تكوين

نيتشه و موت الرب

من الصحيح أن عدداً من الفلاسفة السابقين قد أثاروا فكرة قتل الرب، لكن ارتباطها الأوثق في تاريخ الفلسفة يظل ملتصقاً باسم نيتشه بشكل خاص. لنجتاز حقب التاريخ إذن بخطوة عملاقة منتقلين من هزيود إلى نيتشه الذي يؤكد في شذرة مشهورة وردت في كتابه العِلم المرح (1882) أن “الرب قد مات! ويظل الرب ميتاً! ونحن الذين قتلناه!” [1]بالنسبة لنيتشه يبدو موت الرب نهائياً حيث سيؤكد من جديد لاحقاً في هكذا تكلم زرادشت (1883-1885) هذه الواقعة بالقول: “فهذا الرب الشائخ قد كفَّ عن الحياة؛ لقد مات، حقاً مات.” [2]

وإذ يعتبره العديد من الفلاسفة بوجاهة عرّاب ما بعد الحداثة، فإن نيتشه يظل، بالنسبة لي على الأقل، فيلسوفاً حداثياً وما بعد حداثيٍ في نفس الوقت. فبقدر ما تعكس فلسفته روح الحداثة التحريرية – التي انتصرت على خصومها: أي الكنيسة وروح الدين اللذين هيمنا على العصور الوسطى – بقدر ما تفتتح وتدشن الفكر مابعد الحداثيّ. ولعل أحد أكبر منجزات الحداثة يتلخص بحقيقة أن إرادة الرب المُطلقة التي سادت الغرب لقرون طويلة كانت تمنع حرية الإنسان، وأنه لكي تولد تلك الحرية الفردية يجب أن تتوقف إرادة الرب الكلية. وبكلمات أخرى، كان يتوجب على الإبن لكي يولد ويعيش حراً ومسؤولاً أن يقتل الرب/الأب خالقه ويستحوذ على سُلطته. لكن نيتشه الذي ظل يُصر على ضرورة موت الرب لكي “يحيا الإنسان الأعلى”[3] لم يكن يقصد بهذا “الإنسان الأعلى” إنسان الحداثة الأوروبية الذي انتقده بقسوة، وإنما إنساناً أعلى يجب إعداده وانتظار زمنه في المستقبل.

لكن السؤال الذي يُطرح علينا هو التالي: هل مات هذا “الرب الشائخ” الذي تكلم عنه نيتشه؟ هل “حقاً مات” كما يدّعي؟ هل “تتحلّل الآلهة أيضاً”[4] بحسب تأكيداته المتكررة؟ هل نجح نيتشه بالفعل بقتل الرب الذي كان يُنظر إليه قديماً وحديثاً بوصفه خالداً عصيّاً على الموت؟ كنتُ قد ناقشت في الجزء الأول المنشور أن الرب يحيا بوصفه فكرةً بالمعنى الأفلاطوني وسواءً أكان الإله صورةً عن الأب وقد تأله أو أن الأب حاز سلطته وقداسته من تجسيده لصفات الإله، فإن موت الرب كفكرة ليس إلا وهماً. ففي كل مرة نظن أننا انتهينا منه نهائياً يتجلى حياً من جديد في مكانٍ ما في النفوس نابضاً بالحياة، بغض النظر ما إذا كان وجوده وجوداً حقيقياً أو مجرد وهم فطالما كان هناك بشرٌ يؤمنون به فهو حيٌّ لا يمكن قتله…

في نفس الشذرة التي استشهدت بها أعلاه في العلم المرح والتي يؤكد بها  نيتشه أن “الرب قد مات”، نسمع فيها لهجة المعتذر، بل اعترافات المذنب الذي يحاول التكفير عن جريمته. لنصغي إليه وهو يقول معتذراً عن جريمة قتل الرب: “كيف نواسي أنفسنا، نحن قتلةُ القتلة؟ إن أكثر ما كان في العالم حتى الآن من قداسة وقدرة قد أريق دمه على سكيننا. من سيغسل عنا هذا الدّم؟ بأي ماء يمكن لنا تطهير أنفسنا؟”[5] سوف نرى لاحقاً عند فرويد كيف ستقود عقدة الذنب والحاجة الملحة إلى التكفير عنه الإبن القاتل إلى حماية قوانين الأب المقتول وكيف سيبقى الأب بذلك حيّاً قوياً حتى بعد قتله. بحوالي واحد وعشرين سنة قبل أن يصوغ فرويد نظريته في الطوطم والتابو حول الدور الحاسم للشعور بالذنب الذي ينتج عن قتل الأب، كان نيتشه قد أثار هذه المسألة بطريقته النبوئية في العلِم المرح.[6]

لكن ورغم تأكيداته المتكررة المعاكسة، فإن موت الرب لا يعني عند نيتشه في العمق الموت النهائي والمُطلق للآلهة وإنما نهاية عهد معين لبعض الآلهة، أو، موت ربٍّ شائخ يمنع ولادة إله جديد أو يقف حائلاً دون عودة ديونيزوس. فكما أنهى الكرونيدس حكم التيتان وحلوا مكانهم على عرش الآلهة دون أن يقتلوهم، يريد نيتشه أن يُصبح قتلةُ الآلهة آلهةً بدورهم. لنقرأه أيضاً وهو يواصل قائلاً : “أليس حجم هذه الفعلة أكبر منا؟ ألسنا مُلزمين أن نصبح، نحن أنفسنا آلهةً ببساطة حتى نبدو جديرين بهم؟”[7] ولكي نكون “جديرين بهم” أي لكي نكون جديرين بأن نصبح الآلهة الجُدد مكان الآلهة الشائخة لا بد لنا من بلوغ مرتبة الإنسان الأعلى بعد تجاوز حالة الإنسان الحديث الذي يعرفه نيتشه بوصفه “حبلٌ مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى”.[8] على لسان زرادشت، يصف لنا نيتشه كيف أن موت الرب (مفهوماً هنا ضمنياً بوصفه الرب المسيحيّ) يفتح الباب أمام ولادة الإنسان الأعلى، أو سيد العالم الجديد حين يقول: “أمام الرب! لكن هذا الرب قد مات! أيها الناس الأعلون لقد كان هذا الرب الخَطَر الأكبر عليكم. لكن منذ أن استوى في قبره عُدتم إلى الحياة. الآن أخيراً سوف تسطع الظهيرة العظيمة، وسيصبح الإنسان الأعلى – هو السيّد.” [9] إن مفردة السيد maître تعني هنا الرب أيضاً في حين قد تعني الظهيرة العظيمة le grand Midi فجر زمنٍ جديد، أو حقبة جديدة وتغير في علاقات القوة بين الألهة الجديدة وتلك الشائخة. هكذا يتغير النظام وعلاقات القوة عند نيتشه مع إعلانه موت الرب، لكن الرب لا يموت بمجرد إعلان موته فنيتشه سيحتفظ به بكل حرص وأمانة. إنها أيضاً غريزة البقاء عند الرب الخالد ومقاومته للموت، فهو يظلُ حتى بعد إعلان قتله على قيد الحياة أو فوقها en sur-vie. مع نيتشه هنا نحن من جديد أمام الإبن الذي يحاول قتل الأب لكي يأخذ مكانه، لكن دون أن يستطيع التخلص منه نهائياً إذ كما يقول نيتشه نفسه: ” فيما يخص الآلهة ليس الموت إلا حُكماً مُسبقاً”[10]، أي وهماً.

إقرأ أيضاً: في استحالة قتل الرب: الجزء الأول

منذ كتابه الأول مولد المأساة (1872)، يحجز نيتشه في فلسفته مقعداً مركزياً لديونيزوس، ابنٌ ملك الآلهة والبشر زيوس و المرأة سيميليه التي، وفق هزيود، “تحبل من عناقاتها بولدها الشهير ديونيزوس الذي يمنح الفرح.”[11]  لكن هيرا زوجة زيوس ستشتعل بالغيرة لأن زوجها أنجب طفلاً من امرأة غيرها. لذك ستقوم بالانتقام بقتل سيميليه بإجبارها على رؤيتها الساطعة لوقت طويل فتصعق وتموت، قبل أن تحيل ابنها ديونيسوس شخصاً مجنوناً. ولكونه قد ولد من أم بشرية ومن أبٍ إله، فإن ديونيزوس سيكون إذن، وفق فرضيتي، نصف إله أي معرضاً للموت بسبب الجزء البشريّ فيه. نصف إله ونصف بشر، يموت ديونيزوس ثم يعود إلى الحياة وفقاُ للأسطورة اليونانية التي ستمنحه بذلك لقب إله المُستقبل أو الإله العائد والمنتظر الذي سيعود يوماً بعد أن يتحرر من جنونه. في استحضاره لديونيزوس يبشر نيتشه بعودة هذا الإله (أو نصف الإله) بحيث ستكون عودته نوعاً من القيامة بعد الموت. إن صورة ديونيزوس الذي يموت ثم يعود بعد الموت ليمنح الخلاص للعالم تُذكّر وبشكلٍ عفويّ بنصف إله آخر هو المسيح الذي يقوم هو أيضاً بعد الموت على الصليب وتُنتَظر عودته ليخلِّص العالم وفقاً للأناجيل الأربعة. تأتي العبارة الأخيرة التي ينهي بها نيتشه كتابه هذه هو الإنسان معبرةً جداً في هذا السياق حيث يكتب: ” هل فُهِمتُ؟ ديونيزوس مقابل المصلوب…” [12] قد لا تعني كلمة “مقابل”contre  هنا – إن فهمتُ نيتشه – الضد أو النقيض وإنما التقابل أو المساواة بين ندين أو شبيهين ولا يكون ديونيزوس نقيضاً للمسيح بل أخاه التوأم. [13]

من ناحيةٍ أُخرى فإن العلاقة التي تربط نيتشه بالمسيح هي إشكالية قائمة بذاتها. فبقدر ما كان نيتشه يقدم نفسه بوصفه الأنتي-كريس أو نقيض المسيح وعدوه بقدر ما كان، من وجهة نظري، يرغب بالعمق في التماهي معه. لنقرأه في كتاب  الفَجر (1881) حين يكتب: “أن تصبح واحداً مع المسيح – يعني أن تُصبح، مثله، مُحطّماً للقانون.” [14]وهذه بالضبط هي المهمة التي أخذها نيتشه على عاتقه طيلة حياته الواعية حيث تفلسف “بالمطرقة” كما عنون فرعياً كتابه أفول الأصنام (1889) لكي يُحطّم النسق القيميّ القديم ويعلن ميلاد أخلاق جديدة. كل ذلك يعني عند نيتشه قتل إله عجوز لإتاحة الفرصة أمام إله جديد ليولد. بل إنه يمكن لنا حتى أن نقيم علاقة أبوة بين المسيح ونيتشه، أي علاقة أب/ابن بما يتضمن ذلك في هذا السياق قتلاً للأب للحلول مكانه. وبما أن قتل الأب يستدعي شعوراً كاسحاً بالذنب عند الابن القاتل، فإن هذا الأخير سيعمل لا واعياً على كَبْتِ الأب في وجدانه ولا وعيه. والكبت كما، يخبرنا فرويد، لا يعني التخلص من الشيء المكبوت وإنما إخفاؤه والحفاظ عليه ليعاد إنتاجه لاحقاً بصيغٍ مختلفة مباشرة أو شبحية. بقراءة تفكيكية مغامرة يمكن لنا حتى التجروء على القول أن محرك فلسفة نيتشه بمجملها هو دافع الغيرة من المسيح. بهذا المعنى لا يغدو نقيض المسيح l’Antéchrist سوى وجهه الآخر، منافسه و – بمعنى مختصر – مستوحاً من نيتشه الذي استشهدت به أعلاه  أقول: ” نيتشه مقابل المصلوب“. في رسالته التي أرسلها إلى الناشر بتاريخ 13 فبراير/شباط من عام 1883، يصف نيتشه مخطوط كتابه هكذا تكلم زرادشت بالإنجيل الخامس[15] مما يوضح حجم الغيرة من يسوع ورغبة نيتشه أن يكون المسيح الجديد، أي الرب القادم والمُنتظَر. هكذا تتكشف المقارنة بين ديونيزوس والمسيح ونيتشه عن نتائج واعدة وتبين لنا كيف يتوارى خلف الواجهة الصارمة لهذا الفيلسوف الذي يدّعي الإلحاد مسيحٌ صغير مكبوت. هكذا على الأقل أفهم نيتشه الذي يدفع زرادشت للاعتراف بهذا البوح الغريب: “إنني محامي الرب أمام الشيطان” [16]أو حين يتحدث على لسان البابا الهرم الذي يتوجه بالكلام إلى زرادشت قائلاً: “إنك يا زردشت أكثر تقوى مما تعتقد بعد إيمانك. فهناك إلهٌ ما فيك يُلهمك كُفرَك.”[17] بمعارضته الحادة له، يعيد نيتشه إذن إنتاج المسيح بأحد المعاني أي بمحاولته قتل أبيه – يسوع  المسيح هنا – يحافظ نيتشه على هذا الأخير حياً فيه ويعيده إلى الحياة بقيامةٍ أُخرى جديدة.

أثناء انتفاضة 68 الطلابية في فرنسا، كتب بعض المتظاهرين على أحد الجدران “الرب قد مات. توقيع نيشته”، فرد عليهم متظاهرون آخرون بكتابة عبارة مقابلة “نيتشه قد مات. التوقيع الرب”. أي الطرفان على حق وأيهما على باطل؟ ربما الاثنان معاً فالرب ونيتشه قد ماتا حقاً، لكنهما، بقيا ممع ذلك حيّان حقاً في النفوس على نحوٍ من الأنحاء. وعلى كلٍ فقد تراجع الإيمان بالرب (الإيمان بالإيمان يقول نيتشه) في الحداثة الغربية وأخلت تلك اللُحمة الاجتماعية وذلك الترابط الكليّ الذي كان يضمنهما الدين في العصور الوسطى المكان لفردانيةٍ قلقة، كما تخلت إرادة الرب المُطلقة عن مكانها لحرية الإنسان، وحلت العقلانية والوضعية العلمية مكان الدين، والبرلمان مكان الكنيسة، والديمقراطيات مكان الثيوقراطيات، والعقل مكان الروح الخالدة، والأرض مكان السماء، والهُنا مكان المابعد، الخ. هكذا غيرت سيرورة الحداثة الأوروبية البراديغم الديني الباطريركي وقوانين الرب/الأب العتيقة، لكنها لم تتمكن مع ذلك، مع كل ذلك، من قتل الرب الذي لم يمت وإنما توارى من جديد عن الأنظار. أليست الآلهة أبطال لعبة الإختباء دون منافس؟

 

سارتر في مواجهة الرب الذي يسيطر على المسرح 

لقد استعاض فلاسفة أوروبا الحديثة عن غياب الآلهة (أو ليل الآلهة الطويل) عن الغرب بإنتاج فلسفات تدعى باللاهوت السلبيّ تحاول، منذ شوبنهور وصولاً إلى دريدا مروراً بنيتشه وهايدجر وهوركهايمر إقامة حوارٍ مع إلهٍ لم يعد حاضراً. أما في الأدب الحديث، فإن الصراع المميت بين المخلوق والخالق سيجد تعبيره الأشهر في رواية ماري شيلي فرانكنشتاين أو برومثيوس الحديث (1818)[18] . في هذه الرواية تُظهر شيلي كيف يسعى المخلوق، الذي تصوره على هيئة وحش مرعب نتيجة عمليات التقطيع والخياطة لأجزاء مختلفة من جثث الموتى، إلى القضاء على خالقه الطبيب فرانكنشتاين[19] الذي – وعلى ديدن الآلهة – قد تخلى عن مخلوقه وأنكره بعد أن خلقه فتركه يواجه مصيره البائس وحده دون حب ولا دعم ولا دليل ولا خلاص.

ثم تأتي مسرحية الذباب (1943) لسارتر لتعكس ثورة الإنسان الحديث المدافع عن حريته الفردية ضد الإرادة المطلقة للرب. على الطرف النقيض من تراجيديا سوفوكليس أوديب ملِكاً والتي يظهر فيها الإنسان عاجزاً أمام القدر أو مجرد دمية في يد الآلهة، تأتي هذه المسرحية لسارتر لتُظهر الإنسان قادراً على تحدي قدره بل وملزماً بمقاومة إرادة الرب إن أراد العيش حراً. سأستشهد بحوار مجتزأ من المشهد الثاني من الفصل الثالث من تلك المسرحية حيث يتحدى فيه المخلوقُ أوريست، ابن أغاممنون وكليمنسترا الخالقَ، الإلهَ جوبيتر ملك الآلهة الرومان الذي يحكم السماء والأرض:

” أوريست: […] أنت مَلكُ الآلهة يا جوبيتر، إله الحجارة والنجوم، ملك أمواج البحر. لكنك لستَ مَلِكَ البشر.

جوبيتر: لستُ مَلِكَكَ، أيها  الحشرة الصفيق. من خلقك إذن؟

أوريست: أنت. لكن ما كان عليك أن تخلقني حُراً.

جوبيتر: لقد أعطيتك حريتك لتخدمني.

أوريست: هذا ممكن، لكنها انقلبت ضدك ونحن لا نستطيع شيئاً حيال ذلك، لا أنت ولا أنا. […] أنا لستُ لا سيداً ولا عبداً يا جوبيتر. إنني حريتي! ما أن خلقتني حتى خرجتُ من مُلكيتك. […] فجأةً انهمرت الحرية عليّ وجعلتني أرتجف، قفزت الطبيعة إلى الخلف، ولم يعد لي عمرٌ معين وشعرتُ أنني وحيدٌ وسط عالمك الصغير الوديع، كشخص فقد ظله؛ ولم يعد هناك شيءٌ في السماء، لا الخير ولا الشر، ولا أحد ليأمرني.

جوبيتر: […] ليست حريتك سوى جَرَباً يحُكك، هي لست إلا منفى.

أوريست:  أنت على حق: هي منفى. […] غريبٌ عني، أنا أعرف. خارج عن الطبيعة ضد الطبيعة، دون عذر، دون ملجئ آخر إلا فيّ. […] أنت ربٌ وأنا حُر: كلانا متشابهان في وحدتنا وقلقنا متشابه.”[20]

يُظهر لنا سارتر في هذا الحوار القلق الوجودي لإنسانٍ هجره ربه وتركه لمصيره وحيداً “دون ظل”، دون دليل يساعده على التمييز بين الخير والشر وهذا ما يمنح الحرية معنى المنفى. لكن عبر مقولة الحرية، يفتح سارتر إمكانية الانعتاق من إرادة الرب المطلقة وعلى خطى المخلوق المرعب عند ماري شيلي، يتحدى المخلوق أوريست ربه وينتقم منه بهجره مما يستدعي تحمله لمسؤولية تبعات حريته. وكما تخلى الرب عن الإنسان وتركه وحيداً، جاء الدور على الإنسان في الحداثة ليتخلى عن الرب ويتركه لوحدته لكن دون أن يستطيع قتله. في الحوار الذي استشهدتُ به أعلاه بين المخلوق والخالق عند سارتر لا يوجد لا قتل ولا إلحاد، وإنما اعتراف متبادل بين الخالق والمخلوق يُصرّح عن نفسه بهذه العبارات  المتحدية:

“جوبيتر: أنا لا أحبك، ومع ذلك أشفق عليك.

أورست: أنا أشفق عليك أيضاً.

جوبيتر وداعاً يا أورست (يمشي بضعة خطوات). أما بالنسبة لك يا إلكترا ففكري بهذا: لم ينتهِ حُكمي بعد، العكس هو الصحيح – لا أريد التخلي عن الصراع. فحددي موقفك هل أنتِ معي أم ضدي. وداعاً.

أورست: وداعاً.

يخرج جوبيتر.” [21]

بهذه الكلمات الأخيرة، يؤكد الرب على أن حكمه لم ينتهِ بعد، وإنه لا يفكر في التخلي عن الصراع، وهو أمر ذو دلالة لأطروحتي المتعلقة بإمكانية الإجهاز على الرب. “يخرج جوبيتر” هكذا يكتب سارتر في الأسفل على اليمين (عكس جهة الكتابة بالفرنسية) ليشير إلى نهاية الفصل الثاني من المسرحية، لكن ليس نهاية المسرحية وليس نهاية دورالرب المتواصل فيما وراءهذا الفصل ووراء هذه المسرحية وما بعدها. في الواقع يخرج الرب دون أن يخرج من المشهد فهو باقٍ داخل المسرحية وداخل الحكاية مُمَثلاً ماهراً فاعلاً قوياً ومستعداً للمزيد من القتال. لم يعلن الرب وداعه الأخير بعد :

Dieu n’a pas encore fait ses adieux[22]

ولأنه سيعود فهو باقٍ على نحوٍ ما. إن “الوداع” adieu هي آخر كلمة في هذا المشهد من الحوار التي تلفّظ بها الرب dieu قبل أن يخرج دون أن يخرج. لكن adieu والتي تعني الوداع (أو غياب لمدة بحسب Le petit Robert ) هي في الأصل الإيتمولوجي للكلمة à-dieu أو à dieu التي تعني حرفياً أتركك بيد الله أو حفظه أو رعايته والتي تؤكد أن الرب باق أو أنه سيعود إلى واجهة المسرح أو كواليسه ما أن يخرج منه…

قائمة المراجع:

[1] Friedrich Nietzsche, Le gai savoir, (aphorisme 125), trad. Patrick Wotling, Flammarion, 2008, p.193.

[2] Friedrich Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, trad. Geneviève Bianquis, Flammarion, 2008, p. 328.

[3] Ibid., p. 359

[4] Le gai savoir, op.cit, p. 193.

لا تعني فكرة “النهاية” أو “الموت” عند نيتشه سوى بداية جديدة قيد الإنجاز أو قادمة على عكس التوظيف الجنائزي لهذه الفكرة الذي سيسيطر لاحقاً في أفكار ما بعد الحداثة. كان نيتشه يحتفل بالحياة وليس يالموت في حين سيصبح خطاب “الموت” والنهايات لاحقاً عند أتباع نيتشه موضوعاً متكرِّراً آخذاً عدة أسماء وسيترجم موت الرب عندهم بموت المؤلف، أو موت الإنسان، أو موت التاريخ ونهايته الخ.

[5] Ibid.

[6]  لقد جعل بعض الفلاسفة الحديثين والمعاصرين من الشعور بالذنب موضوعاً فلسفياً قائماً بذاته. فنحن نجد تنظيراً أخلاقياً لهذا الموضوع عند هيجل في كتابه روح المسيحية ومصيرها (1798-1799)، لكن أيضاً في عدة نصوص لكيركيجارد وبخاصة في كتابه خوف ورعدة (1843)، ثم في بعض شذرات نيتشه المتفرقة. ويظل السؤال ما إذا قد أثّر نيتشه على فرويد، معاصره والأصغر منه ﺑ 12 سنة فقط سواء في التفكُّر بأثر عقدة الذنب على المجرم أو في مواضيع عديدة أخرى حيث يظهر التقارب والتقاطع بينهما مثيراً للتساؤل. في أحد مؤتمرات جمعية التحليل النفسي في فينا، أكد فرويد “عدم معرفته بأعمال نيتشه” وأن “محاولاته الطارئة لقراءته كان يكتمها الاهتمام المفرط.”. لكن فرويد يستشهد هنا وهناك في كتبه ببعض المقاطع من نصوص نيتشه ويستحضر بعض أفكاره من وقتٍ لآخر في مواضع مختلفة في أعماله ورسائله مما يدفعنا إلى الإعتقاد أن أب التحليل النفسي النمساويّ كان على معرفة قريبة بفلسفة نيتشه. حول تلك العلاقة المثيرة للاهتمام التي قد تربط فرويد بأعمال نيتشه انظر على وجه الخصوص: Paul-Laurent Assoun, Freud et Nietzsche. PUF, 1998.

[7] Le gai savoir, Livre troisième, 125, op.cit., p. 193.

[8] Ainsi parlait Zarathoustra, op.cit,p, 11.

[9] Ibid.,p, 395

[10] Ibid.

[11] La Théogonie, op.cit, p. 30

[12] Friedrich Nietzsche, Ecce homo, trad. Éric Blondel, Flammarion, 2008, p.797.

[13]  لقد لفت هذا التوازي بين ديونيزوس والمسيح نظر العديد من الفلاسفة الذين أقاموا مقارنة بين الشخصيتين. انظر على سبيل المثال:

Le parallèle P. Szondi, Poésie et poétique de l’idéalisme allemand, Paris, 1975.

[14] Nietzsche, Aurore, trad. H. Albert, in  Œuvres complètes, éditions@arvensa.com, p. 1685.

[15] Voir le contenu de la lettre dans ses archives numérisées http://www.thenietzschechannel.com/correspondence/eng/nlett-1883.htm

[16] Ainsi parlait Zarathoustra, op.cit,p, 130.

[17] Ibid., p. 327.

[18] Mary Shelley, Frankenstein or the Modern Prometheus, edited with an Introduction and Notes by Maurice Hindle, Penguin Books, 1992.

[19]  في الرواية لا يحمل المخلوق أو الوحش المرعب اسم فرانكنشتاين وإنما الطبيب الشاب الذي جمع أوصالاً بشرية من عدة جثث وأخاطها لبعث فيها الحياة من خلال الكهربا المتولدة عن الصاعقة. لكن بعض الأقلام السنمائية بعد ذلك ستعطي الوحش اسم فرانكنشاين وستسود تلك التسمية على ما جاء في الرواية.

[20] Jean-Paul Sartre, Huis clos suivi de Les mouches, Gallimard, 1947, p. 232-233. التشديد من قبلي في جميع الاستشهادات

[21] Ibid., p. 234-235-237.

[22] أسمح لنفسي بهذه العبارة بالفرنسية غير القابلة للترجمة إلى لغة أخرى مع هذا اللعب اللغوي على كلمتي adieu  و dieu أي الوداع و الرب.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete