين بغيرهم. وبدأت بذرة الحرية تتوقد داخل الفتى الأزهري الذي كان يجد عُسرًا في تقبُّل ما لا يقتنع به.
وفي هذه المرحلة سينتقد طه حسين خرافات القرية وتوسلهم بالأولياء، وقد كان ما زال طفلا صغيرا لم يشب عن الطوق بعد، وكان ذلك إرهاصا بما ستجره عليه نزعته النقدية العالية من مشكلات في الأزهر وفي الحياة الفكرية والسياسية عموما.
كانت الفترة (1902-1910)، تسبق الفترة التي أطلق عليها لويس عوض (الاختمار العظيم الذي تفجر فيما بعد في ثورة 1919) وهي من أخطر فترات حياته، فهي الفترة التي التحق فيها الفتى طه حسين بالأزهر عام 1902، وهو في الثالثة عشرة من عمره، حتى خرج منه أو أُخرج منه نهائيا في عام 1910، ليلتحق بالجامعة الأهلية المنشأة حديثًا منذ العام 1908.
في هذه السنوات الثماني التي وصفها طه حسين وصفا دقيقًا ورائعًا في الجزء الأول من «الأيام»؛ وصفًا يجمع دماء الرثاء في العيون، ويرسم ابتسام السخرية على الشفاه، جمع طه حسين ذخيرته الأولى من الأدب العربي الذي قيِّض له بعد حين أن يكون أستاذه الأكبر وعميده الذي لا يُطاول منذ القرن الرابع الهجري؛ أي منذ ألف عام!
ولن تمر السنوات الثماني دون أن يجهر طه حسين بانتقاد جمود الأزهر وعلومه التقليدية التي توقفت عند القرون الأولى وهو فتى، وإن كان من حُسن حظه، أن الأزهر الذي دخله في مطالع القرن العشرين كان به بعض أصداء النزعة “العقلانية” التي أشاعها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1849-1905)، وكانت هذه النزعة لا تزال قادرة على مخايلة عقول أزهرية شابة نزَّاعة إلى الحرية والتمرد الذي سرعان ما انتقلت عدواه إلى الأزهري الصغير طه حسين. وقد عاصر “الفتى” طه حسين أواخر أيام الشيخ الإمام محمد عبده قبل موته في 1905، وكان قد مسَّه لهيب -كذلك- من فكر قاسم أمين المصلح الاجتماعي المنادي بتحرير المرأة الذي أتم رسالته نحو عام 1900.
ومن يومها تعلم الفتى الصغير أن الأسئلة مفاتيح العلم، وأن العقل لا بد أن يقوم بتمحيص كل ما يَرِد عليه، وأن علامة هذه الحرية أن يضع كل ما يُطرح عليه موضع المساءلة. و”العقل النقدي” هو تسمية أخرى للعقل الحر، كما أن “العقلانية” هي النزعة الملازمة للحرية، تتبادل معها الوضع والمكانة، كما تتبادل معها التأثر والتأثير.
وقد انبثقت النواة الأولى لهذه الحرية التي عرفها الفتى الأزهري من أصداء ما تركه الإمام الجليل الشيخ محمد عبده (1849-1905) [2] في الأزهر، وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي يكبر طه حسين بأربع سنوات تقريبًا (1885-1947) هو الذي نقل تأثير محمد عبده إلى الفتى القادم من مغاغة، ومعه أخوه الشيخ علي عبد الرازق (1888- 1966) الذي كان يكبر طه حسين بسنة واحدة.
وبقدر ما كان هذان الاثنان سبيلَ طه حسين إلى الانخراط في تيار الشباب الأزهري “الإصلاحي” (إذا جاز التعبير) الذي تعلم حرية الفكر من الإمام محمد عبده، وتأصلت في نفسه محبة الأدب، كان آل عبد الرازق، هم رعاة طه حسين الذين ظلوا الأقرب إليه، والأكثر حنوًّا عليه، ورعاية له إلى أن أصبح على ما أصبح عليه من شُهرةٍ ومكانة.
وهكذا ظهرت على طه حسين ما يسميه لويس عوض بدايات ذلك “التمرد الفكري، والقلق الروحي، والثورة الأدبية” والفنية التي جعلت منه مُحطِّم أوثان أهل زماننا، وكانت هذه فترة صدامه الأول مع المؤسسة الفكرية الروحية والأدبية والاجتماعية والسياسية الذي جعله ينشق على بيته الكبير -الأزهر- ويطلب العلم الجديد، والمنهج الجديد، والقيم الجديدة في تلك الجامعة الجديدة التي استقطبت مثقفي عصره، الجامعة الأهلية (1908) التي ستصبح نواة الجامعة المصرية (1925) التي غدَت فيما بعد جامعة القاهرة.
لكن الحدث الأهم والأبرز والأعمق في حياة الشيخ الكفيف آنذاك، أو ما يسميه عبد الرشيد الصادق محمودي “أخطر نقطة تحول في حياة طه حسين بأسرها“، وهو تعرفه على الرجل الذي سيساعده على العبور من متون الأزهر وشيوخه وعواميده وحلقاته إلى “محاضرات” الجامعة الوليدة، وقاعاتها وأفندياتها و”مناهجها” في البحث.
فخلال تلك الفترة، تعرف طه حسين على أحمد لطفي السيد (1872-1963) رئيس تحرير «الجريدة»، والذي استحق لقب «أبو الليبرالية المصرية» صاحب مذهب «الحرِّيين» الذي اختاره علامة على الفكر الليبرالي الذي تبنَّاه ودعا إليه.
وفي رحاب أحمد لطفي السيد، وجد الفتى القادم من مغاغة ما قارب بينه ومذهب “الحريين”، فصار واحدًا منهم، ينتسب إلى الفكر الليبرالي انتساب العارف الفاهم، ويتصل بكباره الذين عرَّفه عليهم أحمد لطفي السيد ليكون واحدًا من شباب الليبراليين الذين التقوا في مجلة «الجريدة» التي نشروا فيها مقالاتهم الباكرة.
وبقدر ما تتسع دوائر معارف الفتى القادم من مغاغة بدوائر الأفندية الذين أخذ يشاركهم اعتناق «مذهب الحريين»، وتتوثق علاقاته بأنشطتهم الثقافية المدنية، التي وجد فيها مراحه العقلي، أخذ يضيق به الفكر الجامد لمشايخه بالأزهر، وذلك بالقدر الذي أخذ فكره “الليبرالي” الغض يضيق بهم، خصوصًا بعد أن عرف طريقه إلى الجامعة التي افتُتحت في ديسمبر 1908، وأصبحت منبعًا جديدًا للفكر المدني الحر الذي وصل طه حسين بالأفندية فكرًا قبل أن يكون واحدًا منهم بالملبس.
وبدأ غضب المشايخ من أساتذته يتزايد عليه، ورغم وساطات أحمد لطفي السيد، فإن الهوة اتسعت، والمسافة بين العقليات تباعدت. وكان لا بد أن يحدث الصدام، وأن يتفق كبار المشايخ على حرمان الفتى المتمرد من شهادة العالمية التي أسقطوه في امتحانها، كي يجعلوا منه عِبْرة لغيره من الذين يمكن أن يسيروا على دربه، أو يتمردوا تمرده.
في هذه الأجواء الصاخبة، إذن، كان طه حسين يختتم مرحلته التكوينية الأولى، التي انقسمت إلى جزئين: الأول منذ ميلاده (1889) وحتى مغادرته القرية ليتعلم بالأزهر (1902). والثاني؛ منذ دخوله الأزهر (1902) حتى خروجه منه نهائيا (1910).
وكان أصحاب التأثير الأكبر عليه في تلك الفترة؛ هم: الشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد. وعلى وجه القطع كان هؤلاء الثلاثة يعلمونه أشياء مما لم يكن المرء يتعلمه من العلوم النقلية التقليدية في الأزهر في ذاك الزمان.
(ب)
ثم يدخل طه حسين مرحلته التكوينية الثانية في العقد الثاني من القرن العشرين (1910-1920)، وكانت هذه في الواقع مرحلة “التخصص الدقيق”، و”العلم العالي”، أو المرحلة التي يصفها عبد الرشيد الصادق محمودي في أطروحته (طه حسين من الأزهر إلى السوربون) بأنها المرحلة التي تكون فيها طه حسين “ككاتب ذي مشروع”.
وانقسمت هذه المرحلة إلى قسمين: فترة الدراسة بالجامعة (1908-1914)، وفترة الدراسة بفرنسا والحصول على الدكتوراه من هناك (1914-1919).
بدأت هذه المرحلة بدخوله الجامعة الأهلية (القديمة)، حيث درس على يد المستشرقين الأجانب؛ من أساتذة تاريخ الأدب، والفلسفة، والتاريخ، وعلم الاجتماع، واتصل اتصالًا مباشرًا بالعقلية الأوروبية، وبالفكر الأوروبي، فتعلم من الأوروبيين “مناهج البحث الحديث“، وكيفية طرح الأسئلة وطرق الإجابة عنها.
ومن هنا تفتح عقل طه حسين الشاب على علومٍ وفلسفاتٍ لم يكن له بها سابق عهد أو اتصال، ومناهج في البحث والتفكير غير ما كان يلقَّن في دراسته التقليدية. فكان ذلك كله مصدر ما كان يسميه لويس عوض بـ “كل هذا القلق النفسي والصراع الفكري والاحتجاج الجدلي الذي نجد صوته جهيرًا في «الأيام»، وهكذا ترسبت في ذهن الشاب الناشئ الثائر أفكار “الثقافة” و”التجديد” و”المعاصرة” و”التحديث” وفكرة “الأدب للحياة”، وغير ذلك من الأفكار التي سيعمل على تطويرها فيما بعد.
وكان على الفتى القادم من مغاغة أن يستبدل بمشايخ أعمدة المسجد الأزهري “أفندية” مدرجات الجامعة الوليدة، وأن يسمع من أساتذتها الذين رسخت مكانتهم في المعارف والعلوم الحديثة، ومن المستشرقين الذين علَّموه الأدب العربي، بطريقةٍ لم يكن له بها عهد، مثلما فعل أستاذه المستشرق الإيطالي (كارلو ناللينو)؛ أستاذه في الأدب العربي، والإيطالي كذلك (ديفيد سانتلانا)، الذي أسمعه ما كان جديدًا عليه في الفلسفة الإسلامية، بوجه عام، والفقه الإسلامي بوجه خاص.
سأعرض نموذجًا واحدًا فقط لبعض “النقد” الذي وجهه طه حسين لما كان سائدًا آنذاك من طرق تعليم، ودعوته إلى اكتساب الطرق والمناهج الجديدة، ففي مقدمته لكتاب أستاذه المستشرق الإيطالي الكبير (كارلو ناللينو) عن تاريخ الأدب العربي، وبأسلوبه التحليلي، يقارن طه حسين بين طرائق التعليم التي كانت سائدة آنذاك في الأزهر، من قراءة عمياء، وتلقين آلي واجترار للقديم، وبين ما تلقاه في الجامعة على يد الأساتذة الأوروبيين، يقول:
«ويجب أن يتصور القراء من الشباب المعاصرين حياة أولئك الشيوخ الشباب من طلاب الأزهر في أول القرن، فإذا كان المساء جلسوا إلى أساتذتهم أولئك من الأوروبيين، فسمعوا منهم أحاديث لا عهد لهم بمثلها تُلقى عليهم باللغة العربية الفصحى مع شيء من التواء الألسنة بهذه اللغة، فتقع تلك الأحاديث من آذانهم موقع الغرابة، ومن قلوبهم مواقع الماء من ذي الغلة الصادي، فإذا خلوا إلى أنفسهم بعد ذلك وازنوا بين ما يسمعون وما يرون أول النهار، وما يسمعون وما يرون آخر النهار. وكانوا يسألون أنفسهم كيف أتيح لهؤلاء الأوروبيين ما أتيح لهم من العلم بأسرار اللغة العربية ودقائق آدابها، وكيف لم يُتح هذا النوع من العلم لشيوخهم أولئك الأجلاء»[3].
إن الذي لم يستطع أن يستوعبه المحافظون وقتها من أنصار القديم والانكفاء على الذات (وحتى الآن!) فكرة «المنهج»، أو لوازم «البحث العلمي» المعاصر. فكرة أن تُعيد تأمل وفحص الطريقة التي تفكِّر وتنظر بها للأمور والقضايا الكبرى، وتتأمل العالم المحيط بك من جوانبه المتعددة، أن تكون قادرًا على امتلاك “النظرة النقدية” اللازمة للمراجعة والفحص وطرح السؤال، ورغم بساطة الفكرة بل حتى بَدْهَيتها ما زالت تلك أزمتنا الكبرى حتى اللحظة!
وهكذا وجد العقلُ الحر للفتى القادم من مغاغة (بتعبير جابر الأثير) مراحَه الذي ساعده على الانطلاق والتحرر من قيود أزهريته، وظهر استعداده للتفوق والنبوغ، ففرغ من علوم الدرجة الجامعية الأولى، وبدا تأثر طه حسين الأول والمباشر بهذه الطرق الجديدة في درس الظواهر الأدبية، واعتماده فكرة «المنهج» الذي يُؤطِّر الظاهرة محل الدراسة، ويحدد قواعد وخطوات منطقية محددة تجيب عن أسئلة مطروحة، في مرحلة الدكتوراه التي أنجز فيها أطروحته عن أبي العلاء المعرِّي الشاعر الفيلسوف الذي يعد ظاهرة استثنائية في تاريخ الأدب العربي، سواء بفكره الذي لم تقيده القيود، أو بمعرفته اللغوية التي لا تحدها حدود.
وكان واضحًا تمامًا أن عوامل عديدة قد قاربت ما بين “الشاعر” الذي عاش ما بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، والفتى الأعمى الذي أنهى أطروحته عن أبي العلاء المعري سنة 1914، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وقد ناقشها على مرأى ومسمع من الأساتذة والجمهور في الخامس من مايو 1914، ونال بها مؤلفها شهادة العَالمِية «الدكتوراه»، ولقب «دكتور في الآداب»..
ونشر طه حسين أطروحته بعنوان «ذكرى أبي العلاء»[4]، بعد أن قدَّم لها بمقدمة أعدها بمثابة “وثيقة” تاريخية ومنهجية ونقدية في فترة باكرة من نشأة الجامعة المصرية، وقد كان طه حسين واعيا بذلك تمامًا للدرجة التي يصرح بإعلان ذلك بوضوح وجلاء:
«خصلة أخرى حببت إليَّ نشر هذا الكتاب، وهي أنه يؤرخ حياة الجامعة المصرية، فهو أول كتاب قدِّم إليها، وهو أول كتاب امتحن بين يدي الجمهور، وهو أول كتاب نال صاحبه إجازة علمية منها، ولست أبحث عما يكون لهذه الأولية من القيمة، وإنما أكتفي بهذه الأولية نفسها مغريًا بنشر الكتاب وتخليده وإذاعته بين الناس، ولست أتخذ لهذا الكتاب من أوليته فخرًا، وإنما أتخذ له منها معذرة إن كان فيه بعض النقص؛ لأنه فاتحة سيتلوها إن شاء الله من غيرها ما هو أكمل منها وأوفى»[5].
وفي الكتاب نقرأ صفحات ناصعة جريئة من الفكر الحر المسئول؛ كانت أولى بوادر “العقلانية النقدية” في درس الظواهر الأدبية في الثقافة العربية المعاصرة، يقول مؤلفه في التمهيد:
«ليس الغرض من هذا الكتاب أن نصف حياة أبي العلاء وحده، وإنما نُريد أن ندرس حياة النفس الإسلامية في عصره، فلم يكن لحكيم المعرة أن ينفرِدَ بإظهار آثاره المادية أو المعنوية، وإنَّما الرَّجل وما له من آثار وأطوار نتيجة لازمة وثمرة ناضجة لطائفةٍ من العلل، اشتركت في تأليف مزاجه وتصوير نفسه، من غير أن يكون له عليها سيطرةٌ أو سلطانٌ»[6].
وهو يرسم في هذا “التمهيد” حدود النظرية الفكرية التي يتبعها في دراسته ونقده، ويبحث في طبيعة هذه “العلل” التي أشار إليها، فيقول:
«من هذه العلل: الماديُّ والمعنوي، ومنها ما ليس للإنسان به صلةٌ، وما بينه وبين الإنسان اتصالٌ؛ فاعتدال الجوِّ وصفاؤه، ورقة الماء وعذوبته، وخصب الأرض وجمال الرُّبى، ونقاء الشمس وبهاؤه، كل هذه علل مادية تشترك مع غيرها في تكوين الرجل وتنشئ نفسه، بل وفي إلهامه ما يعن له من الخواطر والآراء، وكذلك ظلم الحكومة وجورها، وجهل الأمة وجمودها، وشدة الآداب الموروثة وخشونتها، كل هذه أو نقائضها تعمل في تكوين الإنسان عمل تلك العلل السابقة، والخطأ كل الخطأ أن ننظر إلى الإنسان نظرنا إلى الشيء المستقل عمَّا قبله وما بعده: ذلك الذي لا يتصل بشيءٍ مما حوله، ولا يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به، ذلك خطأ؛ لأنَّ الكائن المستقل هذا الاستقلال لا عهد له بهذا العالم، إنَّما يأتلف هذا العالم من أشياء يتصل بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض”[7].
ومن هنا “لم يكن بين أحكام العقل أصدق من القضية القائلة: بأنَّ المُصادفة محال، وأن ليس في هذا العالم شيءٌ إلا وهو نتيجةٌ من جهة، وعلَّةٌ من جهة أخرى: نتيجة لعلَّةٍ سبقته، ومُقدِّمة لأثرٍ يتلوه. ولولا ذلك لما اتصلت أجزاء العالم، ولما كان بين قديمها وحديثها سبب، وَلَمَا شملتها أحكامٌ عامة، وَلَمَا كان بينها من التشابه والتقارب قليلٌ ولا كثير، وليس للمؤرخ المُجِيد عملٌ إلا البحث عن هذه العلل، والكشف عمَّا بينها من صلة أو نسبة، فعمله في الحقيقة وصفي لا وضعي؛ أي إنَّه يدل على شيء قد كان، من غير أن يخترع شيئًا لم يكن، وكذلك شأن المُشتغلين بالعلوم النَّظرية والتَّجريبية، لهم فضيلة الاستكشاف، فأمَّا فضيلة الإيجاد فليس إليهم منها شيء، فلم يكن من الرياضيين من أوجد المثلث، ولا من اخترع نسبةً بين عددين؛ ولم يكن من أصحاب الطبيعة والكيمياء من اخترع قانون الثقل، أو ابتدع عنصرًا من العناصر، إنَّما حقائق العلم في أنفسها قديمة ثابتة واجبة، فأمَّا الحادث العارض، فعلم الإنسان بها واهتداؤه إليها، سواءٌ في ذلك حقائق اللغة والأدب، وأصول الفلسفة والحكمة»[8].
ويخلص طه حسين -من ذلك كله- إلى أنه يتخذ مذهبًا طبيعيًّا ونفسيًّا في التحليل والدراسة، ومن ثم، فإن:
«حقائق العلم في نفسها ثابتة واجبة، فأما الحادث العارض فعلم الإنسان بها، واهتداؤه إليها سواء في ذلك حقائق اللغة والأدب، وأصول الفلسفة والحكمة. وإذا صح هذا كله فأبو العلاء ثمرة من ثمرات عصره، قد عمل على إنضاجها الزمان والمكان، والحال السياسية والاجتماعية والحال الاقتصادية، ولسنا نحتاج إلى أن نذكر الدين، فإنه أظهر أثرًا من أن نشير إليه، ولو أن الدليل المنطقي لم ينتهِ بنا إلى هذه النتيجة لكانت حال أبي العلاء نفسه منتهية بنا إليها، فإن الرجل لم يترك طائفة من الطوائف في عصره إلا أعطاها وأخذ منها، كما سنرى في هذا الكتاب، فقد هاجم اليهود والنصارى، وناظر البوذيين والمجوس، واعترض على المسلمين، وحاور الفلاسفة والمتكلمين، وذمَّ الصوفية، ونعى على الباطنية، وقدح في الأمراء والملوك، وشنع على الفقهاء وأصحاب النسك، ولم يعف التجار والصناع من العذل واللوم، ولم يخل الأعراب وأهل البادية من التفنيد والتثريب، وهو في كل ذلك يرضى قليلًا ويسخط كثيرًا، ويطير من الملل والضيق، ومن السأم وحرج الصدر ما يمثل الحياة العامة في أيامه، بشعة شديدة الظلام»[9].
والمؤرخ الذي لا يؤمن بالمذاهب الحديثة، ولا يصطنع في البحث طرائقه الطريفة، ولا يرضى أن يعترف بما بين أجزاء العالم من الاتصال المحتوم، ولا أن يُسلم بأنَّ الشيء الواحد على صغره وضآلته «إنَّما هو الصورة لما أوجده من العلل، ولا يطمئن إلى أنَّ الحركة التَّاريخية جبريةٌ ليس للاختيار فيها مكان، المؤرخ القديم الذي يرفض هذا كله ولا يميل إليه، ملزمٌ مع ذلك أنْ يبحث عن حياة الأمة الإسلامية، إذا بحث عن حياة أبي العلاء؛ فإنَّه إنْ لم يفعل ذلك، استحال عليه أن يفهم الرجل، أو يهتدي من أمره إلى شيء»[10].
وعلى ذلك، فإن «الحادثة التاريخية والقصيدة الشعرية، والخطبة يجيدها الخطيب، والرسالة ينمقها الكاتب الأديب، كل أولئك نسيج من العلل الاجتماعية والكونية، يخضع للبحث والتحليل، خضوع المادة لعمل الكمياء»[11].
هذه هي كلمات العميد -بنصها وحرفها- التي سجلها سنة 1914، وهي مع منهجه النقدي، وبصيرته الاجتماعية، ما زالت رائدة، وما زالت تقدمية، وما زالت مناقشته لفكر أبي العلاء الفلسفي والديني مناقشة حُرَّة جريئة، إنه وهو المستطيع بغيره -مثل أبي العلاء- كان داعية رافعًا للعقل وللفكر الحُر:
يرتجي الناس أن يقوم إمام ناطـــق فــي الكتــيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيرًا في صبحه والمساء
(وللحديث بقية)
المراجع:
[1]– كمال حامد مغيث: “طه حسين ـ مصادره الفكرية” (وموضوعات أخرى)، مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان، الطبعة الأولى، القاهرة، 1997، ص 15، 16.
[2]– منذ العام 1859 كان الأستاذ الإمام محمد عبده يروح ويغدو في صحن الأزهر، وفي دار الإفتاء، داعياً لتجديد الأزهر بتطوير علومه ومناهجه، وبتجديد شباب الإسلام بتصفيته من جمود المتعصبين، وبتأكيد “عقلانيته” وتمشيه مع العلوم العصرية، وقد دخل في ذلك معارك مريرة مع أئمة علماء الدين المحافظين في عصره، ومع الخديو عباس حلمي الثاني الذي كان يستخدم أئمة علماء الدين المحافظين لتوطيد حكمه الأوتوقراطي، ولنهب الأوقاف الخيرية والأهلية، ولتعميق تبعية مصر لتركيا باسم حماية الإسلام والخلافة العثمانية، وباسم مقاومة الاحتلال البريطاني. راجع لكاتب هذه السطور فصل الإمام المصلح المجدد محمد عبده في كتاب «سيرة الضمير المصري ـ علامات في تاريخ الفكر المصري الحديث»؛ دار الرواق للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، القاهرة، 2022.
[3]– كارلو ألفونسو ناللينو: تاريخ الآداب العربية، تقديم طه حسين، دار المعارف، القاهرة، 1955، ص 13.
[4]– نشر للمرة الأولى عام 1915، ثم أعاد طه حسين نشره بعد أن أضاف إلى العنوان كلمة “تجديد” فأصبح الكتاب «تجديد ذكرى أبي العلاء»، وطُبع عشرات الطبعات، وما زال يطبع، ويجد قارئًا في كل أرجاء الوطن العربي، وعنه توالت الطبعات حتى طبعته الأخيرة التي صدرت عن دار المعارف بالقاهرة في 2019.
[5]– طه حسين: تجديد ذكرى أبي العلاء، دار المعارف، الطبعة العاشرة، القاهرة، 2019، ص 12.
[6]– المرجع نفسه، ص 15.
[7]– المرجع نفسه، ص 15.
[8]– المرجع نفسه، ص 15، 16.
[9]– المرجع نفسه، ص 16.
[10]– المرجع نفسه، ص 16، 17.
[11]– المرجع نفسه، ص 19.