أسئلة حول الفكر العربي المعاصر: الجزء الأول…سؤال التسمية

تقديم:

عرف الفكر العربي منذ بداية القرن الواحد والعشرين نوعا من الفتور والضمور، خاصة بعد أحداث سبتمبر 2010 بالولايات المتحدة وما تبع ذلك من حركات احتجاجية عنيفة في الكثير من الدول العربية، من المؤكد أن هناك العديد من الأسباب القابعة خلف هذا الوضع غير الصحي، لعل من بينها تغير المعطيات المؤطرة للراهن العربي خاصة والعالمي بصورة عامة، كما أن هذه الفترة عرفت وفاة جل الأقطاب الفاعلة في المشهد الفكري العربي، نذكر منهم: هشام شرابي، الجابري، أركون، نصر حامد أبو زيد، مطاع الصفدي، طيب تيزيني، حسن حنفي،..الخ، وبوفاة هؤلاء الذين جرت العادة على تسميتهم بأصحاب المشاريع –مشاريع تتعلق في مجملها بإشكالية التراث والحداثة- يمكن إعلان نهاية نمط معين من التفكير في السياق العربي، دون أن يظهر نمط جديد يقوم مقام النمط السابق، حتى أن فكرة “المشروع” لم تعد تستهوي أحدا سواء من النقاد أو كبار المفكرين العرب الأحياء أمثال: طه عبد الرحمن أو العروي أو علي حرب أو غيرهم، مثلما كان عليه الأمر في الربع الأخير من القرن الماضي، من جهة أخرى هناك معطى لا يقل أهمية عما سبق في تفسير حالة الضعف والفتور التي تطبع الفكر العربي الراهن، يتعلق الأمر بالتراجع الكبير للكتابة والمقروئية وصحافة الرأي لفائدة القنوات الفضائية ووسائط التواصل في ظل التكنولوجيات الحديثة، فمن الواضح جدا أن ثقافة الصورة أصبحت أكثر تأثيرا وأسهل انتشارا من الكتاب والجريدة.

إشكاليات الفكر العربي المعاصر

والوضع الحالي يستلزم حركة نقدية موضوعية، تدرس النتاج الثقافي العربي وتمحصه، من خلال طرح العديد من الإشكاليات التي من شأنها تعديل الأمور على النحو الذي يسهم في إعادة بعث الفكر العربي بما يخدم مستقبل المجتمعات العربية، من خلال فتح النقاش والحوار الحر بين مختلف الأطراف دون إقصاء أو قمع أو تسلط لرأي معين على آخر، فالمراجعة النقدية لمسيرة الفكر العربي الحديث والمعاصر تبدو ضرورية وملحة جدا، خصوصا وأن جل الإشكاليات التي طرحت منذ بدايات القرن التاسع عشر لا تزال مطروحة بصورة أو بأخرى في الراهن العربي؛ إشكاليات من قبيل النهضة والإصلاح والحرية والدولة والدين والسلطة والتنمية والتقدم..الخ، والمتأمل في تاريخ الفكر العربي المعاصر لا يجد صعوبة في أن يستنتج من هذا التاريخ أنه بعد قرن ونصف من ممارسة “النهضة” الفكرية ومن تداول إشكاليات فكرية ذات صلة بشروط تحقيق النهضة المجتمعية، ما يزال هذا الفكر دون الدرجة التي يحقق فيها التقدم الحقيقي في حل أي من الإشكاليات النهضوية الموروثة، الأمر الذي نشأ عنه استمرار الزمن المعرفي النهضوي في لحظتنا الثقافية والفكرية الراهنة،  كأن الفكر العربي الحديث والمعاصر كان يدور حول نفسه معيدا إنتاج الإشكاليات بدل حلها، بل إن طريقة معالجة تلك الإشكاليات عرفت تراجعا كبيرا من حيث الجدية والموضوعية، حتى انتهى الوضع كما وصفه المفكر محمد الحداد إلى إنتاج ثنائية “التطرف أو اللامبالاة”[1]، فقطاع واسح من الجماهير العربية تجده غير مبال بهذه الإشكاليات، ولا بما يقال حولها كأنها لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد، بينما ينحو قطاع آخر إلى التطرف والدوغمائية والتعصب للمواقف التي يتبناها تجاه تلك القضايا، فقد انقسمنا على أنفسنا كما يقول أحد النقاد إلى “قابلين (الأبيض)، رافضين (الأسود)، مع اختلافنا على معايير الأبيض والأسود”[2].

إن المراجعة النقدية للفكر العربي الحديث والمعاصر قد تكون أكثر أهمية وبالتالي أكثر إفادة من خلال فتح النقاش لمعرفة العوامل الداخلية والخارجية التي جعلت هذا الفكر يتدحرج لمرحلة الفتور وعدم القدرة على التجدد والاستجابة لما يتطلبه الوضح الحالي للمجتمعات العربية، وهذه المراجعة تستلهم من الدرس الإبستيمولوجي استراتيجيته النقدية المتمثلة في مساءلة البدايات والمرتكزات، ثم المناهج والآليات وصولا للنهايات والمآلات.

النهضة العربية القرن التاسع عشر

أولا: فكر أم فلسفة؟

جرت العادة على تسمية المنتوج الثقافي العربي منذ ما سمي بصدمة الحداثة وبدايات النهضة العربية مع مطلع القرن التاسع عشر بـ”الفكر العربي”، بدل “الفلسفة العربية”، ولا زال هذا الوصف مستمرا إلا فيما ندر، ومن ثم نطرح سؤالا يبدو بسيطا في شكله وقد لا يبدو للبعض ذا أهمية كبيرة، وهو: لمادا فكر وليس فلسفة ؟ بمعنى لماذا لا نصف هذا المنتوج بالفلسفة العربية الحديثة أو المعاصرة كما يفعل الغرب مع منتوجهم الفكري، وكما نفعل –دون أي حرج- حينما نتحدث عن الفلسفة الإسلامية في القرون الوسطى؟ ما الذي يجعلنا نتجنب وصف هذا الفكر بالفلسفة؟ هل يتعلق الأمر بحكم موضوعي قائم على مبررات معرفية ومنهجية تجعل الفكر العربي الذي ظهر منذ النهضة لا يرقى إلى منزلة الفلسفة أم أن الأمر يتعلق بحالة نفسية ناتجة عن مركب النقص تجاه الفكر الغربي الذي “نصب” نفسه معيارا للحكم على الآخر، بمعنى أننا لا نستطيع إطلاق تسمية “الفلسفة” على منتوجنا الفكري طالما لم يبلغ مرتبة المذاهب والتيارات الفلسفية التي أنتجها الغرب؟

إذا حاولنا الإجابة عن السؤال السالف سنجد أن هناك مبررات عديدة لإيثار تسمية الفكر العربي على الفلسفة العربية، ويبدو أن الخواف الذي ناقشناه في بحث سابق حول تسمية الفيلسوف في السياقات العربية الإسلامية ينسحب أيضا على تسمية الفلسفة*،  كما قد يكون هذا الموقف نتيجة التراكمات التاريخية للأثر السلبي الكبير الذي تركه أبو حامد الغزالي وغيره بهجومهم على الفلسفة، مما جعل الفلسفة في السياقات العربية الإسلامية تبقى “غير مرحب بها”، ومنظورا إليها على أنها مدخل للكفر والزندقة، أو في أحسن الأحوال “علم لا ينفع”، وهذه النظرة لا تزال مستمرة لدى جمهور عريض في بلداننا، وما الجدل الذي تعيشه مصر مؤخرا بعد قرار الحكومة بإلغاء الفلسفة والمنطق من امتحان الثانوية العامة، إلا استمرارا لذلك الموقف السلبي من الفلسفة، هناك مبرر آخر كثيرا ما نسمعه على لسان المنتقصين من قيمة الكتابات الفلسفية العربية- وفيهم المشتغلين بها- وهو مبرر موضوعي إلى درجة كبيرة دون أن يكون –في اعتقادنا-كاف لنزع صفة الفلسفة عن الفكر العربي؛ نقصد بذلك كون المنتوج الفكري العربي لا يخلو أن يكون اجترارا وإعادة تدوير للفكر الغربي دون أي إبداع أو تجديد أو إضافة حقيقية، لنستمع لتقييم أحد الفلاسفة العرب المعاصرين للفكر النهضوي، إذ يقول: ” الفكر النهضوي مجرد جري يلهث وراء التماثل بأي ثمن مع الحضارات التي نتصورها ممثلة للعقل والكلية دون سواها”[3]. وهذا ما نلاحظه فعلا من خلال استقراء المنتوج الفكري العربي منذ النهضة، فما إن يظهر تيار أو منهج معين في الفكر الغربي إلا ويجد له منظرين في الفكر العربي، بداية من التطورية والوضعية وصولا إلى التأويلية والتفكيكية، وهو ما يؤكده زكي نجيب محمود، أحد صناع الفكر العربي المعاصر- وهو الآخر معني بهذا الوضع-حيث يقول: ” الحق أننا –نحن المشتغلين بالفلسفة في الجامعات العربية-قد انصرفنا في معظم الحالات إلى الدراسات الأكاديمية التي نعرض بها موضوعات ومذاهب، عرضا هو أقرب إلى التاريخ منه إلى التكوين الجديد المبتكر، لقضايانا الفكرية، تكوينا يجيء-كما قلت-كاشفا عما هو مضمر في نفوسنا من مبادئ ومثل، ومن ثم كانت لنا في الفلسفة مؤلفات عربية، ولكن لم يكن لنا فلسفة عربية”[4]. ومع وجاهة هذا الموقف وقوة حجته، إلا أنه –كما أشرنا- غير كاف للوصول إلى الحكم بعدم وجود فلسفة عربية معاصرة، ذلك أن مسألة التأثر حاضرة حتى في الفلسفة العربية الإسلامية في القرون الوسطى (لاسيما المشائية منها)، حتى أن الكثير من المستشرقين يرون أنها فلسفة يونانية ألبست ثوبا عربيا إسلاميا، مثلما يحضر التأثر والتأثير في كل منتوج فكري، عبر تاريخ الحضارات؛ فالفلسفة اليونانية نفسها معنية بذلك، كما الفلسفة الغربية الحديثة، دون أن يعني ذلك التخلي عن وصفها بالفلسفة.

والمنتوج الفكري العربي الحديث والمعاصر لم يكن في مجمله استنساخا للفكر الغربي، بل هو محاولة لنقل أفكار معينة واستنباتها في تربة أخرى غير التي نشأت فيها، فما يكتبه الماركسي العربي يختلف قليلا أو كثيرا عما يكتبه الماركسي الفرنسي أو الروسي أو غيرهما، وقل ذلك على ما يكتبه الشخصاني والوضعي والتأويلي..الخ، إذا اعتبرنا الجابري مثلا، متأثر بالتيار البنيوي، فهل يمكن أن نقول أن الجابري يعيد استنساخ البنيوية الغربية؟ وهل يمكن ضمه ضمن لائحة البنيويين الغرب؟ قطعا لا يمكن ذلك. فمهما بغلت درجة التأثر بأفكار الآخر يبقى توظيف تلك الأفكار خاضعا لموضوعات أخرى وتاريخ آخر مختلف تماما عن المعطيات الأولى.

لذلك ذهب محمد وقيدي في حديثة عن محمد عزيز الحبابي إلى أنه استطاع “أن يحقق الاندراج ضمن تاريخ الفلسفة، بفضل الانطلاق من وضع خاص، وهو وضع المغرب بانتمائه العربي الإسلامي والثالثي، وعدم إغفال الصلة بالتراث الفلسفي المطابق لهذا الانتماء، ثم السعي في انسجام مع ما سبق إلى طلب القيمة الإنسانية العامة للأفكار، أي طلب الاندماج ضمن التاريخ العام للفلسفة”[5]، وما قيل عن الحبابي يمكن قوله عن غيره من المفكرين العرب المعاصرين الذين قاربوا إشكالياتهم بمناهج وأفكار يتداخل فيها ما هو عربي إسلامي مع ما هو غربي.

إن التردد أو الخواف من تسمية المنتوج الفكري العربي بالفلسفة جعل هذا المنتوج يتحول إلى جراب كبير يدرج فيه كل شيء، دون أن تكون هناك معايير معينة تحدد الانتماء إلى هذا المجال من عدمه، فالمفترض أن لكل فن أو علم خصوصيات معينة تميزه عن غيره، لاسيما المصطلحات والمناهج والإشكاليات، لكن توظيف كلمة “فكر” ذات المدلول الواسع وغير المحدد بدقة، فتحت المجال لنوع من التساهل في الولوج إليه، والانتماء إليه، دون الحاجة لتبرير مشروعية هذا الانتماء، فأن تكون روائيا أو شاعرا أو فيزيائيا هناك شروط يجب استيفاؤها لتحقيق ذلك، نفس الأمر في مختلف الحرف كأن تكون خبازا أو فلاحا أو غير ذلك، لا بد لك من أدوات ذلك الفن أو العلم أو الحرفة والتمكن في استخدامها على النحو الصحيح، أما في الفكر العربي فلا نجد تلك المعايير بصورة واضحة، لذلك تدرج في هذا الفكر كتابات الفلاسفة والإعلاميين والسياسيين والأدباء …الخ. وهذا ما خلق نوعا من “الفوضى” وعدم الانسجام أو الاتساق داخل هذا الفكر.

لذلك نعتقد أنه من المهم إطلاق تسمية الفلسفة العربية على الأبحاث ذات الصلة بالفلسفة مفهوما ومنهجا وإشكاليات دون أي خواف أو تردد، مستحضرين في ذلك تاريخية الفلسفة والتحولات التي عرفتها عبر تاريخها وصولا إلى اللحظة الراهنة، فإذا لم نطلق تسمية “فلسفة” على الأعمال التي قدمها عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود ومال بن نبي ومحمد أركون ومحمد عزيز الحبابي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم كثير فماذا نسميها؟ هل ننتظر حتى تظهر لدينا أعمال كأعمال كانط أو هوسرل أو هيدغر حتى نقول أن لدينا فلسفة؟ حتى الفلسفة الغربية المعاصرة لا نجد فيها أعمالا تضاهي أعمال كانط أو غيره من كبار الفلاسفة، لكن الفكر الغربي لا يجد أي حرج في إطلاق تسمية الفلسفة على هذه الأعمال المعاصرة.

إن إطلاق تسمية الفلسفة العربية يسمح لنا بالتمييز بين ما هو فلسفي وغيره، ومن ثم يمكن تقييم هذه الفلسفة والحكم عليها بالفعالية أو عدمها، كما ويسمح ذلك بنوع من الالتزام النسقي، فلا يكتب في الفلسفة إلا ما يتعلق بمباحثها المعروفة، وفق مفاهيمها ومناهجها وإشكالياتها، وهكذا يزول الكثير من اللبس ويتضح أن الفلسفة بريئة من الكثير من الانتقادات الموجهة إليها.

 

المراجع:

 محمد الحداد: مواقف من أجل التنوير، بيروت: دار الطليعة-رابطة العقلانيين العرب، ط1، 2005، ص 06.[1]

 فؤاد زكريا: خطاب إلى العقل العربي، تونس-القهرة: دار سحنون-دار مصر، 1990، مقدمة بقلم: محمد الرميحي، ص 03.[2]

 “في الخواف من لقب الفيلسوف” المقال منشور على موقع تكوين بتاريخ: 23 فبراير 2024.*

 أبو يعرب المرزوقي-طيب تيزيني: آفاق فلسفة عربية معاصرة، دمشق: دار الفكر، بيروت: دار الفكر المعاصر، ط1، ص 24.[3]

 زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1971، ص ص 273-274.[4]

 محمد وقيدي: جرأة الموقف الفلسفي، المغرب: إفريقيا الشرق، ط1، 1999، ص 73.[5]

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete