الأنسنة أفقا للتعايش الآمن من خلال أعمال محمد أركون

تكوين

“من بين أعضاء كل دين من الأديان كان هناك محاربون أشداء كما كان هناك أبطال سلام عظماء وبدلا من أن نسأل أيهما هو “المؤمن الحق” وأيهما هو “الدجال” ينبغي أن نقبل أن يكون الإيمان الديني للإنسان في ذاته ليس هو الحل الوحيد لكل القرارات التي ينبغي أن نتخذها في حياتنا، ومن بينها تلك القرارات الخاصة بأولوياتنا السياسية والاجتماعية”

أمارتيا صن: العنف والهوية، ص76.

مقدمة:

ينطلق هذا البحث من رصد المعطيات المؤطرة لراهن البشرية عموما، والراهن العربي الإسلامي الذي ننتمي إليه بصورة خاصة، هذا الراهن الذي يتسم بتزايد موجات العنف بمختلف أشكاله وتمظهراته، من العنف داخل الأسرة خاصة ضد الأطفال والنساء إلى العنف في المؤسسات التربوية والاقتصادية والرياضية، وصولا إلى العنف بين الجماعات والطوائف والدول، فإذا تأملنا مجتمعاتنا اتضح لنا بجلاء أن أسباب العنف منبثة في كل مكان، ولعل العنف السياسي والديني والمذهبي المدعوم بإيديولوجيات عرقية مذهبية متعددة هو الأخطر، لأن الجماعات تمارسه بوصفه حقا مقدسا ومسؤولية أخلاقية لحماية كيانها أو تحسين أوضاعها أو لاستعادة حقوقها.

العنف في العالم

ولئن كان قسط كبير من موجات العنف المتزايد في العالم يمكن تفسيره برده لنظرية المركز والأطراف، على اعتبار أن هناك مركز ينتج المعرفة والفعل وما يرافقهما من إدارة توسع وهيمنة على الطبيعة وعلى الإنسان الآخر، وفي المقابل هناك أطراف أو هوامش تستهلك وتنفعل وتقاوم حفاظا على خصوصياتها من الزوال، فهناك عولمة جارية بتسارع رهيب، تكتسح الأوطان وتفكك الخصوصيات والهوايات المحلية، تقابلها ردود فعل مقاومة لها، متخبطة وغير واضحة المنهج والأهداف في كثير من الأحيان، فيتم تصنيفها في الغالب ضمن خانة الإرهاب والعنف غير المشروع وغير المقبول من قبل الرأي العام الدولي.

من هنا فإن البحث في موضوع العنف بمختلف تمظهراته، وبكل تفصلاته مع الحقول البحثية الأخرى يكتسي أهمية بالغة بالنظر أولا؛ لما يكتنفه من التباس وتعقيد بالنظر لتعدد مظاهره وصوره، وثانيا؛ لما يتطلبه الواقع الذي نعيشه من ضرورة التصدي لهذه الظاهرة التي ما فتئت تزداد اتساعا، لدرجة أن جل الدول العربية الإسلامية لم تسلم منها إذ أصبحنا نعيش معمما، وانهيارا فظيعا لمختلف البنى الاجتماعية من أسرة ومؤسسات، حتى دولنا أصبحت بفعل هذا العنف الفظيع معرضة للتقسيم والتفتيت-مثلما حصل فعلا في السودان، وقد يحصل في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها من بؤر التوتر العنيف- وربما تزول نهائيا، إن لم يتم التصدي لهذه الظاهرة في أقرب الآجال، هذا التصدي الذي لم يعد ممكنا من خلال تلك التبريرات التي ظلت النخب الحاكمة عندنا ترددها بعيد الاستقلال، على شاكلة التدخل الأجنبي، والمؤامرات ضد الوحدة الوطنية والعمالة لأطراف خارجية…الخ، تبريرات كهذه لم تعد كافية ولا فعالة، إذ لا يمكن الاستمرار في تعليق جميع مصائبنا وخيباتنا على مشجب الآخر، فما يعصف بالعالم العربي الإسلامي من عنف شامل، إنما هو أمارة واضحة على إخفاق مشاريع التنمية السياسية والثقافية والاقتصادية، وطغيان الاستبداد السياسي والديني مقارنة بالتعدد والاختلاف والتسامح والديمقراطية والحرية.

والعنف على شاكلة مختلف الظواهر الإنسانية والاجتماعية، ظاهرة معقدة ومتداخلة في شبكة علاقات مع ظواهر أخرى، ومن ثم فلا يمكن تفسيرها بصورة دقيقة من خلال ردها إلى عامل دون آخر، فعلماء النفس يؤكدون أن العدوان صنو الإنسان، مثلما يؤكد علماء الاجتماع والسياسة أن السعي للسيطرة والهيمنة ظاهرة اجتماعية، كما يشهد التاريخ البشري على أنه لم تخل فترة زمنية من العنف بمختلف صورة بين الجماعات والأمم، وقل الأمر نفسه عن الاقتصاد والإناسة وغيرهما، فالعنف متجذر في التجربة البشرية، حتى أنه يمكن القول أن الإنسان عنيف بطبعه، ومن ثم فإن رد العنف إلى العولمة غير كاف من منطلق أن المجتمعات البشرية عرفت العنف قبل أن تعرف العولمة.

من جهة أخرى يبدو أنه من غير الممكن مقاربة موضوع العنف في كل تمظهراته وأشكاله في بحث واحد محدود الفضاء المكاني مقارنة بشساعة إشكالية العنف في مختلف أشكاله، ومن ثمة فسيركز بحثنا هذا على مناقشة موضوع العنف في علاقته بالعامل الديني وتفصلاته الأساسية لاسيما مع السلطة والمعرفة، من خلال أعمال المفكر الراحل محمد أركون (1928-2010) وفقا لما أسماه بالمثلث الأنثروبولوجي: العنف/التقديس/الحقيقة[1].

فهذا البحث يهدف إلى التفصيل في موقف أركون من إشكالية العنف ومختلف علاقاته بالدين والحقيقة والسلطة واللغة والمجتمع عبر التاريخ، وهذا بحثنا عن التفسير الأكثر موضوعية لظاهرة العنف خاصة من خلال النموذج الإسلامي، وبحثنا في المقابل عن البدائل والآليات التي يقترحها أركون في مدونته النصية قصد تجاوز الوضع المأساوي الذي نعيشه، نحو أفق أكثر انفتاحا وأكثر أمنا للإنسانية جمعاء.

وقد قسمنا بحثنا إلى ثلاثة محاور أساسية مستهلين في ذلك تلك اللحظات الثلاثة التي يتعامل وفقها أركون مع جل موضوعاته ونقصد بها: الزحزحة/ الاختراق/ التجاوز، حيث خصصنا المحور الأول لاستراتيجية أركون المنهجية، أما المحور الثاني فقد ناقشنا فيه نقده للدغمائية التي يتسم بها العقل الإسلامي وكذا نقده للمركزية التي رافقت العقل الغربي، حين أبرزنا في المحور الثالث البديل الذي يقترحه أركون للخروج من أسر السياجات المغلقة، والمتمثل في ترقية وتكريس الأنسنة كأفق لتجاوز الصراع والعنف بين مختلف الأطراف، وحاولنا تحديد شروطها ومقتضياتها الاجتماعية والسياسية، وجل ما يرد في هذا البحث يحتكم إلى نصوص أركون بالدرجة الأولى، وبدرجة أقل تلك النصوص التي اهتمت بفكره، أو ذات الصلة بموضوع بحثنا.

أما الإشكالية التي سنحاول الإجابة عنها فيمكن صياغتها كما يلي: كيف يمكن تفسير العنف المتزايد في بلداننا؟ ما العلاقة بين العنف والدين أو التقديس؟ ما علاقة العنف بالإسلام؟ بمعنى آخر هل هو مقوم رئيس في الإسلام كما يدعي بعض المحللين، أم أنه حدث عرضي مرتبط بتجارب خاصة؟ ثم كيف السبيل للخروج من دوامة العنف وتجاوز أنظمة الاستبعاد المتبادل بين المذاهب والملل والنحل؟ ما هي الآليات النظرية والأطر الاجتماعية والسياسية التي يقترحها أركون من أجل مستقبل أفضل للإنسانية؟ كيف يكون ممكنا التعايش بين الأفراد من مختلف الانتماءات العرقية والطائفية والسياسية في المجتمع الواحد وفي العالم أجمع؟ ما هي شروط مستقبل بلا عنف؟ وما هي آليات بناء مستقبل آمن للبشرية جمعاء؟ كيف يمكن تجاوز تعقيدات الوضع الراهن وتفكيك السياجات الدغمائية التي تعزل كل طرف عن الآخر، في سبيل وضع إنساني أكثر إنسانية؟ وبعبارة أركون نفسه[2]: ينبغي أن نتساءل أولا: ما حقل المعقولية الذي يجب أن نستغله لنحمل أجوبة ملائمة للمسائل الخطيرة المتعلقة بالجماعة الإنسانية المثالية، والحرية الدينية، وحقوق الإنسان؟

بقي أن نشير في هذا التقديم إلى أنه وبالرغم من الأعمال الكثيرة التي خصصت لدراسة موضوع العنف والدين أو العنف والمقدس، إلا أن الموضوع يبقى جديرا بالبحث والتحليل والمناقشة بالنظر للعوامل الكثيرة التي يرتبط بها والتمظهرات العديدة التي يظهر عليها في كل فترة تاريخية.

 

المحور الأول

الزحزحة: الاستراتيجية المنهجية لأركون

 

أولا: الأرثوذكسية الدينية والعقلية الدغمائية

ثانيا: الإسلاميات التطبيقية: المفهوم والمنهج

ثالثا: نقد الرؤية الأرثوذكسية للتراث الإسلامي

 

“إن المثقف المسلم اليوم ينبغي له أن يحارب على جبهتين؛ جبهة ممارسة العلوم الاجتماعية وفقا لأسلوب متحرر من أسلوب الاستشراق الوصفي، وجبهة المنافحة الهجومية والدفاعية لدى المسلمين الذين يعوضون بالتأكيد العقائدي وبخطاب التأسيس الذاتي عن الإصابات المتكررة التي أصابت الأصالة والشخصية الإسلامية”.

 

محمد أركون: نافذة على الإسلام، ص217.

تمهيد:

قبل التفصيل في بيان موقف أركون من إشكالية العنف المترتبة عن السياجات الدغمائية التي ينحصر ضمنها الأفراد ويفكرون من داخلها، من المفيد أن نشير إلى أن طريقة أركون العامة في الاشتغال على مختلف المواضيع تقوم على ثلاثة خطوات أو لحظات أساسية وهي على التوالي:

  • الزحزحة أو التحويل (Le Déplacement)
  • الاختراق والتفكيك (Transgression et Déconstruction)
  • التجاوز (Le Dépassement)

المقصود باللحظة الأولى أي لحظة الزحزحة أو التحويل هو محاولة تتبع الموضوع انطلاقا من زاوية نظر غير معتادة من قبل الباحثين، فالمطلع على أبحاث أركون المختلفة يكتشف بيسر اختلاف منطلقاته ومسار مقاربته عن أغلب الباحثين في نفس الموضوعات، ففي مقاربته لظاهرة العنف-التي هي موضوع بحثنا- ينطلق من أن هناك العديد من المفاهيم والموضوعات والتصورات وحقول الواقع وزوايا الرؤى، إذ ما أخذت بعين الاعتبار أتاحت لنا معرفة أكثر دقة وأكثر تعبيرا عن واقعنا وما يتم التنافس حوله، وما ينتجه من صراعات كبيرة أو صغيرة، وأيضا رهانات المستقبل، ومنافذ التدخل النقدي الفعال لزحزحة الأمور وتغيير التصورات حول ما يحدث في راهننا، يقول أركون: “إنني أبذل قصارى جهدي منذ سنوات انطلاقا من مثال الإسلام الذي كثيرا ما ذم وأسيء فهمه وتأويله، أن أشق الطريق لفكر قائم على الدراسة المقارنة لتجاوز جميع منظومات إنتاج المعنى-الديني والعلماني- التي تحاول أن ترفع المحلي والتاريخي والجائز-الممكن- والتجربة الخاصة، إلى الشامل والمتعالي والمقدس لا رجعة عنه، ويستتبع ذلك مسافة نقدية واحدة إزاء جميع “القيم” الموروثة في جميع تقاليد الفكر بما فيها عقل الأنوار والتجربة العلمانية التي انحرفت نحو اللادينية المناضلة”[3].

فهناك قدر عظيم من القلق في عالمنا المعاصر بشأن العنف المتزايد الصراعات والإرهاب، حيث أن التهديدات حقيقية وتشمل الجميع، ومن ثم فالحاجة ماسة إلى فعل شيء لهزيمة هذه الأخطار وقهرها، وهناك خطوات اتخذت في هذا المجال لاسيما بعد أحداث 11سبتمبر2001، على شاكلة التدخل العسكري في العديد من المناطق في العالم الإسلامي، ولكن هذه العمليات العسكرية لم تلق الإجماع حتى في البلدان الغربية نفسها، ومعنى ذلك أن العالم متفق على وجود خطر العنف والإرهاب، إلا أن الحل لا يمكن أن يمر عبر الحل العسكري، لأن ذلك في النهاية لن يؤدي إلا إلى عنف مضاد، ومزيد من الخراب والدمار.

مقاربة أركون إذن، تنطلق من الدعوة إلى ضرورة ربط ظاهرة العنف بتمفصلاتها الأساسية ضمن المثلث الأنثروبولوجي: عنف/ تقديس/ حقيقة، وهذه الدعوة إلى تبني المقاربة الأنثروبولوجية، تندرج ضمن مشروعه العام الذي يقوم على رصد التداخلات الأساسية في التجربة البشرية من مختلف النواحي الثقافية، الدينية، السياسية، ولإنجاز هذا المشروع يقترح أركون مجموعة من الثلاثيات المعبرة عن جدل مضامين التراث مع المجتمع والتاريخ، أو ما يدعوه بالمثلثات الأنثروبولوجية (Triangles anthropologiques) معتبرا إياها “المواقع المعرفية بصفتها المقدمة الاستكشافية والاختبارية لنقد العقل الديني من خلال النموذج الإسلامي”[4]، وهي:

  • اللغة- التاريخ- الفكر.
  • الوحي- التاريخ- الحقيقة.
  • الإيمان- العقل- الحقيقة.
  • الزمن- القصص- الحقيقة (المعنى النهائي والأخير).
  • العقل- المجتمع- السلطة/ السيادة العليا.
  • العنف- التقديس- الحقيقة.
  • عقلاني- لاعقلاني- خيالي/ مخيال.

الملاحظة العامة حول هذه الثلاثيات تتمثل في اشتمالها على مختلف الأبعاد المتحكمة في نشأة وتطور التراث الإسلامي والظاهرة الدينية عموما، وذلك من خلال جدل الحقيقة والتاريخ والمجتمع، ولا شك أن تحليل ومناقشة هذه الثلاثيات أو المثلثات-على صعوبته وتعقده- يمكن من بلوغ رؤية أكثر شمولية، أكثر ارتباطا بالواقع، وأكثر تاريخية حول التراث الإسلامي، لذلك نجد أركون يركز على أهمية البعد الأنثروبولوجي كبعد محوري تدور حوله مختلف الأبعاد الأخرى، فعالم الأنثروبولوجيا كما يؤكد روجيه باستيد هو ” الوحيد الذي بإمكانه دراسة كل مظاهر الواقع من البيولوجي إلى اللساني حتى تقنيات العمل والتنظيم الاجتماعي، وهو لا يدرسها كمجموعة مظاهر مستقلة، ولكن كنظام مترابط الأجزاء”[5].

وموضوع بحثنا يتعلق بالمثلث الأنثروبولوجي السادس في اللائحة السابقة، المثلث الذي يتمفصل فيه العنف مع التقديس والحقيقة، فإذا كان العنف عبارة عن ممارسة أو سلوك، فإنه لا بد أن يكون مبنيا على تصور معين على المستوى النظري والفكري، باعتباره تمثيلا وتعبيرا عن الحقيقة، ولكن ما الذي يسمح بالانتقال من تصور أو “حقيقة” معينة إلى ممارسة العنف؟ ببساطة، إنه التقديس أو المقدس، ففي سبيله تتم التضحية، وفي سبيله تسيل الدماء وتزهق الأرواح، فكثيرة هي الحروب التي تتم باسم الدين، أو باسم الإله، والمتتبع لأشرطة الفيديو التي تبثها الجماعات الإرهابية وتصور فيها عمليات القضاء على ضحاياها، يجد أن تصفية الضحية يكون مسبوقا بقراءة نصوص أو آيات معينة وربما يتم التكبير قبل الذبح !! وهذا ما يجعلنا نطرح سؤالا ملحا هو خلفيات ومبررات هذا الفعل، فما الذي يجعل الإنسان بكل بساطة يصل إلى ممارسة هذه الدرجة من العنف باسم المقدس؟

أولا: في مفهوم الأرثوذكسية والعقلية الدغمائية

يبدو أنه من المهم التوقف عند بعض المفاهيم المفتاحية في هذا الموضوع، على غرار السياج الدغمائي والأرثوذكسية، العقلية الدغمائية، الرأسمال الرمزي، المثلث الأنثروبولوجي، وهذا من منطلق حضور هذه المفاهيم ومحوريتها في مقاربة أركون، فكثير من هذه المفاهيم يصطدم بها القارئ –العربي خاصة- لأول مرة في سياق الحديث عن موضوعات الفكر الإسلامي، وقد عمل مترجم أعماله هاشم صالح في كل ترجماته على شرح وتوضيح مختلف المفاهيم الأساسية والمبتكرة من قبل أركون، وبالنسبة لموضوع بحثنا هذا تهمنا بالدرجة الأولى المقدمة التي وضحها المترجم لكتاب أركون المعنون بـ: الفكر الإسلامي قراءة عملية، والتي عنوانها: بين مفهوم الأرثوذكسية والعقلية الدوغمائية، وشرح فيها بدقة مرجعية أركون في هذين المفهومين ومضمونهما وكذا مواطن توظيف أركون لهما[6].

فالمعطى الديني ملازم للتجربة التاريخية للبشر، حيث يذهب الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون إلى أن الإنسان/ المجتمع بإمكانه الاستغناء عن أشياء كثيرة، ولكنه لا يستطيع الاستغناء عن الدين أو على الأقل نوع معين من التدين، مثلما يؤكد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا أن الدين أو التدين من الميول الطبيعية المركوزة في النفس الإنسانية، وهذا الميل إلى التدين ينشأ عن الحاجة إلى قوة أو مبدأ أكبر من الإنسان يمنح الطمأنينة والأمان ويضفي معنى على الوجود، وقد لعب المعطى الديني دورا تاريخيا مهما في جل المجتمعات، غير أن هذا الدور كان متأرجحا بحسب المعطيات وموازين القوى، فمثلما لعب دورا ايجابيا في النزوع للسلم أثناء بعض اللحظات التاريخية، كان محركا قويا للعنف وللعنف المضاد في لحظات أخرى.

والدين أيا كان-سماويا أو وضعيا وحتى أغلب الإيديولوجيات المعاصرة التي لا تختلف في كثير من المعطيات عن الدين-يقدم نفسه لأتباعه كـ”منظومة من العقائد واللاعقائد المقبولة، بصفتها حقائق لا يجوز المساس بها، ولا نقاشها، أي العقائد التي تفلت من كل تساؤل نقدي للعقل”[7]، وهكذا تنشأ العقلية الدوغمائية انطلاقا من هذه الصلابة في الاعتقاد، فالعقلية الدوغمائية ترتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الشدة والصرامة مجموعة أخرى وتعتبرها لاغية لا معنى لها. ويعتبر المؤمنون بهذا الدين أو هذه المنظومة من العقائد أن عقيدتهم تمثل التعبير الأكمل عن الحقيقة، ومن ثم فهي تمنحهم أفضلية امتلاك الحقيقة، ويفترض عليه في المقابل ضرورة حمايتها والدفاع عنها ونشرها أيضا عند الآخرين، الذين هم في الظلالة والباطل الذي ينبغي دحضه والقضاء عليه…، يقول أحد الباحثين: “إن الأحقاد الطائفية يمكن أن تنشر كالنار في الهشيم، كما رأينا في كوسوفو والبوسنة ورواندا وتيمور وفلسطين والسودان، وأماكن كثيرة في أنحاء العالم، وأماكن كثيرة في أنحاء العالم، ومع التحريض المناسب، يمكن أن يتحول وعي متعمق منذ النشأة بهوية مشتركة مع جماعة من الناس إلى سلاح قوي يوجه بوحشية ضد جماعة أخرى…والنتيجة يمكن أن تكون عنفا عارما داخل الوطن، أو إرهابا وعنفا مراوغا ومدبرا على مستوى كوكبي”[8]، هكذا تتصرف كل فئة مؤمنة بدين معين تجاه غيرها ممن لا يشاركها الملة، فتتحول الأديان من أنظمة عقائدية-معرفية إلى أنظمة للتنافس والصراع والاستبعاد المتبادل، فكل هوية دينية تعتقد أنها أفضل من غيرها، وكل محاولة للمساس بها أو الانتفاض منها يتم التصدي لها بكل الطرق بما فيها العنف بكل أشكاله، وهو ما تمظهر عبر التاريخ في صورة متعددة تراوحت بين الحذر المتبادل في بعض الحالات، والحرب تحت مسميات عدة كالغزو، والحروب الصليبية، والفتوحات والجهاد…الخ، فما يقدمه الفكر الديني على أنه “دين الحق” يكشف علم الاجتماع والأنثروبولوجيا النقاب عنه، على أنه إيديولوجية جماعة لتفرض تفوقها ..إن هذا التحليل يصدق على القرن الإسلامي الأول كما يصدق على المشروعات الحالية للحركات الإسلامية”[9]، وهذا ما يدعوه أركون بالحقائق السوسيولوجية، ذلك أنه يميز بين تمظهرين أو نمطين من الحقائق، فهناك الحقائق الاجتماعية أي التي تؤمن بها الجماعات وتدافع عنها، على غرار المعطيات الدينية وأساطير التأسيس، وكل مضامين المخيال الاجتماعي، وفي المقابل هناك الحقائق الحقيقية-إن صح التعبير- وهي المعطيات العلمية والفلسفية والتاريخية.

محمد أركون: مشروع القطيعة التاريخية

نلاحظ بصورة جلية التمفصل الأساسي بين العنف والدين/ المقدس والحقيقة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تعقد الأمور وتداخلها، وبالتالي عدم إمكانية الحديث عن العنف بعيدا عن هذه العلاقة التي يرسمها المثلث الأنثروبولوجي السالف الذكر، ومما يزيد الموضوع تعقيدا أن هذا المثلث أو الثلاثي المفاهيمي يشتغل ويتأثر وفقا لعلاقات جدلية مع منظومة مفاهيم مترابطة لا يمكن إغفالها في البحث ونقصد بها: السلطة، القوة، الهيمنة، التاريخ، اللغة، الرمز، الأسطورة، والمجتمع، يقول الأنثروبولوجي الفرنسي جورج بالانديه G. Balandier:”كثيرا ما يتم تحويل الماضي الجماعي إلى سنن وتقاليد، فتصبح مصدرا للمشروعية وخزانا للصور والرموز ونماذج الفعل، وهذا ما يسمح بتوظيف تاريخ مثالي يتم بناؤه وإعادة بنائه بحسب الحاجة، لخدمة السلطة القائمة”[10]، فهذه الأخيرة لابد لها من متكئ نظري تستند إليه في الحفاظ على بقائها مهيمنة على الأفراد، وهذا المتكئ يتم بناءه من خلال تجميع أو تركيب معين للتاريخ، بحيث يبدو من جهة نقيا صافيا بطوليا، ومن جهة أخرى يتضمن عناصر منتقاة بدقة من قبل السلطة القائمة لتبرير وجودها وإضفاء المشروعية على ممارستها، ذلك ما حدث في التاريخ الإسلامي يقول أركون مؤكدا ذلك: “مع مجيء الدولة الإمبراطورية يتم استعمال الرصيد الذي نقله القرآن الكريم لبناء إسلام رسمي-مستقيم الرأي-وفرضه، رسمي لأنه ينتج من اختيارات الدولة السياسية التي تلغي فيزيائيا معارضيها، باسم التأويل المختلف للرصيد الرمزي”[11]، يكفي أن يتأمل الإنسان الصراع السني-الشيعي المدمر لكثير من البلدان والمجتمعات الإسلامية خاصة في سوريا واليمن، أو الصراع المالكي-السني- مقابل الإباضي-الخوارج- الذي طرأ مؤخرا في مدينة غرداية بالجزائر وجعل المدينة تدخل في دوامة من العنف المدمر.

فالتاريخ والدين والرموز وحتى الأساطير يتم تحويلها إلى رأسمال رمزي بلغة عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو P.Bourdieu، وهذا الرأسمال أو الرصيد باعتباره يتضمن النماذج العليا والمثالية وبالتالي الحقيقة القصوى للجماعة يصبح أداة فعالة في يد السلطة القائمة لاستعماله في غاياتها الخاصة، ومنع استعماله من قبل الآخرين-المعارضة، فيصبح الرأسمال الرمزي محل منافسة ومزايدة بين مختلف القوى، يقول محمد أركون: “الطموح إلى الهيمنة مرتبط دائما بتأكيد حقيقة دون غيرها من الحقائق المنافسة، إن العقل العقائدي اليقيني صاحب السيادة، يتم بثقة وبعجرفة غالبا هذا العمل التقسيمي والتنكيري الذي تتقنع فيه الرهانات الحقيقية لهذه المنافسة”[12]، فهناك تلاعب كبير من قبل السلطة بما هو ديني ورمزي لخدمة مصالحها، لذلك يؤكد أركون في أكثر من موضع أن هناك تحالفا خفيا بين السلطة واللغة الرسمية والدين الرسمي والتاريخ الرسمي، لاحتكار الحديث باسم الحقيقة، ومن ثم سهولة التخلص من كل ما هو معارضة، أو شفوي، أو شعبي…، بدعوى الزيغ عن الحقيقة وعن الطريق القويم، وهكذا تتشكل الأرثوذكسية Orthodoxie ‘L في معناها العام- وليس المقصود هنا المذهب المسيحي المعروف بهذا الاسم- والذي يفيد الطريق المستقيم-بالتالي الوحيد-للخلاص والنجاة، فكل انحراف عن الرأي المستقيم، الصحيح يتم رميه بالبدعة والهرطقة والخيانة…الخ من التوصيات والتهم الجاهزة.

هذه الأرثوذكسية تتحول بمرور الزمن إلى سياج دوغمائي منيع، محصن ومحمي من قبل بحراس الأرثوذكسية أو كما يسميهم أركون متأثرا فيبر Max Weber مسيرو أمور التقديس، هذا السياج يقف ضد كل اختراق من قبل أفكار أو سلوكيات وافدة من قبل غير المنتمين إلى هذه الأرثوذكسية، ولا يمكن دمجها ضمن العناصر المشكلة للطريق المستقيم، وهذا ما يمكن أن نعثر عليه في تاريخ مختلف الأمم، وفي كل الديانات-خاصة الديانات التوحيدية الثلاثة-يقول أركون:”…ونستطيع كالعادة أن نعثر في تاريخ اليهودية والمسيحية على مواقف مماثلة للمواقف التي وصفناها في الإسلام، إن اليهود الذين انعزلوا في أحيائهم الخاصة قرونا طوالا، قد استمروا على تقاليدهم الربانية مراقبين بصرامة تسرب الأفكار والتصرفات التي لا تندمج في تلك التقاليد…وخاض المسيحيون صراعات مشهودة ضد نزعة الحداثة وقوى الدنيوة منذ القرن السادس عشر”[13]، فالديانات الثلاثة تشترك في مسألة مهمة وهي أنها تأسست على معطى الوحي الإلهي القائل بوجود إله واحد، ومن ثم فكل دين يعتبر نفسه ممتلكا للحقيقة المطلقة دون سواه، بالتالي، أتباعه مستعدون للذود عن هذه الحقيقة، وفرض أفضليتهم على الآخرين، ولو اقتضى الأمر اللجوء للقوة وللعنف والقتل، وهو ما حدث ويحدث كل يوم في واقعنا، والأدهى في الأمر كما يقول هاشم صالح: “أن القاتل “المؤمن طبعا” لا يشعر بأي ذنب أو تأنيب ضمير، على العكس يشعر بارتياح نفسي لا مثيل له لأنه أدى واجبه تجاه الله تعالى فقد خلص العالم من كفار وزنادقة ينجسون الأرض الطهور”[14].

فمقاربة محمد أركون لهذا الموضوع وفقا للمعطيات السالفة، تكتسي أهمية خاصة، ذلك أن المعطى الديني حاضرة بقوة في تحليلاته، بل يمكن القول أن جل أعماله تندرج ضمن سياق عام هو إعادة قراءة المعطى الديني في التجربة البشرية من خلال النموذج الإسلامي بالدرجة الأولى، هذا النموذج الذي تعرض دوما للاستبعاد المضاعف من قبل أهله ومن قبل الغرب؛ فالمسلمون ينأون بالإسلام بعيدا عن أية ممارسة علمية نقدية بدعوى أنه ختام الرسالات وكمالها، وهو صالح التطبيق في كل زمان ومكان، وشامل لمناحي الحياة؛ دين ودولة ودنيا، أما غير المسلمين فمنهم علماء الإسلاميات أو المستشرقون الذين يكتفون بنوع من الحديث البارد-كما يصفه أركون-عن ماضي الإسلام ويكررون ما يقوله المسلمون عن دينهم-مع اختلاف الغرض من هذه الفكرة-دون أدنى اكتراث بالواقع المعيش للمسلمين، ومنهم علماء الإنسان والمجتمع الذين يستثنون الدين عموما في تحليلاتهم، باستثناء علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين-وهم يشكلون مرجعية مهمة لدى أركون، وكما يقول ريجيس دوبروي في تقديمه لكتاب “العبد والرعية”: إن العقيدة تظل الزاوية الميتة في العلوم الإنسانية، إذن، فقد عمل أركون طيلة أزيد من نصف قرن على رفع هذا التحدي، وإعادة الاعتبار للظاهرة الدينية، لا بصورة شعبوية غرضها تهييج الجماهير واستغلالها كما يفعل الدعاة ورجال السياسة، ولا بصورة حيادية باردة كما يفعل أغلب المستشرقين، ولكن كمعطى ضروري ضمن معطيات أخرى لفهم الوضع البشري المعقد، هذا من خلال إنتاج فكر ديني جديد قادر على تجاوز الوضع المتأزم في اللحظة الراهنة، يقول موضحا موقعه/ موقفه من الخطابين العربي الإسلامي والغربي وهدفه الذي سعى لتحقيقه:”إن كلتا الممارستين أقصد الممارسة الأوروبية وممارسة البلدان المسلمة يقدم التمجيد القومي والتأكيد المفعم بالكبرياء “للقيم” والتي تفلت من كل نقد فلسفي، والتبرير الذاتي والتأسيس الذاتي، وما ندعوه العودة إلى الديني والإلهي هو بالفعل تعزيز لإيديولوجيات القتال، والاستبعاد، والتوسع داخل الأمم وبين المعسكرات أو مناطق الهيمنة السياسية والاقتصادية، وههنا نقاط استراتيجيات لتدخل الفكر النقدي والبحث المنفتح”[15].

وأول عقبة تعترضنا في مقاربة موضوع العنف، تتجلى في التباين والالتباس في وصف بعض الظواهر العنيفة؛ فما يوصف في بعض السياقات بالإرهاب، يوصف في سياقات أخرى بالمقاومة وتصفية الاستعمار، كما يمكن أن يوصف في بعض الأوساط بالفوضى والتمرد وخرق حقوق الإنسان أو الحرب العادلة، وتحضير الشعوب المتخلفة والقضاء على الاستبداد والأنظمة الطاغية وما إلى ذلك من التوصيفات، التي وإن تكن عارية من الصحة فهي لا تعبر عن كامل الحقيقة والموضوعية، ففي أحسن الأحوال تعبر عن الحقيقة من وجهة نظر قائليها ووفقا للسياق الذي ترد فيه.

من المهم التأكيد على أن كل بحث يحاول مقاربة موضوع العنف والدين والحقيقة يتطلب من جهة الكثير من الحذر، وإرجاء التقييم والنتائج قدر المستطاع، على اعتبار التعقيد والالتباس الذي يلف ظاهرة العنف وكذا موضوع الدين فكما يقول جاك دريدا:”إن كلمة الدين هي الأكثر وضوحا والأكثر لبسا في نفس الوقت”[16]، ومن جهة أخرى فهو يتطلب عدة مفاهيمية ومنهجية متعددة تستفيد من مختلف المعطيات التي توفرها علوم الإنسان والمجتمع، وهي المنهجية التي يتبناها أركون في مجمل أبحاثه، وهو ما يعطي مقارباته أهمية كبيرة بالنظر لجدة وكثافة العدة المنهجية التي يوظفها.

من جهة أخرى فإن مقاربة موضوع العنف تتطلب استبعاد تلك الأحكام المسبقة، وتلك المزايدات غير الموضوعية التي تجعل العنف خصيصة مجتمع دون غيره أو دين دون الأديان الأخرى، يقول محمد أركون: “من الحماقة القول على سبيل المثال: الإسلام عنيف، كل إنسان عنيف، المشكلة هي أن نرى كيف يحدث أو يتمظهر في الإسلام أو الماركسية أو المسيحية أو أية منظومة فكرية أو اجتماعية كبرى هذا البعد أي العنف، لأنه ببساطة ينتمي لشرط الإنسان وطبيعته”[17]، وهذا لا يعني أن التاريخ الإسلامي غير معني بالعنف، بالعكس فقد شهد الكثير من المحطات التي كانت فيها العنف سيد الموقف، وكثيرا ما يتم تصفية المختلف بحد السيف، إذ يكتفي وصفه بالمزيد أو الزنديق حتى يباح دمه والأمثلة كثيرة، وقيل ذلك كله فثالثة من الخلفاء الراشدين ماتوا مقتولين !! ومع ذلك فليس العنف خصيصة إسلامية، فهو ظاهرة قديمة قدم البشرية ومنتشرة في كل المجتمعات والديانات والأزمنة، ضف إلى ذلك، فهناك مسألة مهمة في نظر أركون وهي ضرورة التمييز بين الإسلام كدين أو كنص أو نموذج، والإسلام كممارسة اجتماعية وإطار تاريخي ثقافي حضاري مرتبط بالفاعلين الاجتماعيين، يقول أركون: “من الواضح أن كل مسلم يحمل بداخله هذا النموذج المحبذ للأخوة والانفتاح على الآخر، ولكن ذلك يتعلق بالفرد، لأن هذا الأخير يعيش في جماعة فهو يقع تحت ضغط الإيديولوجيات المحددة لجمعاته، وهذه الإيديولوجيات للأسف لا تعكس بدقة النموذج الإسلامي”[18].

والمفارقة الكبرى أن كل الأديان لا تتردد في إدانة العنف والدعوة إلى التسامح، لكنها في الوقت عينه تباركه وتدعو إليه حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن الحقيقة التي تنص عليها هذه الديانة أو السعي لفرضها بالقوة على من يعترض عليها، وهنا يكمن رهان المقاربة الأركونية، في فضح هذا التناقض في المواقف، وفي فضح التلاعب الذي يستهدف تأويل النصوص الدينية لتبرير ممارسات سياسية بحثة غرضها الهيمنة وتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية، هنا يجد الخطاب النقدي الرصين مجالا لتدخله، لفتح الطريق أمام تصور جديد للعقل وللحقيقة، تصور بعيد عن الدوغمائية وعن الأرثوذكسية، ومن ثم كل البعد عن شتى أشكال الاحتكار والتنافس، يقول أركون:” ينبغي العلم أنه إذا ما قدم الخطاب النقدي المبلور من قبل العقل نفسه كسلسلة من المقترحات الحرة المطروحة للنقاش وليست المفروضة فرضا على الناس من فوق فإنه ستظهر عندئذ إمكانيات للسير معا على طريق الحقيقة فالحقيقة تقع في نهاية مسار طويل وليست معطاة بشكل جاهز في البداية، إنها محصلة النقاش الحر وتضارب الآراء”[19].

ثانيا: الإسلاميات التطبيقية: المفهوم والمرجعية:

كتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في تقديمه لكتاب محمد أركون الصادر مؤخرا بعنوان “التشكيل البشري للإسلام” موضحا الموقع المنهجي والفكري عموما أركون قائلا: “إن محمد أركون خاض المعركة على جبهتين لا جبهة واحدة: جبهة نقد العقل الإسلامي وجبهة نقد العقل الغربي…كان أركون يحتل موقفا وسطا بين ثقافتين، الإسلامية والفرنسية، ولكنه لم يكن “هجينا ثقافيا” ذلك لأنه شكل استقلالية الذاتية انطلاقا من هذه الازدواجية الثقافية، لقد كان منغرسا في هذه وتلك، ولكنه لم يكن محضورا لا في هذه ولا في تلك، لقد تجاوزهما عن طريق الانتهاك والتجاوز والتخطي، من هنا نتج سوء الفهم أو التفاهم الذي رافق بحوثه الصائبة والضرورية إلى أقصى الحدود، ومن هنا أيضا خصوبة فكرة التي سوف تتجلى أكثر في المستقبل”[20]، هذا النص يوضح جيدا الموقع الذي يحتله أركون كوسيط بين ثقافتين العربية الإسلامية من جهة والغربية-الفرنسية خاصة- من جهة أخرى، هذه الوساطة التي لا تعني أبدا التوفيق أو التقريب بين المختلفين، إنما تعني النقد لكلا الطرفين والسعي لنجاوزهما معا، وهي مهمة ليست بالمهمة السهلة، بل هي عسيرة جدا ومحفوفة بالمخاطر لاسيما سوء الفهم من قبل مختلف الأطراف، وهو ما أسماه أركون بكثير من الحسرة بالتواصل المستحيل مع كلا الطرفين.

ولعل الجانب المنهجي الذي يسلكه أركون يعبر عن الوجه الأبرز للمسلك النقدي الذي تبناه ولإرادة التجاوز هذه التي سعى لتحقيقها، ورغم استعادته وتوظيفه لبعض المفاهيم أو الإشكاليات سواء من الثقافة الإسلامية أو الغربية، إلا أن خطابه بقي مسكونا بهاجسي النقد والتجاوز، فهو ينتقد الفكر الإسلامي وكذا الاستشراقي من جانب تخلفهما المنهجي وعدم مسايرتهما للتطورات الحاصلة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، سواء كان المبرر كونها علوما دخيلة كما يعتبرها غالبية ممثلي الفكر الإسلامي، أو من منظور أنها مجرد موضات وسحابات عابرة مثلما هو الشأن بالنسبة لموقف أغلب المستشرقين من هذه التطورات، كما ينتقد الفكر الغربي المعاصر (الحداثة وما بعد الحداثة) بسبب عدم إيلائه الأهمية اللازمة للثقافات غير الغربية وخاصة الثقافة العربية الإسلامية، وعدم تحرره الكلي من المركزية الغربية حتى عند نقاد هذه المركزية، ومن ثم فهناك طغيان للفكر الإيديولوجي على حساب التوجه المعرفي، وهذا ما يبرر الهاجس الثاني لدى أركون، أي هاجس التجاوز، بمعنى سعيه الحثيث لتجاوز مختلف المواقف التقليدية إسلامية كانت أم غربية، وفسح المجال لانبثاق موقف جديد، موقف نقدي يطغى فيه التوجه الإبستيمولوجي على الإيديولوجي، وإرادة المعرفة على إرادة الهيمنة، ضمن عقلانية نقدية منفتحة، وهذا ما حاول تجسيده في مشروعه الموسوم بـ”الإسلاميات التطبيقية“، يقول عن هذا المشروع”…لقد آن الأوان لتجاوز الإيديولوجيات السهلة، وتطوير تفكير إبستمولوجي نقدي حول المنظومتين الفكريتين العربية الإسلامية والغربية، هذا التفكير يبدو لنا أنه الشرط الأول لإمكانية تأسيس إسلاميات تطبيقية”[21].

فالإسلاميات التطبيقية هي عنوان المشروع المنهجي البديل الذي نظر له أركون من خلال جل أعماله، خاصة بعد كتابه الرئيس الذي صدر سنة 1984 بعنوان: Pour une critique de la raison islamique وترجم إلى اللغة العربية بعنوان: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، وقد علق أركون على مشروعه هذا آمالا كبيرة لتجاوز الفكرين الإسلامي والاستشراقي في آن معا، من خلال تحقيق الهدف الأسمى والذي يشكل الصيغة الثانية أو الوجه الآخر لهذا المشروع والمتمثل في “نقد العقل الإسلامي” كمرحلة أولى في سبيل نقد العقل الديني في الديانات التوحيدية الثلاثة بصورة عامة كما ظهر ذلك جليا في الكتاب الذي صدر مباشرة بعد وفاته بعنوان:”نحو تاريخ مقارن للديانات التوحيدية”.

وقد صرح في الورقة التي قدمها للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من أجل التخطيط الشامل للثقافة العربية في بداية ثمانينيات القرن الماضي قائلا:”وقد انتهى بي تدبر المجتمعات الإسلاميات المعاصرة وإعادة القراءة للنصوص المؤسسة للفكر الإسلامي (القرآن والحديث والتفسير والسيرة وأصول الفقه وأصول الدين والأخلاق والتاريخ) إلى وضع برنامج بعيد الآفاق، عالي الهمة طويل النفس، صعب الإنجاز وهو ما أسميته نقد العقل الإسلامي”[22].

ويتفق العديد من دارسي أركون على جملة من المميزات الخاصة بمشروعية الفكري البديل لاسيما الجرأة، الجدة والحداثة، وصعوبة التطبيق، ونجد إقرار هذه السمات حتى عند نقاده على غرار محمد المزوغي الذي يقول:”الرجل [أركون] ألقى على عاتقه مهمة صعبة جدا، لم يعهدها عند المستشرقين ولم يعثر عليها عند الدارسين العرب المحدثين، أعني مهمة قراءة التراث الإسلامي الظاهر والباطن منه، قراءة علمية نقدية، المشروع المعرفي الجديد الذي دشنه أركون، هو مشروع فذ وفريد من نوعه فعلا”[23].

ورغم أن أركون من المفكرين المهتمين كثيرا بالاحتفاء بالأجهزة المفاهيمية والاصطلاحية التي يوظفونها في أبحاثهم وهذا من خلال تكرار الشروح والتوضيحات، إلا أنه بالرغم من ذلك لم يفرد عملا معينا للتنظير لما أسماه بالإسلاميات التطبيقية، عدا الفصل الأول من كتابه الأساسي: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، والمعنون بـ:”حول الأنثروبولوجيا الدينية نحو إسلاميات تطبيقية”، وهو فصل صغير الحجم إذا ما قورن بدراساته الأخرى، إذ لا يتعدى ثلاثة عشر صفحة*، وحتى ضمن هذه الصفحات القليلة لا نعثر على مفهوم دقيق للإسلاميات التطبيقية، ومع ذلك لا يخلو كتاب أو حوار مقال لأركون إلا وأشار فيه إلى مشروعه المسمى بالإسلاميات التطبيقية، ومن ثم فالسؤال الأولي الذي يتبادر إلى الأذهان هو ما الذي يقصده أركون من وراء التسمية؟.

من الصعوبة الحصول على مفهوم دقيق للإسلاميات التطبيقية، ولا يمكن فهم المقصود بهذا المصطلح إلا من خلال المقارنة بينه وبين مصطلح آخر وهو الإسلاميات الكلاسيكية (الاستشراق)، ذلك لأن أركون يقدم مشروعه تارة على أنه تجاوز لهذه الأخيرة، وتارة أخرى على أنه تكملة وتطوير لها بتحديد مناهجها وربطها بالحركة العلمية المعاصرة، ففي رده على سؤال يتعلق بنقده للاستشراق أجاب:”…هذا عائد إلى تخلف منهجي وإبستمولوجي كنت قد ألمحت إليه أكثر من مرة عندما انتقدت الإسلاميات الكلاسيكية (أي الاستشراق التقليدي) ودعوت إلى تكملته عن طريق الإسلاميات التطبيقية (أي تطبيق منهجيات العلوم الإنسانية ومصطلحاتها على دراسة الإسلام عبر مراحل تاريخه الطويل”[24].

فالإسلاميات التطبيقية تأتي لسد تلك النقائص –خاصة على مستوى المنهج- التي تعاني منها الدراسات الإسلامية شرقا وغربا، وهو ما يؤكده إدريس هاني بقوله:”الإسلاميات التطبيقية جاءت للإجابة على جملة من الشروط العلمية التي يفرضها الوضع العلمي إزاء مجال لم يدرس بالصورة المطلوبة، تلك الشروط التي لم تتوفر لا في داخل العالم الإسلامي (…) وأيضا لم تتحقق في الإسلاميات الكلاسيكية”[25]. ومن هنا يتضح لنا أن الفرق بين المجالين هو فرق منهجي بالأساس، إذ ليس هناك تضاد مطلق بين ممارستين للعلم نفسه (علم الإسلاميات Islamologie’L)، كما أعلن أركون أنه بالإمكان الكف عن الحديث عن الإسلاميات التطبيقية إذا ما تجاوزت الإسلاميات الكلاسيكية نقائصها فـ”الإسلاميات التطبيقية متضامنة كليا مع الإسلاميات الكلاسيكية بشرط واحد، هو أن تخضع هذه الأخيرة خطابها الخاص لعملية نقد إبستمولوجي شديد (…)، إنه لن يعود هناك من مكان للحديث عن الإسلاميات التطبيقية، إذا ما تحملت الإسلاميات الكلاسيكية، بدورها، وبشكل تضامني، كل الصعوبات الحالية للمجتمعات العربية الإسلامية من جهة ومخاطر ممارسة علمية هي الآن في أوج تجددها من جهة أخرى”[26].

وتنظير أركون للإسلاميات التطبيقية كإستراتيجية منهجية يعبر عن محاولته الاستفادة من التطور الحاصل في العلم الغربي لاسيما في ميدان الأنثروبولوجيا، فحتى تسمية مشروعه بالإسلاميات التطبيقية هي مقايسة على الأنثروبولوجيا التطبيقية لعالم الأناسة الفرنسي روجيه باستيد، يقول أركون: “استوحينا هذه التسمية من كتاب صغير لروجيه باستيد Bastude Roger  بعنوان الأنثروبولوجيا التطبيقية، وبحوثنا تسير في الخط نفسه”[27].

وقد افتتح العنصر الخاص بمفهوم الإسلاميات التطبيقية، بالفقرة الأولى من كتاب باستيد المذكور آنفا، وهي التي تحدث فيها عن تصور الأنثروبولوجيا التطبيقية للعلاقة بين العلم النظري والممارسة العملية، وضرورة استيعاب هذا التصور للتحول الذي حصل من نموذج رينيه ديكارت R. Descartes (1596-1650م) إلى نموذج كارل ماركس K. Marx (1818-1883م)، والهدف من وراء الاستشهاد بهذه الفقرة هو تحديد موقع الإسلاميات التطبيقية مقارنة مع الإسلاميات الكلاسيكية، فهذه الأخيرة “خضعت قليلا أو كثيرا للنموذج الديكارتي الذي يدعو إلى المعادلة التالية: أن تفهم أو أن تعرف= أن تتأهب للشيء من أجل السيطرة عليه، لكن، من أجل أن تسيطر عليه فإنه ينبغي البدء بالمعرفة أولا، لكنك لن تستطيع أن تعرف (أو أن تفهم الشيء) إلا بشرط أساسي: هو أن تحرر ولو للحظة واحدة من هاجس السيطرة”[28].

فقد كان الاستعمار هدفا عمليا تابعا خلف أغلب الدراسات الاستشراقية، ولكن بعد زوال الاستعمار، تحول العلم الاستشراقي إلى مجرد تجميع للمعلومات، دون الاهتمام بكيفية جعل المجتمعات الإسلامية تستفيد من هذه المعارف في حل مشاكلها الحالية، وهنا يمكن تدخل الإسلاميات التطبيقية، فهي تريد أن تصحح هذا الوضع، بأن تتنزل في إطار خلفية فلسفية لا استعمارية، وهي خاصية علم الأناسة الحديث والمعاصر الذي عدل معرفيا علم الأنثروبولوجيا الكلاسيكية، وذلك بنقلها من مجال النزعة العرقية المركزية التي رافقت تاريخ ظهورها الأول إلى مجال المعرفة الموضوعية والشاملة، وبعبارة أخرى نقلت الأناسة مقاصدها من مجال معرفة الإنسان من أجل السيطرة عليه إلى مجال معرفة الإنسان من أجل تحقيق تصور صحيح عنه[29].

والارتكاز على معطيات الأنثروبولوجيا التطبيقية “كعلم نظري يدرس الفعل الإنساني، قوانينه، وحدوده”[30]، يفرض على الإسلاميات التطبيقية التموقع داخل المجتمعات المدروسة والإصغاء لكل الأسئلة والإشكاليات التي يطرحها الفاعلون الاجتماعيون وواقع عيشهم، مما يجعلها ممارسة علمية مرتبطة بالواقع العلمي المحسوس، وبالتالي تميزها عن الإسلاميات الكلاسيكية التي تبقى على الرغم من أهميتها تكرس رؤية نظرية خارجية عن موضوع دراستها.

الإسلاميات التطبيقية والأنثروبولوجيا التطبيقية

فالاهتمام بأسئلة الواقع يشكل نقطة تقاطع بين الإسلاميات التطبيقية والأنثروبولوجيا التطبيقية وهي الفكرة التي يشرحها أركون في قوله: “إنني أتحدث عن هذه الإسلامولوجيا التطبيقية مثل بعض الأنثروبولوجيين الفرنسيين ومنهم روجيه باستيد (..) كان بدوره من أوائل الذين اتخذوا موقفا من الإثنولوجيا والأنثربولوجيا التي كانت تقتصر على أن تكون وصفية وتكتفي بالنظر عن بعد إلى المجتمعات غير تلك الغربية، دون النظر إلى آثار هذه الأوصاف على المجتمعات المدروسة، وقد حاول أن يبين أن البحث الأنثروبولوجي حول المجتمعات مثلا، التي بدون كتابة مثل المجتمع الإفريقي له مسؤولية هامة، وله أن يغذي، أيضا، ويبين في آن واحد، العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الأبحاث المنجزة على الصعيد العلمي وتطلعاته وتوق المجتمعات”[31].

والإسلاميات التطبيقية إذ تجمع بين الطابع العلمي والممارسة العملية، فإنها حسب مؤسسها، تتجاوز بهذه الخاصية كلا من الرؤية الاستشراقية التي تكتفي بتجميع المعلومات بدعوى “الموضوعية والحياد”، والرؤية الإسلامية التي يغلب عليها الطابع الإيديولوجي والنزعة التمجيدية الافتخارية، ذلك ما نفهمه من قول أركون: “إنني وجدت نفسي أنسلخ عن ما يمكن أن نسميه بالاستشراق لأنني لا أنظر إلى المسائل، فقط نظرة جامعية، أكاديمية صنيع أغلب المستشرقين (…) وأنسلخ أيضا عن نظرائي وزملائي من العرب والمسلمين الذين ينتمون شأني إلى الأمة الإسلامية، أنفضل عن هؤلاء الذين يعالجون مشاكلنا بالأسلوب النضالي الإيديولوجي والسياسي فحسب”[32].

بناء على ما سبق، فإنه يمكن القول بأن الإسلامية التطبيقية هي بمثابة موقع منهجي يهدف إلى تأسيس خطاب جديد ورؤية معاصرة للإسلام تاريخا وتراثا، رؤية تأخذ بعين الاعتبار مسألتين أساسيتين هما: الواقع العلمي والآفاق المعرفية التي افتتحتها ونفتتحها كل يوم علوم الإنسان والمجتمع، والواقع الاجتماعي للإنسان العربي المسلم المعاصر، فهي-الإسلاميات التطبيقية-مثلما يعرفها صاحبها “ممارسة علمية متعددة الاختصاصات وهذا ناتج عن اهتماماتها المعاصرة (فهي تريد أن تكون متضامنة مع نجاحات الفكر المعاصر ومخاطره) والمتطلبات الخاصة بموضوع دراستها”[33].

ويرى الباحث الزواوي بغورة أن مشروع أركون بتقارب مع ما يدعوه ميشيل فوكو بتاريخ الحاضر[34]، وذلك لأن هناك ارتباط عضويا بين حاضر المجتمعات الإسلامية وماضيها، ولا بد من المراوحة بين دراسة الحاضر والماضي، إذ “لا يمكن أن ندرس قطعة من تاريخ الحقبة القديمة دون ربطه بالمشاغل الحالية للفكر العربي الإسلامي[35]، وهذا ما يبرز تردد دراسات أركون وأبحاثه بين الماضي والحاضر الإسلاميين، فموضوع الإسلاميات التطبيقية يتمثل في بحث العلاقة بين التراث والحداثة، ولا يمكن في نظره فهم التراث فهما دقيقا دون الاضطلاع بمهمة أخرى وتتمثل في استيعاب معطيات الحداثة، وهذا طبعا لتحرير الفكر الإسلامي من شتى أشكال الأسطرة والأدلجة، يوضح أركون هذه الفكرة بقوله: “لما كان الهدف النهائي للإسلاميات هو خلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات (Tabous) العتيقة، والميثولوجيا البالية، ومحررا من الإيديولوجيات الناشئة حديثا، فإننا سوف ننطلق من المشاكل الحاضرة، ومن الأسلوب الذي عولجت به هذه المشاكل في المجتمعات الإسلامية، نحدد بذلك، نوعين أو قطعتين من الاهتمامات التي تتموضع حولها مسائل علمية، ووسائل واختيارات مرحلية، وأهداف نهائية، هما: القطب الذي يدعوه العرب بالتراث (…)، ثم قطب الحداثة”[36].

هذا النص يبين لنا بصورة واضحة اختلاف أهداف الإسلاميات التطبيقية عن منظور الإسلاميات الكلاسيكية، من حيث ارتباط الأولى بالجانب العملي، واقتصار الثانية على الناحية النظرية، ويكفي أن نلقي نظرة على الورقة التي أعدها أركون في إطار التخطيط الشامل للثقافة العربية حتى نتأكد من ذلك، حيث نجده يقسم البرنامج الذي يقترحه إلى قسم نظري وقسم عملي تطبيقي.

من جهة أخرى نلاحظ أن أركون يتحدث عن إسلامياته التطبيقية كاستراتيجية منهجية بصدد التكون، وكأنها مخطط عمل أو برنامج ينتظر الإنجاز، فهي مشروع مفتوح، وبنفس اللغة التي يتحدث روجيه باستيد عن الأنثروبولوجيا التطبيقية التي ينظر لها “كعلم بصدد التكوين”[37]، ومن ثم فالاستراتيجية المنهجية لأركون تبقى مشروعا يتم إنجازه تدريجيا دون أن يكتمل نهائيا، بالنظر لارتباطه بأسئلة الواقع التي تتجدد باستمرار وأسئلة الماضي التي لا تزال بحاجة للقراءة وإعادة القراءة.

ثانيا: نقد الرؤية الأرثوذكسية للتراث الإسلامي:

إن تحقيق الإسلاميات التطبيقية لهدفها المعلن من قبل مؤسسها، ألا وهو التصدي لمشكلات الواقع المعيش بطريقة علمية موضوعية، وبالتالي السعي لحلحلة الإشكاليات الجمة، التي يرزح العالم العربي الإسلامي تحت وطأتها منذ أزيد من قرنين من الزمن، يتطلب تبني عدة منهجية جديرة بهذه المهمة المستعصية، وهنا تكمن إحدى نقاط القوة والتميز في أعمال محمد أركون، مقارنة بغيره من المشتغلين في هذا المجال، فخصيصة خطابه تتمثل تحديدا في البعد الإبستمولوجي الذي يحاول إضفاءه على أبحاثه المختلفة، وهذا وأدا للبعد الإيديولوجي الذي طغى على أغلب المشاريع الفكرية المتراكمة في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، فهو يتوسل بالعلمي ليستبعد الإيديولوجي، بل ويعمل على طرده عنوة من حقل دراساته، يؤكد نصر حامد أبو زيد هذه الفكرة بقوله: “يقدم أركون مشروعه الفكري على أساس أنه مشروع يسعى لتجاوز عمليات الاستخدام الإيديولوجي للدين في الخطاب الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى يسعى لتجاوز الموقف الوضعي الحيادي البارد للخطاب الاستشراقي”[38]، ومن ثم يصل المفكر إلى نتيجة مفادها أننا باحث يعي أهم شرطين من شروط إنتاج المعرفة وهما:

  • الوجود الاجتماعي للمفكر الذي هو في حالة أركون الميلاد في مجتمع مسلم (الجزائر) وتحصيل المعرفة في مجتمع آخر من “مجتمعات الكتاب”، وهي إشارة ذكية إلى الثقافة الأوروبية التي تمثل مرجع التفكير عند أركون.
  • الشرط الثاني من شروط إنتاج المعرفة وهو مؤسس على الشرط الأول، هو الشرط الإبستيمي (المعرفي-النقدي) ممثلا في أفضل طرق الاجتهاد المتاحة للمفكر في عصره[39].

فمن خلال مواطن النقص في الخطابين الإسلامي والاستشرافي يحاول أركون الانفصال عن هذين الخطابين وتجاوزهما، لتشكيل رؤية حداثية للتراث الإسلامي من داخل هذا التراث، وهذا من خلال دعوته المتكررة في كل أعماله إلى ضرورة تبني المناهج المبتكرة في علوم الإنسان والمجتمع لإعادة استكشاف هذا التراث وإعادة قراءته قراءة علمية، يقول في ذلك:”…هذه العلوم لا بد من ممارستها والإحاطة بها لمن يريد الخروج بالفكر الإسلامي من التقليد والترديد للشعارات الشكلية الخاصة بالخطاب الإيديولوجي إلى الاجتهاد المحرر للعقل المبدع للأفكار، المنفتح على الاكتشافات الحديثة، وكثيرا ما ألححت على ضرورة تطبيق الألسنة والتاريخ مع العلوم التابعة له والسوسيولوجيا وعلم النفس وتحليل النفس، على ميادين الثقافة الإسلامية”[40].

فجوهر التغيير والتحديث في نظر أركون يمر عبر تغيير المنهج، الذي يتم من خلال التسلح بأحدث المفاهيم والإشكاليات والآليات المنهجية المعتمدة من قبل الفكر الغربي، وفقا لما يدعوه عبد الله إبراهيم بالمقايسة والمماثلة بين السياقين العربي الإسلامي من جهة، والغربي من جهة ثانية، فمثلما استطاع الفكر الغربي أن يقلع في سماء الإبداع، يمكن للفكر العربي الإسلامي فعل ذلك بالاهتداء بسبيل الفكر الغربي، فالعلوم الإنسانية والاجتماعية كما هي ممارسة في الغرب، عبارة عن “نموذج ومعيار في القياس، وينبغي تبعا لذلك على النموذج الشرقي أن يمتثل له، لكي يثبت شرعيته وتقر نتائجه[41]، ومما يثبت لنا اشتغال آلية المقايسة في أعمال أركون، تلك الحماسة التي طالما رافقت حديثه عن العلوم الإنسانية وفتوحها، معتبرا إياها ضرورية وحاسمة.

فهو يقر بتأثره الشديد بالعلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، معتبرا أن تأثيرها على مساره الفكري كان مهما جدا، وفي إجابته عن سؤال يتعلق بعلاقته بالفكر الغربي نقرأ ما يلي:”…أنا لا أتحدث عن الفكر العربي الإسلامي من الخارج، بل أدرسه من الداخل وبمصطلحاته نفسها، ولذلك ليس لأحد أن يقول بأني أخلع عليه صفات من الخارج (…) ومع ذلك ينبغي علي أن أقول بأن تأثير المناهج السوسيولوجية والتاريخية والألسنة كان حاسما”[42].

كما نجده في موضع آخر يبرر عدم كتابته لأبحاثه باللغة العربية، بعدم إمكانية متابعة التيارات العلمية المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالاطلاع على جميع ما يصدر من كتب باللغات الأجنبية، ثم إيجاد المصطلحات اللازمة لنقل أجهزة المفاهيم المتجددة والمتحولة في كل لغة من اللغات الأصلية إلى اللغة العربية، لذلك فقد آثر القيام بالمهمة الأولى، المتمثلة في هضم وتمثل الأجهزة والأدوات الفكرية الطارئة المتجددة في العلوم الإنسانية والاجتماعية ثم إيجاد المناهج السليمة لتطبيقها في الدراسات الإسلامية، ويؤكد في كثير من المواضع أنه لا يفرض على الفكر الإسلامي ما لا ينطبق عليه من مناهج ومفاهيم غربية، بمعنى أنه يمارس عملية انتقاء على مستوى المناهج والمفاهيم ويختار منها ما يناسب موضوعه المتمثل في التراث الإسلامي، وقد أشار في مرات عديدة إلى ضرورة الحذر وعدم التسرع أثناء تطبيق المناهج الغربية على الظاهرة الإسلامية.

فهذه العملية ضرورية وحاسمة، وهي الحل النهائي والوحيد لجعل المسلمين ينظرون إلى ماضيهم وحاضرهم نظرة تاريخية واقعية، يقول:”…إذا ما قبل المسلمون المعاصرون أن ينفتحوا على هذه المنهجيات والعلوم الحديثة فإنهم سوف يستطيعون زحزحة الصخرة عن مكانها، وتجديد نظرتهم جذريا للظاهرة الدينية، واعتقد أن تحرير المجتمعات الإسلامية، عربية كانت أم غير عربية يبدأ من هنا، وإذا لك يبدأ من هنا فإنه لن ينجح في أي مكان آخر”[43].

كما يقدم أركون العديد من المبررات والمسوغات لتبني هذه الاستراتيجية المنهجية ذات البعد الإبستمولوجي، محاولا تجاوز مختلف الرؤى الأخرى التي يصنفها في خانة القراءات الإيديولوجية، فالمسلمون في غالبيتهم ينظرون إلى هذه المناهج على أنها غزو ثقافي وتغريب للفكر الإسلامي، في حين ينظر إليها المستشرقون الكلاسيكيون على أنها موضة عابرة، وقد آن الأوان لبلورة “استراتيجية متكاملة لتدخل الفكر العلمي في المجال الإسلامي”[44].

منطلق هذه الاستراتيجية؛ النظر لهذه العلوم الإنسانية والاجتماعية على أنها فتوح معرفية مفيدة لفهم مختلف الظواهر الاجتماعية بغض النظر عن الموطن والبيئة التي أنتجتها، فـ”بما أنه ليس هناك طب أو فيزياء أو كيمياء أو بيولوجيا خاصة بأمة من الأمم، فكذلك يمكن أن يقال على بعض مبادئ العلوم الإنسانية والاجتماعية”[45].

والإسلام كأي دين آخر يجب النظر إليه باعتباره جسدا مؤلفا من عدة عوامل لا تنفصم؛ العامل النفساني أو السيكولوجي (الفردي والجماعي) والعامل التاريخي (تطور المجتمعات الإسلامية) والعامل السوسيولوجي (أي محل الإسلام ضمن نظام العمل التاريخي لكل مجتمع، وانعكاس مصير هذه المجتمعات على الإسلام كدين) والعامل الثقافي (فن- أدب- فكر)، وكل عامل من هذه العوامل ينبغي استكشافه، وهذا مالا يتأتى إلا بالأدوات العلمية التي تتيحها العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، يقول أركون موضحا أهمية هذه العلوم: “وهكذا نجد أن تطبيق المناهج الحديثة مفيد جدا في تشخيص العلل والأمراض التي تعاني منها بشرط أن نحسن النقل والتطبيق بالطبع”[46].

وفي كل فترات التاريخ الإسلامي، كانت عملية تطبيق المناهج الغربية في مقاربة التراث الإسلامي من منطق أرسطو إلى أحدث المناهج من بنيوية (Structuralisme) وتفكيك (Déconstruction) وتأويلية (Herméneutique) وغيرها، مثار جدل كبير بين المفكرين المسلمين، بين مؤيد ومنظر لهذه العملية، ومتحفظ أو رافض لها من منظور مونها علوما “دخيلة” من جهة، وخصوصية الظاهرة الإسلامية مقارنة بالظواهر الأخرى من جهة ثانية، وهذا ما يفسر لنا ردود الفعل العنيفة-في بعض الأحيان- التي تثيرها أية محاولة لتطبيق المناهج الغربية على موضوعات إسلامية، هذه الردود التي اتخذت في أحيان كثيرة مسارا ينتهي بإشهار سلاح التكفير في وجه أصحاب هذه المحاولات، بداية من تكفير الغزالي للفلاسفة المشائين المسلمين، وصولا إلى تكفير مؤسسة الأزهر لنصر حامد أبو زيد بعد صدور دراسته الموسومة بـ:”مفهوم النص”، مرورا بما حدث مع علي عبد الرزاق (1888-1966م)، وما رافق صدور كتابه “الإسلام وأصول الحكم” من ردود فعل، وطه حسين (1889-1973م) مع كتاب “الشعر الجاهلي” والقائمة تطول، وليس أركون بمنأى عن هذه التهمة، إذ يكفي للتأكد من ذلك تصفح كتاب الباحث خالد كبير علال بداية من عنوانه “الأخطاء التاريخية والمنهجية عند محمد أركون ومحمد عابد الجابري*، فهذا الكتاب رغم ما تضمنه من انتقادات وجيهة لمشروعي أركون والجابري، إلا أنه مثقل بالأحكام القيمية المتسرعة والمعبرة عن استمرار فرض صورة معينة عن التراث الإسلامي، ورفض كل ما عداها، وهي الصورة التي يعتبرها أركون وكثير من المفكرين السائرين في فلكه صورة إيديولوجية لا بد من إحداث قطيعة معرفية معها لإحلال صورة تاريخية محلها، فتطبيق “المناهج العلمية والتاريخية على دراسة الفكر الإسلامي سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى تفكيك أوصال الصورة التقليدية الرازحة وإحلال الصورة الواقعية التاريخية محلها”[47].

هذه الصورة المنشودة لا يمكن بلوغها إلا بتحديث الجهاز الاصطلاحي والمنهجي المشكل لرؤيتنا للتراث “فلم يعد من الممكن قبول مفاهيم ومصطلحات تشكلت للتعبير عن ضرب معين من التفكير في مجال مغاير وطبقا لحاجات ثقافية مختلفة”[48]، ونحن اليوم بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لفهم أفضل للمحتوى الموضوعي للإسلام، سواء تعلق الأمر بنصوصه التأسيسية، أو النصوص الشارحة المفسرة للنصوص الأول، خاصة بعد الأحداث الخطيرة التي عاشتها أماكن عديدة شرقا وغربا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، مع تصاعد موجة الإسلام السياسي، وما رافقه من أعمال عنف داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها، لهذا يرى أركون أنه “لا بد من الاضطلاع بكل تعقد الحالة التاريخية المعاشة من قبل المسلمين، وكل قلق العقل المعاصر الذي يبحث عن الحقيقة، في وقت واحد”[49].

وفي نفس السياق يرى هاشم صالح أن أعين العالم أصبحت مركزة على الإسلام وتراثه وتأويلاته، ولن تنزاح عنا الأعين بعد اليوم حتى نقبل بمراجعة تراثنا وتاريخنا على ضوء المناهج العقلية كما فعلت الأمم المتطورة، فالتراث الذي ترتكب باسمه أبشع أنواع العنف والإرهاب” لن يستطيع أن يفلت من عملية المحاسبة أو الغربلة التاريخية الصارمة كما فعل قبل مرات ومرات، كل شيء يدل على أن المسلمين يقتربون أكثر فأكثر من منطقة الاستحقاقات الكبرى التي لا مفر منها وأولها؛ إخضاع تراثهم للدراسة العلمية والمساءلة الشديدة تماما كما حصل للتراث المسيحي في أوروبا بعد محاكم التفتيش والحروب المذهبية وإرهاب العقول”[50].

هذا النص الجريء يؤكد لنا أن فهم معطيات الراهن بكل تعقيداته يتطلب الاستعانة بمعطيات الحداثة العلمية بكل فتوحها ومنجزاتها، إذ لم يعد ممكنا الاكتفاء بما أقرته المناهج التقليدية والاحتماء في كل مرة وراء فكرة الخصوصية الإسلامية “المتعالية” فثمة تناقض صارخ لا يمكن تجاهله أو القفز عليه بين الصورة الذهنية المشكلة عن الإسلام، وواقع المسلمين وتصرفاتهم، هناك فرق كبير بين الصورة النيرة للإسلام، والواقع المظلم للمسلمين، وإزالة هذا التناقض لا تتم إلا بالاعتراف بتعقد الأمور وكثافة الواقع، ثم الاستعانة بأحدث المناهج لتفكيكها قصد فهمها فهما مطابقا لحقيقتها أولا، ثم إيجاد البدائل والحلول في المرحلة الثانية، “فكلما اقتربنا في العلوم الاجتماعية من الوصف الدقيق والتفسير المطابق للحقيقة المعاشة، كلما أثرنا عمقيا بشكل أفضل على قدر المجتمعات المدروسة ومصيرها[51]، وبالتالي فتحنا المجال أمام إمكانية التغيير نحو الأفضل.

إن الاستعانة بمعطيات العلوم الإنسانية والاجتماعية يشكل رهان أركون الأكبر لبلوغ مقاربة أكثر موضوعية للتراث الإسلامي، ومن ثم تشكيل رؤية أكثر دقة حول حاضر المسلمين مما يساعد على التصدي لما يكتنف هذا الحاضر من عوائق، وهذا ما يعتبره شارح أركون ومترجمة-هاشم صالح- بداية للخروج من الأزمة التي يعيشها المسلمون، لأنه “لو حصل تأويل آخر للإسلام –أي تأويل تاريخي نقدي مستنير- يواجه التأويل التقليدي الذي يحتل الساحة من أقصاها إلى أقصاها لابتدأت الأمور بالتحليل فعلا (…) المحاولة التي أعرفها في هذا المجال هي محاولة محمد أركون”[52].

العنف والتدين في فكر محمد أركون

في نفس السياق يرى الجابري أنه “بغير تجديد التفكير في الأسئلة القديمة وطرح أخرى جديدة لن يتأتى لنا الارتفاع بمستوى فهمنا لـ”الظاهرة القرآنية” إلى الدرجة التي تجعلنا معاصرين لها وتجعلها معاصرة لنا”[53]، وما قيل عن القرآن الكريم يقال أيضا عن السنة النبوية الشريفة، ويقال أيضا بالنسبة للنصوص الشارحة لهما، وكذا مختلف العلوم المرتبطة بالظاهرة الإسلامية ككل (فقه، أصول، تفسير، لغة…) لأن “الإجابات التي قدمها القدماء على الأسئلة التي طرحوها تدخل بالنسبة إلينا ضمن ما يقع خارج زماننا واهتماماتنا، ومن هنا تصبح المشكلة مشكلتنا نحن كذلك: كيف نبني لأنفسنا فهما للقرآن؟”[54]، ومن الضروري إذن أن تكون قراءتنا للقرآن وللسنة ولكل التراث الإسلامي مستحضرة لمعطيات راهننا، دون أن نهمل البعد التاريخي وما طرأ على المجتمعات الإسلامية من تغيرات وتطورات عبر التاريخ، على ألا يفهم من ذلك الانتقاص من قيمة ما أنجز في السابق، فلكل عصر معطياته وعلومه وإشكالياته وكل مجتهد مهما علا كعبه يظل في النهاية محكوما بمعطيات عصره، أو بما يمكن التفكير فيه أثناء الفترة التي عاش فيها، وفي كل فترة يبقى مجال غير ممكن التفكير فيه (Impensable)، ليس لضعف المجتهد إنما تلك طبيعة وآلية التطور المعرفي في كل عصر وفي كل ثقافة، وأثر الأطر الاجتماعية للمعرفة (Les Cadres sociaux de la connaissance) في تحديد مجال الفكر فيه (Pensée) واللامفكر فيه (Impensée) لكل فترة زمنية وفي كل مجتمع.

فالتحديد وإعادة القراءة للتراث مسألة ضرورية في كل فترة، وهي عملية لا تكتمل أبدا (Processus inachevée)، ومهما كان هذا التراث غنيا، “فلا يكفي أن نعمل جردا شاملا للتراث، ثم نقف منذهلين ومفتونين أمام غناه، إنه لأكثر حيوية وأهمية، أن نتساءل كيف نقرأه، أو كيف نعيد قراءته؟ إنه من غير الممكن أن نقيم روابط حية مع التراث ما لم نتمثل أو نضطلع بمسؤولية الحداثة كاملة”[55].

إضافة إلى معطيات الواقع المعيش التي تفرض الاستعانة بما بلغته علوم الإنسان والمجتمع لمقاربة موضوع التراث الإسلامي، هناك مبرر آخر يتكئ عليه أركون لتبرير توظيفه للمعطيات العلمية المعاصرة في إضاءة التراث الإسلامي، وهو تجل آخر لمبدأ المقايسة الذي أشرنا إليه آنفا، حيث يرمي إلى تجاوز إشكالية التضاد العدائي المزمن بين الشرق والغرب، من خلال إعادة مفهمة المصطلحين أو المجالين، فهو يعتبر أنه من الخطأ النظر إلى العالم الإسلامي كجزء من الشرق، سواء بالمعنى الجغرافي أو الحضاري أو الثقافي، إذ يقول:”…هكذا يصبح العالم العربي الإسلامي شرقا، في حين الشرق الحقيقي يبتدئ بعد أفغانستان: أي الهند والصين، فالعالم العربي الإسلامي غرب بالمعنى الجغرافي والحضاري وليس شرقا كما نتوهم”[56]، ويبرر هذا الموقف الذي قد يبدو غريبا لدى البعض، بوجود حلقة وصل تاريخية وحضارية بين العالم الإسلامي وأوروبا فكلاهما ينتمي إلى مجال البحر الأبيض المتوسط، وفترات الاحتكاك والتأثر والتأثير كثيرة عبر التاريخ، يؤكد ذلك بقوله: “الإسلام الإيراني-التركي-العربي- البربري مرتبط بأوروبا (أي الغرب) أكثر مما هو مرتبط بالشرق، وذلك عن طريق صلة الوصل المتمثلة بحوض البحث الأبيض المتوسط”[57]، هذا الموقف وإن بدا غريبا أو غير مألوف إلا أنه ليس بالجديد، إنما هو استعادة لما آمن به التيار الليبرالي في الفكر العربي النهضوي على غرار سلامة موسى وطه حسين، فهذا الأخير يرى أن هناك مجالان ثقافيان: أحدهما “الشرق البعيد” ويقصد به الهند والصين واليابان، والآخر “الغرب الأوروبي” وبينهما “الشرق القريب” وهو مصطلح هجين يأخذ اسمه من المجال الأول، ومضمونه من المجال الثاني، فهو امتداد ثقافي للغرب منذ الرومان[58].

هذه الزحزحة المفهومية (Déplacement conceptuel) تمكن من النظر إلى العالم الإسلامي على أنه امتداد بشكل ما للغرب، أو على الأقل فهو مرتبط بصورة ما بالغرب، ومن ثم فهي مقدمة مهمة لتفعيل مبدأ المقايسة، والتقليل من تأثير فكرة الخصوصية الإسلامية، وهذا من خلال دمج العالم الإسلامي في سيرورة التاريخ العالمي، والنظر إليه على أنه مثل غيره من العوالم، لا يختلف في تطوره وما يطرأ عليه عن غيره، ومن ثم فما عرفته أوروبا أو العالم الغربي من مراحل تاريخية وما شهدته من صراعات وحروب وأزمات، سيعرفه العالم الإسلامي بصورة أو بأخرى، كما أن أفضل السبل لتحقيق التطور والرقي هو الأسلوب الذي اتبعته أوروبا، والمتمثل في إخضاع تاريخها وتراثها لإعادة قراءة نقدية على ضوء مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، تأكيدا لمشروعية هذه المقايسة يستشهد هاشم صالح بمواقف العديد من المفكرين الأوروبيين المختصين بشؤون العالم الإسلامي، الذين يذهبون إلى أن العالم الإسلامي يشهد الآن الأزمة نفسها التي شهدها العالم المسيحي الأوروبي قبل مائة أو مائتي سنة[59]، وفي مؤلف آخر يؤكد هذه الفكرة قائلا: “إن أزمة المسيحية مع العقل العلمي الصاعد تشبه إلى حد ما أزمتنا مع الحداثة المعاصرة وأعراض المرض متشابهة هنا وهناك”[60]، ويستدل على ذلك بإجراء مقارنة بين موقف رجال الكنيسة، وممثلي الحركات الإسلامية من معطيات الحداثة، ملاحظا أنه “عندما تقرأ تصريحات باباوات روما في القرن التاسع عشر ضد الفلسفة الليبرالية والعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومعظم أفكار الحداثة تكاد تسمع أصوات الأصوليين نفسها عندنا وهو يدينون الديمقراطية ويعتبرونها كفرا ما بعده كفر (…) فالغرب ليس من جنس وبقية البشر من جنس آخر، الغرب أيضا كان متخلفا، أصوليا، متعصبا مثله في ذلك مثل غيره، وذلك قبل أن يتقدم ويستنير ويمشي على ضوء العقل”[61].

مسألة التقدم إذن، ليست مرتبطة بجنس معين دون آخر، ولا حكرا على مجتمع دون غيره، إنما هي مسألة تتوقف على مدى حضور العقلانية والنقد والرؤية التاريخية في الحياة الفكرية للمجتمع، ومدى توظيفه لهذه الموجهات في نظرته لماضيه ولحاضره، وذلك ما تتيحه مناهج علوم الإنسان والمجتمع التي تفسر لنا في نظر أركون” سبب تطور المجتمعات الأوروبية على كافة الأصعدة وتخلف المجتمعات الإسلامية على كافة الأصعدة أيضا، وهي التي تحرزنا بذلك من التفسيرات المثالية والجوهرانية الجامدة التي تلقي اللوم كله على العقائد الدينية للبشر”[62]، من جهة أخرى فإن هذه العلوم تعد منطلقا للتطور والرقى والتحرر: “فالمنهجيات الحديثة لعلم الإبستمولوجيا المعاصرة وللعقل النقدي، وهي مناهج لا تقاوم ولا ترد، وهي المناهج التي طبقت على التراث المسيحي الأوروبي وأدت إلى انطلاقه الشعوب وتحررها”[63].

هذا النص يكشف بدقة عن الأهمية الكبيرة للعلوم الإنسانية في نظر أركون، وكذا ثقته المفرطة في نتائجها التي لا ترد بتعبيره، وبالتالي فإن تطبيقها في فهم واقع المسلمين وماضيهم من شأنه أن يحرر المجتمعات الإسلامية مثلما حرر من قبل المجتمعات الأوروبية، فمثلما طبقت هذه المناهج على التراث الأوروبي، وعلى النصوص التوارتية والإنجيلية وأعطت نتائج مهمة، فإن تطبيقها على التراث الإسلامي وعلى النص القرآني سيعطي نتائج مهمة أيضا وسيحررنا من الرؤية الأرثوذكسية للتراث العربي الإسلامي ويجعلنا أكثر انفتاحا على الآخر وبالتالي أكثر تسامحا.

فمعطيات هذه العلوم تمثل في نظر أركون معيارا ونموذجا والفعالية ومن ثم لا بد من الالتزام بها لكل من يروم مقاربة الحقيقة، يقول في نص “خطير”: “إني أحرص على الالتزام بمبادئ المعرفة العلمية واحترام حقوقها مهما يكن الثمن الإيديولوجي والبسيكولوجي والاجتماعي الذي ينبغي دفعه للقيام بذلك (أو نتيجة القيام بذلك) باهظا”[64]،كما يؤكد في موضع آخر أنه يتوجب على الباحث أن يلتزم فقط بإرضاء المبادئ المنظمة أو المشكلة لكل ممارسة معرفية.

وإذا كان الهدف من هذا الموقف هو محاولة استبعاد الموجهات الإيديولوجية واستئصال كل إيديولوجيا أو أرثوذكسية ممكنة، قصد التموقع في المجال الإبستمولوجي، فإنه في المقابل يطرح أكثر من إشكالية، خصوصا إذا استحضرنا مسألة كون “العلمية” في مجال الظواهر الإنسانية والاجتماعية لم ترق بعد إلى المرتبة التي تلغي فيها كل نقاش حولها، فهي مثار جدل حتى في الفكر الغربي المعاصر، الذي يعتبر منبتها ومنشأها الأصلي، إذ هناك نظريات ومناهج قيد التبلور، وهناك فروع علمية قيد التشكل، ولما تترسخ مبادئها بعد وتثبت أهليتها لتتقبل من طرف المجتمع دون أي تحفظ بشأن قيمتها وفعاليتها.

إن هذه الإشكالية، أي مسألة النسبية في العلوم الإنسانية ليست غائبة على أركون فهو على وعي تام بها وقد أشار إليها أكثر من موضع معتبرا أنه “ليس هناك من خطاب أو منهج برئ”[65]. والحل في رأيه لن يكون في العزوف عن الاستفادة من هذه العلوم بدعوى نسبية مناهجها ونتائجها، إنما يكمن في تبني التعددية المنهجية، من أجل تجنب أي اختزال للمادة المدروسة، وفتح نوافذ جديدة لرؤية التراث الإسلامي رؤية معاصرة، وقد أشار إلى ذلك مذكرا بالورقة التي قدمها للجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية، والتي تطرقنا لبعض مضامينها في أول البحث، حيث يقول: “وألححت في هذا البرنامج على ضرورة إعادة القراءة لتاريخ الإسلام والتراث العربي، اعتمادا على أصولية ومناهج حديثة تمكن من إلقاء ضوء جديد على التراث وإبداع موقف فكرية أكثر ارتباطا والتزاما بالفكر العلمي المعاصر”[66].

والمتتبع بدقة للفكر العربي الحديث والمعاصر يلاحظ بجلاء ارتباط العديد من المشاريع الفكرية الدراسة للتراث الإسلامي بالمناهج الغربية، حتى أنه لا يكاد يظهر منهج جديد في الفكر الغربي إلا ونجده بعد مدة قصيرة مطبقا على مضامين معينة من التراث العربي الإسلامي(كالوضعية والماركسية، الوجودية، البنيوية، التفكيكية…)، إلا أن أغلب هذه المشاريع اكتفت بالالتفاف حول منهج واحد، فكان نجمها يأفل بأفول نجم المنهج الذي طبقته، كما أن أحادية المنهج كثيرا ما تتحول بفعل التعسف والدغمائية إلى رؤية إيديولوجية، وعلى عكس هذه المشاريع، اتسمت تجربة أركون بالتعدد المنهجي الكبير، الذي جعل منها تجربة مثيرة ذات أهمية استثنائية في الفكر العربي المعاصر، فهو يؤكد في كل مرة على ضرورة التسلح بمختلف المناهج الحديثة للتصدي لموضوع مهم جدا كالتراث الإسلامي في كل أبعاده، فقد”آن الأوان للانخراط في أكبر عملية تفكيك في تاريخنا الفكر والثقافي، ما الذي أقصده بعملية التفكيك؟ أقصد بأن كل الموروث الديني لمختلف المذاهب والطوائف ينبغي أن يتعرض لأكبر عملية غربلة من خلال تطبيق مناهج علم الألسنات الحديثة، وعلم التاريخ الحديث وعلم الاجتماع وعلم النفس التاريخي وعلم الأنثربولوجيا، وبالطبع علوم الأديان المقارنة والأنثربولوجيا الدينية واللاهوت المقارن، بعد عملية التفكيك تجئ عملية التركيب أو إيجاد البديل…”[67].

هذا النص واحد من نصوص كثيرة يحفل بها المكتوب الأركوني يؤكد فيها أهمية علوم اللغة والاجتماع والأناسة والتاريخ وغيرها، في إنجاز ثورة معرفية داخل التراث الإسلامي، من شأنها أن تسمح بانبثاق تصور جديد لهذا التراث يقطع مع التصورات التقليدية الموروثة التي يعتبرها مرتبطة بمنظومة الحياة الفكرية القروسطية والتي لا يمكن الاستمرار في ترديدها زمن الحداثة وما بعدها، مع الإشارة أنه ينبه إلى التطور الكبير الذي عرفته هذه العلوم منذ منتصف القرن العشرين، إذ يقول:”لا بد من التمييز بين الصورة الجديدة والابتكارية لهذه العلوم، وبين صورتها التقليدية السابقة، فقد تغيرت حدودها ومناهجها ومكانتها المعرفية (الإبستمولوجية) بشكل جذري”[68]، ويشرح ذلك مبينا أن هناك فرقا جوهريا بين علم التاريخ بصورته التقليدية المرتكزة على دراسة الوقائع والأحداث، وبين التاريخ الجديد بالصيغة التي تمارسه عليها مدرسة الحوليات في فرنسا، كما أن هناك فرقا كبيرا بين علم النحو وفقه اللغة الكلاسيكية كما هي ممارسة عليه في مجال الدراسات العربية، وبين الألسنات الحديثة والقفزة الهائلة التي حققتها مؤخرا، يضاف إلى ذلك الفرق الواضح بين علم الاجتماع البدائي والوضعي وبين الطموحات التحليلية والنقدية الكبرى للعلوم الاجتماعية الحديثة.

هذه التوضيحات جعلت العديد من الباحثين يرون أن خصوصية الطرح الأركوني تكمن في إلمامه العميق بالتراثين العربي والإسلامي والغربي، ذلك ما نقرأه لدى مختار الفخاري على سبيل المثال الذي يقول:”فهو[أركون] واحد من الذين جمعوا بين ميزتين: استيعاب المدونة المفهومية الضخمة للفكر النقدي المعاصر من ناحية، والإلمام بتاريخ الفكر الإسلامي وتشعباته وتعقيداته وثراءاته الهامة من ناحية أخرى”[69]، وهذا ما يعطي قراءة أركون للتراث الإسلامي طابع الجدة والعمق، فقد اتخذت أبحاثه منحى جديدا، يتصل بتاريخ أنظمة الفكر حيث يتلازم التاريخ السوسيولوجي وعلم الألسنات الحديث بعلم الأديان المقارن، الذي يهدف إلى تأسيس أنثروبولوجيا دينية تتوسل بالمعارف المشار إليها وسواها، بغاية البحث عن مقاربة علمية وموضوعية لماهية الظاهرة الدينية”[70].

فالمهمة الأولى للإسلاميات التطبيقية، تتمثل في إنجاز –أو وضع معالم وأسس- مقاربة نقدية للتراث الإسلامي، من خلال إعادة قراءته وفق مقتضيات العقل الحديث، وهي قضية احتلت مكان الصدارة في أدبيات الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، ولعل ذلك متأت من كون الموقف من التراث كان ولا يزال متحكما بصورة كبيرة في الوقف من باقي القضايا الأخرى سواء تعلق الأمر بالموقف من الآخر أو الموقف من الواقع.

يؤكد طه عبد الرحمن الأهمية الكبرى للتراث معتبرا إياه روحا لا حياة لفكر دونها، ومن ثم “لا سبيل إلى الانفكاك عن حقيقة التراث التاريخية ولو سعى المرء إلى ذلك ما سعى، لأنها وإن بدت في الظاهر حقيقة بائنة ومنفصلة بحكم ارتباطها بالزمان الماضي، فهي في جوهرها حقيقة كائنة ومتصلة تحيط بنا في كل جانب وتنفذ فينا من كل جهة (…) وليس تكاثر الأعمال المشتغلة بالتراث، دراسة وتقويما، إلا دليلا قاطعا على الشعور بملازمة التراث لنا تاريخا وواقعا”[71].

وهي الأهمية التي لا ينكرها أركون حيث يرى أننا لا نستطيع التقدم في معرفة الإسلام الحالي إلا بتعميق وتوسيع البحث حول الإسلام الكلاسيكي[72]، فتكون بذلك المهمة الضرورية والملحة هي الانطلاق من واقع الفكر الإسلامي ونظرته إلى تراثه، ثم العودة إلى الوراء تبعا للمنهجية التقدمية-التراجعية، وحفريات فوكو، ومختلف المناهج العلمية الحديثة،قصد البحث عن فهم أفضل وتصور أدق وأعمق عن التراث الإسلامي، أي بلوغ رؤية حداثة للتراث الإسلامي، لأنه “من غير الممكن إقامة روابط حية مع التراث ما لم تتمثل أو نضطلع بمسؤولية الحداثة كاملة”[73].

حياة محمد أركون: رحلة تفكيك السياجات الدوغمائية

رغم أن هناك تزايد للمثقفين العرب المنفتحين على الحداثة، إلا أنهم يبقون معزولين، كما أن هناك تجاهل لمواضيع عديدة بمثابة “مسائل محرمة Tabous، إما من قبيل التكتيك وإما بسبب الخوف المعلن وإما بسبب الجهل بتاريخ الإسلام والمجتمع، مما ينتج عنه منطقة شاسعة من اللافكر فيه داخل الفكر العربي الإسلامي المعاصر. ومهمة المثقف اليوم هي أن يتصدى لها بكل عزم وتصميم، أيا تكن العقبات المتزايدة تدريجيا وأيا تكن المخاطر والصعاب”[74]، ومعنى ذلك أن هناك صورة معينة للإسلام لا بد من تغييرها بإحلال صورة أخرى أكثر اتساعا وشمولية وأكثر انفتاحا وأقل أرثوذكسية، بمعنى أنها تعترف بكونها مجرد قراءة أو مقاربة ممكنة فقط ضمن مقاربات كثيرة، فأركون ينتقد الصورة التي يقدم بها الإسلام من قبل المسلمين وهي صورة تعكس القطيعة المزدوجة التي عرفها الفكر الإسلامي من جهة مع الفكر الإسلامي الكلاسيكي ذاته، والذي كان مبدعا-ولو في حدود ما يسمح به العصر الذي ظهر فيه-ومن جهة أخرى مع الفكر الغربي الحديث منذ ديكارت إلى يومنا هذا، وبالتالي مع كل الآفاق المعرفية التي افتتحها وطورها هذا الفكر ضمن مسار الحداثة.

ومن آثار هذه القطيعة المزدوجة أنه “لم يعط أي مجال لتكون وعي تاريخ من شأنه أن ينظر بطريقة نقدية إلى البناءات القصصية والإيديولوجية للإيمان والمعرفة التاريخية”[75]، لذلك سادت نظرة سطحية عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وقد ساهمت وسائل الإعلام في تعزيز هذه الصورة من خلال النشر المتزايد الاتساع لأدبيات قريبة من لغة “الحس العام” الذي تهيمن عليه هذه الوسائل، ويصف أركون هذه الصورة الراهنة والطاغية في الغرب حول الإسلام بأنها تعبر عن “الإسلام محرتق (Bricolé)، وتحيل الأشياء إلى ذاته (Essentialisé) ومخزف (Mythologisé) ومؤدوت (Instrumentalisé)، وخصوصا معزول عن الحداثة الفكرية وعن مرجعياتها الكلاسيكية الأكثر نخصيبا”[76]، وتكاد تكون هذه الصورة نفس تلك التي يرسمها عبد المجيد الشرقي-الذي يشيد به أركون كثيرا- عن الفكر الإسلامي المعاصر حيث يرى أن “جل ما ينتجه الفكر الإسلامي في أيامنا هو إما اجترار وإعادة لما جاء عند القدماء، مع تبسيط وتسطيح مخلين في كثير من الأحيان وإما توظيف وإسقاط تحتل فيهما الإيديولوجيا مكان الحقيقة والعلم، وإما تناول لقضايا جزئية لا ترقى إلى النظرة الشمولية ولا تضع المسائل في إطار نظري واضح، وهو في أفضل الحالات تعبير عن النوايا وبسط لما ينبغي أن ينجز، يتذرع بصعوبة المشروع أو يلمح ولا يصرح متوخيا التقية ومحبذا السلامة”[77]، وإذا كانت هذه هي صورة الإسلام والفكر الإسلامي، فما هي الطريقة التي يتم بها تغيير هذه الصورة وتشكيل رؤية حداثية عن الإسلام، صورة يتغلب فيها العلم والحقيقة على الإيديولوجيا؟

أعلن أركون منذ أعماله المبكرة أنه يسعى إلى “نزع الأسطرة (Démythologisation) ونزع الأدلجة (Désidéologisation) عن الفكر الديني في الإسلام، وهذا التجديد المأمول غير ممكن إلا بانفتاح هذا الفكر على البحوث الحالية حول مقارنة الأديان والأنثربولوجيا الدينية، للتحرر من أشكال الدغمائية الأرثوذوكسية الطائفية التي راكمتها مختلف المجموعات الاجتماعية الثقافية خلال ثلاثة عشر قرنا”[78].

والهدف هو تقديم صورة مختلفة تمام الاختلاف عن الصورة الراهنة للإسلام، من خلال تفكيك الإيديولوجيات السائدة بعيدا عن العقليات الدغمائية التي أسهمت في بناء هذه الإيديولوجيات، وهذا مالا يتم إلا من خلال فكر نقدي تاريخي، يعيد قراءة التراث الإسلامي، قراءة تعتمد على كل المعطيات العلمية التي تفرزها العلوم الإنسانية والاجتماعية في الفكر الغربي كل يوم، ولما كان التراث الإسلامي متنوعا وثريا إلى درجة يتعذر معها الإلمام به، بالإضافة إلى وجود نفس التنوع والثراء في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإن أركون يتحدث عن هدفه لا كمشروع منجز، وإنما “كمعالم على الطريق الطويل والصعب” و”مشروع شديد الجدة وشديد التعقيد”..الخ.

التراث الإسلامي محمد أركون

يوضح أركون أبعاد وأهداف مقاربته للتراث الإسلامي بقوله:”…إن هذا البرنامج الضخم من التفحص والبحث المتمثل في فهم كل المنتجات الثقافية العربية من الناحية السوسيولوجية الأنثربولوجية والفلسفية هو الذي أحاول تنفيذه والإحاطة به (…) إنه برنامج نقدي بمعنى دراسة شروط صلاحية كل المعارف التي أنتجها العقل ضمن الإطار المتافيزيكي والمؤسساتي والسياسي الذي فرض عن طريق ما كنت قد دعوته بالظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية”[79].

هذا النص يوضح لنا بدقة المعالم الأساسية لمقاربة أركون للتراث الإسلامي، وكذا السمات الأساسية المميزة لهذه المقاربة عن غيرها من المقاربات الأخرى المتبلورة في حقل الدراسات العربية الإسلامية؛ فهناك تميز على مستوى الموضوع، وعلى مستوى المنهج وكذا الهدف، والتوجه النقدي الجذري والصارم، وهو ما أعطى مشروعه طابع الجدة باعتراف نقاده، ذلك ما نقرأه مثلا عند رون هاليبر في قوله:”لا بد أن نرى في عمل أركون عملا مجددا وعملا أصيلا في الحين نفسه، ولا جرم أن أركون هو أول مفكر في مباشرة النقاش حول إمكانية تفسير جذري وجديد للإسلام وتاريخه ولأفكار الإسلام واللامفكر فيها، معتمدا مفاهيم فلسفية معاصرة، ولاسيما فلسفة فوكو ودريدا”[80].

سنحاول توضيح معالم هذه الرؤية ومواطن التجديد والأصالة لدى أركون من خلال التفصيل في أبعاد هذه الرؤية، موضوعا ومنهجا ونتاجا.

أول خاصية من خصائص المقاربة الأركونية للتراث الإسلامي تتمثل-كما ورد في النص السابق- في الانفتاح على التراث الإسلامي في كليته، وهي الخاصية التي يوضحها في موضع آخر، مؤكدا أنه يهدف في أعماله إلى “تأسيس تاريخ منفتح وتطبيقي للفكر الإسلامي، أقصد أنه منفتح على كل تجليات هذا الفكر، وعلى كل منتجاته التي تتجاوز الحدود والحواجز التي فرضتها الأدبيات الهرطقية (=البدعوية) والتيولوجية”[81]، والهدف من خاصية الانفتاح هذه، هو محاولة تجاوز تلك الرؤى التجزيئية للتراث الإسلامي، التي تشكلها كل فرقة من الفرق الإسلامية (السنة، الشيعة، الخوارج…)، معتقدة أنها الرؤية الحقيقية، ومن ثم فهي الفرقة الممتلكة للحقيقة وهي الفرقة الوحيدة الناجية، أما الفرق الأخرى فهي مبتدعة إن لم تكن ضالة، في حين يعتبر أركون أن مهمته كمؤرخ وباحث عن الحقيقة الموضوعية، يفرض عليه عدم تفضيل فرقة أو اتجاه على آخر، والتعامل مع الكل على قدم المساواة.

من جهة أخرى فإن الانفتاح على التراث الإسلامي في كليته يسمح بتدارك الاختزال والبتر اللذين مارستهما الدراسات الاستشراقية على هذا التراث من خلال تركيزها على التراث المكتوب، وعلى نصوص كبار المفكرين المسلمين دون سواهم، فالاهتمام بالتراث ككل من شأنه أن يعيد الاعتبار للتراث الشفوي، المنسي، المهمش، المتنكر واللامفكر فيه، وهي المواضيع التي تنتج بالضرورة عن البتر التاريخي، والضغوط الانتخابية (الانتقائية) التي يمارسها أي تراث ثقافي على نفسه، مهما يكن هذا التراث، فهذه عمليات طبيعية في تاريخ الثقافات والمعارف والعلوم.

نلمس الأثر الكبير الأنثروبولوجيا والنقد الثقافي على منهجية أركون من خلال انفتاحه على غير الرسمي وعلى الهوامش وعلى ما لم يتم التفكير فيه…الخ، وموضوع النقد الثقافي هو تمجيد المعارض والاحتفال بالهامشي في مواجهة “الراقي” مع الاهتمام بالمهمل والمهمش، ونقد أنماط الهيمنة وفتح أبواب البحث ذي الاتجاه الأنسني النقدي الجريء، وبفضل إعادة الاعتبار للقطاعات المهملة في التراث الإسلامي، يتم بلوغ المهمة الأساسية التي وضعها أركون نصب عينيه والمتمثلة في تفكير اللامفكر فيه، وإعادة التفكير فيما سبق التفكير فيه وتم التخلي عنه فيما بعد لمبررات مختلفة، فلابد من الشروع في استعادة كل الموضوعات/المشاكل التي طمست أو رميت في ساحة المستحيل التفكير فيه من قبل الإسلام الرسمي منذ الأمويين إلى يومنا هذا.

وعلى رأس هذه المواضيع المستعدة والتي لا بد من إعادة بعث التفكير فيها بذكر أركون: مسألة تاريخ النص القرآني وتشكيله، تاريخ مجموعات الحديث النبوي، ثم الشروط التاريخية والثقافية لتشكل الشريعة، ثم مسألة الوحي، مسألة خلق القرآن والانتقال من الرمزانية الدينية إلى الدولة والقانون القضائي، مكانة الشخص البشري، حقوق المرأة والطفل…الخ، وقد وضع قائمة مفصلة للنصوص التي يجب إعادة قراءتها بدء بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كنصوص مؤسسة، ثم النصوص الثواني أو النصوص الشارحة والمفسرة لدى كل فرقة من الفرق الإسلامية دون استثناء وصول إلى الخطاب الإسلامي المعاصر، وهذا ضمن الورقة التي قدمها ضمن مشروع التخطيط الشامل للثقافة العربية[82].

وقد انعكست خاصية الانفتاح في رؤية أركون للتراث الإسلامي على المصطلح الذي يوظفه للدلالة على هذا التراث، ألا وهو مصطلح السنة الإسلامية الشاملة، وفي هذا التوظيف يتفق مع نصر حامد أبو زيد الذي يرى أنه “إذا أردنا أن نقدم قراءة من داخل اللغة لمفهوم التراث فعلينا أن نتخلى فورا عن الجذر اللغوي “ورث” لأنه لا يشير في التداول القرآني إلا ما يتركه الشخص الميت من مال فيورث عنه”[83]. ومن ثم فالكلمة المناسبة هي كلمة “سنة” التي تعني “السيرة حسنة كانت أم قبيحة، وتعني الطريقة”[84]، مع الإشارة إلى أن توظيف مصطلح السنة عند كل من أركون ونصر أبو زيد يستبعد الدلالة التي وردت بها كلمة السنة في القرآن الكريم، كما يستبعد المعنى الذي يربطها بما ورد عن الرسول صل الله عليه وسلم من قول أو فعل، ولا يقصد بها أيضا المذهب “السني”، فمت “ندعوه بالإسلام السني هو شيء فرض نفسه بشكل متأخر كواقع اجتماعي وثقافي وديني (…) وذلك على عكس الوهم الشائع والقائل بأنه كان موجودا منذ البداية أي لحظة النبي والقرآن”[85].

هنا نلاحظ نوعا من الزحزحة أو التحويل على مستوى مصطلح “السنة”، من خلال التخلي عن المعنى المتداول لهذا المصطلح، وتوظيفه بمعنى أكثر اتساعا وانفتاحا ليدل على كل ما ظهر في التاريخ الإسلامي من معتقدات وعادات متوارثة منذ العصر التأسيسي إلى الآن، وكل ماله علاقة بالظاهرة الدينية في النموذج الإسلامي، ولتحديد المعنى الدقيق للسنة الإسلامية الشاملة يستعين أركون كعادته ببعض الدراسات الأنثروبولوجية، خاصة أعمال جورج بالانديه الذي أنجز دراسات ميدانية عديدة حول الظاهرة الدينية وتمفصلاتها مع السلطة في العديد من بلدان إفريقيا السوداء، وقد أشار أركون إلى ضرورة الاستفادة من طرق التحليل والفهم التي وظفها هذا العالم في أعماله.

وبالعودة إلى نظرة هذا الأنثروبولوجي للتراث، ثم مقارنة تلك النظرة مع نظرة أركون لنفس الموضوع، نجد أن هناك تطابقا شبه كلي بين الرؤيتين، حيث تقوم رؤية بالانديه على اعتبار تاريخ البشر شبيها بتاريخ الكرة الأرضية، الذي أنتج طبقات جيولوجية متراتبة فوق بعضها البعض، فحركة البشر ونشاطهم في التاريخ يولد تراثا على شكل طبقات متراصة[86]، على غرار هذا التصور يرى أركون أن هناك ثلاثة طبقات أو مستويات، وهي في حالة تفاعل وتبادل داخل ما يدعى بشكل عام بالتراث الإسلامي، وهذه الطبقات هي:[87]

 

  • المستوى العميق (العتيق Archaïque):

هذا المستوى يتضمن القاعدة الثقافية، والتقاليد العرفية السابقة على الإسلام، والتي استمرت بشكل أو بآخر حتى بعد الإسلام “كالقوانين المحلية وأعراف وتقاليد الفئات العرقية المختلفة، كالقبائل اليدوية في إيران وأفغانستان وإندونيسيا وإفريقيا السوداء، والقبائل البربرية في إفريقيا الشمالية، فعندما دخل الإسلام إلى تلك المناطق لم يجد أرضا فارغة من العادات”[88]، فهناك بعض العادات التي استمرت بشكل أو بآخر عند أهل تلك المناطق بعد اعتناقهم الإسلام، غير أن الملاحظ حول هذه الطبقة من التراث أنه كثيرا ما يتم تهميشها وتجاهلها من قبل السلطة المركزية ومن قبل الثقافة الرسمية.

  • المستوى الثاني:

وهو الطبقة التي تمثل “التراث الإسلامي المقدس والمثالي كما تراه كل جماعة أو فرقة من الفرق الإسلامية، فهناك تراث سني وتراث شيعي وتراث خارجي (نسبة إلى الخوارج)، وقد ترسخت هذه التراثات بواسطة مجموعات الحديث التي أنجزتها كل جماعة والتي ترى في تراثها الخط الصحيح أو الإسلام الصحيح”[89]، هذا المستوى من التراث يحيلنا إلى “المعاش الضمني المعقد جدا بسبب علاقاته الأصلية مع المستوى الإثنولوجي الأول”[90]، فهذه الطبقة تشمل التراث الإسلامي الرسمي وتطبيقاته في الواقع وهنا يدخل في تفاعل مع الطبقة الأولى من التراث.

  • المستوى الثالث:

ويتمثل في الطبقة العليا والأكثر حداثة والناتجة عن التدخل الاستعماري في المجتمعات الإسلامية فللاستعمار الغربي تأثيرات ثقافية على المجتمعات المستعمرة إضافة إلى تأثيراته الاقتصادية والسياسية، ذلك ما يظهر في القوانين التشريعية الحديثة وكل الأفكار والمؤسسات القادمة من أوروبا والمتداخلة مع الأفكار والتشريعات الأصلية عن طريق دمجها وتمثلها بإضفاء حلة إسلامية عليها حتى تلقى القبول من قبل الفاعلين الاجتماعيين[91]وهي العملية التي يدعونها داريوش شايغان بالتصفيح الذي هو في الغالب “عملية لا واعية يتم من خلالها وصل عالمين متباعدين لدمجهما في الكل المعرفي المتناسق ويسعى التصفيح إلى سد النقص في التناظر وإلى المصالحة المعرفية بين جذرين متنافرين (القديم والجديد) بسبب الانقطاعات بينهما، إن التصفيح قشرة طلاء رقيقة تغطي خشونة الأشياء”[92].

من خلال المستويات الثلاثة نلاحظ جيدا التعقد الذي يلف ما ندعوه بالتراث الإسلامي، والناتج عن التأثيرات المتبادلة بين هذه الطبقات عبر التاريخ، مشكلة مزيجا معقدا كما يقول بالانديه، وهذا ما يعني أن التعامل مع التراث الإسلامي لا يجب أن يكون كما لو كان المرآة الصافة التي تعكس الدين الحقيقي والأصيل المتعالي على التاريخ ومعايير التبدل والتغير، فيكون الهدف من إعادة قراءة التراث الإسلامي هو “إعادة موضعته في التاريخ بعد أن أدت سيادة “الأرثوذوكسية” إلى دمج التاريخي الاجتماعي في “المقدس” وتحويله إلى “وحي” (…) وكشف تعدديته التي حاولت الأرثوذوكسية تغطيتها في محاولة لمصادرة التاريخ كله لصالحها”[93].

الفكرة هذه لخصها بدقة جورج طرابيشي في قراءته لأحد أعمال أركون حيث وصف هدف أركون قائلا: “..وردا على المحاولات الجارية على قدم وساق من موقع السلفية، لتترتب التاريخ، العمل على تتريخ التراث”[94]، فأركون يسعى إلى إدخال البعد التاريخي واستحضار في النظر إلى الأشياء، وهذا العمل يكتسي أهمية بالغة لأن كل ما هو تاريخي يصبح نسبيا، متأثرا بالشروط والظروف المحيطة به، يقول موضحا ذلك: “إن إدخال البعد التاريخي في التحليل سوف يضطرنا إلى التفريق ما بين الإسلام المثالي والإسلام التاريخي المتشكل نتيجة التجاوز أو التتابع الزمني للإسلامات السوسيولوجية”[95]، ومن شأن هذا التفريق أن يسمح لنا بإدراك التغير الذي يحدث من خلال جدلية الانقطاع والتواصل بين الإسلام التاريخي والإسلام المثالي عبر الزمن، ومقتضياته، وكذا التأثير المتبادل بين الطبقات المشكلة للتراث الثقافي للأمم، فيكون القصد من إعادة القراءة هو: “الكشف عن عملية الترسب التاريخي لطبقات التراث، وكيف تمت عملية هذا الترسب والتراتب لطبقاته الواحدة فوق الأخرى على مدار الزمن والعصور”[96].

بهذا نكون قد وقفنا على الجديد الذي تتضمنه الرؤية الأركونية للتراث الإسلامي على مستوى الموضوع، المتمثل أساسا في النظر إلى هذا التراث في كليته دون اختزال أو بتر، متجاوزا بذلك التقسيمات التي فرضتها الأرثوذكسيات/ الفرق الإسلامية، وكذا طبيعة هذا التراث وبنيته المشكلة من طبقات متداخلة متفاعلة من خلال جدلية الفكر والتاريخ والمجتمع، وهو تصور لطبيعة وماهية التراث الإسلامي، إلا أن طموح أركون كان يتمثل في تعميم هذه التصور على كل التراثات المبنية على الظاهرة الدينية، لبلوغ نتائج أعم وأشمل لكل تمظهرات العامل الديني وتأثيراته على مصير مجتمعات الكتاب (اليهود، المسيحيين، المسلمين)، بصورة عامة.

إضافة إلى ميزة الجدة التي تطبع مشروع أركون، هناك ميزة أخرى لهذا المشروع وتتجلى في استيعابه لأغلب المناهج الغربية المعاصرة، وقدرته على الانتقال من منهج لآخر مستفيدا مما يتيحه كل منهج من إضاءات للموضوع محل الدراسة، مما يجعل قراءاته أكثر تحررا وأكثر ثراء من القراءات الأخرى (الجابري، العروي، حسن حنفي، …)، يشير إدريس هاني إلى هذه الميزة بقوله: “..وتحت وطأة تعدد المناهج، والتي من شأنها أن تخلق فوضى في صميم الإسلاميات التطبيقية لاسيما إذا أدركنا بأن كل منهج بطبيعته يتكامل مع مبادئه ولا يسمح بأن يتبادل المقدمات والنتائج مع منهج آخر، فإن أركون يتقن لعبة تدبير هذه المناهج وخلق فجوات لامتصاص تصادماتها المتوقعة وتلك أهم ميزة في الإسلاميات التطبيقية”[97].

وإذا ما أردنا تحديد ركائز المنهج المتعدد التخصصات (La Méthode multidisciplinaire) الذي يتبعه ويتبناه أركون في مجمل دراساته، فإنه يمكن القول أن هذا المنهج قائم على ثلاثة ركائز أساسية وهي علم الاجتماع والألسنيات المعاصرة والأنثروبولوجيا، بالإضافة إلى معطيات علم النفس وكذا التاريخ وفق منهج مدرسة الحوليات، والأمثلة الموضحة لهذه الأركان المنهجية واضحة في جل أعمال أركون، فهو يستعبر من علم الاجتماع مفاهيم عديدة لاسيما من أعمال ماكس فيبر Weber. M (1864-1920) وبيار بورديو Bourdieu. P (1930-2002)، فقد استعار من أعمال المفكر الأول مفهوم “مسيرو أمور التقديس” أو “مدبرو المقدسات” واستعمله في دراسة وظيفة رجال الدين، وعلاقة ذلك بانبثاق الأرثوذوكسية*. كما نجده يوظف كثيرا المصطلح المشترك بين المفكرين (فيبر وبورديو) وهو مصطلح الرأسمال الرمزي، بالإضافة إلى المفاهيم البوردوية العديدة التي نجدها مبثوثة في دراسات أركون على غرار مفهوم “الحقل”(Le Champ)،”التقمص الجسدي”(Habitus’L )، “الحس العملي”(Le Sens pratique)، الفاعلون الاجتماعيون (Les Acteurs sociaux)،”المخيال الاجتماعي”(Imaginaire social’L)،”المزايدة المحاكاتية”(La Surenchère mimétique)، ثنائية “المهيمن/المهيمن عليه”(Le Dominant/le Dominé)،..الخ.

من جهة أخرى يولي أركون أهمية كبيرة للمصطلحات المركزية في الألسنيات المعاصرة ويعتبر التحليل الألسني ضروريا جدا، ويحتل المقام الأول سابقا بذلك كل المقاربات “لأن الوضع اللغوي سابق على ما سواه من الأوضاع[98]، ومن ثم فإن الإسلاميات التطبيقية-التي هي عنوان المشروع الأركوني- تشترط أولا الإلمام الكامل بهذا العلم “وهذا يعني أنه على عالم الإسلاميات أن يكون مختصا بالألسنيات بشكل كامل، وليس فقط متطفلا على أحد فروعها”[99].

ويوظف أركون معطيات الألسنيات المعاصرة لدراسة مجموعة من المواضيع ومنها على وجه الخصوص المكانة اللغوية للخطاب، يقول في أحد نصوصه” إني أحاول أن أرى كيف يشتغل النص القرآني وكيف يمارس آليته وكيف يولد آثار للمعنى (أي المعاني والدلالات) وكيف يولد تشكيلا معينا للوعي ولا أستطيع أن أفصل النص الذي صنع وسمع لكي يقرأ على القارئ الذي يقرأه في الواقع إنه فيما يخص القرآن ينبغي أن ندرس الكلام أولا وليس اللغة”[100]، هذا النص بالإضافة إلى تضمنه للعديد من الإشكاليات التي تبين ضرورة الاستعانة بمعطيات الدراسات اللغوية المعاصرة، فهو يتضمن أيضا إشارة إلى اهتمام أركون بالتمييز الذي كان قد أقامه فردينان دي سوسير أول مرة بين الكلام/ اللغة ومن بعده مختلف المدارس الألسنية، من جهة أخرى فالنص السابق يثير إشكالية التلقي وضرورة الاستعانة بمختلف نظريات التلقي لفهم العلاقة الموجودة بين النص/القرآن والقارئ أو المستمع/المؤمن.

من المهم أن الإشارة أيضا إلى أن أركون لا يتبع مدرسة ألسنية بعينها، إنما يحاول استغلال مختلف نتائج الألسنية التي يراها ملائمة لموضوعات دراساته، يقول مؤكدا هذه الفكرة: “إني لست من أتباع الألسنيات الأرثوذكسية، ولا أريد أن أتبع هذه المدرسة دون تلك، أعتقد أن الألسنيات هي علم في طور التكوين والبحث عن مناهجه الخاصة (…) على أي حال فأنا أحاول فيما يخصني أن استخدام ما يبدو لي مفيدا وذا مردود، وأنا أستخدم ذلك انطلاقا من المادة التي أدرسها، إن المادة التي أدرسها هي التي تفرض على اختيار المنهج الملائم وليس العكس”[101].

بنفس الدرجة من الأهمية-إن لم تكن أكثر- تحضر الأنثروبولوجيا في أعمال أركون، حتى أن تسمية مشروعه البديل بالإسلاميات التطبيقية مستمدة من عمل الأنثرولوجي الفرنسي المعاصر روجيه باستيد R. Bastide(1898-1974) الموسوم بـ:الأنثروبولوجيا التطبيقية*، ومبرر الاستعانة بعلم الأناسة (Anthropologie’L) هو محاولة رفض واستبعاد الأحكام التصنيفية التفضيلية بين الثقافات المكتوبة-العالمة (Les Cultures savantes) والثقافات الشفوية[102]، وهو التوجه الذي كان قد افتتحه عالم الأناسة الشهير كلود ليفي ستروس CL.L. Strauss (1908-2009) منذ ستينات القرن الماضي حينما نشر كتابه الفكر الوحشي (La Pensée sauvage).

كما يوظف عناصر أخرى من الأنثروبولوجيا “الستراوسية” لاسيما ما يتعلق بأنظمة القرابة، وإضفاء الطابع الأسطوري على النص القرآني، وهنا الأسطورة بمعناها الأنثروبولوجي الخاص، وليس بمعناها الخرافي، أي بما أنها مصدر تغذية المخيال والرأسمال الرمزي”[103]، بالإضافة إلى أنثروبولوجيا كلود ليفي ستروس، تحضر أيضا أعمال عالم الأناسة الفرنسي المعاصر جورج بالانديه بكثرة في نصوص أركون، ويحيل إليه كثيرا خاصة فيما يتعلق بالآليات السلطوية لإضفاء المشروعية، واحتكار ذروة السيادة العليا، يقول حول أهمية أعمال هذا الأخير”..ولكن عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي جورج بالانديه كان قد بين لنا أنه لا توجد سلطة سياسية في أي مجتمع بشري كان من دون إخراج مسرحي يؤبد نوعا من الاحتفالات والتقاليد ذات النمط الديني”[104]، وبإمكاننا ملاحظة أثر بالانديه في فكر أركون بكل وضوح لاسيما في تحديد كل منهما لمفهوم التراث والنظر إليه على أنه مشكل من طبقات شبيهة بالطبقات الجيولوجية للأرض.

بالإضافة لهذه العلوم الثلاثة (علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الألسنية) يرجع أركون أيضا إلى التاريخ خصوصا تاريخ الأديان، وتحديدا إلى أعمال مدرسة الحوليات الفرنسية، خاصة أنه يعتبر نفسه مؤرخا بالدرجة الأولى، وقد أشار في مرات عديدة إلى أثر أقطاب هذه المدرسة على فكره، مثلما يقول في إحدى حواراته: “عندما كنت لا أزال طالبا في جامعة الجزائر استمعت لمحاضرة لمؤسس مدرسة الحوليات الفرنسية لوسيان فيفر عن “دين رابليه” وكانت بمثابة الصاعقة أو الوحي الذي ينزل علي، لقد كشفت لي الطريق الذي ينبغي أن أسلكه”[105]، تكمن أهمية هذه المدرسة وخصوصيتها في كونها أدخلت العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى ساحة التاريخ مركزة على “أهمية التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، والمدة الطويلة لا القصيرة ولا الخاطئة كالتي تخص الحدث السريع، أصبحت المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تحصل في بلد ما أكثر أهمية بكثير من تعاقب السلالات على الحكم أو حصول الأحداث السياسية”[106]، ويكفي إلقاء نظرة على كتاب “الفكر العربي لمحمد أركون” حتى نتأكد من تميز تأريخه للفكر العربي الإسلامي عن التأريخات الأخرى، وفيه يظهر تأثره بطريقة أعلام مدرسة الحوليات الفرنسية، من أمثال: لوسيان فيفرL.Febvre(1878-1956)، وفرنان بروديل F.Braudel(1902-1985) وغيرهما من الجيل الأول لهذه المدرسة.

وقد تابع أركون تطور هذه المدرسة واستفاد من أعمال الجيل الثاني من علمائها لاسيما جورج دوبي G.Duby(1919-1996)، جاك لوغوف J.Le Goff(1924-   )، الذين اهتما بدراسة العامل النفسي في المجتمع عبر التاريخ، يقول موضحا أهمية هذه الأعمال في توجيه مساراته الفكرية،”…والمنهجية التي تحظى باهتمامي الآن أكثر من غيرها هي منهجية علم النفس التاريخي لهذا السبب أركز على أهمية الخيال والمخيال والأسطورة والوعي الجماعي كعامل أساسي ومحرك في التاريخ الإسلامي بالإضافة إلى الاقتصاد والماديات”[107]، الفرق الوحيد بين مؤرخي مدرسة الحوليات وأركون يكمن حسب هاشم صالح في كونهم يطبقون المنهجية على تراث أوروبا، في حين يطبقها أركون على تراث الإسلام وشخصياته.

وإذا كان أركون قد استفاد كثيرا من المعطيات المنهجية لمدرسة الحوليات، فإن أهم مصدر ومرجع منهجي له في التأريخ للفكر العربي الإسلامي وفي مجالات وبشهادة أغلب الدارسين هو بلا شك فيلسوف فرنسا المشاغب “ميشال فوكو”، ذلك أن دعوة أركون لإعادة قراءة التراث الإسلامي والعودة إلى الأصول الأولى حيث النقاء والصفاء هي عينها ما تدعو إليه الاستراتيجية المنهجية الفوكوية من خلال عنونتها بالأركيولوجيا الجينالوجية التي تعتمد الحفر في طبقات النصوص بحثا عن المسكوت عنه أو المنسي أو لإزالة الشوائب التي علقت بالنص الأصلي في رحلته عبر الزمن والتاريخ، وقد استعار أركون الكثير من المفاهيم التي بلورها ميشال فوكو بحفرياته في التراث الغربي خاصة مفهوم الإبستيمي (pistémèé’L) الذي وظفه في تحقيب الفكر العربي الإسلامي تحقيبا إبستمولوجيا وليس سياسيا كما هو شائع (العصر الأموي، العباسي، العثماني،..)، وكذا مفهوم الأركيولوجيا الذي يعبر عن عملية تعقب تاريخ الخطابات قصد إزاحة ما تراكم عليها من طبقات بحكم تغير الاستعمال عبر الزمن، وهي نفس المنهجية التي اتبعها أركون في إعادة استكشافه للتراث الإسلامي قصد تشكيل نظرة أوسع وأشمل بفضل هذه الأركيولوجيا التي تسمح بإعادة بعث المنسي والمقموع والمهمش.

وقد حظيت علاقة أركون بفوكو بدراسة مفصلة من قبل الباحث الزواوي بغوره* بين من خلالها أهم المفاهيم التي استعارها العديد من المفكرين العرب المعاصرين –ومنهم أركون- من فلسفة ميشال فوكو وكيفية حضورها في نصوصهم، وكذا فعاليتها الإجرائية أثناء مختلف تطبيقاتهم، كمفهوم الخطاب، العقل، التاريخ، السلطة، اللامفكرفيه، الأركيولوجيا، الإبستيمي…الخ.

ومما تجدر الإشارة إليه أيضا كون أحد الدارسين وهو مختار الفجاري الذي أنجز أطروحة دكتوراه حول “نقد العقل الإسلامي لدى أركون” قد اجتهد في وضع مخطط لمصادر الجهاز الاصطلاحي لمشروع أركون**وحتى وإن كان هذا المخطط مختصرا، إلا أنه قد اشتمل على أهم المصطلحات الرئيسية التي يقوم عليها المشروع وأصول هذه المصطلحات، وقد اعتمد هذا الباحث على ما أورده هاشم صالح الذي وضع هو الآخر لائحة لأهم مصطلحات أركون مبينا مصادرها، وقد قسم الباحث جملة المصطلحات المشكلة للجهاز المفاهيمي الأركوني حسب مصادرها ضمن خمس مستويات وهي:

  • المصطلحات الأثرية: والمقصود بها جملة المفاهيم التي استقاها أركون من أعمال ميشال فوكو.
  • مصطلحية علم الاجتماع: وتضم المفاهيم التي استفادها من علماء الاجتماع.
  • مصطلحية علم تاريخ الأديان: وتضم بدورها أهم المفاهيم التي يستعيدها لأركون من هذا المجال المعرفي.
  • مصطلحية اللسانيات: وتشمل المصطلحات التي استفادها من مختلف المدارس اللسانية المعاصرة التي تأثر بها.
  • المصطلحية الفكرانية: وتتضمن تلك المصطلحات الذي يتم توظيفها للدلالة على المعنى السلبي للمفاهيم على غرار العقلانوية/ العقلانية، الوضعوية/الوضعية، الإسلاموية/الإسلامية، العلموية/العلمية…الخ.

وقد أشار هذا الباحث إلى أن ما قدمه في هذا المخطط ليس إلا عينة فقط من المصطلحات التي وردت في مدونة أركون الثرية جدا، والتي يتعذر الإلمام بها وشرحها في عمل واحد، فهذه المصطلحات والمفاهيم بحاجة لأكثر من عمل لتوضيح مدلولاتها الأصلية والدلالات الإضافية التي يضيفها عليها استخدامها خارج المجال الذي وضعت لأجله، وهي نفس الملاحظة التي أشار إليها هاشم صالح حين أكد أنه “لا يمكن للقارئ العربي أن يتوصل إلى فهم أركون، إن لم ننقل إليه مكتبة العلوم الإنسانية والاجتماعية”[108].

وتمتاز المنهجية التي ينظر لها أركون بالصرامة وتحري الموضوعية، والحياد المبدئي الذي يستبعد الأحكام القيمية المسبقة، نفهم ذلك من قوله:”لا بد على الباحث أن يلتزم بكل شروط البحث الأكاديمي الصعب ومقتضياته حتى ولو بدا بحثه عسيرا بعض الشيء على القراء، فاحترام العلم والحقيقة ينبغي أن يسبق كل اعتبار آخر”[109]، وهي الخاصية التي يشهد له بها العديد من الدارسين، فقد وصفه رون هاليبر بأنه “يتخذ موقفا أساسيا متحررا من الأحكام المسبقة بالنسبة للاستشراق الغربي أو بالنسبة للتقليد الإسلامي”[110].

ولهذه الخاصية أهمية كبيرة باعتبارها إحدى أهم مقومات الروح العلمية، والالتزام بها أكثر من ضروري، خاصة حينما يتعلق الأمر بتراث متجزئ كالتراث الإسلامي، وأجزاءه متنافرة إلى درجة تكفير الفرق الإسلامية لبعضها البعض ونلمس بوضوح هذا النزوع إلى استعداد الأحكام المسبقة في البحث الذي يعقد فيها مقارنة بين الفكر السني والفكر الشيعي*، وهو البحث الذي يحاول أن يثبت من خلاله أنه مهما تكن الاختلافات الظاهرة بين المنظومتين الفكريتين السنية والشيعية فإنهما في العمق تظلان متفقتين من حيث طريقة الاستدلال والحجاج، بمعنى أن اختلاف الأفكار والمواقف لا يعني الاختلاف في المنهج وفي طريقة التفكير.

الخاصية الثانية في منهجية أركون تتمثل كما أشرنا من قبل في تبني التعددية المنهجية، أو المنهجية المتعددة التخصصات، إذ”ينبغي على الباحث أن يعرف كيف يستخدم عدة منهجيات، وكيف يقيم علاقة التمفصل بينها (…) وذلك لكي يفسح المجال لمنهجية تعددية تحاول الجمع والمزاوجة بين التحليل السوسيولوجي والتحليل التاريخي والتحليل اللغوي”[111].

والاعتماد على عدة مناهج، مسألة يبرزها عاملان؛ أولا: لأنه لا يوجد منهج بريء، ومن ثم فاعتماد مناهج عديدة يسمح دون شك بتجاوز عيوب المنهج الواحد، ثانيا: تعدد المناهج يفرضه تعقد الظاهرة المدروسة، لهذا فإن التعامل مع نصوص التراث مثلا، يجب أن يتم من منطلق أنها نتاج للعقل الإنساني الخاضع بشكل أو بآخر لثقافة عصره، ورؤية صاحبه وأوضاعه النفسية والاجتماعية والمادية وكذا انتماءاته الدينية والمذهبية والطائفية والقومية والإيديولوجية[112].

ومن ثم يقترح أركون ثلاثة مستويات أو لحظات ينبغي الالتزام بها أثناء مقاربة موضوعات التراث الإسلامي وهذه المستويات هي:

  • المستوى الأول:

يتعلق هذا المستوى بجانب اللغة، وهو أول خطوة منهجية لا بد من مراعاتها، لأن التراث الإسلامي تأسس انطلاقا من النص (القرآن والسنة)، وبالتالي فإن تحليل الجوانب اللغوية المتعلقة بالمعنى والدلالة لا بد أن يسبق أي تحليل آخر، ويتضمن التحليل اللغوي الإحاطة بمسائل عديدة من مثل: الرمز، العلامة، علاقة اللغة بالفكر والتاريخ…الخ، كما تسمح هذه الخطوة بإمكانية إقامة مسافة بين الذات والموضوع، وبالتالي تحرير القارئ من الأسر الذي تمارسه النصوص باعتبارها تتضمن العقائد أو من منطلق مصدرها المتعالي على التاريخ،”فالتحليل الألسني-الدلالي يساعدنا على إقامة مسافة بيننا وبين العقائد الإيمانية الموروثة منذ نعومة أظافرها، ويقوم بعملية تحييد مبدئي لكل الأحكام التيولوجية المسبقة التي تحول بيننا وبين رؤية النص كما هو”[113].

يشرح أركون هذه الخطوة الأولى من إستراتيجية قائلا:”لنوضح هنا قائلين بأن علم السيمياء (Sémiotique La ) هو الأول منطقيا إذا أردنا التحدث عن المعنى، ولكنه منهجيا يأتي في المرتبة الثانية بعد التحليل اللغوي لأنه ينبغي أن يستند على الدراسات الاستقصائية الشاملة لبنى الدلالة. يضاف إلى ذلك أن الدراسة الوصفية التزامنية (Synchronique) تأتي منطقيا في الدرجة الأولى، ولكن ينبغي أن تستند على الدراسة التاريخية التطورية للأنظمة اللغوية الموصوفة أو المدروسة”[114]، فيكون بذلك ترتيب خطوات التحليل في المستوى اللغوي كما يلي:

  • المقاربة التزامنية (Synchronique)
  • المقاربة التعاقبية (Diachronique)
  • المقاربة السيميولوجية (Sémioligique)

إنجاز هذه المقاربات يسمح بالإجابة على العديد من الإشكاليات التي تطرح في هذا المستوى، على غرار: كيف تقوم العلامات المستخدمة في النصوص بالدلالة وتوليد المعنى؟ ولماذا معنى معين وليس معنى آخر؟ ولمن ينبثق المعنى؟ وضمن أية شروط؟…، ومشكلة المعنى بصورة عامة تفرض نفسها بحدة في مقاربة التراث الإسلامي والتراثات الدينية بصورة عامة، ذلك أن اللغة الدينية توظف معجما إيمانيا موروثا ويتم استعماله وكأنه واضح بداهة، وثابت الدلالة، غير أن الحقيقة أن مكونات هذا المعجم مثل مصطلحات كالإيمان، العقيدة، المقدس، الوحي…الخ، مشحونة بدلالات حافة ومحيطة (Les Connotations)، وقد عرف معناها تغيرات كثيرة عبر التاريخ، ومن ثم لا بد من طرح إشكالية المعنى حول مكونات هذا المعجم الذي توظفه اللغة والخطاب الدينيين، والذي يصفه أركون بالأكياس المغلقة التي تسلمناها كما هي من الماضي، دون أدنى تساؤل حولها، وهي المليئة بالكلمات –الجعب (Mots-Sacs)، ومن ثم لا بد من فتحها لمعرفة محتوياتها، “ولم نعد نقبل الآن بحملها على أكتافنا وظهورنا دون أن تتساءل عن مضمونها كما حصل طيلة القرون الماضية”[115]، وأنصع مثال على ذلك كلمة “وحي” التي نستعملها وكأننا نفهم معناها وهو واضح ثابت لا يطرح أي إشكال، بينما يرى أركون أنه لا يمكننا استخدامها بهذه السهولة “لأنها بحاجة لأن تخضع لدراسة جديدة ودقيقة، فنحن حتى الآن لا نعرف ما هو الوحي، ولا يوجد أي كتاب في أي مكتبة في العالم يطرح مشكلة الوحي وفق العقلانية الحديثة ومنهجيتها (…) لذلك ينبغي أن نمنع أنفسنا من استخدام كلمة “وحي” وكأنها واضحة مشروحة معروفة”[116]، وما قيل عن هذه الكلمة يقال على الكثير من المصطلحات الخاصة بالمعجم الديني.

ومن المفيد أن نشير بالنسبة لهذا المستوى من التحليل أن أركون لا يفضل مدرسة لسانية على مدرسة أخرى، إنما يدعو إلى الاستفادة والانفتاح على منجزات كل المدارس اللسانية، وهو توجه متسق تماما مع مجمل استراتيجيته المنهجية في الانفتاح على كل الآليات الإجرائية التي من شأنها إضاءة المواضيع المدروسة أكثر، كما يبدو في هذا المستوى أن هناك تقاربا بين عمل أركون ومنهج التفكيك لدى جاك دريدا الذي قام بأشكلة الميتافيزيقيا الغربية التي لم تكن في السابق تطرح أية مشكلة لدى الفلاسفة، نقول هذا خاصة ونحن نستحضر إشادة أركون بهذا الفيلسوف، واستعادته لمفهوم التفكيك من حيث كونه آلية منهجية تسمح بتجاوز الوضوح الظاهر، نحو الأعماق والأصول، يقول أركون في ذلك: “إن نقد العقل الإسلامي يهدف إلى تفكيك كل هذا البناء الشامخ والمقدس الذي يحتمون به (…) ولكنه لم يتعرض أبدا في تاريخه في هذا النقد التفكيكي التركيبي الذي أدعو إليه منذ سنوات”[117].

  • المستوى الثاني:

يشمل هذا المستوى الأبعاد التاريخية، الاجتماعية، النفسية والأنثروبولوجية وتجميع هذه الأبعاد ناتج عن التمفصلات الموجودة بينها، فكل بعد منها يحيل بصورة أو بأخرى إلى الأبعاد الأخرى، ومن ثم فلا بد من الاستعانة في هذا المستوى من التحليل بجملة العلوم الإنسانية والاجتماعية بمختلف فروعها، لأن التراث مرتبط بالإنسان وهذا الأخير اجتماعي/ تاريخي، وكل ما يحدث في التاريخ يجب “موضعته بصفته انعكاسا للحاجة والصراعات والآمال الراهنة لجماعة متقلصة أو متسعة، أكثرية أو أقلية، مسيطرة أو مسيطرة عليها”[118].

هذه الرؤية التي يتبناها أركون متسقة مع الرؤية الخاصة لمدرسة الحوليات الفرنسية، وكذا رؤية ميشال فوكو للتاريخ والذي يعد واحدا من المقربين من هذه المدرسة، ووفقا لهذه الرؤية المشتركة يتم التمييز بين التاريخ الأفكار الذي يقوم على السرد وتاريخ الأنساق الفكرية الذي يقوم على الأشكلة والاختراق لاكتساب ما يدعوه فوكو بـ:”الإبستيمية أي البنية العميقة التي يتم إنتاج الأفكار وفقا لما تسمح به.

من جهة أخرى فإن التحليل الأنثروبولوجي يكتسي أهمية خاصة نظرا لكونه يسمح بتجاوز تلك العموميات التي ترمي كل الفضاء الجغرافي والاجتماعي الذي انتشر فيه الإسلام ضمن الدائرة العامة المدعوة بالعالم الإسلامي، فهذا التعميم من شأنه أن يحجب “التنوع الكبير إلى أبعد الحدود للذاكرات الجمعية وللجماعات الإثنية-الثقافية والمناطق والبيئات المحلية واللغات والهوايات”[119].

فالأنثروبولوجيا تصغي بطبيعتها للمهمشين ولذوي التراث الشفوي، وتحاول التعرف على أفكارهم وعلى انعكاس التراث الديني وكيفية حضوره في حياتهم، الأمر يساعد على فهم أكثر اتساعا لوظائف هذا التراث لدى هذه الفئات المهيمن عليها والمستبعدة من قبل الدوائر الرسمية، وهذا ما يسميه أركون بالكتابة السلبية للتاريخ، أو قراءة الوجه الآخر المقموع والمبتور من التاريخ الرسمي الذي يكتبه الظافرون، والمنتصرون، طامسين بذلك أصوات المهزومين وراؤهم، وأهمية هذه الكتابة السلبية للتاريخ تمكن في كونها وجها آخر لفكرة تفكير اللامفكر فيه، من حيث هي دعوة إلى إعادة إثارة كل المسائل التي تحاشاها المؤرخون الرسميون أو حذفوها أو شوهوها أو لم ينتبهوا إليها.

وقد سبقت الإشارة إلى العلاقة الوطيدة بين الإسلاميات التطبيقية التي هي مشروع أركون والأنثربولوجيا التطبيقية التي ينظر لها روجيه باستيد، حتى أن الفصل الذي خصصه أركون للحديث عن مشروعه حمل عنوانا مركبا وهو: حول الأنثربولوجيا الدينية، نحو إسلاميات تطبيقية، وميزة الأنثربولوجيا الدينية أنها تهتم بالناحية الروحية أو الرمزية كما تهتم بالناحية المادية أو العقلانية ومن هنا خاصية الشمولية التي تمتاز بها.

  • المستوى الثالث:

في هذا المستوى الأخير يتم توظيف التحليلين الفلسفي والديني، فالتحليل الفلسفي يعد محصلة نقدية للمقاربة السابقة-الخاصة بالمستويين الأول والثاني من التحليل-وهو ضروري من أجل كشف وتقييم أنماط المعرفة التي يتضمنها التراث الإسلامي، أو التي أنتجها العقل الإسلامي، أما “تحليل المستوى التيولوجي فيعتبر أمرا لا مفر منه، ينبغي على الخطاب التيولوجي أن يتمثل كل مستويات التحليل المذكورة، وبدون هذا الانفتاح يبقى الخطاب التيولوجي عبارة عن تبجيل دفاعي لأمة مغلقة على قناعاتها ويقينياتها”[120]، والمقصود من وراء الدعوة هو إخضاع المسائل العقائدية للقواعد والمناهج المشتركة المطبقة على كل معرفة علمية.

ولما كان هاجس النقد اللاهوتي كما يقول الجابري حاضرا عند أركون وبوعي، فإن أحد أهم الأهداف التي يسعى لتحققها، يتمثل في تجاوز اللاهوت أو التيولوجيا التقليدية وافتتاح طريقة جديدة لمناقشة المسائل اللاهوتية، بعبارة أخرى إنه يهدف إلى تأسيس علم كلام جديد في الإسلام، وذلك ما أعلنه صراحة أثناء مناقشته لأحد الموضوعات الرئيسية في علم الكلام وهو فكرة التوحيد وموضوع الألوهية، حيث قال: “..أنا لا أقول بالتراجع عن هذا التصور، معاذ الله، ففي التوحيد المنزه المطلق تتجلى عبقرية الإسلام، وإنما أقول بإعادة تأويله، أي تأويله بشكل مخالف لما ساد في العصور الوسطى (…) وهنا يمكن الرهان الأكبر لمراجعة التراث الإسلامي كله ولتأسيس “لاهوت” جديد في الإسلام”[121]، ويشرح هذا النص بعبارة أخرى من منطلق أن كلمة “لاهوت” غير مستساغة أو غير مستحسنة لدى المسلمين، موضحا أن الهدف هو تأسيس علاقة جديدة بين الله/ الإنسان، بين المجال المقدس/ المجال الدنيوي، فهذا ما يشكل في نظره الشرط الأساسي للدخول في عالم الحداثة، و”من الواضح أنه إذا لم نتحرر من التصور اللاهوتي القروسطي لهذه العلاقة فإننا لن نستطيع أن نتحرر على المستوى السياسي، أو الاجتماعي أو الأخلاقي أو حتى الاقتصادي”[122]، وهو نفس الموقف الذي نجده لدى داريوش شايغان الذي يرى أن ما يفتقده المنتمون للحضارات التقليدية-ونحن منهم- هو ذلك المجهود النقدي والوعي التاريخي الذي يتطلبه التحول من العالم القروسطي إلى العالم الحديث[123].

وهنا نصل إلى إدراك الهدف من إعادة القراءة التي يقترحها أركون بالنسبة للتراث الإسلامي، والتي لا تتناقض مع موقفه العام من هذا التراث، على اعتبار أنه ينتمي كلية إلى الفكر القروسطي، فالهدف من إعادة القراءة للتراث لا يكمن في استعادة بعض مضامينه أو إحياء بعض النظريات والآراء التي يحتويها، إنما يكمن في بث الحيوية والحركية في الفكر الإسلامي، وإعادة فتح باب الاجتهاد كما مارسه الأوائل، دون التقيد بنظرياتهم وآرائهم، لأن ظروفهم غير ظروفنا، والأطر الاجتماعية التي اجتهدوا ضمنها غير الأطر الاجتماعية والمعرفية المتاحة لنا الآن، فنحن بحاجة اليوم-والقول لأركون- “لظهور عالم مسلم جديد متمكن من العقلانية الحديثة لكي يكتب لنا رسالة تاريخية في أصول الفقه والعلوم اللاهوتية، تراعي كل التطورات والانقلابات التي حصلت في مجتمعاتنا الإسلامية العربية منذ حوالي القرن ونصف القرن، نحن بحاجة إلى هذا العالم الجديد لكي يقوم بنفس حركة الشافعي، ولكن بطريقة مختلفة جذريا وكليا. لماذا؟ لأن الرسالة الجديدة ينبغي أن تراعي حصول شيء جديد وكبير هو الحداثة (…) هذه هي التاريخية وهذا هو الفكر التاريخي والعقلاني الذي أدعو كافة العرب والمسلمين إليه، ففيه منجاتهم”[124].

هكذا نلاحظ أن تشكيل رؤية حداثية للتراث الإسلامي، يسمح للمسلمين يتجاوز الازدواجية والتردد بين الحنين إلى التراث الذي هو هناك في الماضي، والتطلع لبناء مستقبل مشرق لبناته الأساسية موجودة الأخرى هناك لدى الآخر/الغرب، وهذا ما يتطلب تجديدا شاملا ينطلق من الأعماق ليعم الأجزاء كلها، تجديد يتخذ صورة ثورة معرفية تجعل من النقد الشامل منهجا لها، وهذا ما يميز مشروع أركون عن غيره من المشاريع التي تدور حول الإشكالية نفسها، فأغلب محاولات الخروج من الأزمة، تمت كما يقول برهان غليون: “وفق المنهج السجالي، ومن خصائص هذا المنهج حجب المسائل الحقيقية والقفز عليها عن طريق الخلط بين قضايا ومطالب ليست واحدة، ولا تصدر واحدتها ضرورة عن الأخرى، أو استبدالها بقضايا جانبية تبعد النقاش عن هدفه العلمي وتحرفه عن مقاصده الأساسية”[125].

وإذا كان أركون يؤكد في أكثر من مرة على ضرورة تغليب التوجه الإبستمولوجي على الأيديولوجي وفرض إرادة المعرفة على إرادة الهيمنة، فإن برهان غليون يدعو إلى ضرورة “تحرير منطقة الثقافة من الاستعمار الأيديولوجي”[126]، غير أن تحرير منطقة الثقافة من القوى الأيديولوجية التي تعمل على احتكارها وتوجيهها الوجهة التي تخدم مصالح تلك القوى، وعلى أهمية هذه العملية، فإنها غير سهلة وغير كافية في الوقت ذاته، لأن الثقافة مرتبطة بصورة أو بأخرى بالسياسة والمجتمع وأنماط الفكر السائدة فيه، ومن ثم فإن تحرير منطقة الثقافة يتطلب الدخول في معركة موازية ومكملة لتحرير منطقة السياسة والمجتمع مما تعانيه من تجاذبات وصراعات إيديولوجية.

 

 

 

 

 

المحور الثاني

الاختراق: تفكيك الدوغمائيات والمركزيات

 

أولا: نقد دوغمائية العقل الإسلامي

ثانيا: نقد مركزية العقل الغربي

 

“عندما أذكر الأصولية فإنني أستهدف كلا شطريها، لا شطرا واحدا، أقصد الشطر الديني التقليدي المعروف، والشطر الحديث غير المعروف كثيرا، كنت قد دعوته بـ: السياج الدغمائي الحديث المغلق للروح البشرية (…) وبالتالي فالنقد التفجيري أو التفكيكي ينبغي أن ينصب على كلتا الجهتين: الإسلامية والغربية: الغرب أيضا ينبغي أن يكنس أمام بيته فهو مدان أيضا في حالات عديدة”

 

محمد أركون: نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ص237.

 

أولا: نقد دوغمائية العقل الإسلامي:

يعتقد أركون أن القضية الأكثر أهمية بالنسبة للعالم العربي الإسلامي تتمثل في التوتر الشديد في هذه المجتمعات بين قطبي الماضي والحاضر أو التراث والحداثة، وهذا التوتر يظهر جليا على آليات اشتغال العقل وطريقته في إنتاج المعرفة والتصورات المختلفة، سواء تعلق الأمر بالنظرة للتراث أو للحقيقة أو للآخر أو غير ذلك من المفاهيم المرتبطة بموضوعنا الأساسي والمتمثل في التمفصلات القائمة بين العنف والمقدس والحقيقة، وكيفية الخروج من السياجات الدوغمائية لهذا المثلث الأنثروبولوجي، وما دام العقل هو المسؤول الأول عن بناء التصورات التي تؤمن بها، وهو المسؤول أيضا عن تبرير السلوكيات التي نقوم بها فإن إحدى أهم الآليات الكفيلة بتحريرنا من الوضع المتأزم الذي نعيش فيه بكل ما يتضمنه من تفكك وعنف وصراع على مختلف الأصعدة، داخل أوطاننا وبيننا وبين الأمم الأخرى، تتمثل أساسا في تفكيك بنية العقل الإسلامي والكشف عن الآليات القروسطية التي ظل أسيرا لها في اشتغاله، ثم السعي لإعادة ربطه بالعقلانية الحديثة ومقتضياتها، بعبارة مختصرة: يتعلق الأمر بتحديث العقل الإسلامي فكيف السبيل إلى ذلك حسب أركون؟ للإجابة عن هذا السؤال نعود إلى مجموعة المحاضرات التي نشرها أركون بعنوان: “الإسلام والحداثة” والتي طرح فيها السؤال التالي: من أين نبدأ في دراسة موضوعنا الأساسي؛ من الإسلام أم من الحداثة؟، وأجاب بأنه ليس لنا خيار، سوف نبدأ من الحداثة، فنحن غاطسون ومنغمسون في المناخ الذي خلقته الحداثة[127].

أول خطوة ينبغي القيام بها هي فهم الحداثة واستيعاب مضمونها ومتطلباتها ثم محاولة الاستفادة من ذلك في مقاربة حاضر المسلمين وماضيهم، فالقول بأننا نعيش ضمن مناخ الحداثة، لا يعني أبدا أننا حداثيون، ذلك لأن “الحداثة ليست المعاصرة، فقد يعاصرنا أشخاص لا علاقة لهم بنا ولا بالحداثة والعصر، أناس ينتمون عقليا وذهنيا لمرحلة العصور الوسطى، وقد توجد في العصور السابقة شخصيات تمثل الحداثة”[128]، والتفاوت الفكري هذا يعد مسألة مهمة في نظر أركون، لذلك يلح في مرات عديدة على ضرورة التفريق بين الحداثة المادية والحداثة العقلية، أو بين الحداثة الحقيقية والحداثة السطحية، يقول مثلا: “إن أول شيء ينبغي أن نقوم به هو التمييز بين الحداثة المادية والحداثة العقلية، أقصد بين تحديث الوجود اليومي للبشر، وبين تحديث موقف الفكر البشري من مسألة المعنى أو فهم الوجود أو رؤية العالم”[129].

والمتأمل لواقع المجتمعات العربية الإسلامية يجد أنها-أو العديد منها بصورة أدق-تتمتع بشتى معطيات الحداثة المادية والوسائل التكنولوجية-ولو بدرجات متفاوتة-إلا أنها في المقابل لا تزال تسودها أنماط تفكير وتسيير منفصلة تماما، بل ومتعارضة مع الحداثة، فبعد حصول الدول العربية الإسلامية على استقلالها، عرفت تطورات كثيرة على المستوى المادي الاستهلاكي دون أن يرافق ذلك تغيير ملموس في اللغة والثقافة والأنظمة العائلية والعشائرية وأحيانا حتى نظام السياسي[130]، فقد قامت هذه الدول بتحديث الواقع الحياتي دون تحديث الفكر، مما جعل نمط الحداثة الذي تعيشه المجتمعات العربية الإسلامية يتمظهر كحداثة نصفية أو معطوبة، تمزج بين مؤسسات ومظاهر وإنتاجات الحداثة والعقلانية، مع قيم وعلاقات قديمة، ونتج عن هذا المزج نوع من الحداثة الملفقة؛ المواكبة للعصر من ناحية الشكل والتقليدية من ناحية المضمون.

وهي الفكرة التي يؤكدها أركون حين يقول: “إننا نسعى وراء أكمل وسائل الإنتاج وأرفه أنماط المعيشة، ونتشبث في نفس الوقت بآراء وأفكار وتخيلات واعتقادات تسلمناها من الماضي دون أي تساؤل حقيقي وهكذا تختلط الأمور”[131]، بمعنى أن هناك خلطا بين مصطلحي، الحداثة (Modernité)، والتحديث (Modernisation) مع أنهما مصطلحان “لا يدلان على نفس الشيء، فالتحديث هو إدخال التقنية والمخترعات الحديثة إلى الساحة العربية الإسلامية، أما الحداثة فهي موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، إنها موقف للروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع”[132].

الحداثة المطلوبة والمرجوة إذن هي الحداثة الفكرية والعقلية، التي تسمح بتشكيل رؤية جديدة للتاريخ والواقع، للإنسان والكون، رؤية قوامها العقل والعلم والحرية، وجوهرها تحرير إرادة الفهم والمعرفة من كل قيد أو شرط، وهي المسألة الغائبة في جل المجتمعات العربية الإسلامية، فحتى وإن وجدت إرادة المعرفة فإنها تصطدم بالكثير من العوائق والإكراهات التي تحد من فعاليتها إن لم تحدها عن مسارها وأهدافها.

بعد تمييز الحداثة الفكرية عن الحداثة المادية، ينتقل أركون إلى مسألة أخرى وهي بيان موقع الإسلام من هذه الحداثة الفكرية، من منطلق أن هذه الأخيرة “تعني بث الحيوية في التاريخ، إنها تعني الحركة والانفجار والانطلاق”[133]، وهي السبيل الأمثل إلى التغيير الإيجابي والتجديد النوعي، ويرى أن الإسلام في لحظة ظهوره كان يمثل حداثة بالنظر لما قبله، لأنه أحدث تغييرا جذريا على جميع الأصعدة، ولكن بمرور الزمن “تحول من طاقة تغييرية إلى تصور ثابت وثبوتي للحقيقة، إلى تصور ملجوم ومسجون للحقيقة”[134]، وهذا ما يتنافى مع أساسيات العقل الحديث، وتصوره النسبي للحقيقة، فعلى “العقل الإنساني أن يتواضع قليلا، ويعترف أنه لا يعكس الحقيقة ولا هو معصوم من الخطأ، بل إن الحقيقة تبقى مستقلة عن العقل، وما يدركه الإنسان ليس إلا تصورات قد تصيب وقد تخطئ، لقد ولى زمن الحديث عن البديهيات التي لا تقبل الشك والمعايير النهائية”[135]، لأنه لا بد من التمييز بين وجود الحقيقة وإدراك الإنسان لها، فإذا كانت الحقيقة موجودة ومطلقة، فإن إدراك الإنسان لها لا يمكن إلا أن يكون نسبيا، نتيجة تأثر هذا الإدراك بخلفية الإنسان الثقافية والعلمية والاجتماعية التي تؤثر على وعيه وتوجه تصوراته.

ودعوة أركون على ضرورة نقد العقل الإسلامي يمكن فهمها على أنها خطوة منهجية أساسية، وهي بمثابة شحذ الأداة التي يتم توظيفها للمساهمة في تغيير واقع المسلمين، لأن تغيير الواقع يستلزم تغيير الأفكار، وتغيير الأفكار يتم بإحداث التعديلات الضرورية على مستوى آليات إنتاجها، بمعنى على مستوى العقل ووظائفه وطريقته في الاشتغال، وبعبارة أركون فإن “نقد العقل الإسلامي يشكل الخطوة الأولى التي لا بد منها لكي يدخل المسلمون الحداثة، لكي يسيطروا على الحداثة”[136].

وتكون بذلك المهمة الكبرى التي تنتظر العلماء والمفكرين المستنيرين في عالمنا العربي والإسلامي اليوم هي مهمة تحرير العقل، لأنه بدون إنجاز هذه المهمة لن يمكن بناء الأسس المتينة لمدنية إسلامية جديدة[137]، وذلك هو الهدف المنشود من قبل العامة والصفوة في عالمنا الإسلامي.

وإذا ما استقرأنا تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر؛ فإننا نلاحظ أن هناك تحولات نوعية عرفها هذا الفكر عبر مسيرته التي جاوزت القرنيين، خاصة فيما يتعلق بالإشكالية المحورية لهذا الفكر، فقد تم تحويل إشكالية المشروع الثقافي العربي من “النهضة” و”التحديث” ثم “الثورة” نقد العقل ذاته”، وقد ظهرت العديد من الأعمال والمشاريع الفكرية التي تتمحور حول إشكالية العقل، حيث كتب العروي “مفهوم العقل”، واتخذ الجابري “نقد العقل العربي” عنوانا لمشروعه، فيما دعا أركون إلى “نقد العقل الإسلامي”، ليعلن برهان غليون عن “اغتيال العقل”…الخ.

ولعل ارتباط نقد العقل لدى أركون بالصفة “إسلامي” يجعله أكثر حساسية وأكثر إثارة للريبة في نفوس القراء المسلمين، وهي مسألة يعيها جيدا ناقد العقل الإسلامي، حتى أنه لم يعلن مشروعه بصورة مباشرة، يقول: “..حين نشرت لأول مرة كتابي بعنوان: نقد العقل الإسلامي استعملت هذا العنوان بدون تردد للطبعة الفرنسية، لأن اللغة الفرنسية مؤيدة للنقد الفلسفي والتاريخي والعلمي عامة، ولها أرضية خصبة من الجهاز المفاهيمي الداعي إلى المزيد من الدقة والتعمق في النقد، أما اللغة العربية فلا تتحمل اقتران النقد بالعقل الإسلامي (…) وأجبرت على اختيار عنوان آخر للطبعة العربية حيث أدرجت فصولا من كتاب نقد العقل الإسلامي، وقلت تاريخية الفكر العربي الإسلامي”[138]، والإشكال هنا ليس مطروحا على مستوى اللغة العربية في حد ذاتها، إنما يكمن في توقف حركة الإبداع لدى الناطقين بهذه اللغة، فقد توقف الفكر العربي عن الإبداع والتطور منذ قرون، ولم يعد مسايرا للتطورات المعرفية الحاصلة في الفكر الإنساني ومن ثم يصعب التعبير عن هذه التطورات ومضاميتها باللغة العربية بنفس الدقة والعمق المتاحة حين يتم التعبير عنها باللغات الأوروبية.

وأركون حين وظف مصطلح “التاريخية” (Historicité ‘ L) في عنوان كتابه المترجم للغة العربية، فهو لا يقصد به شيئا آخر غير النقد، ذلك لأن التاريخية تعني التجذر في الزمكان، وتاريخية الشيء تفيد حصوله في التاريخ، وتأثره بالعوامل المحيطة به، فيكون بذلك كل ما هو تاريخي قابلا للنقد والمراجعة، يشرح أركون هذه الفكر بقوله:”..لهذا السبب تحدثت عن تاريخية العقل (Historicité de la raison ‘ L)، أقصد الطابع المتغير والمتحول للعقل وبالتالي الطابع المتغير للعقلانية المنتجة عن طريق العقل، هذا في نهاية المطاف معنى نقدي للعقل الإسلامي، فالعقل الإسلامي ليس شيئا مطلقا أو مجردا يقبع خارج الزمان والمكان وإنما هو شيء مرتبط بحيثيات وظروف محددة تماما”[139]، وفي هذا الارتباط بالواقع يحدث التأثير المتبادل بين الأشياء، ويحدث التبدل والتغير عبر الومان، فالقول بالتاريخية من شأنه نزع هالة التقديس والأسطرة والتعالي عن الأفكار والممارسات، وعدم التعاطي معها كجواهر مجردة عن كل الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي نشأت ضمنها، وفكرة التاريخية هذه نجدها بصورة أكثر وضوحا في ميدان الإبستمولوجيا وتحديدا لدى غاستون باشلار الذي يعتبر العقل بنية ذات تاريخ، وتاريخها هو انعكاس لجدل الأفكار والوقائع وما يحدث بينهما من تأثر وتأثير.

وإنجاز مهمة نقد العقل الإسلامي، يمر عبر الاستراتيجية التي يتبناها أركون ويتعامل وفقها مع موضوعات دراساته عموما، وهي إستراتيجية تقوم على ثلاثة لحظات/خطوات أساسية كما سبقت الإشارة إليها وهي: الزحزحة/ الاختراق/ التجاوز، فعمله يبدأ بزحزحة المفاهيم عن مواقعها التقليدية الراسخة لكي يفككها فيما بعد، ويتوصل بالتالي إلى تجاوز معناها التقليدي، ثلاث خطوات منهجية ثابتة يعتمدها أركون في أبحاثه، وهنا نتساؤل: كيف يطبق أركون هذه الخطوات في مقاربته للعقل الإسلامي كواحد من أهم مواضيع دراساته؟

يحدد أركون بداية منطلقة في مقاربته النقدية للعقل الإسلامي، من خلال بيان معالم نظرته للعقل، ذلك لأن البحث في مفهوم العقل متشعب ومتسع لدرجة يصعب معها الإلمام بكل التصورات والنظريات التي صيغت حوله منذ الفلسفة اليونانية إلى يومنا هذا، ونظرته للعقل مستمدة من نظرة العلوم الإنسانية والاجتماعية، ذلك ما يؤكده بقوله:”لا أقصد بالعقل المفهوم الجاري عند فلاسفة الإسلام والمسيحية، الموروث عن الأفلاطونية المحدثة والأرسطوطاليسية، وهو القوة الخالدة المستنيرة بالعقل الفعال، المنيرة لسائر القوى الإنسانية في النشاط العرفاني، بل أقصد القوة المتطورة المتغيرة بتغير البيئات الثقافية والإيديولوجية، القوة الخاضعة للتاريخية”[140]، وفي هذا التحديد محاولة لاستبعاد الطرح الميتافيزيقي لمفهوم العقل الذي ساد في الفلسفة القديمة والوسطية، وتبني الطرح الواقعي والتاريخي، أي العقل كما تجلى وكما مارس دوره في التاريخ والمجتمع من خلال إنتاج المعرفة وتوجهها، فيكون المقصود بالعقل الإسلامي لدى أركون؛ كل الآليات التي توجه تفكير الإنسان المسلم في مختلف الظواهر المحيطة به، فهو لا يبحث في العقل كمفهوم، وإنما يبحث فيه كآليات للتفكير، بعبارة أخرى فهو يبحث في سؤال: كيف يفكر العقل الإسلامي إذ يفكر في الحياة؟[141].

وهناك خصوصية لهذا العقل، وهي ناشئة عن ارتباطه بالنصوص التأسيسية للإسلام وبالتجربة الأولى لتطبيق هذه النصوص على أرض الواقع، يقول أركون موضحا هذه الخصوصية:”العقل الإسلامي لا نعني به عقلا خصوصيا أو قابلا للفرز والتمييز لدى المسلمين عن غيرهم، فالعقل بالمعنى العام ملكة مشتركة لدى كل البشر، وإنما التمييز أو الفرق كامن كله في النعت: أي الإسلامي، نقصد بذلك أنه كامن في المعطى القرآني وفيما كنت قد دعوته بتجربة المدينة، هذه التجربة التي أصبحت فيما بعد وبفضل العمليات المتتابعة للاجتهاد نموذج المدينة”[142].

فالأمر يتعلق أساسا بمشكلة المعرفة وليس بالعقل في حد ذاته، وهي مسألة يتوقف عندها أركون مؤكدا أنه يفضل كلمة “الفكر الإسلامي” لأنها أوسع وأكثر إحاطة بالموضوع، فالعقل لا يمارس وظيفته بمفرده لأن هناك ملكتي الخيال (Imagination’L) والذاكرة (La Mémoire)و”هما ملكتان لا يمكن فصلهما عن العقل عندما يشتغل ويمارس فعله، فالعقل بحاجة إلى الذاكرة، كما أن العقل بحاجة إلى الخيال ولا يستطيع الانفصال عنه أو عن التصورات التي يمكن للخيال أن يقدمها للعقل من أجل تغذية عمله وترطيب أجوائه، وإذن، يوجد أمامنا في الوقت ذاته مجال مفتوح لدراسة بنية الروح البشرية بطريقة نفسانية، أي دراسة طريقة اشتغال الروح البشرية وآلياتها في اللحظة التي ينتج فيها المبدع أعماله، سواء أكان المبدع فيلسوفا، أم أديبا أم فنانا”[143]، وهنا نلاحظ أن أركون يستعيد ما يدعوه باشلار بالتحليل النفسي للمعرفة العلمية، لإنجاز مقاربته حول مشكلة المعرفة في السياق الإسلامي، والتي تشكل صلب نقده للعقل الإسلامي، فالمه بالنسبة إليه هو طريقة إنتاج المعرفة والمبادئ التي تقوم عليها هذه الطريقة، وهو في ذلك متفق تماما مع توجه الأنثروبولوجيا التطبيقية لروجيه باستيد التي تهتم بفحص مشكلة العلاقة بين قواعد العقل السابقة للنماذج العملية والقوانين الاجتماعية[144]، فبدل القول بعقل متعال على التاريخ، متفوق على الجميع، وغير قابل للنقد، يقوم أركون بزحزحة مفهوم العقل الإسلامي إلى أرض الواقع والتاريخ، ليقوم بعد ذلك بتفكيكه وبيان أسسه ومبادئه، للشروع في بحث كيفية تجاوزه.

لتحديد مفهوم العقل الإسلامي كما ظهر في التاريخ، يرى أركون أنه ينبغي الانطلاق من مقاربة اللحظة الراهنة ثم العودة إلى الوراء وفق عملية حفرية أثرية على غرار أركولوجيا فوكو، وهو ما يدعوه بالمنهجية التقدمية-التراجعية، إذ لا يمكن في اعتقاده فهم مشكلة مطروحة في الحاضر إلا إذا نبشنا عن جذورها في الماضي[145].

وإذ يلح على ضرورة الانطلاق من الحالة الراهنة للفكر الإسلامي، فذلك لأنه يرى أن هناك مجموعة المواضيع المترددة في الخطاب الإسلامي المعاصر على اختلاف تلويناته وهذه المواضيع تسمح لنا بفهم السلوك والعقلنة الحالية للمسلمين، ولفت النظر إلى الفراغ الكبير الذي يعاني منه الفكر الإسلامي[146]، ويقدم لنا العديد من الأمثلة عن هذه المواضيع التي تشكل الأرضية المشتركة للخطاب الإسلامي المعاصر، على غرار مناداة الحركات الإسلامية-المنتشرة في العالم الإسلامي بكثرة، خاصة منذ خاصة منذ نهاية سبعينيات القرن المنصرم-بشعارات مثل “الإسلام هو الحل”، “والعودة إلى الأصول”، فوراء هذه الشعارات يكمن تصور معين للحقيقة على أنها “موجودة كاملة في مكان ما وفي زمان ما، يكشف عنها من حين إلى حين دفعة واحدة[147].

والقول أو الاعتقاد بوجود الحقيقة المطلقة وإمكانية امتلاكها واحتكار الحديث باسمها يعد المبرر النظري الذي يسمح باشتغال آلية الكفير التي تمارسها هذه الحركات تجاه الأشخاص أو الأنظمة، ومختلف أشكال العنف الذي تمارسه تجاه معارضيها، ففي تقدم نفسها على أنها الممثلة الوحيدة للحقيقة الإلهية المطلقة، وكل مخالف لها فهو مخالف بالضرورة للإرادة الإلهية.

ومن منطلق الاعتقاد بإمكانية امتلاك الحقيقة هذا، يبرز موضوع آخر كثيرا ما يتكرر على ألسنة منتجي الخطاب الإسلامي المعاصر، والمتمثل في تلك الإسقاطات التاريخية التي يتم بفضلها أسلمة كل شيء، فالإسلام في نظرهم عرف الديمقراطية قبل الغرب، وكذلك الأمر لحقوق الإنسان والتسامح وتحرير المرأة، ومختلف النظريات الاقتصادية والعلمية، ذلك ما يسميه أركون بالمزعم العلموي الذي يتجلى في الادعاء بوجود “علم الذرة والطب والفلك في القرآن، فهو يحتوي في نظرهم على كافة الاكتشافات العلمية ولا يمكن أن يحصل أي اكتشاف في المستقبل إلا وهو متضمن فيه بالضرورة”[148]، حتى أحداث 11سبتمبر 2001 لم تسلم من هذا المزعم، ففي تلك الفترة تم تداول كونها مذكورة في القرآن الكريم وتحديدا في الآيتين (110-111) من سورة التوبة في قوله تعالى :” أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ”.

من خلال هذه الأمثلة وغيرها يصل أركون إلى أن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يتعد الحدود التي وضعها القدماء للكلام عن الدين، يقول: “فالخطاب الأصولي الراهن ينكر وجود أية مسافة فكرية بين ما أصله الشافعي وأوحى به ابن تيمية وأفتى به الغزالي وأجمعت عليه مراجع التقليد وبين المعتقد الديني كما هو سائد في المجتمعات السائدة”[149].

وهذا تعبير آخر عن القطيعة بين الفكر الإسلامي والفكر الحديث، فطريقة التفكير المتبناة في السباق الإسلامي بقيت على حالها منذ لحظة تأسيسها ولم تتأثر بما حصل من تغيرات معرفية في السباق الغربي، والتي تغيرت معها طريقة التفكير بصورة جذرية، لذلك يعتقد أركون أن العقل الإسلامي لا يزال يقوم على منظومة الفكر القروسطية، وهو نفس الموقف الذي نجده عند المفكر الإيراني درايوش شايغان الذي يرى أن “ثقافتنا الغنية، ذات البناء القروسطي لا تسمح لنا بفهم الانقطاعات والانكسارات الكبرى في الأزمة الحديثة، كما أنها لا تأذن لنا بالإفادة منها (…) فمنذ قرون لم نعد نحتك ونتفاعل مع التحولات العظمى التي هزت العالم”[150].

من خلال هذه الفكرة يرى أركون أنه يمكننا العودة إلى الوراء في التاريخ الإسلامي ووفق خط متصل انطلاقا من لحظة الخميني (1902-1989) والإخوان المسلمين ثم الإصلاحيين السلفيين في القرن التاسع عشر ثم الحركة الوهابية ثم كبار المفكرين الإصلاحيين كابن تيمية، الغزالي، والشافعي (767-820م)، وجعفر الصادق والحسن البصري[151]، وهذا وصولا إلى لحظة التأسيس للكشف عن البنية العميقة للعقل الإسلامي.

ولحظة التأسيس المهمة والحاسمة في تثبيت آليات اشتغال العقل الإسلامي تتمثل برأيه في لحظة الشافعي بفضل تأسيسه لعلم الأصول في مؤلفاته “الرسالة”، ويبرر هذا الاختيار بقوله: “إننا نمتلك مؤلفا معياريا منذ القرن الثالث الهجري بصفته محلا للإجماع والإشعاعات المختلفة، إنه رسالة الشافعي (767-820م)”[152]، فهذا الكتاب يكتسي أهمية بالغة لأن الفكر الإسلامي” اعتمد ولا يزال يعتمد على عملية التأصيل، أي البحث عن أقوم الطرق الاستدلالية للربط بين الأحكام الشرعية والأصول التي تتفرع عنها (…) وتعتبر رسالة الشافعي المحاولة الأولى لتأسيس ما ازدهر بعده باسم أصول الفقه”[153]، وهذا ما يؤكد نص لفخر الدين الرازي يقول فيه: “كان [الناس] قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، في كيفية معارضاتها وترجيحاتها فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب وأدلة الشرع”[154].

فرسالة الشافعي تعد في نظر أركون منطلقا لنشأة طريقة معينة في التفكير والاستدلال وهي الطريقة التي اعتمدها ولا يزال يعتمدها العقل الإسلامي في إنتاجه للمعرفة، ذلك ما نفهمه من قوله: “إن الخطاب القرآني وسيرة النبي وسيرة علي والأئمة عند الشيعة، قد استنبط منها نسق تفكيري متسم بفكرة الأصول، وما زال هذا النسق موجها للفكر الإسلامي إلى يومنا هذا (…) ورغم احتكاكه بنسقات أخرى إلا أن النسق الأصولي يبقى أشد نفوذا وأوسع انتشارا”[155].

وبالتالي فمعرفة خصائص العقل الإسلامي وأسسه تتم من خلال إنجاز الخطوة الثانية من خطوات منهجية أركون ونقصد بها خطوة الاختراق والتفكيك، أي تفكيك رسالة الشافعي والكشف عن آلية اشتغال العقل فيها، ويخلص أركون من هذه الخطوة إلى أن “طريقة اشتغال العقل لدى الشافعي قائمة على مجموعة من المبادئ التي هيمنت منذ ذلك الوقت حتى اليوم على أدبيات إسلامية ضخمة هائلة”[156].

ونظرة أركون لهذه المبادئ تتقاطع مع مفهوم الإبستيمية الذي بلوره ميشيل فوكو لتحقيب الفكر الغربي الحديث من خلال الكشف عن الإمكانيات والشروط التاريخية لظهور المعارف، واستعمل أركون هذا المفهوم قاصدا به” مجمل المسلمات الضمنية التي تتحكم بكل الإنتاج الفكري في فترة معينة دون أن تظهر إلى السطح، أي أنها اللاوعي المعرفي لفترة بأسرها”[157].

يلخص لنا مضمون الإبستيمية الخاصة بالعقل الإسلامي، والتي تضم مجمل المسلمات التي يتكئ عليها هذا العقل أثناء اشتغاله، في كون هذا العقل (أو طريقة التفكير هذه)”يخلط بين الأسطوري والتاريخي، ثم يقوم بعملية تكريس دوغمائية للقيم الأخلاقية والدينية، وتأكيد لتفوقية المؤمن على غير المؤمن، والمسلم على غير المسلم وتقديس اللغة، ثم التركيز على قدسية المعنى المرسل من قبل الله ووحدانيته معنويا، هذا المعنى الواضح والمنقول عن طريق الفقهاء، بالإضافة إلى عقل أبدي فوق تاريخي لأنه مغروس في كلام الله”[158].

يستفاد من هذا النص أن العقل الإسلامي ينطلق من وجود حقيقة كلية مطلقة تمثل “الدين الحق” و”الطريق المستقيم” وهي موجودة في النص التأسيسي (القرآن والسنة) وتشمل كل القيم الدينية والخلقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويمكن للعقل إدراكها بالوصول إلى القصد الإلهي الكامن في النص، وهو ما حدث فعلا في العصر الذهبي للإسلام، عصر الصحابة والسلف الصالح، الذي تجلى فيه جوهر الإسلام في التاريخ البشري ومن ثم تأتي دعوة الحركات الإسلامية إلى ضرورة استعادة ذلك العصر.

ومن جهة أخرى فإن النص الموحي به من قبل الله تعالى له معنى واحدا، والشريعة الإسلامية مستمدة بصورة كلية وبشكل صحيح وموثوق به تماما من هذا النص، إما بصورة مباشرة من النصوص الصريحة أو بصورة غير مباشرة من تعاليم الأئمة المعصومين لدى الشيعة، وإما بفضل تقنيات الاجتهاد المحددة بدقة وبصورة نهائية في علم الأصول بالنسبة للسنة.

يعتقد أركون أن هذه المبادئ تشكل نظاما معرفيا ملزما، ومقدمات موجهة للفكر الإسلامي، إذ أنه ورغم تنوع موضوعات الفكر الإسلامي وتعدد الفرق الإسلامية، ورغم الاختلافات الموجودة بينها والتي أدت في كثير من الأحيان إلى الصراع والاقتتال بينها، إلا أننا-والقول لأركون-“عندما نعمق التحليل أكثر وننظر إلى ما وراء القشرة السطحية والاختلافات الظاهرية، فإننا نجد أن هذه العقول تشتمل على عناصر مشتركة أساسية”[159]، هذه العناصر المستركة تتمثل في خضوع العقل للوحي أو لمعطى الوحي (Le Donné révélé) فالعقل يمارس دوره داخل حدود المعرفة الجاهزة الموحى بها، فأهم ميزة للعقل الإسلامي والعقل الديني عموما أنه عقل تابع (Raison serve) للوحي، وهو تابع أيضا لتعاليم الأئمة المجتهدين الذين يمثلون سيادات عليا لا تناقش ولا ترد، وقد تجسدت هذه السيادات في مؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى في الإسلام؛ مالك بن أنس (715-796م)، أبو حنيفة النعمان (699-767م)، أحمد بن حنبل (780-855م)، الشافعي، وجعفر الصادق..الخ

كما أن العقل الإسلامي يمارس دوره وآليات اشتغاله من خلال تصور محدد عن العالم والكون، وهذا التصور خاص بالقرون الوسطى، أين يتم اعتبار العقل تابعا أو في المرتبة الثانية بعد النص، مما يجعله يشتغل ضمن دائرة مغلقة وهي دائرة المسموح التفكير فيه، ومن هنا تنشأ خاصية أخرى من خصائص العقل الديني القروسطي الذي ينتمي إليه العقل الإسلامي وهي الدغمائية، أو الصرامة العقلية (La Rigidité mentale) و”العقلية الدغمائية ترتكز أساسا على ثنائية ضدية حادة هي: نظام الإيمان أو العقائد/ ونظام من اللاإيمان واللاعقائد، بكلمة أخرى أكثر وضوحا فإن العقلية الدغمائية ترتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الشدة والصرامة مجموعة أخرى وتعتبرها لاغية ولا معنى لها، لذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه أو المستحيل التفكير فيه وتتراكم بمرور الزمن والأجيال على هيئة لا مفكر فيه”[160].

تنشأ عن هذه الدغمائية، ما يدعوه أركون بالأرثوذكسية أو الصراطية التي يرى فيها أتباعها الطريق الصحيح والوحيد، أما الطرق الأخرى فهي كلها ضالة في نظرهم، وهكذا يظهر تبادل تهم التكفير والابتداع بين أتباع مختلف الأرثوذكسيات مثلما سبقت الإشارة إلى ذلك.

من خلال هذه الخصائص التي رصدها أركون للعقل الإسلامي، يصل إلى أن الأرضية الفكرية التي يستند إليها هذا العقل في اشتغاله، والرؤية التي تحدد طريقته في الاستدلال والبرهنة تابعة للفضاء العقلي القروسطي (Espace mentale médiévale’L)، والذي يشمل عالم المسيحية والإسلام معا طوال القرون الوسطى، والتي يمكن القول أنها انتهت في الغرب، ولكنها لم تنته عندنا حتى الآن، لذلك وكما قلنا سابقا يرمي أركون كل منتجات الفكر الإسلامي من بداياته إلى يومنا هذا ضمن دائرة المعرفة القروسطية المنقطعة عن الحاضر وعن الحداثة وعن التصورات الجديدة للإنسان وللعالم، فلا ريب-يقول أركون-:”أن المقدس والخارق للطبيعة والمتعالي كلها أشياء هيمنت بشكل مطلق على الفضاء العقلي لإنسان القرون الوسطى، أو على عقلية الناس في القرون الوسطى”[161]، وهناك فروقات جوهرية بين هذا النمط من العقلية، والعقلية الحداثية.

من هنا نصل إلى الخطوة الثالثة في تعامل أركون مع العقل الإسلامي، وهي مرحلة التجاوز واقتراح البديل، بمعنى بيان السبل الكفيلة بردم الهوة الفاصلة بين العقل الإسلامي والعقل الحديث، وبتعبيره لابد من تفكير اللامفكرفيه (Penser L’impensé)، إذ يقول :”إن هدفي يكمن في جعل “المستحيل التفكير فيه” أو “اللامفكرفيه” شيئا ممكنا التفكير فيه داخل ساحة الفكر الإسلامي أو العربي المعاصر”[162].

وفق نفس التوجه يرى مختار الفجاري أن الجهاد الحقيقي هو إعادة النظر في تصورنا للحياة وللوجود في ضوء مكتسبات العلم الحديث ومن خلال جدلية مع خصوصياتنا الحضارية، معتبرا في الوقت نفسه أن أركون وضع بجرأة عالية يده على الداء، ألا وهو العقل الإسلامي المنتج للمعرفة قبل أن يكون النظام الإسلامي المستبد بالعقول، فنقد العقل الإسلامي عند محمد أركون خير منطلق لإصلاح الفكر الإسلامي إصلاحا حقيقيا أو إصلاحا ثوريا[163].

إن تشكيل الفكر الذي يتمتع عن جدارة بالصفتين (إسلامي) و(حديث) في الوقت نفسه، يمر في نظر أركون عبر تغيير آليات اشتغال العقل في الأوساط الإسلامية، أي تغيير طريقة تفكير المسلمين، وهذا بإحداث قطيعة مع نمط التفكير القروسطي والالتئام مع نمط التفكير الجديد أو مع ما يدعوه بالعقل الاستطلاعي المنبثق، لا بد إذن من تحرير العقل الإسلامي، ولا بد له أن يأخذ دوره المركزي دون قيد أو شرط، لأن العقل الراهن يتسم بأنه “عقل مستقل، يخلق بكل سيادة وهيبة أفعال المعرفة، وهذا العقل يرفض الاشتغال داخل نطاق المعرفة الجاهزة أو المحددة سلفا، إنه يرفض الاشتغال داخل الأقفاص والسجون”[164].

من جهة أخرى، فإنه ينبغي التخلي عن كل دغمائية أو أرثوذكسية أيا كانت، والتخلي أيضا عن الأحكام القطعية اليقينية، لأن العقل المنبثق، يرفض اليقينيات المطلقة، ويؤمن بنسبة الحقيقة وتاريخها (‘ L Historicité de la vérité) التي هي من تاريخية العقل ذاته، يقول أركون مؤكدا ضرورة الإيمان بنسبة الحقيقة:”ينبغي أن نقبل شيئا أساسيا يعبر عن منجزات الحداثة العقلية ألا وهو نسبة الحقيقة، ونسبية الحقيقة يتعارض جذريا مع مطلق الحقيقة، أو الاعتقاد بوجود الحقيقة كما ساد سابقا في كل الأوساط الدينية”[165].

وأهمية الإيمان بالنسبية تكمن في ما يسمح به ذلك من القبول بالعودة النقدية، والاعتراف بالتعددية الفكرية، بعيدا عن التكفير والعنف والصراع، وبعيدا عن احتكار الحديث باسم الحقيقة.

فالإسلام في نظره “ليس كيانا جوهرانيا لا يتغير ولا يتبدل على مدار التاريخ، إنه ليس كيانا أزليا لا يتأثر بأي شيء ويؤثر في كل شيء كما يتوهم جمهور المسلمين (…) إنه ناتج عن الممارسة التاريخية لفاعلين اجتماعيات شديدي التنوع والاختلاف من أندونسيا إلى إيران إلى أقصى المغرب”[166]، وهناك فرق كبير بين المثال أو النموذج وتطبيقه في أرض الواقع، فالتطبيق لا يمكنه أبدا أن يكون مطابقا للأصل أو المثال، ومن ثم يعتقد أركون أنه لا بد من التخلي عن فكرة استعادة العصر الذهبي التي يتبناها الكثيرون في الأوساط الإسلامية، وتغيير نظرتنا “إلى الماضي ذاته بما هو [مسار] غير محسوم، قيد التكوين لا يزال مفتوحا على حضور الناشئ والمتمرد وغير المكتشف وغير المقدر حق قدره وما يطرحه من تحديات”[167]، وبالتالي فتح المجال أمام تعدد التأويلات والأفهام، وإعادة القراءة للماضي كله نصوصا وأحداثا، لأن “العقل المنبثق يحرص على الشمولية والإحاطة بجميع ما توفر لديه من مصادر ووثائق (…) ويشير بإلحاح إلى كل ما هو جديد أو متمم أو مصحح أو مخالف لما أتى به العلم في كل مدرسة من مدارس البحث، وهذا الموقف ينافي التشبيث بتفوق أمة أو سنة أو اتجاه أو لغة أو عصر أو دين أو فلسفة أو غيرها”[168].

هذه هي إذن، أهم الخصائص التي يمتاز بها العقل الاستطلاعي المنبثق أو العقل الحداثي، والتي يدعو أركون من خلال إسلامياته التطبيقية إلى تبنيها في طرق تفكيرنا وكيفية تصورنا للأمور كأول الأولويات من أجل تجاوز طريقتنا المعتادة في التفكير والتي تستند على مبادئ قروسطية وبالتالي تأسيس عقل إسلامي ومعاصر في الوقت نفسه.

ثانيا: نقد مركزية العقل الغربي:

انطلاقا من جدلية الأنا والآخر المعبر عنها بإشكالية التراث والتجديد، فإن كل موقف من التراث أو الأنا، يترتب عنه موقف معين من فكر الآخر وثقافته بالضرورة، ولعل إحدى نقاط القوة في خطاب أركون تتمثل في تحرره الكبير، وتمرده-كما صرح في أحد حواراته –فمطرقته النقدية لا تستثني أي طرف، ونقده للفكر الإسلامي ودعوته إلى القطيعة مع التراث لا تعني بالضرورة الدعوة إلى الالتحام بتراث الآخر، لأن هذا الآخر أيضا-الفكر الغربي- كثيرا ما وقع غير تاريخه القديم والحديث في انحرافات خطيرة، ومن ثم فهو معرض للنقد ومطالب بالابتعاد عن هذه الانزلاقات المعرفية التي تتناقض مع شعاراته الكبرى التي ما فتئ يصب بها الآذان كالحرية والعقلانية والمنزع الإنساني والديمقراطية وحقوق الأقليات…الخ.

فرغم الدعوات المتكررة التي يلح من خلالها أركون على ضرورة تبني مسارات العلوم الإنسانية والاجتماعية في مقاربة التراث الإسلامي، وكذا تطبيقه المكثف لأحداث مناهج ومفاهيم هذه العلوم والتزامه بمبادئها في دراساته، إلا أنه عندما يستعير المفاهيم والمناهج التي أنتجها الغرب لا يقوم بذلك بدافع الافتتان والانجذاب المجاني وإنما يوظف هذه المفاهيم، أو هذه السلطات المعرفية المرجعية من زاوية رغبته في تدشين عهد جديد في التعامل مع الإسلام والقول الإسلامي، فإستراتيجية تقوم على الصراع ضد جبهتين: جبهة الذات، وجبهة الآخر، فهو ناقد للفكر الغربي مثلما هو ناقد للكفر الإسلامي، ويلخص هذه المهمة بقوله:”باختصار أريد أن انتقد التراث الديني وتراث الحداثة الغربية في آن معا، وأريد أن أتوصل إلى عقل جديد واسع يتجاوز الاثنين”[169].

وبتبنيه لهذه الإستراتيجية النقدية فهو يهدف إلى تجاوز شتى أنواع سوء التفاهم والصدام الحاصل بين المنظومتين الفكريتين، العربية الإسلامية والغربية، محاولا القيام بدور الوسيط الثقافي بين الجبهتين، وبتعبيره “إذا أساء هذا الطرف قلت أساء، وإذا أحسن قلت أحسن، فأنا أتحدث انطلاقا من ذلك الموقع الذي تجري فيه تلك المواجهة التاريخية والفلسفية ما بين رهانات المعنى/ وإرادات الهيمنة، وكلما طغت إرادات الهيمنة على رهانات المعنى وحاولت أن تصادرها (وما أكثر ما تحاول) أشرت إلى ذلك وأدنته، هذا موقفي كباحث وكمفكر ولن أحيد عنه أيا تكن الضغوط والتحديات”[170].

غير أنه ينبغي ألا يفهم من هذه الوساطة التي يحاول أركون القيام بها، بحثا عن التوفيق إنما الهدف هو التجاوز، فالموقع الذي يشير إليه في المقطع الأخير من النص السابق، يتمثل في آخر صيحات الفكر الغربي، وكما هو معلوم فالفكر الغربي المعاصر عرف ظهور مواقف فلسفية مارست عودة نقدية على الحداثة الغربية نفسها، وقد مثل هذه المواقف العديد من المفكرين المعاصرين البارزين من أمثال: بول ريكور Ricoeur. (1913-2005)، ميشيل فوكو، يورغين هابرماس Hebermas.J(1929-   )، جاك دريدا Derrida.J (1930-2004)، وغيرهم كثير ممن تصدوا بالتأويل والنقد والتفكيك لممارسات العقل الغربي المنتصر والمهيمن، وهذا ضمن ما يسمى بتيار ما بعد الحداثة (Postmodernisme)، الذي يضم محاولات تجاوز الفكر الحداثي من خلال إبراز مواطن انحرافه ومحدوديته، ثم الدعوة إلى عقلانية أو عقلانيات جديدة أكثر انفتاحا وتواضعا والتزاما بالوظيفة المعرفية والإنسانية.

ويبدو أن الوساطة التي يريد أركون القيام بها لم يكتب لها النجاح بعد –باعترافه- لذلك فهي تبقى مجرد مشروع مقترح وأفق للانتظار، إن لم تكن حلما، يقول مبينا هدفه المنشود:”إنني أحلم بجمهور غير موجود لا في الجهة الأوروبية/ولا الجهة الإسلامية، أحلم بجمهور مستعد لتلقي البحوث الأكثر انقلابية وتفكيكا لكل الدلالات والعقائد واليقينيات الراسخة، فهذه البحوث الريادية أو الاستكشافية هي وحدها القادرة على فتح الأبواب الموصدة للتاريخ”[171].

وإذا كانت عوائق تقبل أفكار أركون في الجهة الإسلامية أمرا مفهوما بالنظر إلى جدة هذه الأفكار وأسلوبها العلمي الأكاديمي الذي يستعصي حتى على النخبة في بعض الأحيان، بالإضافة إلى توجهه النقدي الذي يلامس فيه مواضيع حساسة كان قد توقف البحث فيها منذ ما اصطلح عليه بـ”إغلاق باب الاجتهاد”، فإن عدم رواج أفكاره في الوسط الفكري الغربي لاسيما في الميدان الذي ينتمي إليه، أي ميدان الإسلاميات يمكن إرجاعه بدرجة كبيرة إلى تبنيه لإستراتيجية نقدية تجاه الحداثة الغربية، مما يوحي بأن اتكاءه على المناهج الغربية الحديثة والمعاصرة ليس تقليدا ميكانيكيا أو استعادة حذافيرية، إنما هو عملية واعية مؤطرة بهدف سام يتمثل في تجاوز الخصوصيات الضيقة نحو فكر إنساني كوبي “يساهم في بلورة روح علمية جديدة تنطبق على كل الثقافات والتراثات البشرية وليس فقط على التراث الأوروبي”[172].

فبالرغم من الأهمية الكبيرة التي تكتسبها العلوم الإنسانية والاجتماعية، إلا أنها في نظر أركون تبقى غير كافية لوحدها، بل يجب أن تكون مؤطرة بموقف فلسفي يسمح بتقييم المعارف والمقاربات المتبلورة من خلال الوصف والتحليل والتفكيك وشتى العمليات المنهجية، فالفلسفة كما يقول:”تستكشف الدلالات الممكنة أو المحتملة التي يفتحها البحث العلمي أمامنا، وهي تحافظ على مبدأ الحرية النقدية تجاه كل الدغمائيات التي تميل دائما للتشكيل من جديد بتأثير من القوى الاجتماعية والإيديولوجية أو تحت ضغطها”[173]، من هنا نفهم أن الدعوة إلى تبني المناهج المعاصرة مشروطة وموجهة من قبل الموقف الفلسفي الجديد الذي يرفض اليقينيات القطعية وينفتح على الاحتمالات الممكنة والتأويلات المتحررة.

وأركون ينتقد العقل الغربي من خلال فضح انحرافاته الإيديولوجية، والكشف عن مضمرات هذا العقل وشبكة العلاقات التي يتم نسجها بين إرادات المعرفة والهيمنة، يقول هاشم صالح في تحليله لموقف أركون:”..العنف مشكلة نظرية قبل أن تكون عملية، فلنكنس أمام بيتنا، وليكنس الغرب أيضا أمام بيته”ويضيف شارحا:”لا أحد يستطيع إنكار مسؤولية الغرب أيضا عن انفجار العنف حاليا، العنف ناتج عن المسلمين والغرب، كلا الطرفين مسؤولين عما يحدث في العالم الإسلامي بصورة شبه دائمة وما يحدث بصورة طارئة في الغرب؛ 11سبتمبر، شارلي إيبدو”[174]، ولعل إحدى تمظهرات مسؤولية الغرب في العنف الراهن، ارتكازه على نظرية ماكس فيبر التي تحدث فيها عن احتكار الدولة للعنف المشروع، فقد أثر هذا التصور في السياسة العالمية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين احتكروا العنف المشروع باسم الشرعية الدولية، واعتبروا كل أشكال العنف الأخرى التي تمارس من طرف غيرهم غير شرعية وإرهابا وشرا لا بد من القضاء عليه، فالنظام العالمي الجديد تقمص دور الدولة وشرطي العالم الذي يتدخل كما يشاء وبالطريقة التي يريدها ويبقى تدخله محافظا على طابع الشرعية، والأمثلة على هذا النوع من التدخلات كثيرة جدا.

أول ملاحظة لا بد من ذكرها في هذا المقام، هي أن نقد أركون للحداثة الغربية لا يعني أبدا التخلي عن منجزاتها أو الاستهانة بما قدمته، ولا العدول عن مجاراة مسارها، فموقفه من الحداثة لا يجعله على الطرف النقيض منها، كما هو شأن جانب كبير من الخطاب الإسلامي-أو الإسلاموي- الذي لا يرى في الحداثة إلا تعبيرا عن حضارة مادية أفلست قيميا وأخلاقيا، وهي آيلة للأفول، فأركون وهو ينتقد الحداثة يحاول توسيع آفاقها وكشف نقائصها وانحرافاتها لتجاوز إفرازاتها السلبية، وذلك بالإشارة إلى موطن الداء فيها الذي يتجلى في انحرافات عقل التنوير والحداثة عن مساره وعن القيم التي تأسس للدفاع عنها كالديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة القانون والعلمانية…الخ.

فأركون ينتقد الحداثة عندما تتحول إلى إيديولوجيا، ومركزية متعالية، وتفرض نفسها كنمط مثالي وحيد للتفكير والممارسة، فلا يعقل أن تطالب “جميع الثقافات بأن تتبع المسار الذي شقته فرنسا وأوروبا منذ قرنين، إذا اقتصرنا على هذا الخطاب فإننا نفرض على جميع القافات أن تنغلق في النموذج الغربي الوحيد للتطور التاريخي وللإنجاز الفكري، فكأننا بذلك نعيد الخطاب الاستعماري الذي كان يشرعن السيطرة على باقي الشعوب والثقافات من خلال تصدير الحضارة الأوروبية (…) أظهر الفكر الأوروبي أنه عاجز عن التطور خارج النماذج التاريخية التي وضعتها أوروبا وعززها الغرب الثقافي”[175].

ولعل أطروحات من قبيل صراع الحضارات وصدامها، أو نهاية التاريخ وإعادة ترتيب النظام العالمي، كلها تعبر بصورة أو بأخرى عن امتداد أو تحيين لإيديولوجية المركزية الغربية، ذلك أن جل هذه الأطروحات تضع الحضارة الغربية في مقابل-وبالتالي في مواجهة وتنافس مع-الحضارة الإسلامية والحضارة الهندوسية والحضارة البوذية هلم جرا، الغرب هو المركز وبقية العالم هوامش لا أكثر، مع ما يستفاد من نظرية المركز والأطراف من دلالات التفوق والتفاضل الذي يحتكره المركز مقارنة بالأطراف والهوامش، وهكذا يتم إدماج المواجهات المزعومة للخلافات الدينية في رؤية ثم اصطناعها بشكل حاد على صورة تقسيم واحد مهيمن ولا مرونة فيه، يقول أركون موضحا رفضه لهذه المركزية وما يترتب عنها “إنني أتوجه إلى الجمهور المسلم، بمقدار ما أتوجه إلى الجمهور الغربي: ينبغي للجمهور المسلم أن يتخلص من الانغلاق العقائدي الذي يحبسه فيه اللاهوت التقليدي، والايديولوجيا القتالية، وينبغي للجمهور الغربي أن يتخلى عن النظرة العراقية-الأثنوغرافية- التي ينظر بها إلى الثقافات الأخرى، مع قبوله بأن يطبق على المجتمعات الغربية ذاتها وعلى تقاليدها المقاربة الإناسية-الأنثروبولوجيا-“[176].

ثم تأتي تطبيقات هذا التصور الإيديولوجي الغربي الذي يقوم على تفوق الغرب ومركزيته للعالم، وتتم ترجمته على أرض الواقع بكل تعقيداته، في شكل شرعنة للتدخل العسكري في هوامش العالم، من ذلك ماتضمنه خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد أحداث 11سبتمبر، الذي تحدث فيه عن دول تمثل محور الشر، بما يفيد أن دولته وحلفاؤها يمثلون محور الخير، ومن ثم شرعنة أو أخلفة –إن صح التعبير- التدخل العسكري في بعض أجزاء محور الشر لقمع هذا الشر والقضاء عليه، ومن ليس معهم فهو ضدهم بالضرورة وفقا لمنطلق الولايات المتحدة.

وبالرغم من سعي بعض رجال السياسة لإضفاء بعد حضاري –إنساني على مثل هذه التدخلات العسكرية كنشر الديمقراطية وحماية حقوق الأقليات والقضاء على الإرهاب، إلا أنها تضمر في العمق بعدا دينيا فهي تعبر عن نسخة جديدة ومنقحة للحروب الصليبية، وجورج بوش نفسه وصف العمليات العسكرية الأمريكية بالحرب المقدسة والعادلة، كما عبر أحد ضباطه –برتبة فريق- المشارك في الحرب على العراق، في وصفه للمعركة مع المسلم بعبارة فظة رديئة ولكن ذات دلالة قوية، يقول: “كنت أعلم أن ربي أكبر من ربه. وأن رب المسيحي كان ربا حقيقيا، بينما كان رب المسلمين فكرة خاطئة”[177]، وهذا التصريح يثبت أن الدين يبقى كما سبقت الإشارة معطى مجسد في التجربة البشرية، وفي كل المجتمعات، مهما بلغت درجتها من الوقي ومن الفصل بين الممارسات السياسية والدينية.

وفي رده عن سؤال محاوره حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، اعتبر أركون أن إنشاء إسرائيل هو عملية سياسية تندرج ضمن المشروع الاستعماري العام، ومع ذلك يتم توظيف المقدس والعامل الديني لتبريره، يقول أركون: “يجب دوما التمييز بين المنظور الديني من جهة والمصالح السياسية…فموضوع الصراع ضد إسرائيل يلامس مسألة جد أساسية، لأننا نعلم أن إسرائيل تبرر عودتها إلى أرض فلسطين بأدلة دينية بالتأكيد على أن الأمر يتعلق بالعودة إلى أرض الميعاد، وفي هذه الحالة نجد نفس الآلية لإضفاء المشروعية الدينية على مؤسسة سياسية بالدرجة الأولى”[178]، وهذا التصريح يكشف بوضوح أن آلية توظيف الدين/ المقدس لأغراض سياسية أو لإضفاء المشروعية على ممارسات سلطوية، تبر عن ظاهرة عامة في مختلف الديانات وليست مقتصرة على الإسلام فقط، مثلما يحاول العديد من رجال الإعلام والسياسة في الغرب تكريسه على الساحة الفكرية، مركزين على ما يحدث يوميا في البلدان العربية الإسلامية من عنف متزايد، غير آبهين بالتاريخ الدموي للدول الغربية أثناء الفترة الاستعمارية،”ونحن نرى إلى أي حد تركت الساحة حرة لكتاب المقابلات والصحفيين الذين ينشئون صورا عن الإسلام والمسلمين مستندين على الأبحاث الجارية ومتوقفين في مدة زمنية قصيرة: الناصرية، الخمينية، إسرائيل والفلسطينيين”[179]، فمن الخطأ الفضيح بناء مواقف حول هذا النوع من المواضيع على شاكلة الظاهرة الدينية، أو العنف أو غيرها، يناء على شريحة زمنية قصيرة لا تتعدى الخمسين سنة، لأن هذا المواضيع تتطلب مقاربة متعددة التخصصات، لاسيما المنهجية التاريخية والانثروبولوجيا وهما تتطلبان دراية بالمدة الزمنية الطويلة لأنهما تتطلبان العودة إلى لحظات التأسيس التي مرت عليها مئات السنين، فالإسلام –كما الديانات الأخرى- ليس عنيفا بصورة كلية ولا متسامحا كلية أيضا، هذا النوع من الظواهر خاضع للتاريخية بصورة كبيرة وفي علاقات جدلية مع عوامل وظواهر أخرى مما يجعل كل حكم خاص به متسما بدرجة كبيرة من النسبية.

إذن إحدى أهم نقاط التدخل النقدي على مستوى العقل الغربي تتمثل في دعوته إلى التخلي عن التفكير وإصدار الأحكام من منطلق التفوق الأبدي أو امتلاك الحقيقة واحتكارها، أو المركزية الغربية، أو أي منطلق يستبطن تفاضلا أنثروبولوجيا مقارنة بالآخرين، ومن الملح تفكيك جميع نظم الفكر التي بناها الدين، أو العقل الحديث المسمى عقل الأنوار، وذلك لإلقاء الضوء على المقدمات والمسبقات والتغطيات على الواقع، لتكريس الحقيقة الواحدة المكتملة غير القابلة لأي قدح أو نقد.

ولو كان العقل الغربي كما يقدمه الغرب منزها عن الانحرافات نحو الغايات غير المعرفية، ونقصد بها الهيمنة والسيطرة، لما عرفت أوروبا والعالم أجمع حربين مدمرتين في النصف الثاني من القرن العشرين، يتساءل أركون:”كيف يمكن لأمم كبرى كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا أن تدمر بعضها بعضا في حروب عالمية بعد أن كانت قد تحضرت واستنارت؟ من المعلوم أن النازية كما الشيوعية الستالينية قد علمنا وأشاعتا أشكالا ومضامين من الحقيقة المطلقة المعصومة التي تحيلنا إلى طرح تساؤلات راديكالية حول طريقة اشتغال الروح البشرية بشكل عام”[180]، على رأس هذه التساؤلات تلك المتعلقة بالتمفصلات الموجودة بين السلطة والمعرفة وهي التي كان قد أثارها العديد من الفلاسفة الغربيين أنفسهم على غرار ميشال فوكو الذي فقد استنكر الإعلاء من قيمة عصر الأنوار والحكم الإيجابي الذي يطلق على فلسفة عصر الأنوار باعتبارها أرست قواعد التطور بتحرير الفرد والمجتمع، و”يعتقد فوكو وأتباعه بأن عصر الأنوار لك يكن السبب في أي تطور كان، بل كان على العكس من ذلك السبب في ابتداع آليات إكراهية مخصصة لفرض السلطة والإيديولوجيا”[181].

نلاحظ أن أركون يستعيد هذا النقد، ولكن من منظور آخر ووفق تفسير آخر، حيث يرى أن “عقل التنوير قد ولد عصرا جديدا من التقدم والانطلاق (..) لكن عقل التنوير راح بدوره يتجمد في مرحلة لاحقة، وهذه عادة كل شيء ينتصر ويترسخ، لقد استنفذ هذا العقل التحريري طاقته الأخلاقية والروحية بسرعة وتحول إلى عقل توسعي راغب في السلطة والهيمنة على الآخرين، وبالتالي فإن التنوير بحاجة إلى مراجعة من جديد على ضوء ما حدث طيلة القرنيين الماضيين، إن عقل التنوير بحاجة إلى تجديد وتوسيع”[182].

ويستند أركون في نقده للعقل التنويري الحداثي إلى تحول هذا الأخير إلى إيديولوجيا للهيمنة بفعل ارتباطه بإرادة القوة، وتحول مقولاته الأساسية لمجرد شعارات زائفة تقبع خلفها نقائضها وهو ما حدث للديمقراطية والعلمانية والحرية وحقوق الإنسان…الخ، التي تحولت إلى تدخلات عسكرية عنيفة وقتل للأبرياء، وتعدي على سيادات الدول وانتهاك لخصوصيات المجتمعات، ودفاع عن أنظمة استبدادية، وكل ذلك لتحقيق مآرب اقتصادية ونفوذ سياسي أكبر.

فأركون لا يرفض العلمانية ويؤمن بمزاياها، إلا أنه ينتقد بشدة مآل التجربة العلمانية في الغرب، وخاصة في فرنسا أين تحولت العلمانية من أداة للتحرر وحماية الاختلاف إلى أداة ضد الدين، بل أصبحت تمارس نفس الدور الذي كانت تمارسه الأديان، فـ”العلمانية في فرنسا أصبحت عمليا موقفا دينيا تجاه الديانات التقليدية، وهي تتصرف كما لو كانت وضعا دينيا، ويجري الحديث عن قيم مقدسة للعلمانية”[183]، هذا النقد ينبع من التصور الخاص لمفهوم العلمانية الذي يتبناه أركون، وهو تصور لا يجعلها في مقابل الدين ولا يلزم عنه بالضرورة موقف معاد للدين، بل العلمنة في تصوره هي انفتاح على كل الأبعاد الوجودية للإنسان بما فيها البعد الديني، لأن الدين معطى من المعطيات الملموسة في التجربة الإنسانية، وهو موجود في جميع المجتمعات وعلى مر العصور، ومن ثم فهو يؤثر على طريقة إدراكنا للأشياء، وهذا طبعا بدرجات متفاوتة بين الأفراد والمجتمعات وفقا لدرجة التدين ومكانة الدين في هذا المجتمع أو ذلك، يقول: “..الغيبيات؟ إنها بعد نفسي لإدراكنا، لا أقول علينا تأكيد صحتها كما يفعل اللاهوتيون السذج، أقول إنها تساهم في بناء المتخيل الاجتماعي، أي أنها تشكل جزء من البحث النفسي والاجتماعي (..) لا تهمل العلمانية شيئا يرتبط بنشاط المعرفة، على عكس ذلك نراها تصد كل حاجز يعترض سبيل المعرفة أي بخاصة جميع أشكال المذهبة، لا تجرد العلمانية أي شيء من صدقيته، إنها تشمل جميع أبعاد المعرفة التي تظهر في الوجود الإنساني”[184].

فأركون إذن يأخذ العقل الغربي-والحداثة عموما كنمط للتفكير والتدبير- على إهماله للبعد الروحي والديني للإنسان ومعاداته له من خلال تحول العلمانية –وهي إحدى ركائز الحداثة- إلى تطرق ضد الدين وسعي لإلغائه وتغييبه عن الساحة الاجتماعية والفكرية، بإعلان العديد من الفلاسفة منذ قرنين نهاية الأديان أو موت الإله[185]، من هنا يدعو أركون إلى إعادة النظر في مفهوم العلمانية لجعله أكثر انفتاحا واتساعا وتواضعا نفس الوقت، بدل الصيغة الضيقة التي أصبح عليها الآن، فمثلما ينبغي نقد التطرف الدينيي لا بد من نقد التطرف العلماني، وبالتالي فتح المجال لفكر نقدي قائم على الدراسة المقارنة لتجاوز جميع منظومات الإقصاء والاستبعاد والتهميش والعداء، باعتبارها منظومات تؤسس للصراع والعنف والعنف المضاد، شريطة أن يتخذ هذا الفكر مسافة واحدة إزاء مختلف المنظومات الفكرية والدينية ضمانا للحياد وللموضوعية.

مثلما توقف أركون مع مفهوم العلمانية وقفة نقدية، فهو يتوقف نقديا بنفس الدرجة مع مرتكز آخر من مرتكزات الحداثة ويتعلق الأمر بمفهوم “حقوق الإنسان” ومآلات استخدامه، موضحا مزالق وانحرافات هذا التوظيف، ثم علاقة ذلك بالسلطة وبإرادة الهيمنة، فقد تساءل في محاضرة ألقاها بالعاصمة الهولندية أمستردام بتاريخ: 27/06/1993م، عن بواعث استحضار موضوع حقوق الإنسان في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، مع أن إعلان هذه الحقوق كتب أول مرة في القرن الثامن عشر، ليجيب بأنه في السابق كانت هذه الحقوق مقهورة من قبل الاستعمار، وبعد استقلال هذه الشعوب، كان لا بد من البحث عن آليات استتباعها بالسوق الرأسمالية، ومن ثم فهذا الشعار يرفع لتحقيق مزيد من الهيمنة والسيطرة، حتى أصبح مؤدلجا أكثر من اللزوم بل ومستهلكا وفاقدا لروحه، فالغرب يرفعه كشعار إيديولوجي للضغط على الآخرين أكثر مما يتقد به عندما يتعامل معهم[186].

لذلك يدعو أركون إلى إعادة بلورة حقوق الإنسان، بصورة أكثر انفتاحا واتساعا حتى تكون أكثر ملائمة للإنسان أيا كان دون تمييز أو استبعاد، إذ “ينبغي على الحداثة كمشروع إنساني، أن تصحح إرادة المعرفة الهادفة إلى السيطرة والاستغلال والهيمنة ولكن كيف؟ عن طريق الإدخال الفعلي: أي الفلسفي والقانوني لحقوق الروح في حقوق الإنسان”[187]، فالمتتبع لمسيرة الحداثة الغربية يلاحظ تغلب الجانب التقني الأداتي على الجانب الروحي القيمي، وبالتالي ابتعادها عن إحدى أهم ركائزها ومقوماتها المتمثلة في النزعة الإنسانية أو الأنسنة، وهذا ما شكل أحد أوجه مآزق الحداثة، يؤكد أركون هذه الفكرة بقوله: “نلاحظ أن على الحداثة أن تنقد نفسها وتخفف من غلواتها فليس كل ما أتت به صحيحا أو مقبولا (..) فالبعد الروحي العالي المستوى غاب عن أفق الحداثة التكنولوجية التي أخذت تعامل الإنسان وكأنه شيء من جملة أشياء أخرى، وهنا تكمن إحدى نواقص الحداثة”[188].

وإذ ينظر أركون لمفاهيم منفتحة، فهو ينطلق في ذلك من تصور منفتح للحداثة، مستلهما بذلك مفهوم هابرماس للحداثة الذي يجعل منها مشروعا لم يكتمل*، ومن ثم يرفض استعمال مصطلح ما بعد الحداثة للدلالة على المواقع الجديدة التي يتموضع فيها العقل المعاصر، مبررا ذلك بأن هذا المصطلح –ما بعد الحداثة- يسجننا في إطار مسار التاريخ الأوروبي مواصلا بذلك فرض النموذج الأوروبي كنموذج أوحد للتفكير وللتطور، “فمصطلح ما بعد الحداثة ليس صحيحا من وجهة النظر التاريخية أو الفلسفية أو السوسيولوجية، لماذا؟ لأنهم يفترضون مسبقا أنهم تجاوزوا الحداثة، وهذا إدعاء فارغ أو تعجرف لا مبرر له، إن ما بعد الحداثة هو استمرارية للحداثة، من الأفضل أن نقول مع الفيلسوف الألماني هابرماس بأن الحداثة مشروع لم يكتمل، لا يزال هناك عمل كثير ينتظرنا لكي نكمل مشروع الحداثة”[189].

ويقترح أركون استعمال مصطلح جديد كبديل لمصطلح ما بعد الحداثة وهو: ما فوق الحداثة للدلالة على المرحلة الراهنة من تطور الفكر الغربي، معتبرا أن هذا المصطلح يشير إلى فكر أوسع وأكثر انفتاحا على كل التجارب البشرية، ففي المداخلة التي قدمها بصفته رئيس المؤتمر التأسيسي للمؤسسة العربية التحديث الفكري، بين الأهداف التي تصبو إليها هذه المؤسسة، والموقع الفكري الذي يتحدث من خلاله قائلا: “سوف أقول لكم بأن الفكر الحديث الذي تريد المؤسسة العربية للتحديث الفكري، أن تنشره وتنمية هو فكر ما فوق الحداثة أو ما وراء الحداثة أو ما بعد الحداثة (…) لذلك أدعو إلى فكر ما فوق الحداثة، أي فكر يتجاوز الحداثة الكلاسيكية للقرنيين التاسع عشر والعشرين، وفي ذات الوقت أدعو إلى تجاوز اللاهوت السياسي الطائفي الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، بهذا المعنى أقول أنه ينبغي تفكيك كل أنظمة الفكر القديمة والحالية، وعلى أنقاض هذا التفكيك سوف ينهض الفكر الجديد الذي نصبو إليه، أي فكر ما فوق الحداثة لكيلا نقول ما بعد الحداثة”[190].

هذا النص يبين لنا مسألتين مهمتين فيما يخص تعاطي أركون مع فكر ما بعد الحداثة، ونظرته للعقل لما بعد حداثي، ومن ثم موقفه من الفكر الغربي الراهن، أولهما: أنه يتحدث عن عقل متجاوز لكل منظومة فكرية مغلقة، دينية كانت أم علمانية-حداثية، على اعتبار أن التاريخ يشهد كيف تحولت كل منهما إلى إيديولوجيا للهيمنة، وكيف تم توظيفها كمسار يفرض نفسه على الجميع باعتباره يحتكر بمفرده سبل التطور وسبل بلوغ الحق ومعرفة الصواب، ثانيهما: إن أركون يتحدث عن عقل /فكر لما يتشكل بعد، إنما هو طور التشكل والانبثاق مستقبلا وعلى أنقاض عقل التنوير والحداثة، بعد أن يتعرض هذا الأخير لعملية تفكيك وإعادة قراءة لمنجزاته ومنتجاته، مثله في ذلك مثل العقل الديني وعموم المنظومة الفكرية الدينية، والتفكيك الذي يتحدث عنه أركون وهو المنهج الذي ارتبط بأعمال مارتن هيدغر M.Heidegger (1889-1976)، ومن بعده أحد أعمدة فكر ما بعد الحداثة وهو جاك دريدا، ويقصد به “إزاحة جدار بني فوقه تقليد فكري، ويطال هذا التفكيك حتى الأساسات، بل إنه يفكك الأساسات بالذات، وذلك لكي يتمكن من بناء فكرة جديدة أكثر إقناعا أو ربما بناء الفكرة نفسها بشكل مقنع أكثر، فنقيمها فوق هذه الأساسات أو فوق أساسات أخرى”[191].

في هذا التحديد لمقصود أركون من التفكيك نلاحظ أثر الإبستمولوجيا الباشلارية، فغاستون باشلار G.Bachelard في تفسيره لتطور المعرفة والمعرفة العلمية خاصة، يقول بالنظرية الانفصالية التي مفادها أن النظريات العلمية الجديدة تظهر على أنقاض المعارف العامية من جهة والمعارف العلمية القديمة من جهة أخرى، وتشكل معهما قطيعة إبستمولوجية (Rupture épistémologique)، وعليه فالفكر الذي ينشده أركون فكر مستقبلي في طور التأسيس، لذلك نجده يوظف مصطلحا آخر للدلالة على هذا الفكر الذي يستشرفه، وهو مصطلح “العقل الاستطلاعي الاستكشافي المنبثق” (La Raison émergente)، موضحا المقصود به بأنه “يشير إلى مواقف نقدية جديدة للعقل، وهي الآن في طور الانبثاق والتبلور وتكسب مواقع في الساحة أكثر فأكثر (…) بعضهم يدعوه بعقل ما بعد الحداثة ولكني أفضل أن أدعوه بالعقل المنبثق الجديد أو العقل الاستطلاعي الاستشراقي، إن العقل الاستطلاعي الجديد لا يهدف إلى الهيمنة وإنما إلى المعرفة الحرة واكتشاف آفاق جديدة للمعنى”[192]، ويؤكد نفس الفكرة في موضع آخر قائلا: “هناك شيء ما يريد أن ينبثق، هناك شيء جديد يريد أن يولد، وهذا الشيء لا نعرف ما هو بالضبط حتى الآن، وإن كنا نستطيع أن نتكهن به أو نستشف ملامحه”[193].

ولعل أهم ملمح أو ميزة لهذا العقل، تغليبه لإرادة المعرفة على إرادة الهيمنة، لذلك فهو يتسع ليشمل الجميع دون نبذ أو استبعاد لأي طرف، عكس ما وصلت إليه الحداثة، مع المد الاستعماري، ودون تطرف ولا مغالاة في تمجيد العقل واعتباره معيارا أوحدا وصنوا للحقيقة “فليس بالعقل وحده يحيا الإنسان، وإنما برطوبة الخيال أيضا وجموحه واتساعه الخلاق، ولكننا نلاحظ أن العلوم الاجتماعية والسياسية لا تقبله عموما (..) وترى بأنه ينبغي على العقل أن يستأصلها كليا ويرميها في ساحة التصورات الأسطورية والإيديولوجية التي لا تستحق الاهتمام، وهذا ما فعلته الوضعية المتطرفة والتكنولوجية التي سادت في الغرب منذ القرن التاسع عشر”[194]، ففي هذا النص ينتقد أركون نظرة العلوم الإنسانية والاجتماعية في صيغتها التقليدية التي رافقت نشأة الحداثة، أي قبل التطورات التي عرفتها هذه العلوم منذ منتصف القرن العشرين والتي أعادت الاعتبار للخيال والأسطورة وغيرهما من أنماط إنتاج المعنى ومستوياته المحايثة للوجود البشري، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين عقلي الحداثة وما بعد الحداثة أو ما فوقها –بتعبير أركون- فهناك تغير أصاب نظرة العقل ذاتها بالنسبة لهذه المجالات وكذا طريقة تفكيره لها، وينتج عن ذلك تغير نمط المعرفة التي ينتجها والأحكام التي يقررها بشأنها، وهو تغير يرجع الفضل الأكبر في حدوثه إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية لاسيما أعمال كلود ليفي ستروس وبيار بورديو وغيرهما، فهؤلاء حسب أركون “قد أعادوا الاعتبار للمعرفة الأسطورية عن طريق تغيير مكانة العقل ذاته بمعنى أنه بدلا من ممارسته في السابق لهيمنة تعسفية شاملة، أصبح الآن يفتح على كل أنواع التماسك أو المنطلق الداخلية الخاصة بمختلف أنواع الأنظمة الثقافية، وهكذا أصبح العقل لأول مرة يعترف بوجود عدة عقلانيات وعدة أنظمة من تمفصل المعنى أو تشكله، وعدة مستويات من الدلالة”[195].وعلى آثار المفكرين المذكورين منذ حين، يحاول أركون إعادة الاعتبار للظاهرة الدينية عموما في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وللدين الإسلامي على وجه الخصوص وهنا تكمن إحدى نقاط الافتراق بينه وبين مفكري ما بعد الحداثة، وهذا خلافا لتقييم المزوغي لمرجعية أركون الفكرية أين ذهب إلى “أن أركون متشبث بموقعه هذا (..) وإطاره المرجعي لم يتغير طرفه عين بمرور الزمن، أعني أركيولوجيا فوكو، تفكيكية دريدا، تأويلية ريكور، وتاريخ مجموعة الحوليات، لقد ارتكز على هذه المناهج وجعل منها سمة مميزة لفكره الذي يبغي افتتاحه”[196]، فأركون استفادة فعلا من هذه المناهج واستعاد الكثير من مفاهيمها وآلياتها –وهو لا ينكر ذلك- إلا أنه في المقابل انتقدها وأشار إلى نقائصها ومحدوديتها، خاصة حينما يتعرض أهل هذه المناهج لدراسة الظاهرة الدينية عموما والظاهرة الإسلامية على وجه الخصوص.

ففي الدراسات الغربية المخصصة للظاهرة الدينية، يتم في الغالب استبعاد الإسلام أو المرور عليه مرور الكرام أو اللئام، مع أن الموضوعية والنزاهة العلمية التي يتشدق بها القائمون بهذه الدراسات لا تقبلان ذلك، يعبر أركون عن هذا المنزلق بقوله: “عندما أنظر إلى المسرح الفلسفي في فرنسا المعاصرة انطلاقا من زاوية اختصاصي (تاريخ الفكر العربي الإسلامي) فإني دائما أشعر بخيبة الأمل، وذلك لأن الفلاسفة الأكثر جرأة وتقدما في نقدهم للعقلانية المركزية الأوروبية كفوكو ودريدا وغيرهما يبقون منغلقين داخل جدران التراث الفكري الأوروبي وأنهم لا يخرجون أبدا من سياج هذا التراث”[197].

يوضح موقفه هذا بأمثلة دقيقة من أعمال هؤلاء المفكرين وغيرهم ممن هم مثلهم قائلا: “..عندما اهتم ميشيل فوكو بالثورة الإيرانية فإنه لم يقل إلا الحماقات ولم يفهم شيئا مما حصل، وليته سكت فلم يفعل شيئا (..) ونفس الشيء حصل مع مارسيل غوشيه مؤلف كتاب “خيبة العالم (Le Désenchantement du Monde)” حيث ناقش فيه بعمق وظيفة الدين وطبيعة الدين وكيف انفصلت أوروبا عنه وكل المسائل العالقة، وكل الكتاب مكرس لهذه المسائل ولكن من خلال التجربة المسيحية اليهودية الأوروبية فقط، وعندما يذكر الإسلام مرورا بجملة أو جملتين فإنه لا يقول إلا الحماقات أيضا ويعبر عن جهله المطبق بالأمر”[198]، نفس النقد يتوجه به أركون للفيلسوف يورغين هابرماس حول كتابه الشهير “الخطاب الفلسفي للحداثة” (Le Discours philosophique de la modernité) الذي لم يتطرق فيه إطلاقا للدين، وليس فيه أي ذكر لمساهمة العرب والمسلمين في التراث العالمي والفكر البشري، وهذا دليل إضافي على عدم قدرة الفكر الغربي على الخروج من المركزية التي طالما انتقدها مفكروه المعاصرون، يقول أركون في هذا السياق: “إنني أوجه اللوم لكل الفلاسفة المعاصرين في الغرب (…) لاستمرارهم في تكرار مسائل مستعصية غربية، دون إضافة الاعتراضات الوافدة من الثقافات الإسلامية والصينية والهندية والإفريقية”[199]، حتى العلوم الإنسانية والاجتماعية التي يشيد بها لم تسلم هي الأخرى من مطرقته النقدية، خاصة حينما يتعلق الأمر بمقاربتها للظاهرة الإسلامية، إذ يرى “أن الأدبيات الغزيرة التي أصدرها الباحثون الغربيون حول التجليات السياسية للإسلام منذ 1970 تعتبر مثالا واضحا على الفقر النظري للعلوم الاجتماعية عندما تتنطح لدراسة مجتمعات أخرى غير مجتمعات الغرب، أو خارج نطاقه الجغرافي والمعرفي كما تشكل منذ القرن الثامن عشر (أي الغرب العلماني الحديث)”[200]، لذلك فهو يحذر في بعض الأحيان من نتائج هذه المقاربات ويدعو إلى ضرورة مراقبتها لتجنب تكرار مآلاتها ونتائجها السابقة و”المنهجيات الفكرية والتوجهات الإبستمولوجية السائدة في الغرب المهيمن هي التي تتحكم بأنماط تفسير كل تراثات الماضي بما فيها التراث العربي الإسلامي ينبغي أن تحصل مراقبة عليا لهذه المنهجيات لكيلا تولد من جديد معارف خاطئة أو وعيا خاطئا كما حصل في الماضي”[201].

نلاحظ إذن أن نقد أركون للفكر الغربي في آخر تجلياته يتركز أساسا على كون هذا الفكر لم يستطع الخروج عن المركزية الغربية، هذه المركزية التي تقوم بترتيب العالم وفق مقتضياتها ومصالحها، منتجة أحكاما تقييمية حول الثقافات الأخرى التي تعتبر هوامش وأطراف هذه المركزية، وهذه الأحكام كثيرا ما تكون إما غير صحيحة تماما وإما غير دقيقة وغير مطابقة لواقع هذه الثقافات غير الغربية، ومنها طبعا الثقافة العربية الإسلامية.

هذا النقد يؤكد محدودية عقل التنوير والحداثة عمليا، مقابل الكونية والإنسانية التي تأسس عليها نظريا: “والدليل على محدوديته هو أنه استبعد من ساحته مختلف الشعوب والثقافات الأخرى غير الأوروبية، فلو كان كونيا كما زعم أصحابه لما استبعد الثقافات الأخرى وحاول تهميشها ولكان دافع عن الإنسان في أي مكان وبالدرجة نفسها”[202].

وأركون وإن كان ينتقد الحداثة من نفس موقع نقادها في الغرب على غرار ميشيل فوكو، دريدا، هابرماس، ألان تورين A.Touraine (1925-  )، ويستخدم العدة المنهجية والمعرفية التي أبدعها هؤلاء وغيرهم، إلا أن أغراضه وأهدافه تبقى مختلفة عن أهدافهم، خاصة إذا تعلق الأمر بمكانة العام الديني في المجتمع، وكذا محاولة تجاوز كل مركزية ممكنة بحثا عن فكر عقلاني منفتح على كل التجارب الإنسانية، وعلى مختلف أإبعاد الوجود الإنساني بما في ذلك البعد الديني.

يبرز أركون هدفه من نقد الحداثة الغربية بقوله: “أما فيما يخص مراجعة موقف الحداثة من الدين فإنني أقول ما يلي: ينبغي أن نعلم بأن الأديان الكبرى كالإسلام والمسيحية واليهودية..الخ، تغنينا كثيرا من الناحية الروحية والثقافية إذا ما عرفنا كيف نستمع إليها، أو كيف نصغي إلى عمق تجربتها التاريخية، ولا ينبغي رفض كل ما هو ديني بحجة أنه قديم، بال، عفا عنه الزمن، لا، هذا لا يجوز لأننا عندئذ نبتر أنفسنا ونبتر التاريخ الروحي والثقافي للبشرية”[203].

انطلاقا من هذا التوجه أو التصور للأمور، يعلن أركون تميزه وانفصاله عن نقاد الحداثة الغربية، لأن هدفه من نقدها مختلف عن أهدافهم، وإن اشتراك معهم في أدوات تحقيق هذه الأهداف، فهاجس النقد والتجاوز لديه يطال حتى المواقع الأكثر تقدما للعقل، عملا على فسح المجال “لمجيء فكر نقدي آخر، وفكر فلسفي آخر بالغرب”[204].

تأسيسا على كل ما سبق، يمكن القول إن أركون يتعامل مع الفكر الغربي وفق استراتيجية ذات حدين؛ حدها الأول يتجلى في الدعوة الصريحة للأخذ بمعطيات هذا الفكر في آخر تجلياته، وضرورة الاستعانة بأحدث ما توصلت إليه علوم الإنسان والمجتمع، وتطبيق منهاجها وإشكالياتها في دراسة التراث العربي الإسلامي، بحثا عن مقاربة أكثر فعالية وأكثر دقة، وحدها الثاني يتمثل في التدخل النقدي حتى حينما يتعلق الأمر بأكثر مواقع الفكر الغربي جدة وحداثة، فلا يوجد فكر أو منهج بريء، بل هناك دوما جدلية إرادتي المعرفة والهيمنة، والعقل الغربي يبرهن كل يوم على أنه لم يستطع المطابقة بين إدعاءاته وشعاراته النظرية البراقة البريئة، والممارسات التي تتم باسمه على أرض الواقع والتي تقوم على أساس المركزية الغربية وتفوق الغرب على باقي العالم، هذه المركزية التي تمارس دورها هي الأخرى كسياج دغمائي يمنع الغرب من الانفتاح على تجارب الآخرين ومعارفهم وقيمهم، وطالما وجد هذا السياج الدغمائي فلن نستطيع الخروج من دائرة الفوبيات المتبادلة بين الإسلام والغرب أو بين الشرق والغرب، وما يترتب عنها من عنف وعنف مضاد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحور الثالث

التجاوز: الأنسنة ومقتضياتها

 

أولا: العلمنة ودولة القانون

ثانيا: الانتقال الديمقراطي

ثالثا: تفعيل المجتمع المدني

رابعا: المواطنة والأنسنة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

“ينبغي الإشارة إلى أننا أمام طلب منح قوي موجه

من قبل الجماهير في العالم أجمع إلى الديانات،

للإجابة عن كثير من الإشكاليات التي تزداد

كثرة وتعقيدا يوما بعد يوم، إشكاليات تتعلق بالإنسان

والشرط الإنساني وتنظيم المجتمع والعدالة بين البشر”.

M.ARKOUN : Islam religion et société ,P18.

 

تمهيد:

تكتسي الاستراتيجية النقدية التي تبناها أركون ومارسها من خلال نقده المزدوج للفكرين العربي الإسلامي من جهة والغربي من جهة أخرى أهمية كبيرة بالنظر للأفق الفكري الرحب الذي تدشنه، أفق بعيد عن كل دوغمائية وعن كل مركزية، ومنفتح على كل الممكنات الفكرية، دون تفاضل مسبق بين الأفراد والأمم والثقافات، إذ لم يستطع العالم بالرغم من تطور وسائل الاتصال أن يتحول إلى قرية صغيرة يتعايش فيها الجميع في كتف الأمن والحرية والتسامح، مع احتفاظهم بخصوصياتهم الإثنية والدينية والثقافية، فمشروع السلام الدائم الذي نظر له كانط في نهاية القرن الثامن عشر لا يزال مؤجلا وبعيدا عن التحقق في أرض الواقع، ونفس الكلام ينطبق على فكرة السعادة التي دافع عنها بيرتراند رسل، والشخصانية التي نظر لها إيمانويل مونيه والشخصانية الإسلامية التي كتب عنها محمد عزيز الحبابي، كل هذه الأفكار والمشاريع لم تتجاوز  أفق الانتظار، ومع ذلك يبقى الفلاسفة دوما يبحثون وينظرون لما ينبغي أن يكون، وبالنسبة لأركون فقد كان مشروعه هادفا منذ بداياته لتكريس الأنسنة والدفاع عن الإنسان، فقد كانت أطروحاته حول الأنسنة كما عرفتها الثقافة الإسلامية في زمنها المبدع من خلال جيل مسكويه والتوحيدي، كما عنونة أحد كتبه بـ: “معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية” مثلما نشر قبيلة وفاته كتابا حول “الأنسنة والإسلام: قضايا ومعارك”، فالأنسنة يمكن اعتبارها منتهى أو غاية الغايات في أعمال أركون وإذا كانت أغلب أزماتنا ترتد إلى أزمة إنسان، وكل مشاكلنا يقف ورائها الإنسان ذاته، فقد أصبح الإنسان العدو اللدود للإنسان، فإن المخرج والحل يكون عبر الإنسان، لن يحل أزمة الإنسان إلا الإنسان، من خلال عودته إلى ممارسة إنسانيته كما هي دون حيد أو قيد.

غير أن تحقيق الأنسنة كما عبرت عنه عناوين كتب أركون ليس بالمسألة السهلة، ولا يتم بقرارات فرقية فاصلة بل هو عملية عسيرة تحتاج إلى نضالات ومعارك، كما تطلب توفر العديد من الشروط والمؤسسات الاجتماعية والسياسية المتحررة من الإيديولوجيا إلى أبعد حد ممكن، وبالنظر للمعطيات المؤطرة لراهن المجتمعات الإسلامية، والتي تثبت أكثر من أي وقت مضى ضرورة الإسراع في إيجاد السبل الناجعة لمواجهة التحديات الجمة التي تواجهنا، ورسم معالم خطة إنقاذ من وطأة الصراع، والعنف الفظيع الذي تعاني منه أغلب بلداننا، بالإضافة إلى التحديات الأخرى على غرار التنمية، التحول الديمقراطي، احترام الحريات الفردية وحقوق الإنسان، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني…الخ.

وإذا كانت الحداثة في إحدى سماتها تعبر عن القطيعة مع الأطر التقليدية في التفكير والعيش والسلوك، فإن واقعنا يؤكد استمرار هذه الأطر في التراكم والضغط وعرقلتها للفكر الإبداعي القادر على التغيير فالوضع الراهن لأغلب الدول المسلمة يؤكد “إن أكثرية الفاعلين الاجتماعيين ممنوعون نتيجة عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية من مجرد التفكير في إمكان اتخاذ المبادرة المطلوبة للخروج من دربها المسدود، وتسد عوامل الضغط الديمغرافي والبطالة والتهميش الاجتماعي والإحباط النفسية والحكم المستبد والبيروقراطية العاجزة وأنظمة التعليم التي هي خارج الموضوع، وتفكك المبادئ الثقافية والتعابير الدينية لعامة الناس، تسد هذه العوامل مجتمعة الطريق أمام ظهور شروط ثقافة مدنية حديثة”[205]، ومن ثم فهناك طبقات من العوائق التي يجب زحزحتها أو تفكيكها كخطوة أولى في سبيل الأنسنة وبالتالي في سبيل التعايش بين الإنسان والإنسان.

التحول الحقيقي –يقول أركون- يبدأ “عندما يتمكن المجتمع المعني من السيطرة على مصادر العنف وإرادة أوجه الاختلاف سلميا تعبيرا عن إجماع القوى الفاعلة على ضمان الحد الأدنى من المشاركة السياسية الفعالة لجميع المواطنين دون استثناء”[206].

من هذا المنطلق سنحاول التفصيل في المتكآت النظرية الضرورية للارتقاء بمشاركة المجتمع في الممارسة السياسة، من خلال تفعيل العناصر الأساسية في بناء دولة القانون في أقطار العالم الإسلامي بصورة عامة، لأننا نعتقد التحديات التي تواجه جل دول العالم الإسلامي تشكل بنية مترابطة العناصر حيث يستدعى كل عنصر منها العناصر الأخرى، ذلك أنه لا يمكن مثلا عن الحرية في ظل نظام غير ديمقراطي، مثلما لا يمكن الحديث عن مؤسسات المجتمع المدني في ظل هيمنة الحزب الواحد، وهكذا بالنسبة لكل العناصر الأخرى، فلا جدوى من ادعاء سيادة القانون أو دولة القانون في ظل بنية اجتماعية قبلية أبوية، مثلما لا يمكن الحديث عن انفتاح أو تنمية اقتصادية في ظل منظومات قانونية قروسطية..الخ، ومثلما يقول أحد الباحثين: “فالحداثة مشروع، والمشروع يبدأ في الأذهان ثم يجد بعد ذلك طريقة إلى التنفيذ إذا يمكن أصحابه من خلق الأطر الملائمة وتفتيت العوائق الموجودة الواقع”[207]، هذا الوقع يقسمه أركون –اقتداء ببيير بورديو- إلى خمسة حقول (Champs)، ينبغي أن نحاول وصفها ودراستها بأكبر قدر من الدقة، لفهم الواقع ككل فيما بعد، وهذه الحقول هي: الساحة الفكرية، الساحة الدينية، الساحة السياسية، الساحة الاقتصادية والساحة الثقافية، هذه الساحات الخمسة تشكل كلية الفضاء الاجتماعي التاريخي[208]، ومقومات هذه الساحات هو ما يدعوه أركون بالأطر الاجتماعية للمعرفة، وهناك علاقة وطيدة بين نمط ما من المعرفة وبين الأطر الاجتماعية السائدة، فهذه الأخيرة قد تسمح بنشر وتطوير نمط معين من المعرفة، كما قد تعيق نمطا آخر وتطمسه مثلما حدث في التاريخ الإسلامي لا بن رشد وفكرة بعد وفاته[209].

أولا: العلمنة ودولة القانون:

يبدو من الضروري مناقشة الموضوع الذي كثيرا ما يثير الجدل وسوء التفاهم في السياقات الإسلامية ونقصد به سؤال الدين والدولة الذي لا يزال مطروحا وبحدة في المجتمعات الإسلامية بالرغم من كل المناقشات التي حظي بها، ونحن نعتقد أن الآراء التي قدمها محمد أركون في هذا الموضوع في هذا الموضوع جديرة بالاهتمام والمناقشة، خاصة وأن موقفه من العلمانية ينطلق من تحويل الإشكالية من الحقل السياسي إلى الحقل المعرفي، لتتحول العلمانية من فصل الدين عن الدولة إلى موقف أمام مشكلة المعرفة.

وعلى غرار مجمل مواقفه من مختلف القضايا، ينطلق أركون في مناقشة موضوع العلمنة من نقد وتجاوز المواقف المتصارعة بشأنها والتي تتأرجح بين الموقف الرافض نماما للعلمنة، والموقف المتبني لها بصورة كلية والمدافع عنها بحماسة ما بعدها حماسة، ويرى أن الدين والعلمنة مفهومان جدليان يشيران إلى أنظمة إيديولوجية للحقيقة[210]. لذلك فهو يصف النموذج الغالب للعلمانية بـ: العلمانية النضالية Laïcisme militant وهي القائمة على موقف العداء للدين، وتحولت إلى إيديولوجيا للهيمنة والإقصاء والحد من الحريات الفردية، والعلمنة في نظر أركون ليست مجرد تفريق بين الشؤون الروحية والزمنية، أو بين الدين والدولة، لأن “تفريقا كهذا موجود عملنا في كل المجتمعات حتى عندما ينكر وجوده ويحجب بواسطة المفردات الدينية”[211]، مثلما تكرر أغلب الخطابات الدينية من أن الإسلام دين ودنيا ودولة، دون أن تولي اهتماما لما يحدث في الواقع من صراعات للإرادات، واستغلال للدين من أجل الوصول إلى السلطة أو الحفاظ عليها.

يعتقد أركون أن تغيير الوضع القائم في المجتمعات الإسلامية، وخلق الأطر الملائمة لذلك يمر عبر الفحص الدقيق لجملة من المواضيع أغلبها ضمن اللامفكر فيه في هذا المجال، ويحدد أهم هذه المواضيع في؛ وظائف الدين في المجتمع، الدولة أو النظام السياسي، تنظيم السلطات، تنظيم المجتمع المدني، الحريات الفردية، وخصوصا الحرية الدينية (أو حرية المعتقد الديني) ثم مسألة العلمنة[212]، وهي المسألة التي أولاها اهتماما متميزا.

وتفكير هذه المواضيع وغيرها ينبغي أن يتم بالتوازي مع إحداث القطيعة مع الخطاب التبجيلي للذات، والاستعاضة عنه يخاطب جاد ومسؤول، يتحمل مخاطر المعرفة العلمية ومطالب الحداثة، فقد صارت القيم الحداثية كالتسامح والحرية والمساواة مطالب ملحة، وبمثابة محك فاصل بين المجتمعات التقليدية الحديثة، ولم يعد يكفي السعي إلى التوفيق بين بعض القيم الحديثة وبعض القيم التراثية، مثلما لم يعد ممكنا الاستمرار في ذلك الخط التفكيري الذي يدعو ويعمل على أسلمة القيم الحداثية من دون وعي حقيقي بالبون الشاسع الذي يفصل على سبيل المثال بين الشورى الإسلامية والديمقراطية كما تبلورت في الفكر الغربي[213].

وقد أثبتت التجارب التاريخية فشل أغلب الإصلاحات “الفوقية” التي طبقت في العديد من الدول العربية والإسلامية كمصر وتركيا وتونس، لأن زعماء هذه الدول أرادوا تحديث الدولة والمجتمع انطلاقا من السياسة، يصلوا في النهاية إلى هدفهم، فقد اصطدموا منذ البداية مع الدين وأهله[214]. مما يؤكد أن إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة تشكل أولوية الأولويات في كل مسعى لتحديث المجتمعات الإسلامية، على أن يتم طرحها بعيدا عن الأهداف الجدالية والمماحكات الهادفة إلى السلطة والسيطرة، بمعنى أنه ينبغي طرح المشكلة في المكان المناسب” أي ضمن الصراع الاجتماعي السياسي الناشب في كل المجتمعات الإسلامية بين “المحافظين” و “التقدميين”، والهوة الكبيرة بين الجناح الناهض الذي يقبل كل الإصلاحات الجذرية، وجناح آخر يقف في وجه كل تغيير ويرفضه لأسباب موصوفة بأنها دينية، هكذا نجد أنفسنا في مواجهة إشكالية عامة لا يمكن للإسلام بعد اليوم أن يتجاهلها أو يخفيها إذا ما أراد أن يستمر في الوجود في مجتمعات دخلت مرحلة التحديث والتغيير”[215].

وقد أولى أركون أهمية كبيرة لإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمعات الإسلامية من خلال الدراسات العديدة التي كرسها للموضوع لاسيما تلك الدراستين اللتين تناول فيها موضوع العلمنة في المجتمعات الإسلامية وهما على التوالي: الإسلام والعلمنة*، العلمنة والدين**، وفيهما يشرح بالتفصيل موقفه من هذه الإشكالية، ودعوته الصريحة إلى ضرورة تبني العلمنة في السياق الإسلامي.

تشكل الدراستين السابقتين (الإسلام والعلمنة/ العلمنة والدين) نموذجا تطبيقيا للشق النظري في مشروع أركون، ومجالا لإثبات فعالية المنهجية المتعددة التخصصات التي يتبناها في أعماله، ففيهما نلاحظ حضور تلك الاستراتيجية المنهجية القائمة على المفاهيم الثلاثة (زحزحة- اختراق- تجاوز)، كما نجد أيضا تحليلا لموضوع العلمنة في المجال الإسلامي من مختلف الجوانب اللغوية، الاجتماعية، التاريخية، الأنثروبولوجية والسياسية وصولا إلى المستوى الفلسفي، أين يبلور مفهوما للعلمنة مقترنا بإبستمولوجيا جديدة، حيث صدر دراسته الثانية (العلمنة والدين) بعنوان: نحو إبستمولوجية أخرى (أي نحو نظرية أخرى للمعرفة)، وافتتح دراسته الأولى (الإسلام والعلمنة) بعبارة: إحدى مشاكل الإسلاميات التطبيقية، مشيرا إلى أن موضوع “الإسلام والعلمنة يندرج ضمن إطار بحث واسع متعدد الجوانب كنا قد سميناه بالإسلاميات التطبيقية، وهو موضوع ذو أهمية قصوى، وتلك الأهمية ليست علمية أو نظرية فحسب، وإنما هي حياتية ومعاشية، فالعلمنة تبقى حاضرة وملحة فيما يخص العالم العربي الإسلامي بشكل عام، وذلك من أجل تشكيل الدولة بالمعنى الحديث لكلمة لدولة”[216].

يبدأ أركون تحليله لمسألة العلمنة بالتمييز بين مصطلحي: العلمنة (La Laïcité) والعلمانية (Le Laïcisme)، وهو نفس التمييز الذي يقيمه بين مصطلحي: التاريخية(L’Historicité) والتاريخانية (L’Historicisme) ويشرح لنا أهمية هذا التمييز قائلا: “من وجهة نظر لغوية فإن اللاحقة”ite” تدل على كل ما له خاصية الحقيقة الجوهرية(المادية) في حين اللاحقة “isme” تسجننا لا محالة في نظام مبني من قبل العقل”[217]، لذلك فهو يتبنى مصطلح “العلمنة”، ويرفض مصطلح “العلمانية”، الذي يرى أنه أصبح يدل على توجه نضالي، قائم على معاداة الدين، ومن ثم فالعلمانية أضحت تشتغل بنفس طريقة اشتغال الفكر الديني، يقول أركون في هذا السياق: “إن تصوري للعلمانية يبلغ حد الحذر من “العلمانيات” ذات الآفاق الدينية (…)لا، بل نبذلها، وأنا أبذل جهدي منذ نوات، انطلاقا من مثال الإسلام الذي كثيرا ما ذم وأسيئ فهمه وتأويله، أن أشق الطريق لفكر قائم على الدراسة المقارنة لتجاوز جميع منظومات إنتاج المعنى الديني والعلماني التي تحاول أن ترفع المحلي والتاريخي والتجربة الخاصة، إلى الشامل والمتعالي والمقدس، الذي لا رجعة عنه، ويستتبع ذلك مسافة نقدية واحدة إزاء جميع، “القيم” الموروثة في جميع تقاليد الفكر بما فيه عقل الأنوار، والتجربة العلمانية التي انحرفت نحو اللادينية المناضلة”[218]. وهذا النص يوحي بوجود إرادة التجاوز التي تميز الخطاب الأركوني في جل المواضيع التي يتعرض لها بالدراسة، فهو يريد تجاوز كلا الموقفين المتعارضين بشأن العلمنة، وهما:

  • الموقف الذي يدافع عن إسلام مقاوم للعلمنة، بسبب سموه كدين.
  • الموقف الذي يدافع عن علمانية تقصي البعد الديني، أو تعادي الدين.

بالنسبة للموقف الأول: يرى أركون أن الإسلام بحد ذاته مغلقا في وجه العلمنة “فقد وجدت سابقا في المجتمعات الدعوة إسلامية تجارب معمقة يمكن لنا أن نصفها بالعلمانية، لكن هذه التجارب لم تصل إلى درجة الوعي الواضح بذاتها ولم تلق في أي يوم من الأيام لها تنظيرا”[219] ومن خلال القيام بتحليل سوسيولوجي تاريخي للأحداث التي تلت وفاة النبي (ص) وصولا إلى حكم معاوية بن أبي سفيان (ت 681م)، يذهب أركون إلى أن كل هذه الأحداث الأساسية ليست إلا عملا واقعيا لا علاقة له بأي شرعية دينية غير شرعية القوة.[220]وفي سياق نفس الفكرة، وردا على السؤال: هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم؟ أجاب أركون بكل صراحة ووضوح قائلا: “أرفض هذه الصيغة، فالإسلام ليس بنظام حكم، لا تاريخيا ولا عقائديا، في العصر الأموي كان للإسلام الفضل الأكبر في بناء دولة لم تكن بالإسلامية، حتى الخلافة العباسية كانت أقرب إلى الحكم الملكي منها للإسلامي، فتجربة الدولة الإسلامية، انحصرت بنظام المدينة أيام النبي”[221].

وهو نفس الموقف الذي نجده لدى المفكر التونسي عبد المجيد الشرقي الذي يعتبر أن الإسلام كسائر الأديان الأخرى، من حيث خضوع الرسالة التي انبنى عليها لمقتضيات التنظيم والمأسسة بما يتضمنه ذلك من خصوصيات يمليها الواقع بكل مميزاته وتشعباته وتناقضاته، وقد قام هذا الباحث –هو الآخر- بتحليل سوسيو –تاريخي للظروف التي تمت فيها نشأة الخلاقة الإسلامية بعد وفاة النبي(ص) وتوصل إلى أن اختيار أبو بكر الصديق (ت 634م) خليفة لرسول الله لم يتم انطلاقا من اعتبارات دينية، فهذه الأخيرة “إما كانت غائبة تماما أو ثانوية جدا، فلم تظهر أفضلية سابقته في الإسلام وإمامه الصلاة في مرض الرسول إلا لاحقا لغاية تبريرية (..) فقد كان اختيار الشخص المدعو إلى قيادة الجماعة شأنا دنيويا بحثا، كان ضرورة حيوية استلزمها شغور السلطة التي كان يشتغلها النبي من دون منازع، وكان مجرد تطبيق لناموس اجتماعي كوني هو حاجة المجموعة البشرية –قل عدد أفرادها أكثر- إلى من يحكمها ويتولى أمر تمثيلها”[222].

وسواء تعلق الأمر بموقف أركون أو موقف الشرفي، فإنه لا بدفي نظرهما من التمييز بين القرآن أو الظاهرة القرآنية من جهة، والظاهرة الإسلامية من جهة ثانية، فهذه الأخيرة هي إسقاط تاريخي ملموس للظاهرة القرآنية، لأنه ومع “مرور الزمن وتحت ضغط الحاجات التاريخية ومختلف التيارات الفكرية شوهت القوى السياسية والأيديولوجية معنى ومضمون الحدث القرآني وبدلته[223]. “فقد اغتصبت الظاهرة الإسلامية معنى الظاهرة القرآنية ومضمونها بنشر اعتباطي أو أيديولوجي للمحايث بدلا من المفارق (..) وللشريعة بدلا من الفكر وللنظام المغلق بدلا من الرسالة المفتوحة، وهذا ما حصل بداية مع تفوق الإسلام الرسمي مع معاوية”[224].

إن هذا التمييز بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية، يسمح بالحديث عن تاريخية الظاهرة الإسلامية، ومن ثم خضوعها لمقتضيات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وقابليتها للتغيير والتبدل المفروضين من قبل الواقع المعيش، لذلك يركز أركون في حديثه عن الظاهرة الإسلامية على كونها مرتبطة باللغة العربية ونشأت ضمن تجربة سياسية واقتصادية وأخلاقية خاصة بالمجتمع العربي في القرن السابع[225].

ويفسر ما يمكن ملاحظته من عدم التمايز الواضح بين المجالين الديني والسياسي في التاريخ الإسلامي بأن ذلك يرجع إلى سببين، أولهما: كون تاريخ الخلافة مندرج زمنيا في مناخ عقلي قروسطي، وضمن هذا المناخ “لم تكن الأطر الزمانية المكانية للتصور والفهم والإدراك بقادرة على التمييز بين “الروحي” و”الزمني”، بل إن هذا التمييز لم يتحقق كليا في يوم من الأيام، وإن تداخلهما لا يزال مستمرا حتى في بلد ذي تراث علماني عريق كفرنسا”[226]إذن، فالسبب الأول راجع إلى تعقد العلاقة بين السياسي والديني في حد ذاتها، وصعوبة الفصل النهائي بينهما، أما السبب الثاني فيتمثل في استغلال الأنظمة السياسية للدين من أجل إضفاء المشروعية على مختلف ممارساتها، فقد “كانت السلطة السياسية تطلب دائما من الفعالية التنظيرية للفقهاء التيولوجيين تبريرا لوجودها (..) حتى في الوقت الذي تستخدم فيه السلطة السياسية القوة من أجل أن تفرض نفسها، فإنها كانت تستمر في اللجوء إلى الإقناع النظري العقائدي، وذلك بإثارتها لمسألة “حقوق الله” ومسألة المصلحة العليا والمصلحة العامة للدولة”[227]

ومرجع أركون الأساسي في هذا التحليل هو أعمال الأنثروبولوجي جورج بالانديه الذي أجرى العديد من الدراسات الميدانية في إفريقيا السوداء (رواندا، زامبيا، نيجيريا) وتوصل من خلالها إلى نتيجة مهمة مفادها أن المقدس هو أحد الأبعاد التي يتم توظيفها في الحقل السياسي، فالدين يمكن أن يستعمل من السلطة –بمختلف الصورة المباشرة وغير المباشرة- كأداة فعالة تؤسس عليها مشروعية وجودها وتضمن لها البقاء، “والسلطة السياسية تتحكم بصورة كلية في المقدس وتستعمله لمصالحها في كل الظروف”[228]، وهذا ما يظهر من خلال الاحتفالات الدينية السياسية التي يتم فيها تحيين الأساطير وإحيائها من أجل تكريس النظام القائم وتبريره بإظهار وكأنه مؤسس على الحق، وهي الفكرة التي يتبناها أركون مؤكدا أن “عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي جورج بالانديه كان قد بين أنه لا توجد سلطة سياسية في أي مجتمع بشري كان من دون إخراج مسرحي يؤبد نوعا من الاحتفالات والتقاليد ذات النمط الديني (..) فالسلطة السياسية بحاجة دوما إلى ذروة السيادة العليا والمشروعية، مهما كان محيطها دينيا أو علمانيا”[229].

وهكذا يصل إلى نتيجة مهمة وهي استحالة الفصل الجذري بين العامل الديني بالمعنى الواسع للكلمة (أي ذروة السيادة العليا) وبين العامل السياسي (أي ذروة السلطة السياسية)، هذه النتيجة تعد بمثابة رد على الموقف الثاني الذي يريد أركون تجاوزه، هو المدافع عن العلمانية النقدية المحضة التي تستبعد الدين، لأن هذا الموقف يعبر عن رؤية متطرفة غير متسقة مع معطيات الواقع والتاريخ، فالدين معطى من المعطيات الملموسة في التجربة الإنسانية وهو موجود في كل المجتمعات، كما أنه بإمكان الدين أن يكون شريكا قادرا على المشاركة الفعلية في النقاشات العامة، لاسيما فيما يخص الجوانب الأخلاقية، لذلك ينبغي مقاربة الظاهرة الدينية بعيدا عن العقلانية الضيقة، ومحاولة تفسيرها بنمط آخر من أنماط المعقولية، مثلما يوضح ذلك روجيه باستيد في الفصل الذي عنونه بـ: عقلنة اللامعقول (La Rationalité de l’irrationnel) أين يرى أن الأنثروبولوجيا تستبدل المفهوم الواحد للعقل بالمفهوم التعددي و “إذا كانت الأنثروبولوجيا الكلاسيكية تعتبر العوائق وأشكال المقاومة التي تبدلها المجتمعات تجاه التغيير بمثابة لامعقول، فإن الأنثروبولوجيا التطبيقية تعتبرها إجابات تجاه فرضيات أولئك الذين يحاولون إحداث التغيير في المجتمع”[230]، ويضيف باستيد قائلا: “إننا نلح على تعدد أنماط الاستدلال (..) وقد أعلنا أننا نبتر العقل باهتمامنا فقط بما يحقق الغنى العملي”[231] فالمقاربة الأنثروبولوجية تنظر إلى التجربة الإنسانية مستحضرة كل أبعادها دون بتر أو إقصاء، وهي المقاربة التي يدعو أركون لتبنيها ويحاول تطبيقها من خلال التجربة الإسلامية وفق موقف يتقارب كثيرا من موقف باستيد السابق، حيث يقول: “إن ثقافة العلمنة لا تعني الإعراض عن الأديان أو رفض العقائد الدينية كما يظن الكثيرون، على العكس، الموقف العلماني مبني على احترام جميع الذاكرات الجامعية مع عقائدها الدينية”[232].

بعد نقد كلا الموقفين المتعارضين حول مسألة الإسلام/الدين، والعلمانية يرى أركون أنهلا بد من زحزحة الإشكالية وتناولها من منطلق معرفي بعيد عن كل الآراء والمواقف ذات الطابع الأيديولوجي، وهذا من خلال القيام بتحليل تاريخي –أنثروبولوجي- سيكولوجي، ويبدأ مقاربته هذه بمحاولة تجذير العلمنة أو الموقف العلماني في التاريخ البعيد، حيث يتساءل: ماذا نعرف عن تكوين الموقف العلماني؟ ويجيب بأن الموقف العلماني يرجع إلى الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، وهو موقف معرفي، فلسفي، مبني على الوظيفة الأساسية التي يقوم بها العقل البشري وهي وظيفة التساؤل ووضع الإشكاليات حول جميع مستويات الحياة البشرية، سياسية، دينية، أدبية، اقتصادية، نفسانية ليستدل استدلالا عقلانيا مبينا على المناهج العلمية[233].

ثم ينتقل إلى مستوى آخر من التحليل، وهو تحليل يجمع فيه بين الأنثروبولوجيا والسيكولوجيا حيث يرى أن الإنسان –أي إنسان- له حاجات ودوافع تتجه في اتجاهين: توجد أولا مرتبة الرغبة (L’Instance du désir) مع كل القوى الملحقة بها، وثانيا إلحاح الفهم والتعقل (L’Exigence de L’intelligibilité) “لكن حدث تاريخي أن إلحاح الفهم هذا تعرض للمقاومة وحرف عن دربه الصحيح (..) لقد حدثت عمليات تحريف في الماضي، تحريف وتزوير له، إلى حد أن الإنسان اضطر للنضال والكفاح من أجل اكتساب حقه العميق في المعرفة والفهم، ضمن الخط النضالي من أجل الفهم والتعقل يندرج تاريخ العلمنة بالضبط”[234] وبهذا المعنى فالعلمنة لا يمكن أنتكون غائبة عن التجربة التاريخية لأي جماعة بشرية حتى ولو تجلت أحيانا في صور ضعيفة وغير مؤكدة، فالعلمنة –كما سبقت الإشارة- هي موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة، هذا النص يوضح ويؤكد تميز موقف أركون وتصوره للعلمنة عن غيره من المواقف الأخرى، من حيث كون تصوره يقوم على الربط بين فضية العلمنة وإرادة المعرفة الشاملة لمختلف جوانب الحياة الاجتماعية، حتى أنه يضع لها تعريفا مطابقا تماما للتعريف الكلاسيكي للفلسفة يقول فيه أن “العلمنة هي بحث عن الحقيقة وسعى لتوصيلها إلى الآخر دون أن نشرط حريته أو نقيدها”، فتكون العلمنة التي يريد أركون نشرها عبارة عن موقف فكري قائم على التساؤل والبحث عن المعرفة وعن المعنى وعن الحقيقة، وقائم في الوقت ذاته على الإيمان بالحرية وفسح المجال أمام الاختلاف والنقد والشك حول مختلف أبعاد الوجود دون قيد أو شرط، وبهذا المعنى تكون العلمنة عملا لا ينتهي، وموقفا لا ينغلق، مثلما هي الحداثة عند هابرماس مشروعا لا يكتمل، فالعلمنة لدى أركون أيضا عبارة عن هدف يتجدد باستمرار ويتطلب انفتاحا مستمرا.

وإذا عدنا إلى الراهن العربي الإسلامي وما يسوده من أنظمة سياسية تعاني أزمة سيادة وأزمة مشروعية، نتيجة الأساليب المتبعة في اقتناص السلطة وممارستها، والتي لا تحترم فيها القواعد المفصلة في المؤلفات الكلاسيكية والمتعلقة “بالحكومة الشرعية” ولا الأساليب الدستورية الديمقراطية الحديثة (الغربية) التي تخضع للسيادة الشعبية، إضافة إلى الخلط المتزايد بين السياسية والدين، ضمن هذه المعطيات يعتقد أركون أن الحل الأمثل لإعادة فتح أبواب العلمنة في المجتمعات الإسلامية، يقتضي إعادة الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الأربعة الأولى، أين اتسعت المعارف والعلوم والمشاكل التي طرحت للنقاش أيما اتساع، ففي ذلك الوقت كان المثقفون (الأدباء) يمارسون المعرفة النقدية بكل طيبة خاطر دون أن يحسوا بالحرج بسبب العقائد الدينية أو يخشوا من النتائج والانعكاسات الإيديولوجية لعملهم.

فالمعنى العميق للعلمنة كما ينظر لها أركون يتعلق بإرادة الفهم والمعرفة، فهي نضال من أجل تحرير هذه الإرادة يقول في ذلك: “العلمنة كما نفهمها تتركز في مجابهة السلطات الدينية التي تخنق حرية التفكير في الإنسان ووسائل تحقيق هذه الحرية (..) إنها تتركز فقط في الإلحاح على حاجة الفهم والنقد”[235]، ومن خلال هذا التحديد يرى أركون أنه من الضروري التنظير للعلمنة في المجتمعات العربية الإسلامية، لأن ذلك من شأنه يسهم في تشكيل الدولة بالمعنى الحديث لكلمة دولة، أي دولة القانون، كما من شأنه أن يسهم في الحد من استغلال الدين واحتكار الحديث باسمه سواء من قبل السلطة أو الحركات والأحزاب الدينية.

إذن فالعلمنة التي يدعو إليها أركون لا تعني العداء للدين ولكن قد تفيد عدم التلاعب به وعدم توظيفه لخدمة أغراض سياسية، فهذا النمط من العلمنة المنفتحة هي بمثابة إطار نظري لفتح المجال أمام حرية التفكير والفعل وهي إطار سياسي ضروري للانتقال من الدولة بمفهومها القروسطي إلى الدولة الحديثة التي يسودها القانون، مع ما يستتبع ذلك من انبثاق لمؤسسات المجتمع المدني ومشاركة فعالة في رسم السياسات وتسيير الأمور في ظل احترام للاختلافات وفتح المجال لكل المبادرات الجادة من أي جهة ومن أي طرف.

ومفهوم دولة القانون يشير بصورة عامة إلى نظرية دستورية تصف التحول الذي انتقل فيه الحكم من النظام الفردي المشخص في ملك أو أمير، إلى الحكم المجرد الذي يتحقق عن طريق القاعدة القانونية والمؤسسات ونظم الدولة، وهذا التحول لم يكن ليحدث لو لم يتم التمييز بين الميدان السياسي والديني، وبين الفضاء العمومي والفضاء الشخصي[236].

رغم أن مفهوم دولة القانون كثير التداول في مختلف خطاباتنا إلا أنه لم يتأصل بعد في واقعنا، فلا نزال نعيش مرحلة بين مرحلتين لأن النظم القديمة آيلة للزوال ولكنها لم تنته بعد والنظام الحديث آت لم يصل بعد.

ثانيا: الانتقال الديمقراطي:

بالرغم من عراقة النظام الديمقراطي إلا أنه عرف قطيعة كبرى، وذلك أنها –الديمقراطية- اضمحلت وغابت عن الدول –الإمبراطورية التي سادت طيلة القرون الوسطى، ليعاد بعثها مع انبثاق فجر الأزمنة الحديثة، من خلال تحديث وعقلنة الفكر السياسي الذي سمح بتحرير الظاهرة السياسية ودراستها كموضوع مستقل بذاته، بداية من أعمال ميكيافيللي، وكتابة الشهير “الأمير”، وقد حدث في هذه الفترة انفصالين مهمين:

  • أولهما الانفصال عن ميتافيزيقا التفكير في تدبير شؤون الدولة واعتبار الظاهرة السياسية واقعا يجب تحليله وفهمه لاستخراج قواعد عامة للممارسات السياسة.
  • ثانيهما الانفصال عن الايديولوجيا الدينية من خلال اعتبار السلطة السياسية اجتماعية قبل كل شيء، بمعنى: “نزع القدسية عن المجال السياسي باعتباره مجالا دنيويا للصراع حول الخيرات والسلط والرموز”[237].

هذين الانفصالين كانا حاسمين في إعادة تفكير المشكلة السياسية وهو ما انبثق عنه طرح للكثير من النظريات والتصورات المرتبطة بالمجال السياسي والتي سمحت بظهور الدولة الديمقراطية العلمانية الحديثة القائمة على المبادئ الوضعية المتبلورة لدى فلاسفة العقد الاجتماعي وفلاسفة عصر التنوير بصورة عامة، كالحرية والإرادة العامة والمواطنة والمشاركة السياسية.

أما في الوقت الراهن فإن الديمقراطية فرضت نفسها كنظام ذا طابع كوني، إذ تبنتها كل الدول الكبرى، مع بعض الاختلافات الجزئية التي لا تنقص من شأن الديمقراطية، وأضحت معيارا لتقييم درجة الرقي الحضاري والسياسي للمجتمعات فبمقدار حضور الممارسة الديمقراطية في ذلك المجتمع يكون متطورا ومنفتحا ومتحضرا والعكس بالعكس، وهو ما جعل الدعوة إلى الدمقرطة مطلبا شعبيا في الدول التي لما يتسن لها بعد الدخول في فلك الدول الديمقراطية.

وأهمية الديمقراطية تكمن في كونها تحيل في جوهرها إلى طريقة أو أسلوب لتسيير المجتمع وإرادة صراعاته بوسائل سلمية، وبهذا المعنى فإن النظام الديمقراطي يتطلب سيادة قيم معينة ومؤسسات وآليات تسمح بتطبيقها في أرض الواقع[238]. ومن ثم فتحقيق النظام الديمقراطي مرهون بتوفر فضاء عام هو فضاء الحداثة السياسية الذي يسمح بوجود الدولة بمفهومها الحديث القائمة على مؤسسات قانونية، والمتكونة من مواطنين أحرار لهم حقوق ثابتة كحق المواطنة وحق الملكية وحق التعبير وعليهم واجبات على رأسها احترام القانون.

وإذا توجهنا بنظرنا قبل الدول الإسلامية فإننا نلاحظ أن أغلبها بعيد كل البعد عن الممارسة الديمقراطية وما تتطلبه من حرية في الآراء وتعددية في التوجهات السياسية والإيديولوجية، وتكريس لمبدأ التشارك في التسيير، وحضور فعال للمواطنين في اتخاذ مختلف القرارات، مع احترام للاختلاف في الرأي، وتنافس سلمي على مختلف الهيئات والمناصب…الخ. فدول كثيرة تنتمي للعالم الإسلامي لم تسمح بعد بتعددية سياسية، ومنها من لم تعط للمرأة حق الاقتراع والإدلاء بصوتها..، حتى في الدول التي سمحت بالتعددية السياسية فإن رأي المواطنين يظل غير مجد تماما، لأن أغلب الاستحقاقات يتم حسمها والفصل في نتائجها وفق معايير قبلية أو عرقية أو طائفية أو مادية..، باختصار تحضر كل المعايير إلا المعيار الديمقراطي، فلا الكفاءة ترشح ولا الأغلبية تحترم، وهذا طبعا مثال بسيط من أمثلة لا سبيل إلى حصرها تدل كلها على بعد دولنا الكبير عن الممارسة الديمقراطية في أبسط معانيها.

من جهة أخرى يجب الإشارة إلى مسألة مهمة ومقصد بها تلك الأحداث التي نلاحظها في العديد من المرات والتي يتم فيها استغلال الديمقراطية والتلاعب بها من قبل الدول الكبرى لقضاء مآربها الاقتصادية الخاصة، من ذلك رفعها لشعار نشر الديمقراطية –أو فرضها- لتبرير تدخلها العنيف وغير المشروع في الشؤون الداخلية للعديد من الدول خاصة الإسلامية على غرار أفغانستان والعراق وليبيا…الخ. مع أن الوقائع أثبتت فيما بعد أن نشر الديمقراطية آخر ما تصبو إليه الدول الكبرى، فالإعلان عن النوايا في بعض المرات يفيد العكس تماما، فأية ديمقراطية تم نشرها في أفغانستان أو في العراق أو في أي مكان في العالم من قبل الدول الكبرى؟

ثالثا: تفعيل المجتمع المدني:

لقي مصطلح المجتمع المدني La société civile الكثير من الاهتمام من قبل الكتاب والمفكرين والسياسيين، كما عقدت بشأنه الندوات والمؤتمرات وكتبت فيه الكتب والمقالات، لاسيما منذ الربع الأخير من القرن العشرين، وما ذلك إلا بالنظر للمكانة المحورية التي أثبتتها مختلف مؤسسات المجتمع المدني في الدول الكبرى من خلال الحضور والمتابعة والإثراء لمختلف القرارات المتعلقة بالسياسة العامة لهذه الدول، والدور الإيجابي الذي تلعبه عبر مختلف وظائفها وتفرعاتها سواء تعلق الأمر بحماية حقوق المواطنين أو بتقديم الدعم والتوجيه والترشيد للنخب الحاكمة.

ومصطلح المجتمع المدني وليد الفلسفات الغربية لاسيما فلسفة الأنوار ونظريات العقد الاجتماعي التي ميز فلاسفتها بين مرحلتين من مراحل الحياة الإنسانية؛ المرحلة الطبيعية الخالية من شتى أشكال التنظيم الاجتماعي العقلاني، ثم مرحلة التجمع المنظم سياسيا أي بعد عملية التعاقد الاجتماعي، وبالتالي فهو مرتبط بصورة واضحة بسياق تطور الفكر الغربي منذ أفول القرون الوسطى، وبالتالي لا يمكن الحديث عن مجتمع مدني بصورة دقيقة وبكل ما تحمله الكلمة من معان قبل الأزمنة الحديثة، وقبل انبثاق الدولة بمفهومها الحديث، بصورة عامة يمكن القول أن المجتمع المدني منتوج الحداثة السياسية إن شئنا التدقيق، غير أن هذا لا يعني غيابا كليا للمجتمع المدني قبل تلك الحقبة، فالكثير من علامات ووظائف المجتمع المدني نجدها لدى الحضارات الشرقية القديمة، أو الحضارة الإغريقية أو لدى المسلمين خلال فترة ازدهار الحضارة العربية والإسلامية، إذ يمكن اعتبار هيئة “أهل الحل والعقد”، أو “هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وكذا مختلف تمظهرات المؤسسة الوقفية في التاريخ الإسلامي، أقول، يمكن اعتبار هذه الهيئات أنوية أو صور بسيطة لمؤسسات المجتمع المدني، وكان يمكن الحفاظ عليها وتطويرها، لكن للأسف لم يستطع المسلمون إثراء هذه المؤسسات والرقي بها نظرا لأسباب عدة داخلية وخارجية وعلى رأسها نظام الحكم الذي عرفه المسلمون بعد الخلافة الراشدة والذي لم يكن ليسمح بدور كبير للمجتمع في التسيير، ومن ثم فليس المجتمع المدني مقتصرا على أمة أو حضارة أو دين دون آخر، المسألة مرتبطة في العمق بتوفر الشروط الضرورية والكافية لانبثاق مؤسسات المجتمع المدني وقدرتها على أداء مهامها بكل فعالية ودون عراقيل سياسية أو دينية أو فكرية.

وبداية من أعمال هيغل (1770-1831) في الفلسفة السياسية إذ لم يعد يقتصر مدلول المجتمع المدني على الإشارة للتنظيم العقلاني للمجتمع فحسب بل أصبح يشير إلى جملة المؤسسات والتنظيمات التي تقع في مقابل الدولة، ضمن الحيز الاجتماعي والأخلاقي بين العائلة والدولة، والتي تهدف لتحقيق مصالح المنتمين إليها، يقول هيغل:”..إن الأفراد بوصفهم مواطني هذه الدولة فهم أشخاص خاصون غايتهم منفعتهم الخاصة، وبما أن منفعتهم الخاصة تنال من خلال الكلي الذي يبدو وسيلة علة هذا النحو، فإن هذه الغاية لا يمكنهم بلوغها إلا إذا حددوا معرفتهم وإرادتهم وعملهم وفقا لطبيعة كلية وتحولوا إلى حلقة في السلسلة التي تتألف منها جملة الدولة”[239]، فمن حيث التركيبة أو البنية يشمل المجتمع المدني” ..تكتلات مختلفة كالجمعيات والنقابات والمنتديات، التي تقوم على أسس التخصص والعمل والرؤية الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية لا على أسس قبلية أو عنصرية كالقرابة والنسب والجوار، وميزة هذه التكتلات أنها غير رسمية بمعنى غير حكومية”[240]، فالمجتمع المدني يضم مجموعة من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية المستقلة والتمايزة عن مؤسسات الدولة كالأحزاب والنقابات والمنظمات والجمعيات والنوادي…الخ. والتي تقوم على الانخراط الحر لأفرادها للدفاع عن مصالحهم ضد سلطة وطغيان الدولة، وهذه المؤسسات تصبح بمثابة عين فاحصة ومراقبة للسلطة أو النظام القائم، وتتوزع أدوار هذه البنيات على عدة مستويات؛ أهمها المشاركة السياسية في صنع القرارات (الأحزاب والمنظمات)، الدفاع عن المصالح الاقتصادية والارتفاع بمستوى المهن والوظائف (النقابات)، نشر الوعي (الاتحادات والجمعيات الثقافية).

بالعودة إلى الواقع العربي الإسلامي فإن مقاربة موضوع المجتمع المدني تحتاج إلى بعض التوضيحات، أهمها أن المفكرين والسياسيين العرب والمسلمين تلفقوا المصطلح على غرار الكثير من المصطلحات البراقة كالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية المرأة ..الخ. فكثر الحديث حول المجتمع المدني في السياقات العربية الإسلامية، وعقدت بشأنه الندوات ونشرت الكثير من الأعمال الشارحة والمنظرة لقضايا المجتمع المدني وعلاقاته بالمفاهيم والأطر الأخرى، وعلى غرار جل المفاهيم الغربية المنبت، فقد اختلف المفكرون عندنا حول هذا المصطلح بين من يرى أنه من الضروري الاهتمام به وتفعيل مؤسساته للولوج إلى عالم الحداثة السياسية الذي هو السبيل الأوحد للتنمية والتطور والرقي في شتى المجالات، وبين من يرى أن العالم الإسلامي كان قد سبق الغرب لهذه المسألة وعرف في تاريخه الثري إبان العصر الذهبي مختلف تمظهراته ومؤسسات المجتمع المدني، ومن ثم تكفي العودة إلى التراث العربي الإسلامي لإعادة بعث المجتمع المدني بالمعنى الإسلامي الأصيل، وهذه الممارسة كما نعرف هي الحل الذي أخذ به الكثيرون في التصدي للإشكالية الكبرى التي تواجه العالم الإسلامي أقصد إشكالية التراث والحداثة، وهو حل يقوم على تأويل النصوص حتى ينسجم مدلولها مع معطيات الراهن، وهو من الناحية النفسية يعبر عن نوع من التوازن والطمأنينة الناتجة عن الشعور بالحفاظ على الهوية وإثبات التميز والخصوصية في مقابل الآخر الغربي/ العدو الذي يسعى لنشر نماذجه الفكرية والعملية على العالم أجمع يقول أحد الباحثين “..المصطلح دخيل على ثقافتنا غير أن المفهوم غير دخيل، بل موجود في تاريخنا منذ أن سمي النبي صل الله عليه وسلم (يثرب) بـ: (المدينة) وفي تغيير الاسم إلى (المدينة) دلالة رمزية على الربط بين الإسلام ومفهوم المجتمع المدني (..) وتقرير الشورى إقرار بالتعددية والحوارية والسلمية معا، والإسلام أول شريعة سماوية قررت حرية الاعتقاد ودافعت عنها وحمتها، ونصوصه في ذلك كلية قطعية مكية أي من أصول الدين”[241].

إذا كانت الإشكاليات المرتبطة بالمفهوم وتاريخه مهمة إلا أنه يجب التنبيه على مسألة مهمة وهي تاريخية المفاهيم ذلك أن: “..عودة المصطلح المتكررة من النسيان بعد مراحل غياب مختلفة، تعني في كل مرة شيئا مختلفا، لأنها تأتي في سياق متغير بنيويا وتاريخيا ويولد حاجات جديدة، وأسئلة جديدة يجيب عنها المفهوم”[242]، فلا يكفي ورود المصطلح في التاريخ لتوضيح الحمولة أو المضمون الدلالي الذي يعنيه ذلك المصطلح في الراهن، فالمصطلحات تتغير مدلولاتها بفعل التطور اللغوي والتاريخي والعلمي للسياق المجتمعي الذي يتداول فيه المصطلح.

ما يهمنا في هذا البحث هو الواقع الذي نعيشه في البلدان الإسلامية، وهذا الواقع يؤكد بما لا يدع مجالا للشك الهوة الكبيرة بين مجتمعاتنا والمجتمعات التي توسم بالمجتمعات المدنية، وذلك من عدة أوجه؛ لعل أبرزها مجمل التناقضات التي نعيشها على مستوى الفكر والعمل وعلى مستوى المؤسسات والهيئات المختلفة، الناتجة أساسا عن عدم تجاوزنا لإشكالية التراث والحداثة أو الأنا والآخر، فنحن نرغب في الحداثة لاسيما مزاياها المادية، ونحن نستهلك يوميا الكثير من هذه المزايا، ونحاول تقليد الدول الكبرى في مؤسساتها ونظمها، وفي الوقت ذاته نستمر في التشبث ببعض الأفكار والممارسات التقليدية، وحتى مؤسساتنا المحاكية للنماذج الحداثية تحترق طرق تسييرنا لها أفكار تقليدية بالية لا تمت بصلة للحداثة، يكفي مثلا ملاحظة طرق تسيير العديد من المجتمعات والنقابات، وطرق الحصول على مختلف الوظائف، القائمة في مجملها على الولاءات لا على الكفاءات، نفس الشيء يقال عن قطاعات الإعلام، القضاء، والصحة والتعليم، فأجهزة الدولة تفرض سلطتها المركزية المطلقة في اتخاذ القرارات دون أدنى استشارة للفاعلين الاجتماعيين، وإن حدث غير ذلك فيتم بصورة شكلية أو غير بريئة، فالدولة بأجهزتها المتنوعة احتوت مؤسسات المجتمع المدني، وأصبحت هذه الأخيرة في خدمتها حيث تقوم بدور الغطاء الذي يضفي المشروعية على الممارسات الديكتاتورية للسلطة القائمة، وفي المقابل يستفيد المتنفذون في هذه المؤسسات من امتيازات مادية ومعنوية كبيرة تغدقها عليهم السلطة مقابل خدماتهم ومقابل صمتهم أيضا.

الوجه الآخر للمسألة خاصة في السنوات الأخيرة، هو ما تعيشه الأقطار الإسلامية على غرار سوريا، العراق، ليبيا، اليمن…الخ، من حزب المجتمع ضد السلطة، فردود الفعل الاجتماعية تجاه استمرار الاستبداد وعدم تحقيق المواطنين لمصالحهم وآمالهم، وفقدان الثقة وانعدام التواصل بينهم وبين السلطة القائمة، تضافرت مع أسباب أخرى وجعلتهم يعلنون الثورة ضد الأنظمة، مطالبين بإسقاط هذه الأنظمة بصورة نهائية.

وقد أدت هذه الحرب إلى كوارث على كل الأصعدة: خسائر بشرية بعشرات الآلاف، ملايين اللاجئين والمشردين واليتامى والأرامل والجرحى والمرضى، دمار شامل، تفكك لكل البنى ..الخ، وهو ما يؤجل تحقيق المواطنين لطموحاتهم لعشرات أو مئات السنين الإضافية، مثلما يفقد الأنظمة القائمة كل مصداقية وكل احترام ..وقد رأينا الطريقة المخزية التي غادر فيها بعض الرؤساء مناصبهم فمنهم من هرب ومنهم من سجن ومنهم من قتل ومنهم من أحرق والبقية تنتظر مصيرها غير المحدد بعد ولكن الآتي لا محالة والذي يكون أحسن من مصائر من سبقهم وقد عبر أحد الباحثين عن هذا الوضع وعلاقته بغياب المجتمع المدني قائلا: “وما ارتفاع أصوات البغضاء والعنف والطائفية والعرقية في الراهن العربي إلا أحد سمات، وأحد نتائج مرحلة أزمة ولادة، أو تأخر ولادة المجتمع المبني، الذي يتقدم كحل معقول ومطلوب في مواجهة عنف الطوائف والأعراق والمذاهب والسلطة”[243].

هكذا نلاحظ أن الوضع جد متأزم في العالم الإسلامي، لاسيما في العلاقة بين المجتمع والسلطة، فإما احتواء السلطة للمجتمع وما يتبع ذلك من تكريس للهيمنة وضياع للحقوق، وإما عداوة وحرب المجتمع ضد السلطة وما يتبع ذلك من عنف ودمار لا يخدم أي طرف، ورغم أننا نلاحظ في بعض البلدان وجود بعض مؤسسات المجتمع المدني ولكنها تبقى فتية وغير قادرة على القيام بالمهام المنوطة بها على الوجه الأحسن، فهشاشة هذه المؤسسات وابتعادها في الغالب عن أداء الأدوار الأساسية الموكلة لها، يجعلها تتحول إلى مؤسسات شكلية مستغلة إما من قبل السلطة القائمة لإضفاء الشرعية على ممارساتها، وإما من قبل الأعضاء المتنفذين في مجالس هذه المؤسسات لقضاء مآربهم المادية والسلطوية- مع بعض الاستثناءات- وهي الوضعية التي عبر عنها أركون بقوله: “..نلاحظ انعدام المجتمع المدني الذي يلعب دور المقابل أو المحاور المحترم من قبل دولة القانون”[244]، ومرد هذه الوضعية غير الفعالة في نظره هو كون “عصبيات القرابة لا تزال تضغط حتى يومنا هذا على التشكيل الحديث للنسيج الاجتماعي، ولا تزال تحول دون تشكيل المجتمع المدني ودولة الحق والقانون والشخص –الفرد- المواطن (..) الهادفة إلى الحداثة الفكرية والروحية والسياسية التي لا تنفصم”[245].

وهنا نكون قد لامسنا الإشكالية الحقيقية التي تواجهنا، فالعمل المطلوب والملح في كل بلدان العالم الإسلامي هو ضرورة البحث عن الآليات الكفيلة بتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، بعيدا عن ثقافة الإقصاء والتمييز التفاضلي بين الفاعلين الاجتماعيين خاصة التمييز الطائفي أو العرقي، فالمجتمع يشمل الجميع وينبغي لمؤسساته أن تعبر وتدافع عن مصالح الجميع، ولا يمكن تأسيس مجتمع مدني بعيدا عن التعددية وثقافة الاختلاف، وبعيدا أيضا عن انعدام التواصل والحوار مع السلطة القائمة، لأن الفعالية تقتضي المشاركة والتواصل النقدي البناء بين مختلف الأطراف الفاعلة، فـ”المجتمع المدني والعلمانية مطلوبان في المجتمع العربي لا لأنهما فكرة أوروبية، أو فكرة مثالية، بل هما مطلوبان لأن مجموعة بشرية معقدة التركيب، كالمجموعة التي تعيش في منطقة الثقافة العربية، وتتألف من أخلاط متفرقة من المذاهب والأعراق، من التيارات والأفكار، من مراحل النمو والتطور المتفاوت، لا تستطيع الاستمرار في الوجود دون عقد اجتماعي متفق عليه من قبلها كلها، عقد اجتماعي ينظم العلاقات بينها ويحقق استمرار وجودها وتطورها”[246].

ينبغي التأكيد أيضا على أن مهام المجتمع المدني لا تقتصر على الجانبين الثقافي والسياسي فحسب، بل إن دوره لا يكتمل إلا بالمهام الاقتصادية، ولعل من أسباب فشل أغلب السياسات الاقتصادية التي تبنتها مختلف دول العالم الإسلامي، ومن ثم فشل مشروع التنمية الذي راهنت النخب الحاكمة بعيد استرجاع السيادة الوطنية، عدم إشراك المجتمع عبر ممثليه في رسم معالم هذه السياسات، لأن التنمية الحقيقية كما يقول على أومليل تتم بالناس ومن أجلهم، فالمجتمع هو الغاية والوسيلة في الوقت ذاته، وبالنظر للمعطيات المؤطرة للراهن العربي الإسلامي في المجال الاقتصادي بصورة خاصة يبدو جليا أن هناك حاجة ماسة للتفكير في خطط وبرامج اقتصادية جديدة وفعالة، يشترك في رسم معالمها الجميع، لأن العالم الإسلامي يعاني من مشكلات اقتصادية جمة، فاقتصاديات أغلب الدول الإسلامية هشة وغير قادرة حتى على ضمان العيش الكريم للمواطنين –مع بعض الاستثناءات طبعا- وتزداد الصعوبات الاقتصادية بفعل قوى العولمة الجازفة والمخترقة لاقتصاديات الدول الضعيفة عبر الشركات المتعددة الجنسيات، والتجارة الإلكترونية..الخ.

إن الدول الإسلامية مطالبة باتخاذ خطوات فعالة للتصدي للمشكلات الاقتصادية التي تواجهها من خلال إشراك فعاليات المجتمع المدني من خبراء وتقنيين ونقابات وجمعيات أرباب العمل وجمعيات حماية المستهلك وغير ذلك، كما أنها مطالبة بالتنسيق فيما بينها في شكل تضامن اقتصادي قائم على تسهيل تبادل السلع والخدمات في إطار أسواق مشتركة أو اتفاقيات ثنائية حول قطاعات معينة لتحقيق التكامل الاقتصادي وحماية قدراتها وتحقيق مطالب مواطنيها.

من جهة أخرى فإن النظام الاقتصادي العالمي الراهن –إن كانت تصح تسميته بنظام- يفرض على الدول الإسلامية إعادة النظر في الكثير من القوانين، من خلال فتح باب الاجتهاد الفقهي حول العديد من النوازل التي يفرضها الراهن العالمي، خاصة المتعلقة بالاستثمار والخدمات والبنوك وانتقال الأموال والسلع، وفي هذه النقطة بالذات لا بد من التأكيد على أن الدين الإسلامي بنصوصه التأسيسية يدعو إلى التحرر والتقدم سواء تعلق الأمر بالفرد أو المجتمع، إذ أعلنها صراحة لا أن لا خير في أمة تأكل مما لا تنتج وتلبس مما لا تنسج، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما ورد في السنة النبوية الشريفة.

دون أن نهمل، طبعا، مسألة الضوابط والمسالك الشرعية لتجسيد هذه الدعوة للتقدم والتحرر غير أن هذه الضوابط بحاجة في كل عصر للمراجعة وإعادة القراءة من قبل المختصين قصد تكييفها مع مستجدات ذلك العصر فيشتى المجالات.

ويقترح أركون بعض المسارات الضرورية للإسراع في تشكيل وكذا تفعيل المجتمع المدني في السياقات العربية الإسلامية لتمكينه من ممارسة أدوراه الأساسية سواء في المراقبة أو في التحديث والتنمية، وهذه المسارات هي:

  • إعادة التفكير بأنظمة الإيمان والقيم والقواعد المتبعة الموروثة: والمقصود من وراء ذلك هو ضرورة الانفتاح على أفق التعدد واحترام الاختلاف، حيث “يجب على المجتمع المدني العصري أن يكون تعدديا من باب الضرورة، إنه يزود المواطنين فرديا ممن ينتمون إلى مجموعات إثنية وثقافية ودينية مختلفة بكل الحريات الديمقراطية الضرورية (..) فالمنطق التعددي يقوم على أن هناك طرقا متعددة لصوغ القيم الدينية أو الفلسفية ولجمع الخبرات الروحية مع المؤسسات السياسية العلمانية”[247].
  • التسليم بأن النشاط المتبادل والتفاعل أمر ضروري ضمن الأنماط الجديدة للفهم والمعقولية، سواء كان هذا التفاعل ضمن المجتمع الواحد أو بين المجتمع المدني والسلطة القائمة، أو بين المجتمعات والأمم المختلفة، خاصة وأن العالم كما يقال أصبح قرية صغيرة بفضل التطور المذهل في وسائل التواصل.
  • إعادة التفكير بمكانة المثقفين ووظائفهم: وهذا ما يلزم المثقفين بتحمل مسؤولياتهم بما هم كذلك والانخراط الإيجابي بالتدخل في مناقشة وإثراء مختلف القضايا المطروحة على جميع المستويات (الدينية، السياسية، الأخلاقية، القانونية)، وفقا لما تطلبه الوطنية النقدية، وفي ذلك إسهام في بناء مجتمع على دراية بالأمور، بمعنى تشكيل الوعي الفردي والجماعي.
  • إن ممارسة المثقف لدوره يتطلب الاستقلال من كل الالتزامات، وامتلاك السلطة المعرفية للبث في مختلف القضايا، ومن جهة أخرى قبوله بالعودة النقدية على آرائه كلما اقتضت المعطيات الواقعية أو الوقائع العلمية ذلك، وفي المقابل لا بد أن تعي الأنظمة القائمة الدور الإيجابي الذي يمكن للمثقفين القيام به إذا أتيحت لهم فرصة التدخل ومناقشة وإثراء السياسات العامة بكل حرية ومسؤولية.
  • ويرى أركون أن مفهوم المجتمع المدني أهم مكسب توصلت إليه أوروبا الحديثة، فقد استطاعت المجتمعات المدنية الأوروبية “أن تتحرر قانونيا بالشكل الكافي الذي يمكنها من التصرف بصفتها شركاء فاعلين في دولة الحق والقانون”[248]، وبالمقابل نلاحظ هشاشة الجمعيات الثقافية والسياسية المنتشرة في المجتمعات العربية الإسلامية، والتي تعتبر المكونات الأساسية للمجتمع المدني، فرغم وجود هذه المؤسسات وبأعداد معتبرة إلا أنها تبقى بعيدة كل البعد عن الدور الريادي المنوط بها في خدمة مصالح المواطنين وترقية الممارسة الديمقراطية، وأسباب تخلفها عن دورها هذا عديدة، منها ما يتعلق بتركيبة هذه المجتمعات وكيفية نشأتها، ومنها ما يتعلق بالرقابة المفروضة عليها من قبل السلطة الحاكمة التي تعمل دوما على كبح جماحها بغية إبقاء الأوضاع على حالها، ليبقى المهيمن مهيمنا وغيره مهيمنا عليه، مما يحول “دون تشكيل المجتمع المدني ودولة الحق والقانون والشخص-الفرد-المواطن (..) الهادفة إلى الحداثة الفكرية والروحية والسياسية التي لا تنفصم”[249].

رابعا: الأنسنة والمواطنة:

تتطلب الآليات السابقة مفهوما آخر من المفاهيم الأساسية في المشروع الأركوني، وإطارا آخر من الأطر الاجتماعية نقصد به مفهوم الأنسنة، بما يحيل إليه من تكريس وحماية لحقوق الإنسان، وما يقتضيه ذلك من فتح المجال للحوار والتسامح والاحترام المتبادل للآراء والتعايش والحق في الاختلاف…الخ. ويؤكد أركون أهمية وضرورة تأسيس الموقف الأنسني الكوني قائلا: “لا ريب أننا في حاجة إلى نزعة إنسانية واسعة تصلح لجميع البشر والبحث عنها ملح وضروري”[250]، والمقصود بالأنسنة لديه هو عملية تثبيت لإنسانية الإنسان ولماهيته، وهي “تتجاوز حدود الأديان والطوائف والقوميات والأعراف لكي تصل إلى الإنسان في كل مكان وإلا فلن تكون هناك نزعة إنسانية حقيقية فهي إذا ما استثنت إنسانا واحدا من نعيمها تكون قد فقدت إنسانيتها”[251]، وهذا المعنى يستوحيه أركون من الأنسنة التي تشكلت في التاريخ الإسلامي بفضل شخصيات متميزة كالجاحظ والتوحيدي ومسكويه وغيرهم، ويحاول تجاوزهم أيضا، فرغم كونه يشيد بأعمال هؤلاء والبعد الأنسني الذي مثلوه، إلا أنه يعتبر مواقفهم آنذاك تعبر عن أنسنة مؤقتة وضيقة بالنظر إلى إطارها الزمكاني (الدولة الإسلامية-القرون الوسطى).

وبالنظر إلى التطورات الحالية في الفكر الإنساني الحديث والمعاصر، التي أفرزت الموقف الثقافي الذي وصلت إليه الحداثة الغربية عندما اتخذت مسافة نقدية من الموقف الدوغمائي المؤسس على الحقيقة الواحدة، المطلقة، التي تنفي ما يخالفها، فإن تكريس الأنسنة في السياقات الإسلامية يتطلب الانفتاح على الثقافة الحديثة والاعتراف بالتعددية المذهبية والثقافية واللغوية الذي هو صفة من الصفات الأساسية والتأسيسية للموقف الإنساني”[252]، وهو موقف يلتقي فيه أركون مع إدوارد سعيد الذي يعتبر “الأنسنة وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير مما يقدم لنا أنه يقينيات مسلعة، معلبة، مغلقة على النقاش ومشفرة على نحو غير نقدي”[253]، من جهة يرى فؤاد زكريا أنه لا أهمية للقول “بأن الإنسان خليفة الله في الأرض وأن الله قد شرفه على باقي مخلوقاته، إذا كان الإنسان يعاقب في البلدان الإسلامية لمجرد البوح بآرائه المعارضة للسلطة”[254].

هناك إذن شبه إجماع لدى العديد من المفكرين العرب والمسلمين المعاصرين على ضرورة إعادة الاعتبار للإنسان وللنزعة الإنسانية في المجتمعات الإسلامية التي تشهد وقائع وأحداث كثيرة على خلوها من الحريات، والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان، ويؤكد أركون أنه “ينبغي علينا أن نعترف عندما نفتح أعيننا على المجتمعات الإسلامية والعربية أنها خالية من الحريات، فحرية التعبير مفقودة وحرية الصحافة كذلك، وحرية التعليم والتربية ولا شيء مضمون فيما يخص حقوق الإنسان”[255]، والسبب الرئيس القابع خلف هذا الوضع المزري هو غياب المفهوم الحديث للدولة، أي دولة القانون التي تعامل أفرادها كالمواطنين لا كرعايا معزولين عن الحياة السياسية وغير مشاركين في وضع القوانين واتخاذ القرارات المتعلقة بتسيير شؤونهم، فالأنسنة في عمقها مرتبطة بمفهومي المواطنة والمجتمع المدني، المرتبطين بدورهما بمفهوم الديمقراطية، فالمواطنة هي الوصف السياسي لأفراد المجتمع المنضورين تحت دولة –وطن تتبنى الخيار الديمقراطي كنظام للحكم والتسيير، وهي وضعية تسمو على الجنسية وتجعل العلاقة مع الدولة علاقة شراكة في الوطن، وعلاقة تشاركية غير تبعية مثلما هو الشأن في ظل الأنظمة الاستبدادية والإقطاعية التي يعتبر فيها الأفراد رعايا لا مواطنين.

إذا كانت العلمنة تشير إلى النضال من أجل المعرفة والحرية فإن دولة القانون هي أداة حماية الحريات الفردية من خلال ضمان معادلة الحقوق والواجبات، غير أنه من الضروري التنبيه على أن التحول إلى سيادة دولة القانون ينبغي أن يتوافق مع تحول آخر لا يقل أهمية عنه، ونقصد به الانتقال من الفرد- الرعية إلى الفرد- المواطن، وهو ما عرفته المجتمعات الغربية خصوصا منذ إعلان ميثاق حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا سنة 1789، فالمواطنة مفهوم محوري في قيام دولة القانون، وشرط أساسي للتحول الديمقراطي مثلما هي شرط أساسي في بناء المجتمع المدني.

والمقصود بالمواطنة بالإضافة لما يستفاد من معادلة الحقوق والواجبات هو “أن يريد المحكومون اختيار حكامهم ويريدوا أن يشاركوا في الحياة الديمقراطية، أي أن يشعروا أنهم مواطنون وهو ما يفترض وعيا بالانتماء للمجتمع السياسي”[256]، وهذا الشعور بالانتماء ينعكس في نوع من المسؤولية التي تشعر الفرد بضرورة المشاركة الإجابة الفعالة تجاه القضايا المطروحة في المجتمع الذي ينتمي إليه، من هنا فإن الانتقال الإيجابي يقوم أساسا على تحرير الإنسان وإطلاق طاقاته كقوة أساسية في التغيير، وهذا ما يتطلب في نظر أركون ضرورة احترام حقوق الإنسان أو ما يدعوه بـ: الأنسنة L’humanisme ففي ظل الحداثة “من باب اللامقبول أن نرفض للفرد حقا من حقوقه الحياتية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية”[257].

يشرح أركون أحد مفهوم الأنسنة من خلال مناقشته لموضوع “الآخر”، أو الصورة التي يشكلها كل طرف عن الطرف الآخر، صورة الإسلام لدى الغرب وصورة الغرب لدى المسلمين، ملاحظا أنه على الرغم من أهمية هذا الموضوع لم يحظ بالاهتمام اللازم في السياقات الفكرية المعاصرة، وإن تم ذلك فإنه يتم في دوائر ضيقة لدى المفكرين الأكاديميين الذين لا تصل أصواتهم إلى الجماهير ولا تؤثر مواقفهم كثيرا في تغيير الصور المشوهة المتبادلة بين مختلف الأطراف، وهذا لطغيان الخطاب الإعلامي–السياسي المتسرع وذو الأهداف الإيديولوجية على حساب الخطاب الأكاديمي الهادئ ذو الأهداف الإبستيمولوجية.

يبدأ أركون مناقشته لموضوع الذات والآخر من خلال رصده لمجموعة نصوص من الكتب المقدسة (التوراة، الإنجيل، القرآن)، ونصوص أخرى لبعض الفلاسفة الكبار على غرار كانط، سارتر، ليفيناس وبول ريكور، تتقاطع هذه النصوص جميعها في كونها تتضمن إشارة إلى كيفية التعامل مع الآخر، ويلاحظ أركون أنه على الرغم من أهمية هذه النصوص وكثرة الاستشهاد بها (لاسيما النصوص المقدسة) إلا أنها لم تستطع تجاوز الإشكاليات المطروحة حول مسألة الأنا والآخر، لأن هناك دائما فجوة بين النظرية والتطبيق العملي على أرض الواقع، يقول في هذا السياق:”طيلة قرون وقرون راحت الفلسفة واللاهوت يتحدثان بإسهاب على الإنسان، والعقل، وشروط بلورة المعرفة النقدية ونقلها إلى الآخرين أيضا، كما تكلما عن كيفية تشكيل المجتمع البشري المثالي أو المدينة الفاضلة، ولكن من دون دمج للمرأة فعليا، ومن دون دمج الغريب البعيد، ثم بشكل أخص من دون دمج العبد الرقيق”[258].

بالإضافة إلى هذه النقائص التي ربما تداركتها الحداثة ولو نسبيا، هناك إشكاليات جديدة أفرزتها هذه الحداثة، لاسيما الحروب غير المتكافئة بدءا من إلقاء القنبلة النووية الأمريكية على الأراضي اليابانية، وصولا إلى تدخل القوى المتطورة تكنولوجيا في مختلف المناطق من العالم الذي تمت شيطنته والنظر إليه باعتباره الشر المطلق أو محور الشر، فهنا تحديدا-والقول لأركون- ينبغي “أن نبحث عن الأسباب العميقة لانتشار ظاهرة الإرهاب بصفتها ردا على هذه الحروب غير المتكافئة”[259]، وهذا لا يعني البتة تبرير ظاهرة الإرهاب والعنف مهما كانت صيغة وصوره، إنما يعني بالدرجة الأولى إعلان الحاجة الماسة لبلورة فلسفة جديدة تسمح بالقبول الفعلي للآخر، وجعل الطرفين المتصارعين على قدم المساواة من حيث المسؤولية، فالغرب لا يمكنه أن يستمر في الإعلان عن كونيه قيمه من دون أن يدمج الآخر –المسلم في حساباته، ويكف عن اعتباره الشر المطلق ويكف بنفس الدرجة عن إرادته في الهيمنة والبطش والدوس عن قيم الآخرين.

أما الطرف الثاني أي العرب والمسلمين فينبغي أن يكفوا عن شيطنة الغرب ككتلة واحدة، وأن يكفوا عن تغذية العنف من خلال التلاعب بالمفهوم اللاهوتي –السياسي المدعو بـ(الجهاد)، ويتحولوا إلى توعية الجماهير وتعليمها وتحسين ظروف معيشتها.

فضمن هذه الظروف المعيشة حاليا، يبقى العقل (ومن ثم الإنسان) مأخوذا كرهينة في كلتا الجبهتين، الأصوليات والإيديولوجيات ذات المزعم الكوني، وهي في الحقيقة تشتغل لصالح إرادات القوة والهيمنة التي تلغي كل العمل النقدي المؤدي إلى “تحولات المعنى والقيم” على الصعيد العالمي[260]. وقد آن الأوان يقول أركون، في صرخة طوباوية يائسة “للخروج من هذه الحلقة الجهنمية للعنف والعنف المضاد، لقد آن الأوان للخروج من عهد الأكاذيب السياسية لتبرير فوضى الحروب، آن الأوان للتخلي عن السياسة القائمة على القوة المحضة، آن الأوان للخروج من تلك الحلقة المبتذلة للتفجيرات الإرهابية من جهة وللرد الهائل المفرط عليها من جهة أخرى”[261]. لقد أصبح الإنسان هو العدو الأول للإنسان، في ظل الشيطنة المتبادلة بين الإسلام والغرب، ومن ثم لا بد من تدارك الوضع قبل ضياع الإنسان، وإعادة الاعتبار للموقف الأنسني القائم على احترام الإنسان والأديان والمهموم بإرادة المعرفة ومقارعة الحق بالحق للحق كما يقول المتصوفة.

هذا الموقف الأنسني يتأسس على إعادة تشكيل صورة الآخر وإعادة رسم علاقة الذات مع هذا الآخر، و”مادمنا لا نعامل الآخر وكأنه ذات، أي كأنه مثلما لا يمكن أن توجد نزعة إنسانية، ينبغي أن يتحول الآخر إلى ذات أو الذات إلى آخر، لكي يحصل التناغم والانسجام في المجتمع والعالم كله”[262]. ولكن الواقع يؤكد أننا وفي ظل معطيات الراهن بعيدون كل البعد عن هذا الموقف الأنسني الذي يدعو إليه أركون- سواء نحن العرب المسلمون  أو غيرنا- لهذا قلنا بأن موقف أركون هذا ليس إلا صرخة طوباوية وأفقا للانتظار، ولكن الطوباويات أيضا تبقى ضرورية في حياة الأفراد والمجتمعات، لأنها تعبر عن التفاؤل بمستقبل أفضل وهو التفاؤل الذي أعلنه أركون في إجابته عن آخر سؤال طرحه عليه مترجمة وصديقه هاشم صالح، حين سأله، هل أنت متشائم؟ فأجاب: “لا. لا أنا لست متشائما على المدى البعيد..”[263].

واستعمال أركون لمصطلح الأنسنة بدل مصطلح حقوق الإنسان مرده كون المصطلح الأخير- وبالنظر لمعطيات الراهن- قد أصبح مفرغا من محتواه نظرا للتوظيف الإيديولوجي الذي تعرض له حيث أصبح ذريعة تستعمله الدول العظمى للضغط على الآخرين أكثر مما تتقيد به في تعاملها معهم، والأمثلة على ذلك كثيرة خاصة تدخلات الدول الغربية المتزايدة في العديد من الدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص، وليس واقع حقوق الإنسان في الداخل العربي بأحسن مما هو عند غيرهم، يؤكد أركون ذلك قائلا:”من المعلوم إن مبادئ الإخاء والتضامن واحترام حياة الأشخاص وأرزاقهم هي أشياء طالما تحدث عنها القرآن وكرر الحديث وكذلك فعل التراث الذي تلاه، ولكن هذه المبادئ “تطبق” الآن في المجتمعات الإسلامية بشكل مأساوي مرعب، وفي جو من الإرهاب المعمم على المستويين المحلي والدولي”[264].

من خلال هذا الوضع فإن الكلام عن تحديث مجتمعاتنا يمر حتما عبر تحسين وضعية حقوق الإنسان، وتعزيز قيمة الإنسان وصيانة كرامته وتدعيم حريته، فالأنسنة تأكيد للعلمنة وترسيخ للحرية واحترام للاختلاف والتعددية، يقول أركون:”الاعتراف بالتعددية المذهبية والثقافية واللغوية هو صفة من الصفات الأساسية والتأسيسية للموقف الإنساني”[265]، وهذا الموقف الإنساني يغتني ويتدعم من خلال توفير فرص التثقيف الحديث وفتح آفاق التبادل المبدع مع مختلف الثقافات، دون تفضيل لثقافة على أخرى، كما يتطلب الموقف الأنسني الإيمان بفضائل الإنسان وفتح آفاق الحوار والتبادل بين المواطنين، وجعلهم ينفتحون على المعنى الجديدة من أجل بناء نظام إنساني محرر من العنف وأساليب الهيمنة والنبذ المتبادل، وكذلك محرر من أنواع النفي والرفض للآخر.

 

 

 

 

 

 

 

بمثابة خاتمة

من خلال تفصيلنا في مقاربة أركون للتمفصلات القائمة بين عناصر المثلث الأنثروبولوجي: عنف/ مقدس/ حقيقة، ومن خلال إبراز مقترحاته للخروج من السياجات الدوغمائية التي يسجننا فيها هذا المثلث؛ يمكننا تسجيل النتائج التالية:

  • يبدو أن ما عرفه ويعرفه العالم الإسلامي خاصة والعالم ككل في العقدين الأخيرين من انتشار للعنف والإرهاب، الخواف أو الفوبيا المتبادلة بين الإسلام والغرب والتلاعب المستمر من قبل السلطات السياسية بالدين وبـ: “الرأسمالي الرمزي” عموما من أجل إضفاء المشروعية على إرادتها في استمرار هيمنتها، ضف إلى ذلك التفاوت المتزايد بين دول الشمال ودول الجنوب في شتى المجالات…الخ.

كل هذه الظواهر جعلت أركون يدعو إلى تعميم نقده للعقل الإسلامي، ليتحول إلى نقد للعقل في الديانات التوحيدية الثلاثة، معتبرا أن الكل يشكو من نقائض، وبحاجة إلى تغيير أو تعديل مواقعه التقليدية الموروثة، فالنقص أو المسؤولية لا تقع على الإسلام أو العالم الإسلامي فحسب، إنما تقع على الغرب المسيحي المتحالف أو المتواطئ مع اليهودية، خاصة في القضية الفلسطينية، التي تشكل أحد الأسباب العميقة للتصادم والصراع بين الطرفين الإسلامي والغربي عموما، يقول أركون حول هذه القضية: “الحرب الإسرائيلية-العربية تجسد في ذاتها بشكل مكثف جميع الهيجانات الجامحة، والنبذ المتبادل والأساطير التاريخية والأحقاد القاتلة والحسابات الجيوبوليتيكية والمنافسات الحديثة”[266]، ومن ثم فالخروج من دوامة العنف والعنف المضاد المتزايد خاصة في منطقة الشرق الأوسط غير ممكن قبل أن تتوجه مختلف الإرادات السياسية الفاعلة إلى حل مشكلة النزاع العربي الإسرائيلي في فلسطين.

  • يدعو أركون إلى ضرورة النقد الذاتي الصريح والراديكالي لكل تجارب الماضي وإعادة قراءة التراثات الدينية التوحيدية الثلاثة على ضوء المستجدات الراهنة، وهذا النقد الذي يدعو إلى الشروع فيه لا يهدف البتة إلى كل شكل من أشكال التوفيق أو التلفيق فيما بين الديانات الثلاثة، إنما الهدف منه هو: تقديم قاعدة إبستيمولوجية صلبة مشتركة بغية الكشف عن كيفية حصول الصيرورة الاجتماعية التاريخية المشتركة لتشكيل أنظمة الاعتقاد واللاعتقاد، والسياجات الدوغمائية التي يعيش فيها/عليها المؤمنون من كل الديانات، فالمسلم يؤمن بمجموعة من العقائد ويعتبرها صحيحة مطلقا ولا تناقش، وبنفس الطريقة لا يؤمن بما سواها من عقائد ويعتبرها لاغية مطلقا، نفس الكلام يصدق عن المسيحي كما يصدق عن اليهودي، وهكذا تصبح كل ملة عبارة عن نظام من الإيمان واللاإيمان، وكعادة أركون في الحفر والنبش في طبقات التاريخ، قصد الوصول إلى عمق الظواهر وأسبابها الأولى، فهو يرجع إلى الوراء لكشف ووصف آليات اشتغال الأديان الثلاثة تاريخيا، ضمن جدلها مع اللغة والفكر والمجتمع، ليصل إلى أن هذه الأديان الثلاثة كلها تشكل الاعتقاد الإيماني بنفس الطريقة، وكلها مارست دورها تاريخيا كأنظمة لاهوتية للبند والاستبعاد المتبادل، وقد عرفت كلها انحرافات نحو التطرف والتعصب، مثلما تشهد عليه الحروب المقدسة، والتكفير المتبادل، والعداوة المستمرة، إلى الآن بين أهل هذه الديانات.
  • بقي التراث الإسلامي بعيدا عن الدراسة العلمية: فتكون المهمة المستعجلة في نظر أركون هي الانخراط في البحوث الاستكشافية العلمية عن التراث الإسلامي، لتأسيس خطاب علمي حول التراث الإسلامي بإعادة قراءته قراءة نقدية تموضعه في سياقة التاريخي والاجتماعي بعيدا عن كل أشكال الأسطرة والأدلجة كما يفعل غالبية المسلمين وبعيدا عن البتر والاصطفاء الذي يمارسه المستشرقون.
  • ضرورة الانتقال من المهام الملقاة على عاتق المسلمين من أجل النهوض والتحديث أو التحرير الفكري، إلى الأحكام الكلية المتعلقة بالعقل الديني في الأديان التوحيدية الثلاثة، فالكل معنيون بنقد العقل، وإعادة قراءة التراث الخاص بهم وإعادة كتابة التاريخ العام على ضوء مكتسبات العلوم الإنسانية والاجتماعية في صورتها الأكثر معاصرة فالدراسة العلمية والتاريخية لا اللاهوتية تشكل ضرورة ملزمة من أجل الخروج من السياجات الدوغمائية السائدة في الأديان التوحيدية، وبالتالي فالنقد التفكيكي ينبغي أن ينصب على كلتا الجهتين: الإسلامية والغربية، الغرب أيضا ينبغي أن يكنس أمام بيته فهو مدان أيضا في حالات عديدة.
  • من خلال دعوة أركون لتعميم النقد على التراثين والعقلين العربي الإسلامي والغربي على حد سواء، فهو يدافع عن الحرية والانفتاح والتسامح، حرية التفكير والتقدير وحتى حرية الاعتقاد، كما يدافع عن العقل المنفتح ذي البنية التاريخية كما يقول باشلار، وهي البنية التي تجعله متطورا، متغيرا من خلال تأثره بما ينتجه وما يتوصل إليه من أفكار وكل ذلك في إطار الإيمان بمحدودية العقل البشري ونسبية معارفه، ومن ثم نسبية الحقيقة، وعدم إمكان احتكارها من قبل أي كان، شرقيا أو غربيا، تقليديا أو حداثيا، متدينا أو علمانيا، لأن كل عمل أو قول باحتكار الحقيقة أو التحدث باسمها، فهو ينطوي بالضرورة على إرادة الهيمنة والتسلط على الآخرين، وكما يقول هاشم صالح: “فكل فكر أركون مكرس منذ عقود لتفكيك هذه الإيديولوجيا الرثة وإحلال الفكر النقدي العقلاني المستنير محلها”[267].
  • في ظل معطيات الراهن العالمي تظهر الأهمية البالغة لموضوع القيم الأخلاقية، وحاجة البشرية الماسة إلى بلورة أخلاق تسمح بحماية الإنسان في ظل العولمة المتوحشة التي لا تعبأ إلا بالربح المادي، عاملة في الوقت ذاته على نسيان بل وسحق الأخلاق، بالإضافة إلى العولمة الجارية على قدم وساق، يشهد الراهن البشري ما يعبر عنه بصورة سريعة بعودة الدين، خاصة ذلك المظهر العنيف من هذه الظاهرة، فانتشار العنف والإرهاب في شتى صورة يجعل إعادة بعث الاهتمام بالمسألة الأخلاقية أمرا ملحا وضروريا، وذلك من أجل بلورة علم أخلاق كوني أو قابل لأن تطبق مبادئه على البشر جميعا بغض النظر عن أديانهم وألوانهم وأموالهم، وتكون هذه المبادئ صمام أمان وأداة مقاومة ضد النظام الرأسمالي المتوحش والمتطرف أو اللاإنساني، وحتى العلوم الإنسانية والاجتماعية لم تعط أجوبة كافية متضامنة مع هموم الإنسان وقيم الحق العدل والإخاء، ومن ثم فثقافة من دون أخلاق لا معنى لها حتى لو بلغت ذروة التقدم العلمي والتكنولوجي، ضمن هذا الوضع، يبدو أننا بحاجة بلورة علم أخلاق جديد يتجاوز كل التركيبات اللاهوتية القديمة وكذلك السياسات الإيديولوجية المعاصرة.
  • رغم كثرة الملتقيات والندوات الفكرية المكرسة في العقدين الأخيرين لاستعادة هذا الطموح في إقامة الحوار بين الديانات والتقريب بينها، إلا أن أركون –كعادته- يتخذ موقف الناقد لهذه المواقف، والمعارض للطريقة التي يتم بها إجراء هذه الحوارات، من منطلق أن الواقع يثبت هشاشة النتائج المتوصل إليها، فكل ما قيل ويقال بشأن هذا الحوار أو التبادل أو التحالف بين الحضارات والثقافات والأديان لم يسجل معه أي تغير ملحوظ على مستوى مواقف ومواقع الأطراف المعنية بهذا الحوار، بل إن الواقع يميل إلى إثبات العكس تماما إي انتصار النظريات القائلة بالصراع والصدام، ذلك ما يتجلى من خلال انتشار العنف والعنف المضاد في مختلف أرجاء العالم، والحل في نظر أركون لن يكون ناجعا إلا إذا كان التشخيص راديكاليا، أي يذهب إلى أصول المرض أو المشكل ومنشأ الصراع، فهذه الحوارات وكأنها تتم باتفاق ضمني وإن كان غير معلن، يقتضي عدم التعرض للمسائل الحارقة والجارحة والأساسية، وعدم فتح الملفات الكبرى، لأن ذلك يؤدي في نظر أركون إلى التشكيك في العقائد الأرثوذكسية الراسخة الموروثة عن الأديان الثلاثة منذ البداية، وهذا ما يفوت على هذه الحوارات فعاليتها ويجعلها تحيد عن غاياتها، حيث يرجع كل طرف إلى مواقعه اللاهوتية التي ينطلق منها دون أي تغيير أو تعديل في هذه المواقع، بالتالي، وبدل التقريب بين الأديان تعمل هذه الحوارات على العكس من ذلك حيث تقوم بترسيخ المواقع التقليدية لكل طرف، بعد هذا التوصيف يعلن أركون إرادته في تجاوز الوضع والبحث عن صيغة جديدة أو طريقة مغايرة لإقامة حوار حقيقي فعال ومثمر بين الأديان من خلال فتح الملفات الكبرى والحقيقية، وعدم تحاشي الطابوهات مهما كانت لأن ذلك هو السبيل الأمثل لزحزحة المشاكل اللاهوتية القائمة بين الأطراف المتصارعة، كما ينبغي على الجميع مسلمين ومسيحيين ويهود، الخروج من سياجاتهم الدغمائية المغلقة الموروثة عن الفكر القروسطي والتي تجعل كل واحد منهم يعتقد في دينه الطريق المستقيم الوحيد، إن هذه الشروط ضرورية من أجل تفكيك الجهل المزدوج المتراكم لدى كل تراث عن نفسه وعن تراث الآخرين بدرجة أكبر، وهذا الجهل هو السبب الرئيسي في إشعال فتيل التصادم والعنف، وتفكيك هذا الجهل ثم إحلال المعرفة الموضوعية المنفتحة محله من شأنه أن يزحزح الأمور نحو فضاءات جديدة للمعقولية والفهم والحوار المثمر.

إن الخروج من السياجات الدوغمائية والانفتاح على الآخر لن يكون ممكنا إلا بإعادة الاعتبار للإنسان كقيمة عليا، أي إنسان بغض النظر عن إثنيته أو دينه أو طائفته، أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فالأنسنة شرط ضروري من أجل التحرر والتسامح والتعايش بين المختلفين في سياق اجتماعي واحد وفي العالم أجمع، وتحقيق الأنسنة بدوره يتوقف على مجموعة من الشروط أو الأطر الاجتماعية والسياسية كالديمقراطية والعلمنة والمواطنة وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وهي أطر تتحقق بالتدريج ولو بصورة بطيئة، شريطة توفر الإرادة لدى الأفراد والجماعات والحكومات.

 

 

 

 

 

 

 

  • بيبليوغرافيا:
  • القرآن الكريم
  • مؤلفات أركون المترجمة للغة العربية:
  • محمد أركون: الفكر العربي، ت: عادل العوا (الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، ط1، 1982).
  • محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، ت: هاشم صالح (بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1987).
  • محمد أركون: الإسلام الأخلاق والسياسة، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1991).
  • محمد أركون: من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، (بيروت: دار الساقي، ط1، 1993).
  • محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1995).
  • محمد أركون: نافذة على الإسلام، ت: صياح الجهيم (بيروت: دار عطية للنشر، ط1، 1996).
  • محمد أركون: العلمنة والدين، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1996).
  • محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الطليعة، ط1، 1998).
  • محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1999).
  • محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط2، 2001).
  • محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 2001).
  • محمد أركون: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2001).
  • محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1،2004).
  • محمد أركون-جوزيف مايلا: من منهاتن إلى بغداد، ت: عقيل الشيخ حسين(بيروت: دار الساقي، ط1، 2008).
  • محمد أركون: نحو نقد العقل الإسلامي، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 2009).
  • محمد أركون: نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 2011).
  • محمد أركون: التشكيل البشري للإسلام ت: هاشم صالح،(بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2013).
  • مقالات وحوارات لأركون:
  • محمد أركون: الإسلام التاريخية والتقدم (مواقف، العدد40، بيروت: 1981).
  • محمد أركون: التراث والموقف النقدي التساؤلي-حوار- (مجلة مواقف: العدد40، بيروت، 1981).
  • محمد أركون: التأمل الإبستمولوجي غائب عند العرب-حوار- (مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 20/21/22، بيروت: مركز الإنماء القومي 1982).
  • محمد أركون: نحو تقييم واستلهام جديدين للفكر الإسلامي، (الفكر العربي المعاصر، العدد 29، بيروت: مركز الإنماء القومي، ديسمبر 1983-جانفي1984).
  • محمد أركون: تعقيب على بحث أنطوان فرغوث: الدين والعلمنة في أوروبا (العلاقات بين الحضارتين العربية والأوروبية، وقائع ندوة همبورغ، تونس: الدار التونسية للنشر، 1985).
  • محمد أركون: الإسلام والحداثة، ت: هاشم صالح (مجلة التبيين، العدد 2-3، الجزائر: الجمعية الثقافية الجاحظية، 1990).
  • محمد أركون: العقل الاستطلاعي المنبثق وأنواع الحداثات في السياقات العربية الإسلامية، (مجلة العالم العربي في البحث العلمي، العدد10-11، منشورات معهد العالم العربي-باريس، 1999).
  • محمد أركون: أنثربولوجيا وذاكرة جماعية –حوار- (كتابات معاصرة، العدد47، المجلد 12-بيروت: 2002).
  • محمد أركون: كيف ندرس الإسلام اليوم؟ (قضايا إسلامية معاصرة، العدد26، بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، 2004).
  • محمد أركون: أي فكر عربي حديث نريد؟ ضمن: نصر حامد أبو زيد (وآخ): الحداثة والحداثة العربية (دمشق: دار بترا-المؤسسة العربية للتحديث الفكري، ط1، 2005).
  • محمد أركون: محمد أركون-وآخ-: المجتمع المدني في العالم الإسلامي، تر: سيف الدين القصير (بيروت: دار الساقي –معهد الدراسات الإسماعيلية، ط1، 2007).
  • مؤلفات لأركون باللغة الفرنسية:
  • Mohammed ARKOUN  : Essais sur la pensée Islamique, paris, ed : Maisonneuve et la rose, 1977.
  • Mohammed ARKOUN , Maurice BORRMANS, Mario AROSO : L’Islam religion et société, France, ed : CERF.1982.

 

  • مراجع باللغة العربية:
  • ابن منظور: لسان العرب، إعداد وتصنيف: يوسف الخياط (بيروت: دار لسان العرب، دت)، مج2.
  • أبو بلال عبد الله الحامد: ثلاثية المجتمع المدني (بيروت: الدار العربية للعلوم، ط1، 2004).
  • إدريس هاني: خرائط إيديولوجية ممزقة (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، ط1، 2006).
  • إدوارد سعيد: الأنسنية والنقد الديمقراطي، ت: فواز طرابلسي (بيروت: دار الآداب، ط1، 2005).
  • ألان تورين: نقد الحداثة، ت: أنور مغيت (القاهرة:المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 1997).
  • أمارتيا صن: الهوية والعنف، ت: سحر توفيق (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ط1، 2008).
  • برهان غليون: اغتيال العقل (بيروت: دار التنوير، ط2، 1987).
  • جاك دريدا-جياني فاطيمو: الدين في عالمنا، ت: محمد الهلالي-حسن العمراني (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 2003).
  • جورج طرابيشي: من النهضة إلى الردة (بيروت: دار الساقي، ط1، 2000).
  • خالد كبير علال: الأخطاء التاريخية والمنهجية عند محمد أركون ومحمد عابد الجابري (الجزائر: دار المحتسب، ط1، 2008).
  • داريوش شايغان: النفس المبتورة، هاجس الغرب في مجتمعاتنا (لندن: دار الساقي، ط1، 1991).
  • داريوش شايغان: ما الثورة الدينية؟ ت: محمد الرحموني (بيروت-جنيف:دار الساقي-المؤسسة العربية للتحديث الفكري، ط1، 2004).
  • رون هاليبر: العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب، ت: جمال شحيد (دمشق: دار الأهالي، ط1، 2001).
  • الزاوي بغورة: ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2001).
  • طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث (بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 2005).
  • لوك باربولسكو –فليب كاردينان: رأيهم في الإسلام، حوار مع أربعة وعشرين أديبا عربيا، ت: ابن منصور العبد الله (بيروت: دار الساقي، ط2، 1990).
  • محمد بن إدريس الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر (بيروت: المكتبة العلمية –د ط-).
  • محمد حمزة: إسلام المجددين (بيروت: دار الطليعة –رابطة العقلانيين العرب، ط1، 2007).
  • محمد كامل الخطيب: المجتمع المدني والعلمنة (دمشق: دار الينابيع، ط1، 1992).
  • محمد المزوغي: العقل بين التاريخ والوحي (كولونيا-بغداد: منشورات الجمل، ط1، 2007).
  • محمد سبيلا: الحداثة وما بعد الحداثة، الدار البيضاء: دار توبقال، ط1، 2000.
  • محمد عابد الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006)،
  • مختار الفجاري: نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2005).
  • نصر حامد أبو زيد: الخطاب والتأويل،(بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2000).
  • نصر حامد أبو زيد: النص السلطة الحقيقة (بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 1997).
  • عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة (الأردن: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2004).
  • عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2000).
  • عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي (بيروت: دار الحقيقة، ط3، 1980).
  • عبد الغفار شكر –محمد مورو: المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية (بيروت- دمشق: دار الفكر المعاصر- دار الفكر، ط1، 2003).
  • عزمي بشاره: المجتمع الدني دراسة نقدية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1998).
  • عياض بن عاشور: الضمير والتشريع، العقلية المدنية والحقوق الحديثة (بيروت-الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998).
  • فتحي التريكي –رشيدة التريكي: فلسفة الحداثة (بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1992).
  • قاسم شعيب: تحرير العقل الإسلامي (بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2007).
  • هاشم صالح: الانسداد التاريخي (بيروت: رابطة العقلانيين العرب-دار الساقي، ط1، 2007) .
  • هاشم صالح: مخاضات الحداثة التنويرية (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2008).
  • هيغل: مبادئ فلسفة الحق، ت: تيسير شيخ الأرض (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، ط1، 1974).
  • المقالات:
  • جورج بالانديه: السلطة والحداثة، ت: هاشم صالح (الفكر العربي المعاصر، العدد41، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1984).
  • هاشم صالح: هل يؤدي المقدس إلى العنف بشكل حتمي؟ (مجلة يتفكرون، العدد الخامس، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، خريف2015، الرباط، المملكة المغربية).
  • رمضان بن رمضان: محمد أركون من مفهوم “أهل الكتاب” إلى مفهوم”مجتمعات الكتاب” (كتابات معاصرة، العدد29، المجلد الثامن، بيروت: الشركة العربية للتوزيع، 1997).
  • يورغين هابرماس: الحداثة مشروع ناقص، ت: بسام بركة (الفكر العربي المعاصر، العدد29، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1984).
  • مراجع باللغة الفرنسية:
  • Fouad Zakariya : les arabes à l’heure du choix tr : Richard Jaquemond, Alger, El Maarifa, 2001.
  • François Strin : Comprendre la pensée contemporaine, (paris : Ed, les quatre chemins 2005).
  • Georges Balandier : Le pouvoir sur scènes, paris, éd Balland, 1980.
  • George Balandier : Anthropologie politique, paris. Quadrige- puf 5eme éd, 2004.
  • Roger Bastide : Anthropologie Appliquée, paris. Stock, 1998.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] محمد أركون: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2001)، ص45.

[2] محمد أركون: نافذة على الإسلام، ت: صياح الجهيم (بيروت: دار عطية للنشر، ط1، 1996)، ص83.

[3] محمد أركون: نافذة على الإسلام، مصدر سابق، ص180.

[4] محمد أركون: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، مصدر سابق، ص45.

[5]Rager Bastide Anthropologie appliquée, Paris, ed : STOCK, 1998, p143.

[6] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، ت: هاشم صالح (بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1987)، مقدمة المترجم، ص ص 05-16.

[7] محمد أركون: نافذة على الإسلام، مصدر سابق، ص102.

[8] أمارتيا صن: الهوية والعنف، ت: سحر توفيق (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ط1، 2008)، ص12.

[9] محمد أركون: نافذة على الإسلام، ص78.

[10] Gearges Balandier : Le pouvoir sur scenes, editions Balland, paris, 1982, p17.

[11] محمد أركون: نافذة على الإسلام، ص41.

[12] المصدر نفسه، ص243.

[13] نفسه، ص82.

[14] هاشم صالح: هل يؤدي المقدس إلى العنف بشكل حتمي؟ يتفكرون، العدد الخامس، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، خريف2015، الرباط، ص66.

[15] محمد أركون: نافذة على الإسلام، مصدر سابق، ص247.

[16] جاك دريدا-جياني فاطيمو: الدين في عالمنا، ت: محمد الهلالي-حسن العمراني (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 2003)، ص11.

[17] Mohammed ARKOUN , Maurice BORRMANS, Mario AROSO : L’Islam religion et société, France, ed : CERF.1982, p39.

[18] Mohammed ARKOUN, Maurice BORRMANS, Mario AROSO : l’Islam religion et société, op cit, p35.

[19] محمد أركون: نحو نقد العقل الإسلامي، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 2009)، ص31.

[20] محمد أركون: التشكيل البشري للإسلام ت: هاشم صالح (بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2013)، المقدمة ص06.

[21] Mohammed Arkoun : Essais sur la pensée Islamique, paris, Ed : Maisonneuve et la rose, 1977, p09.

[22] محمد أركون: نحو تقييم واستلهام جديدين للفكر الإسلامي، (الفكر العربي المعاصر، العدد 29، بيروت: مركز الإنماء القومي، ديسمبر 1983-جانفي1984) ص39. وهذه الورقة مهمة جدا، إذ يمكن اعتبارها خارطة طريق لإعادة بعث الفكر العربي الإسلامي ودمجه ضمن أفق الحداثة، وبالنظر لأهميتها فسنعود إليها ضمن هذا البحث بصورة متكررة.

[23] محمد المزوغي: العقل بين التاريخ والوحي (كولونيا-بغداد: منشورات الجمل، ط1، 2007)، ص17.

* محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ت: هاشم صالح (بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1986)، ص ص 51-63.

[24] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط2، 2001)، ص178.

[25] إدريس هاني: خرائط إيديولوجية ممزقة (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، ط1، 2006)، ص216.

[26] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص61.

[27] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص275.

[28] المصدر نفسه، ص54 قارن مع: Roger Bastide : op cit, p :07

[29] مختار الفجاري: نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2005) ص21.

[30] Roger Bastide : op cit, p :236.

[31] محمد أركون: التأمل الإبستمولوجي غائب عند العرب-حوار- (مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 20/21/22، بيروت: مركز الإنماء القومي 1982) ص81.

[32] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[33] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص57.

[34] الزاوي بغورة: ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2001)،ص68.

[35] محمد أركون: التأمل الإبستمولوجي غائب عند العرب، مصدر سابق، ص81.

[36] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص58.

[37] Roger Bastide : op cit, p :15.

[38] نصر حامد أبو زيد: الخطاب والتأويل،(بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2000)، ص109.

[39] المرجع نفسه، ص110.

[40] محمد أركون: نحو تقييم واستلهام جديدين للفكر الإسلامي، مصدر سابق، ص41.

[41] عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة (الأردن: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2004)، ص34.

[42] محمد أركون: التراث والموقف النقدي التساؤلي-حوار- (مجلة مواقف: العدد40، بيروت، 1981)، ص55.

[43] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص196.

[44] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص261.

[45] عبد الله إبراهيم: مرجع سابق، ص94.

[46] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص200.

* خالد كبير علال: الأخطاء التاريخية والمنهجية عند محمد أركون ومحمد عابد الجابري (الجزائر: دار المحتسب، ط1، 2008)

[47] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص174.

[48] عبد الله إبراهيم: مرجع سابق، ص136.

[49] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص55.

[50] هاشم صالح: الانسداد التاريخي (بيروت: رابطة العقلانيين العرب-دار الساقي، ط1، 2007) ص24.

[51] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص260.

[52] هاشم صالح: الانسداد التاريخي، مرجع سابق،ص18.

[53] محمد عابد الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006)، ج1، ص23.

[54] المرجع نفسه، ص ص 212-213.

[55] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص59.

[56] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص06، نفس الفكرة يكررها في ص14.

[57] المصدر نفسه، ص126.

[58] عبد الله إبراهيم: مرجع سابق، ص16.

[59] هاشم صالح: الانسداد التاريخي، مرجع سابق، ص49.

[60] هاشم صالح: مخاضات الحداثة التنويرية (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2008)، ص23.

[61] صالح هاشم: الانسداد التاريخي، مرجع سابق، ص50.

[62] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص10.

[63] المصدر نفسه، ص36.

[64] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص36.

[65] المصدر نفسه، ص57.

[66] محمد أركون: تعقيب على بحث أنطوان فرغوث: الدين والعلمنة في أوروبا (العلاقات بين الحضارتين العربية والأوروبية، وقائع ندوة همبورغ، تونس: الدار التونسية للنشر، 1985)، ص222.

[67] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص ص 200-201.

[68] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، مصدر سابق، ص87.

[69] مختار الفجاري: نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2005)، ص06.

[70] رمضان بن رمضان: محمد أركون من مفهوم “أهل الكتاب” إلى مفهوم “مجتمعات الكتاب” (كتابات معاصرة، العدد29، المجلد الثامن، بيروت: الشركة العربية للتوزيع، 1997)، ص121.

[71] طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث (بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 2005)، ص19.

[72]  Mohammed Arkoun : Essais sur la pensée Islamique, op cit, p12.

[73] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص59.

[74] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ت: هاشم صالح(الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، ط1، 1993)، ص16.

[75] محمد أركون-جوزيف مايلا: من منهاتن إلى بغداد، ت: عقيل الشيخ حسين(بيروت: دار الساقي، ط1، 2008)، ص202.

[76] المصدر نفسه، ص97، لابد من الإشارة بأن كلمة-مخرف- التي وظفها المترجم ليست مناسبة للمعنى والأنسب هو كلمة: مؤسطر.

[77] عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2000)، ص05.

[78] Mohammed Arkoun : Essais sur la pensée Islamique : op cit. p11.

[79] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص14.

[80] رون هاليبر: العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب، ت: جمال شحيد (دمشق: دار الأهالي، ط1، 2001)، ص215.

[81] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص12.

[82] محمد أركون: نحو تقييم واستلهام جديدين للفكر الإسلامي، مصدر سابق، ص ص 39-40.

[83] نصر حامد أبو زيد: النص السلطة الحقيقة (بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 1997)، ص16، من المفيد الإشارة إلى أن كلمة تراث وردت مرة واحدة في القرآن الكريم (سورة الفجر الآية 19) بمعنى الميراث المادي.

[84] ابن منظور: لسان العرب، إعداد وتصنيف: يوسف الخياط (بيروت: دار لسان العرب، دت)، مج2، ص222.

[85] محمد أركون: الإسلام والحداثة، ت: هاشم صالح (مجلة التبيين، العدد 2-3، الجزائر: الجمعية الثقافية الجاحظية، 1990)، ص213.

[86] جورج بالانديه: السلطة والحداثة، ت: هاشم صالح (الفكر العربي المعاصر، العدد41، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1984)، ص22.

[87] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص104، نفس الفكرة نجدها لدى جورج بالانديه، للمقارنة انظر:

George Balandier Anthropologie politique, paris, Quardige-Puf 5eme éd, p191.

[88] محمد أركون: الإسلام الأخلاق والسياسية، ت: هاشم صالح (بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1990)،ص116.

[89] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، مصدر سابق، ص24.

[90] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مصدر سابق، ص104.

[91] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، مصدر سابق، ص30، نفس الفكرة نجدها لدى جورج بالانديه انظر:

George Balandier Anthropologie politique, op cit, p205.

[92] داريوش شايغان: النفس المبتورة، (لندن: دار الساقي، ط1، 1991)، ص94.

[93] نصر حامد أبو زيد: الخطاب والتأويل، مرجع سابق، ص112.

[94] جورج طرابيشي: من النهضة إلى الردة (بيروت: دار الساقي، ط1، 1991)، ص144.

[95] محمد أركون: الإسلام التاريخية والتقدم (مواقف، العدد40، بيروت: 1981)، ص10.

[96] محمد أركون: الإسلام والحداثة، مصدر سابق، ص ص 213-214.

[97] إدريس هاني: مرجع سابق، ص212.

* أقر أركون بهذه الاستعارة في مواطن عديدة منها مثلا ما أورده في حواره مع رون هاليبر المنشور في كتاب هذا الأخير المذكور سابقا، ص14.

[98] محمد أركون: تعقيب على بحث أنطوان فرغوث، الدين والعلمانية في أوروبا، مصدر سابق، ص218.

[99] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص57.

[100] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، مصدر سابق، ص231.

[101] المصدر نفسه، ص230.

*Roger Bastide : Anthropologie Appliquée, paris. Stock, 1998.

[102] محمد أركون: الفكر العربي، ت: عادل العوا (الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، ط1، 1982)، ص18.

[103] إدريس هاني: مرجع سابق، ص ص 212-213.

[104] محمد أركون: العلمنة والدين، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1996)، ص64.

[105] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مصدر سابق، ص247.

[106] المصدر نفسه، ص248.

[107] نفسه، ص  249.

* الزاوي بغورة: ميشال فوكو في الفكر العربي المعاصر، الفصل الثالث.

** مختار الفجاري: مرجع سابق، انظر: ذيل خاص بمصطلحية أركون، ص ص 173-177.

[108] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مصدر سابق، ص223.

[109] محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1997) ص43.

[110] رون هاليبر: مرجع سابق، ص267.

* عنون أركون هذا البحث بـ: نحو توحيد الوعي العربي الإسلامي، وفيه يحاول إثبات أنه ورغم الاختلافات الموجودة بين الفرق والمذاهب الإسلامية –من خلال النموذجين الذين درسهما في هذا البحث: الشيعة والسنة- فإن إمكانية توحيدها قائمة من منطلق الاتفاق في طريقة التفكير والاستدلال والبرهنة، انظر: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، الفصل الرابع، ص143 وما يليها إلى 164.

[111] محمد أركون:نزعة الأنسنة في الفكر العربي، مصدر سابق، ص ص 43-45.

[112] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، مصدر سابق، ص24.

[113] محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1995)، ص03.

[114] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص39.

[115] محمد أركون: الإسلام والحداثة، مصدر سابق، ص201.

[116] المصدر نفسه، ص202.

[117] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص117-118.

[118] محمد أركون: الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص39.

[119] محمد أركون-جوزيف مايلا: من منهاتن إلى بغداد، مصدر سابق، ص123.

[120] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص39.

[121] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الطليعة، ط1، 1998)، ص281.

[122] المصدر نفسه، ص 281.

[123] داريوش شايغان: ما الثورة الدينية؟ ت: محمد الرحموني (بيروت-جنيف:دار الساقي-المؤسسة العربية للتحديث الفكري، ط1، 2004)، ص29.

[124] محمد أركون: الإسلام والحداثة، مصدر سابق، ص205 نفس الفكرة نجدها في: محمد أركون نحو تقييم واستلهام جديدين للفكر الإسلامي، مصدر سابق، ص42.

[125] برهان غليون: اغتيال العقل (بيروت: دار التنوير، ط2، 1987)، ص44.

[126] المرجع نفسه، ص352.

[127] محمد أركون: الإسلام والحداثة، ص223.

[128] المصدر نفسه، ص221.

[129] محمد أركون: العقل الاستطلاعي المنبثق وأنواع الحداثات في السياقات العربية الإسلامية، (مجلة العالم العربي في البحث العلمي، العدد10-11، منشورات معهد العالم العربي-باريس، 199)، ص10.

[130] عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي (بيروت: دار الحقيقة، ط3، 1980)، ص20.

[131]محمد أركون: تعقيب على بحث أنطوان فرغوث، الدين والعلمنة في أوروبا، مصدر سابق، ص226.

[132] محمد أركون: الإسلام والحداثة، مصدر سابق، ص221.

[133] المصدر نفسه، ص222.

[134] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[135] قاسم شعيب: تحرير العقل الإسلامي (بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2007)، ص97.

[136] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص331.

[137] قاسم شعيب: مرجع سابق، ص ص 29-30.

[138] محمد أركون : أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ مصدر سابق، ص ص XII-XIII

[139] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مصدر سابق، ص238.

[140] محمد أركون: نحو تقييم واستلهام جديدين للفكر الإسلامي، مصدر سابق، ص43.

[141] مختار الفجاري: مرجع سابق، ص70.

[142] محمد أركون: من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، (بيروت: دار الساقي، ط1، 1993)، ص15.

[143] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مصدر سابق، ص ص 236-237.

[144] Roger Bastide : op cit , p210.

[145] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص96.

[146] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص116.

[147] عبد الله العروي: مرجع سابق، ص37.

[148] محمد أركون: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص124.

[149] محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1999)، ص12.

[150] داريوش شايغان: النفس المبتورة، مرجع سابق، ص147.

[151] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، مصدر سابق، ص63.

[152] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص67.

[153] محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مصدر سابق، ص07.

[154] نقلا عن: محمد بن إدريس الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر (بيروت: المكتبة العلمية-د ط-)، المقدمة، ص13.

[155] محمد أركون: نحو تقييم واستلهام جديدين للفكر الإسلامي، مصدر سابق، ص 43.

[156] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص79.

[157] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص44.

[158] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص79.

[159] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مصدر سابق، ص232.

[160] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، مصدر سابق، ص ص 5-6.

[161] محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، مصدر سابق، ص318.

[162] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص44.

[163] مختار الفجاري: مرجع سابق، ص ص 5-6.

[164] محمد أركون: الإسلام والحداثة، مصدر سابق، ص208.

[165] المصدر نفسه، ص226.

[166] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص174.

[167] إدوارد سعيد: الأنسنية والنقد الديمقراطي، ت: فواز طرابلسي (بيروت: دار الآداب، ط1، 2005)، ص46.

[168] محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مصدر سابق، ص14.

[169] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص161.

[170] محمد أركون: الإسلام أوروبا الغرب، مصدر سابق، ص34.

[171] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص20.

[172] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص31.

[173] محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، مصدر سابق، ص46.

[174] هاشم صالح: هل يؤدي المقدس إلى العنف بشكل حتمي؟ مرجع سابق، ص69.

[175] رون هاليبر: مرجع سابق، ص13.

[176] محمد أركون: نافذة على الإسلام، مصدر سابق، ص12.

[177] أمارتيا صن: الهوية والعنف، مرجع سابق، ص29.

[178] Mohammed ARKOUN : L’Islam religion et société, op cit, p :63.

[179] محمد أركون: نافذة على الإسلام، ص24.

[180] محمد أركون: نحو نقد العقل الإسلامي، مصدر سابق، ص22.

[181] رون هاليبر: مرجع سابق، ص207.

[182] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص180.

[183] رون هاليبر: مرجع سابق، ص32.

[184] المرجع نفسه، ص19.

[185]  François Strin : Comprendre la pensée contemporaine, (paris : ed, les quatre chemins 2005).p44.

[186] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص160.

[187] المصدر نفسه، ص160.

[188] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص169.

* يورغين هابرماس: الحداثة مشروع ناقص، ت: بسام بركة (الفكر العربي المعاصر، العدد29، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1984).

[189] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص308.

[190] محمد أركون: أي فكر عربي حديث نريد؟ ضمن: نصر حامد أبو زيد (وآخ): الحداثة والحداثة العربية (دمشق: دار بترا-المؤسسة العربية للتحديث الفكري، ط1، 2005)، ص13.

[191] رون هاليبر: مرجع سابق، ص214.

[192] محمد أركون: العقل الاستطلاعي المنبثق وأنواع الحداثات في السياقات العربية الإسلامية، مصدر سابق، ص104.

[193] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص308.

[194] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص200.

[195] محمد أركون : أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ مصدر سابق، ص43.

[196] محمد المزوغي: مرجع سابق، ص57.

[197]محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مصدر سابق، ص254.

[198] المصدر نفسه، ص254.

[199] رون هاليبر: المرجع السابق، ص231.

[200] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص ص 33-34.

[201] المصدر نفسه، ص193.

[202] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص323.

[203] المصدر نفسه، ص321.

[204] المصدر نفسه، ص331.

[205] محمد أركون: محمد أركون-وآخ-: المجتمع المدني في العالم الإسلامي، تر: سيف الدين القصير (بيروت: دار الساقي –معهد الدراسات الإسماعيلية، ط1، 2007)، ص66.

[206] عبد الغفار شكر –محمد مورو: المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية (بيروت- دمشق: دار الفكر المعاصر- دار الفكر، ط1، 2003)، ص22.

[207] قاسم شعيب: مرجع سابق، ص81.

[208] محمد أركون: العلمنة والدين، مصدر سابق، ص22.

[209] محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مصدر سابق، ص47.

[210] محمد أركون-وآخ-: المجتمع المدني في العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص64.

[211] محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، مصدر سابق، ص180.

[212] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، مصدر سابق، ص18.

[213] محمد حمزة: إسلام المجددين (بيروت: دار الطليعة- رابطة العقلانيين العرب، ط1، 2007)، ص108.

[214] قاسم شعيب: مرجع سابق، ص74.

[215] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص279.

* المصدر نفسه، الفصل السابع.

** محمد أركون: العلمنة والدين، مصدر سابق.

[216] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص275-276.

[217] محمد أركون: الإسلام، التاريخية والتقدم، مصدر سابق، ص12.

[218] رون هاليبر: مرجع سابق، ص ص 17-18.

[219] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص280.

[220] المصدر السابق، ص283.

[221] لوك باربولسكو –فليب كاردينان: رأيهم في الإسلام، حوار مع أربعة وعشرين أديبا عربيا، ت: ابن منصور العبد الله (بيروت: دار الساقي، ط2، 1990)، ص151.

[222] عبد المجيد الشرقي: مرجع سابق، ص104.

[223] رون هاليبر: مرجع سابق، ص193.

[224] Mohammed Arkoun : Essais sur la pensée islamique, op cit, pp311-312.

[225] Mohammed Arkoun : Essais sur la pensée islamique, op cit, p311.

[226] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص285.

[227] المصدر نفسه، ص176.

[228] George Balandier : Anthropologie politique, op cit, p :141.

[229] محمد أركون: العلمنة والدين، مصدر سابق، ص64.

[230] Roger Bastide : op cit. p23.

[231]Ibid, p230.

[232] محمد أركون: أنثروبولوجيا وذاكرة جماعية –حوار- (كتابات معاصرة، العدد47، المجلد 12-بيروت: 2002)، ص125.

[233] محمد أركون: كيف ندرس الإسلام اليوم؟(قضايا إسلامية معاصرة، العدد26، بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، 2004)، ص193.

[234] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي: مصدر سابق، ص ص 292-293.

[235] محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص294.

[236] عياض بن عاشور: الضمير والتشريع، العقلية المدنية والحقوق الحديثة (بيروت-الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998)، ص214.

[237] محمد سبيلا: الحداثة وما بعد الحداثة، الدار البيضاء: دار توبقال، ط1، 2000، ص64.

[238] عبد الغفار شكر –محمد مورو: مرجع سابق، ص14.

[239] هيغل: مبادئ فلسفة الحق، ت: تيسير شيخ الأرض (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، ط1، 1974)، ص225.

[240] أبو بلال عبد الله الحامد: ثلاثية المجتمع المدني (بيروت: الدار العربية للعلوم، ط1، 2004)، ص ص 16-17.

[241] أبو بلال عبد الله الحامد: مرجع سابق، ص18.

[242] عزمي بشاره: المجتمع الدني دراسة نقدية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1998)، ص29.

[243] محمد كامل الخطيب: المجتمع المدني والعلمنة (دمشق: دار الينابيع، ط1، 1992)، ص33.

[244] محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ص32.

[245] محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص212.

[246] محمد كامل الخطيب: مرجع سابق، ص31.

[247] محمد أركون –وآخ-: المجتمع المدني في العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص ص 72-73.

[248] محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص158.

[249] محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مصدر سابق، ص212.

[250] محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مصدر سابق، ص84.

[251] محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، مصدر سابق، ص29.

[252] محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مصدر سابق، ص14.

[253] إدوارد سعيد: الأنسنة والنقد الديمقراطي، مرجع سابق، ص48.

[254] Fouad Zakariya : les arabes à l’heure du choix tr : Richard Jaquemond, Alger, El Maarifa, 2001, p94.

[255] محمد أركون: العلمنة والدين، مصدر سابق، ص97.

[256] ألان تورين: نقد الحداثة، ت: أنور مغيت (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 1997)، ص423.

[257] فتحي التريكي –رشيدة التريكي: فلسفة الحداثة (بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1992)، ص72.

[258] محمد أركون: نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 2011)، ص320.

[259] المصدر نفسه، ص321.

[260] المصدر نفسه، ص338.

[261] نفسه، الصفحة نفسها.

[262] نفسه، ص337.

[263] نفسه، ص423.

[264] محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ت: هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1999)، ص217.

[265] محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية (بيروت: دار الساقي، ط1، 2001)، ص14.

[266] محمد أركون:نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ص306.

[267] محمد أركون: نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، مقدمة المترجم، ص69.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete