51 عامًا والسؤال ما زال مطروحًا: لماذا طه حسين الآن؟

تكوين

(1)

مثلت حياة طه حسين (1889-1973) سعيًا دؤوبًا ومتجدِّدًا لتجاوز التخلف، وتأصيل قيم التقدم على أساسٍ من الانتماء الثقافي والتفاعل الحضاري. كانت حياته منذ مولده وطفولته المبكرة زاخرة بالتحديات، وكان التغلب عليها نموذجًا ومثالًا لكل الأجيال. وكانت حياته بطولها وعرضها (واستيعابها لمجتمعها في ميزان المجتمعات الإنسانية داخل ثالوث: ماضٍ- حاضر- مستقبل)، ماثلة في فضاء خياله في كل ما يكتب إملاءً، فلقد حلَّ خياله محل البصر، فصار فقدان البصر «بصيرة» نافذة ومستشرفة[1].

وأزعم أنه مع انتباه الوعي الذاتي لكاتب هذه السطور لقيمة (وبقيمة) طه حسين وأدواره المتعددة، أدركتُ أن قيمة طه حسين الكبرى، في ظني، أنه استطاع في لحظةٍ مبكرة، في السنوات الأولى من القرن العشرين، إدراك لُبِّ الأزمة التي يعانيها مجتمعنا (وما زال حتى اللحظة)؛ مجتمع يحيا مشكلات عالم قديم في زمن حديث.

أدرك طه حسين أننا ندق على أبواب العالم الحديث، ظاهريًّا، ونحن محملون حتى النخاع بقضايا وهموم عالم مضى وانتهى بلا رجعة.

ومن هنا، اتخذ الاحتفال السنوي بذكرى رحيل عميد الأدب العربي، في الثامن والعشرين من أكتوبر من كل عام، مناسبة حافزة وضرورية على إعادة تأمل بل “استعادة” ما يلزم من سيرة طه حسين الإنسانية والفكرية والثقافية، والبحث في جانبٍ أو أكثر من جوانب إنجازاته الضخمة، ومسيرة حياته الزاخرة.

وعلى مدى يزيد على أربعة عشر عامًا، كان من المدهش -لكاتب هذه السطور وفي ظنه- أنه مع كل مناسبة تتعلق بطه حسين (ذكرى ميلاده أو وفاته، وبينهما أقل من شهرٍ واحد)، ويتجدد فيها الحديث عنه، يجد الباحث الجاد والمنقب الدؤوب والمقلِّب في أوراقه وأعماله مادة غزيرة جدًّا تستأهل إعادة النظر في كل ما تركه من أفكار ومقولات ورؤى، بل وتكتشف زوايا جديدة ومدهشة لقراءة جانب أو أكثر من إرثه الزاخر، تأليفًا وترجمة، تحقيقًا وتقديمًا، مراجعة وتعليقًا، وهجومًا كاسحًا من خصومه، وآراء قوية ومتماسكة تدحض هذه الاتهامات، وتأتي عليها من أساسها.. إلخ.

إن طه حسين ما زال حيًّا، وحاضرًا، حتى وإن ثارت العواصف وزمجرت الأعاصير، وعلا صراخ المتطرفين والكارهين لكل ما يمثله طه حسين من قيم “الحرية” و”العقلانية”، و”التفكير العلمي”، والدفاع عن العلم، والحداثة، والبحث عن المستقبل، إلخ.

وفي خضم ذلك كله؛ كان ثمة أجيال ناشئة، بازغة، واعدة، تتساءل: ومن يكون طه حسين؟ وما أهميته لنا؟ ولماذا يجب علينا أن نقرأه ونتعرف عليه؟

وذلك في مقابل أجيالٍ أخرى، للأسف، نشأت -وتنشأ- في سجون الظلامية والتعصب والتطرف، لا تسأل ولا تبحث عن إجابة؛ فهي ترث الحقيقةَ المطلقة أبًا عن جد! وفي هذه الدائرة لن تجد طرحًا أو سؤالًا عن طه حسين بل وصمًا واتهامًا بالكفر والزندقة والخروج عن الإسلام[2].

وبين هذا وذاك، ورغم سيولة المعلومات والانفجار الرهيب في وسائل التواصل والوسائط المعلوماتية؛ يبقى الرهان على غرس قيمة المعرفة، والبحث عنها، والقدرة على إنتاجها، فضلًا على امتلاكها، وقد كان طه حسين الرائد الذي لم يكذب أهله، أبدًا، فكان نبي المعرفة المبشر بها، والداعي إليها في زمننا هذا!

(2)

ثورة 1919 طه حسين

وإذا كانت ثورة 1919 -بمعنى من المعاني- ملهمةً لأجيالٍ من المصريين، صنعوا بدافع منها وبوحي من طاقتها ما عُرف بقوة مصر الناعمة التي أسهم طه حسين إسهامًا كبيرًا ووافرًا في تشكيلها، وشهدت مصر خلال العقود الثلاثة التي تلت 1919 ما لم تشهده قبل ذلك في تاريخها كله؛ أدبًا وفكرًا وثقافةً ورسمًا ونحتًا وتصويرًا وموسيقى وعِلْمًا ومؤسسات… وإلخ. فإنني أظن أن ما جرى في 2011 وبعدها، وتلاها، سيكون له مردوده الفكري والثقافي على المدى البعيد، مهما كان يبدو بعيدًا!

لكن من أهم آثاره القريبة والمباشرة هي الاهتزاز القوي المزلزل الذي حرك الجامد والمتجمد والمتكلس على مدى عقود طويلة، انشرخت القشرة الصلبة التي التفت حول الأذهان والعقول بفعل تعليم رديء ومناخ مُغلق عطن، وأُريد لهم أن يكونوا بين مطرقة الرضا بما هو كائن أو سندان الاستسلام لما هو غائب وخرافي ووهمي بتوظيفٍ مشين للدين (أو للعاطفة الدينية أو للتدين)!

ولم يكن أمامهم سوى أن يحاولوا الخروج من هذه البوتقة السامة، وكان لهم ما أرادوا وإن تأخر، فانفتحت فُرْجة يستطيعون من خلالها أن يشموا الهواء (وحتى إن لم يكن نقيا تماما)، وأن يطرحوا الأسئلة لا أن يتلقنوا الإجابات المحفوظة سلفا، وأن يبحثوا بحرية (أو هذا ما نتمناه) عن أسباب تخلف حاضرهم بالرجوع والتقصي الحقيقي لطبقات ماضيهم لفهمه وتحليله، ومن ثَم البحث عن المستقبل واستشرافه.

وساعدهم على ذلك حالة الزخم غير المسبوقة التي فرضت نفسها فرضًا على واقعهم الاجتماعي والثقافي مع ظهور الفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة الاتصالات، وسيولة تداول المعلومات..

كل ذلك أدى في النهاية إلى انتشار ثقافة “المراجعة” و”طرح السؤال”، ونماء البحث والتنقيب، وظهور أدوات الاستفهام بكثافة: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ وإلى أين؟

في ظل هذا المناخ الموَّار، تبرز على الفور قيمة بل أهمية بل ضرورة “البحث عن طه حسين”، وتجديد ذكراه باعتباره كان أحد زعامات الثورة الفكرية والعقلية على السائد والمألوف والتقليدي، ودفع في سبيل ذلك ثمنًا غاليًا.

كان نجيب محفوظ يقول عن طه حسين “اعتبرنا جميعًا في شبابنا أن ثورة طه حسين ضد المناهج القديمة هي انتفاضة عقلية موازية للثورة الحقيقية التي فجَّرها سعد زغلول على أرض الواقع”. هذا على مستوى منهْج التفكير العقلي، والثورة المنهجية التي بشَّر بها.

وكان طه حسين يؤمن بقيمة العلم والمعرفة، وكان يرى أن معاهد العلم ليست مدارس فحسب، ولكنهــا -قبل كل شيء، وبعد كل شيء- بيئات للثقافة بأوسع معانيها: “إن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفًا بل يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرًا، بل يعنيه أن يكون منمِّيًا للحضارة.

فإذا قصَّرت الجامعة في تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقةً أن تكون جامعةً، وإنما هي مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها. وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذي تقوم فيه والإنسانية التي تعملُ لها، وإنما هي مصنع من المصانع يُعِدُّ للإنسانية طائفةً من العلماء ومن رجال العلم، محدودةٌ آمالُهم، محدودةٌ قدراتُهم على الخير والإصلاح”.

أما على مستوى إصلاح التعليم والدعوة إلى نشره وذيوعه لكل أبناء مصر لا فارق بين غني وفقير، وابن أعيان وابن فقراء، فقد أسَّس طه حسين لثورةٍ أخرى نبيلة وعظيمة؛ آتت أكلها لحين، ثم ولأسباب عديدة وعوامل يطول شرحها توقفت أو أجهضت ولما تكتمل للأسف الشديد!

(3)

لقد استطاع طه حسين أن يمسك بمفاصل الثقافة العربية، منذ العصر الجاهلي وحتى القرن الثاني عشر الهجري، في أعلامها البارزين وكتبها ونصوصها الكبرى؛ من «الشعر الجاهلي» وأدبه إلى «حديث الشعر والنثر»، إلى «حديث الأربعاء»، وصولًا إلى «ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية»،

فضلًا على تناولاته التحليلية المعتبرة لكل من “المتنبي” و”أبي العلاء” و”ابن المقفع” و”الجاحظ” و”التوحيدي”، إنه بحق، وكما وصفه المرحوم عبد المنعم تليمة، قدم للثقافة المصرية والعربية ما يمكن تسميته بـ«بيان شامل للنهضة والتحديث»، ربما كان الأهم والأكثر إحداثًا للجدل والنقاش في مصر والعالم العربي في القرن العشرين[3].

وبقدر ما كان مشروع طه حسين الثقافي، يقوم في جوهره على الاحتفاء بالعقل والعلم وقِيم التنوير والحداثة والنهضة، بقدر ما كان يمثل في الوقت ذاته احتفاء بالاختلاف والتنوع والتعددية والتسامح، أو بالجملة ما يمكن أن نعتبره في خلاصة مركزة “النظرة الإنسانية الكلية الشاملة“.

تقريبًا، كل الشخصيات الإبداعية والثقافية الكبرى، في تراثنا الفكري والأدبي القديم والحديث، كتب عنها طه حسين كتابةً مرجعية تأسيسية، دراسة أو أكثر، ما زالت تحتفظ بقيمتها وأهميتها حتى اللحظة (مع الاعتراف بأن جهودًا أخرى قد تجاوزت بعض ما فيها من نتائج أو آراء).

في الشعر، كتب عن شعراء الجاهلية، وشعراء الغزل العذري، وشعراء المجون والهزل. كتب عن المتنبي، وأبي تمام، والبحتري، وأبي العلاء، وراجع كتبه الأصيلة «مع المتنبي»، و«تجديد ذكرى أبي العلاء»، و«مع أبي العلاء في سجنه»، و«تعريف القدماء بأبي العلاء»، و«صوت أبي العلاء».

درس النثر العربي، وأشكال الكتابة الفنية، وتوقف عند أعلامها، فكتب عن ابن المقفع، والجاحظ، والتوحيدي، وابن العميد، وابن خلدون.. وقارن بين أبي العلاء وكافكا، وبين ابن حزم الفقيه الظاهري الأصولي وبين ستندال الفرنسي، قارن بين كتابيهما «طوق الحمامة» و«الأحمر والأسود»، وعرَّف بأعلام الأدب الأمريكي، والفرنسي، والألماني، حتى وقته.

إقرأ أيضاً: طه حسين: سمات العقلانية المتوسطية

كتب عن ابن مضاء القرطبي، وكتابه «الرد على النحاة»، وقدَّم رؤية تجديدية [جريئة] لعلم النحو العربي، وكتب مقدمة رائعة لكتاب زميله إبراهيم مصطفى «إحياء النحو»، صاحب أول محاولة لتيسير النحو العربي وطرق تدريسه، وقدم أيضًا في هذه الدائرة واحدة من دراساته العميقة المثيرة للجدل والنقاش عن «استخدامات الضمير في القرآن الكريم»، وكتب دراسته التأسيسية الملهمة (تاريخ البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر) التي تعد بحق أوفى تلخيص وتكثيف لمسيرة البلاغة العربية، والنقد العربي القديم.. (ترجمها إلى العربية الدكتور عبد الحميد العبادي بإشراف طه حسين)

وغطَّى طه حسين، ولأول مرة في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، دراسة الأدب العربي في عصوره المتعاقبة، منذ الجاهلية، وأبرز أعلامه شعرًا ونثرًا في القرون الخمسة الأولى للهجرة، وراجع مصداق ما أقول في كتبه ذائعة الصيت؛ «في الأدب الجاهلي»، و«من حديث الشعر والنثر»، و«حديث الأربعاء» (الجزءان الأول والثاني)، و«من أدبنا القديم».. إلخ.

وعلى مستوى “تأصيل” الدارسة الأدبية والعلمية الحديثة، وإنشاء المؤسسات العلمية والثقافية، وأقسام اللغات وآدابها، يعد طه حسين “الأب الشرعي” لقسم اللغة العربية وآدابها، وقسم اللغات الشرقية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وهو مؤسس الدراسات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية)، ومؤسس الدراسات الشرقية (الفارسية والتركية)، واللغات السامية وآدابها..

وهو الذي أسَّس جامعة الإسكندرية في عام 1943، وكان أول مدير لها (كانت تُعرف بجامعة فاروق الأول آنذاك)، وأسَّس كذلك جامعتي عين شمس وأسيوط. وهو الذي أنشأ المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، وكان افتتاحه في نوفمبر من العام 1950 حدثًا تاريخيا بكل معنى الكلمة، كما أسَّس كرسي للأدب العربي في أثينا، وأسَّس المعهد المصري لتعليم اللغة العربية في المغرب، وخاض نضالًا عظيمًا لإنشاء مثيله في الجزائر، وتصدت له فرنسا القوة الاستعمارية الباطشة في ذلك الوقت[4].

أعمال طه حسين

ولن أُحدِّثك عن أعماله الرائدة في الرواية، والقصة، والسيرة الذاتية، والنصوص الأدبية الخالصة؛ فهي أشهر من أن يُشار إليها، ولكنها لا تمثل في نظري، على قيمتها وأهميتها وجمالها، سوى شريحة محدودة للغاية من أثر طه حسين الأكبر والأوسع دائرة في الفكر العربي، والتربية والتعليم، والاجتماع، والنقد الأدبي، والنقد الفكري بمعناه الشامل، والدراسات التاريخية التحليلية، والترجمة، وتحقيق التراث وتيسيره وتقريبه، والتنمية الثقافية واللغوية الشاملة، ونظراته التجديدية في كل المجالات السابقة. فضلًا على أجيال من التلاميذ الذين صاروا بدورهم أساتذة وأعلامًا وأسماء كبيرة في الثقافة المصرية والعربية.

(4)

التحق بالجامعة المصرية الحديثة وهو شاب، فبعث سيرة الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، وأوفد إلى فرنسا ليعرف معنى العلم الإنساني، ودعا لفصل العواطف الدينية عن علوم الأدب والاجتماع والإنسانيات عمومًا، وهو مدرس بكلية الآداب، وتمسك باستقلال الجامعة وهو “عميد”، وخاض المعارك دفاعًا عنها، وهاجم الاستبداد والظلم الاجتماعي وهو شيخ في كتابه الرائع «المعذبون في الأرض»، فمنعت السلطات آنذاك طباعته في مصر..

وعندما دعاه الزعيم الوفدي الكبير مصطفى النحاس باشا لتولي وزارة «المعارف» في آخر وزارة وفدية (1950-1952)، اشترط أن تكون أول قراراته «مجانية التعليم الثانوي»، وبينما يقسم اليمين باحترام الدستور، يقول له الملك: أهلًا طه حسين رجل المتاعب، فيجيبه طه حسين: المتاعب يا مولاي لا تطلب لذاتها، ولكن يجيئها الإنسان في طريقه إلى الحق! بحسب ما يروي عنه أستاذنا الدكتور كمال مغيث[5].

ولم تكن هذه الرغبة في إقرار المجانية مجرد رغبة عابرة أو تزيينا لسياسات، بل إنها تعود في العمق البعيد لتكوين طه حسين وتجربته الذاتية منذ صغره، ومعركته الشرسة التي خاضها ضد الفقر والجهل والتخلف..

كل هذا مثَّل عاملًا من العوامل التي دعمت إيمانه بتكافؤ الفرص ومجانية التعليم، فهو يتحدث عن تجربته الذاتية تلك في عباراتٍ مؤثرة، غاية التأثر، فيقول عن نفسه: “ويفكر مرة أخرى في الفقر والغنى، وفي الذين لا يعرفون كيف ينفقون ما يتاح لهم من المال،‏ فيكدسونه أكداسًا أو ينثرونه تثرًا فيما لا يجدي عليهم ولا على غيرهم شيئًا، والذين لا يجدون ما ينفقون ليقموا أودهم ويستروا جسمهم ويستروا عورة العمي حيت تفرض عليهم آفته وفي الذين تسمو همتهم إلى أكثر من إقامة الأود وستر الجسم وتغطية العينين المظلمتين،، إلى الاغتراب في طلب العلم، ثم لا يجدون أيسر ما يحتاجون إليه في ذلك، يبخل عليهم القادرون: ويبخل عليهم الأقربون ويهم بالإحسان إليهم بعض الأخيار فيردون عن ذلك ردًا”[6].

ومن هنا كانت نشأته وجهاده وما صادقه من عقبات تغلب عليها ذات أثر واضح في تشكيل آرائه عن التعليم ومجانيته، وإتاحته للجميع حتى أصبح من أشد المدافعين عن حق المواطن المصري (والعربي) في أن يحصل على غايته من التعليم دون أي عائق مادي، فهو يدعو إلى فتح أبواب التعليم على مصاريعها لكل راغب فيه، وبدون أي عائق، مهما كان هذا العائق، ومن هنا كانت نظريته في أن التعليم كالماء والهواء حق لكل إنسان وأن من واجب الدولة أن توفره لجميع أبناء الأمة[7].

(5)

وأخيرًا… فقد كان -رحمه الله- يؤمن بأن الكتابة هي العمل، وأن “كل كاتب وكل فنان لا يستطيع التقدم إلا بالإخلاص، شأنه شأن بطل دانتي يحمل المصباح معلقًا إلى ظهره ليضيء طريق الذين يتبعونه”.. إنه كما يصفه بصِدْق الناقد والأكاديمي القدير الدكتور حسين حمودة، فيما كتبه عنه يقول:

“في كل ما كتب، وما أدَّى، وما قام به من أدوار متعددة، دافع طه حسين عن قيم واحدة. نقرأ كتاباته المتنوعة، التي خاضت مجالات شتى، من النقد الأدبي إلى التاريخ، ومن السرديات والمرويات إلى المقالات الصحفية، ومن الشعر إلى الترجمة، ومن السياسة إلى الاجتماع، فنجد القيم نفسها ماثلة بوضوح. ونسمع أحاديثه، ونسمع عن أحاديثه، فتطل علينا القيم نفسها قائمة بجلاء، ونتأمل مواقفه في المناصب التي شغلها، والمهام التي اضطلع بها، فنشهد القيم نفسها حاضرة بقوة، وكأنَّ طه حسين، النهر الهادر المتدفق في أرض لم تكن ممهدة، كان وظلَّ هو نفسه دائمًا، وكأن مياه نهره قد وصلت، هي ذاتها، بصفائها وعرامتها نفسيهما، إلى كل روافد هذا النهر وإلى كل جداوله”.

 

المصادر والمراجع:

[1]– «طه حسين (دراسة ومختارات ووثائق)»، احتفال كلية الآداب بذكرى طه حسين الـ 25، إعداد د. محمود فهمي حجازي، جامعة القاهرة، 1998، ص 5.

[2]– راجع ما كان يسمى برسائل الأصالة والمعاصرة؛ التي كان يصدرها منظر جماعات التيار الديني أنور الجندي، واحدة منها كانت بعنوان «أكذوبتان في تاريخ الأدب العربي»، والمقصود بالأكذوبتين هنا أحمد لطفي السيد، وطه حسين!! وبالمناسبة فإن هذه الرسالة التي تطفح بالأكاذيب والتأويلات المتعسفة المنحرفة لأفكار الرائدين، هي أحد المصادر المعتمدة في أوساط التيار الديني عن طه حسين وأحمد لطفي السيد!!

[3]– «طه حسين مائة عام من النهوض العربي (في الذكرى المئوية لمولده)»، إشراف عبد المنعم تليمة، دار الفكر للدراسات، القاهرة، 1989، ص 15-17.

[4]– كتبتُ كثيرًا، وفي مناسبات عدة خلال الفترة (2015-2022) عن السياق التاريخي والثقافي و”الأكاديمي” بالأخص الذي مارس فيه طه حسين هذه الأدوار العظيمة (خاصة خلال الفترة 1944-1954)، وقد صدر كتاب مهم يتقصى تفصيلًا هذه الأدوار التأسيسية بعنوان «النهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر» للباحث بجامعة كارلتن الكندية حسام أحمد، وترجمه إلى العربية موسى الحالول، وصدر عن مشروع كلمة للترجمة، التابع لمركز أبوظبي للغة العربية، 2023.

[5]– كمال حامد مغيث: “طه حسين ـ مصادره الفكرية” (وموضوعات أخرى)، مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان، الطبعة الأولى، القاهرة، 1997، ص 140، 141، وما بعدها.

[6]– طه حسين، الأيام، ج3، ص 100، نقلا عن المرجع السابق، ص 141.

[7]– كمال مغيث، المرجع نفسه، ص 142.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete