الإنسان والتناصات اللانهائية: الغذاء المُحرَّم

تكوين

أحد إشكالات إنسان العصور الحديثة أنه يقتات على جثث الأموات، سواءً أكانَ هذا الاقتيات عقلياً أو جسدياً؛ ففي الأخير، الإنسان الحديث حصيلة جثث لا نهائية! وإذا كان لهذا الإنسان أنْ ينظر بعجرفةٍ وامتعاضٍ إلى الإنسان البدائي، لناحية أنَّهُ إنسان متوحش وبربري وغير متطوِّر، فللإنسان البدائي أن ينظر بازدراء إلى إنسان العصور الحديثة، لناحية أنَّهُ إنسان غير أصيل، غير طاهر[1]، فهو مثل القرَّادة يقتات على دم الآخرين، حتى وإن اقتحم الفضاء الخارجي وبلغ مبلغاً عظيماً من العلم والمعرفة. إلا أنَّ نقطة مضيئة في نهاية النفق هي التي تفتح أفقاً لوجود مَخْرَج مُرضٍ للجميع، يتجاوز هذا المتن الجُثّثي، فالفردانية المفارقة التي تتمتع بها الذات –لحظة الإبداع- هي لحظة انفصالية عن هذه سلسلة التراكمات المُتصلة. وهذا ما سأعمل على توضيحه تباعاً.

 

أشكال التناص

نظرياً، يبدو إنسان العصور الحديثة كما لو كان إنساناً نقياً، نظيفاً، طاهراً، غير مُلوَّث، لا سيما مع وجود جُملة من الامتيازات المعيشية التي امتاز بها هذا الإنسان، سواء على مستوى الحياة الواقعية؛ من لباس أنيق وحلويات فاخرة ولذيذة ومأكولات جديدة وسيارات فارهة…الخ أو على مستوى الحياة الافتراضية؛ من هواتف ذكية وألعاب إلكترونية وأجهزة حاسوب متنقلة…الخ.

عملياً، لا يعدو إنسان العصور الحديثة أن يكون جُثَّة حيَّةً، فلقد امتلأ كوكبنا الأرضي بعِظام الميتين، والتراب الذي نزرعه بمختلف أنواع الثمار، لكي نأكل ونبقى –من ثمَّ- على قيد الحية، مُكوّن من جُثث مُتحلّلة! ولربما كان مِن المُجدي لإنسان العصور القادمة (من أجل الخلاص من حالته الجثمانية) أن يبحث عن خياراتٍ أخرى بعيداً عن هذا الكوكب المُفْلِس. فالجسد هو تجلّ جسماني لحصيلة هائلة من جثث الأموات، فمؤكّد أن ثمرات الطماطم التي نأكلها الآن هي عظام مطحونة، مُتآكلة، مُتحلّلة لميتٍ قديم. وتلك الوقاحة الفجّة، على المستوى الظاهري، التي تنتاب إنسان العصور الحديثة، بإزاء فائقيته وتجاوزه للإنسان البدائي، يُرافقها شعور مُضمَر بأصالةٍ زائفة، على المستوى الباطني. فحتى تلك الثياب الأنيقة هي بمثابة غطاءٍ لعدم طهارته!

السؤال المزدوج الذي يُؤرّقني ضمن هذا السياق هو، أولاً: أين ذهبت جثث من ماتوا، وثانياً: عن أية طهارة يمكننا التحدّث بعد الآن؟

لدينا في البلد عدَّة مقابر. قبر جدّي لأمي الذي مات قبل 70 عاماً ما عاد قبراً معروفاً، حتى أنَّ والدتي لا تتذكر أين دفن جدّي على وجه التحديد، لأن معالم المقبرة القديمة حالت إلى أرض مزروعة بأشجار الزيتون. وقبر جدّي لأبي الذي مات في العام 1973 موجود في مقبرة نصفها حال، بعد أن طُمرت القبور وتهدمت بفعل الطبيعة أو بفعل الإنسان، إلى شارع أسفلتي يشقّ وسط البلدة.

هذا ضمن الأفق المنظور، في المدى البعيد لقد عادت الجثث الآدمية سيرتها الأولى، وصارت جزءاً لا يتجزأ من التُراب، لكن المفارقة هي في مُخرجات هذا التراب. فما بين اتصال عن هذا التراب وانفصال عنه، تتخذ حياة الإنسان الحديث طابعاً دنساً، غير طاهر، حتى وإن حرص هذا الإنسان على مستوى رفيع من أناقةٍ مُلفتة، ونظافة مُفرطة. فإذا كانت جثث مَنْ ماتوا قد انجبلت من جديد وتشكلت تراباً جديداً، فهل ثمة لذة من قبل الإنسان في أكل جثّة أشباهه من بني البشر؟

لربما، كان ثمة استنطاق لا واعٍ لوحشيةٍ إنسانية كامنة، فَبَعْدُ لَم يتهذَّب الإنسان، ولم ينتقل إلى مرحلة أكثر تطوّراً تجعل منه إنساناً مُتحضراً بكل ما تحمله وتحتمله الكلمة من آفاق انفصالية عن مرحلة عدم التحضر. فالوحش القابع، المُتواري بين جنبي الكائن الإنساني يتجلّى بأكل لحم أبناء جلدته، ولكن بطرقٍ أنيقة وحديثة، لكي يشعر بتمايزٍ عن الحيوانات المفترسة. لذا، لا مجال للحديث عن طهارة الإنسان، لأنّ لحم جسده هو عبارة عن تكتّلات للحم من سبقوه من بني البشر. هذا من جانب، من جانب آخر، ليس ثمة جسد خالص، بحيث يصير جسداً محضاً غير مُعتَمِد إلا على نفسه؛ فالنص الجسماني هو نص يتقاطع مع نصوص أجساد لا حصر لها: جسد أمّه التي بقي متموضعاً فيه لبضعة شهور، ومن ثمّ خرج من رحمها، وألقمتهُ ثديها..الخ. وجسد والده الذي –بدءاً- كانَ سبباً في وجوده –بالاشتراك مع أمه- إذ لُقحّت البويضة بحيوانٍ منوي، تخلَّق عبر مراحل شتى حتى حال إلى تكتّل جسماني مُكتمل، ومن ثمّ بعلاقة تلامسية فيها ما فيها من الدِعة واللعب والأريحية. وجسد زوجته والعلاقة الجنسية بينهما، وعلاقته بأجساد أناس لا حصر لهم ساهموا بطريقةٍ أو بأخرى، في نماء هذا الجسد أو تآكله أو تهدّمه أو مرضه أو شفائه..الخ. فالسلسلة التفاعلية بين الأجساد وسيرورتها اللانهائية، هي سلسلة مُتنامية تباعاً بين أجساد مُتفاعلة ولا يمكنها –بحالٍ من الأحوال- الانعزال والتشكّل بعيداً عن الأجساد الأخرى، بل هي مقدمة ونتاج هذا التلاقح الجسدي الدائم والمستمر.

إلا أنَّ هذه التناصات بأجسادٍ لا حصر لها، لا تمنع صاحب الجسد من أن يعتبر جسده نوعاً من الهُويَّة أو الكينونة الخاصة. فالجسد الذي يحمله ويحتملُ عليه هو جسده لا جسد غيره، ولا يحقّ لأحدٍّ –أياً كان- أن يمسّ هذا الجسد بغير ما يريد، فهو جزء غير منفصل عن سياقات الوعي الإنساني بالوجود الذاتي. فالفردانية –وإنْ كانت مقولة عقلية بالأساس- إلا أنها لا تستطيع أن تتأكّد ضمن سياق فاعلي وتفاعلي مع الاجتماع الإنساني إلا بالجسد، ليس لناحية أنه جزء من تشكّل بشري عارم، بل بصفته جزءاً من البناء الفرداني للذات الإنسانية. فتلك العمومية الجسمانية البشرية التي جعلت من الجسد جزءاً من كُلٍّ هائل، لا تمنع من تحقّق الفردانية لهذا الجسد، فهو جسد مختلف عن الأجساد الأخرى، لأنّه منطبع بطباع صاحبه وتكويناته البيولوجية والمعرفية والاجتماعية والسياسية…إلخ.

إقرأ أيضاً: إحتضار الذات الانسانية في واقع العبثية

وعليه، فالجسد ملك خاص لصاحبه ساعة يُحدث قطيعة مع الأجساد الأخرى، ويحاول أن يتميز –عبر هذا الجسد- باجتراح مأثرة شخصية تميّزه عن غيره، فالباب (على سبل المثال) الذي يصنعه النجَّار هو باب ولا كل الأبواب، فالعملية التي تدفقت صناعةً لهذا الباب هي عملية ذاتية بامتياز، حتى وإن تشاركت ذوات أخرى في بلورة جزء من سياقاتها، فالتجلِّي الأخير للباب هو تجلٍّ ذاتوي بامتياز، فالجسد الذي ساهم في التشكيل الأخير للباب هو جسد نجَّار بعينه لا أحد سواه، لذا يميل المرء إلى اعتبار مثل هذه المنجزات بمثابة شفرة ذاتية للولوج إلى الذات وفكّ رموزها.

ولربما كانت مقولة (حفظ الجسد) من المقولات العبقرية في التاريخ البشري، لانطوائها على حسٍّ إنساني عالٍ و دفقة هائلة في مسلكيات الوعي البشري، على أساس أنَّ هذا الجسد هو أحد المعاقل الكبرى للذات الإنسانية.

من هنا أمكنني القول: ثمة لحظة هي مناط فردانية خالصة بالنسبة للجسد، أي جسد، تجعل منه مُفارقاً لكلّ الأجساد المُشابهة، فالاشتراك المبدئي في التفاعل الوجودي مع أجساد لا حصر لها، لا يمكن أن يقف عائقاً في وجه فردانية الجسد وأحاديته وتمايزيته عن بقية الأجساد الأخرى، والتي تتجلَّى أكثر ما تتجلّى لحظة التواصل الجنسي ونتاجات ذلك التواصل. فلحظة الاتصال الجنسي هي لحظة انفصال أصغر عن الكل، إلا عن الشريك، وما ينتج عن هذه اللحظة من حمل وولادة هو نِتاج خاص، أي انفصال أكبر عن بقية الأجساد الأخرى. فالمولود الجديد، إن كانت الغاية من الاتصال الجنسي هي الإنجاب، هو تأريخ لانفصال الجسد عن تناصاته السابقة، أو النص الذي يُبدعه الإنسان، حتى وإن تأثَّر سابقاً بأجساد من سبقوه.

 

التناصات العقلية

السؤال المبدئي الذي انطلقُ منه هاهنا يتمركز حول الإمكان المعرفي الإنساني، والقدرة بالتالي على إعادة تأويل العالَم، وإنتاجه، من ثمَّ، كمرحلةٍ لاحقة؟

لاحقاً لهذا السؤال، ثمة سؤال آخر حول طهارة العقل البشري ووجوده، وإمكان تحقِّقه في العالَم، بعيداً عن عقول الآخرين؟

في السياق المعرفي الإنساني ثمة بناء تراكمي، عمره آلاف مؤلفة من السنين، لا يفتأ يتوالد ويتناسل تباعاً، تمنع عن العقل وجوده بعيداً عن التأثِّر والتأثير في هذا المعمار العريق. فهو، أي العقل، تجلٍّ لعددٍ لا نهائي من العقول، والمعرفة المتراكمة في عقلِ ذاتٍ إنسانيةٍ هي حصيلة نتاجات لعقول أخرى ضرورةً. ويبدو –كما هو واضح- أن لا فرق بين موضوع التناصات الجسدية والتناصات العقلية. فالعقل، كما الجسد أيضاً، حصيلة تناصات لا نهائية في نهاية المطاف.

إنَّ الحضور الأفقي للعملية الحضارية وشرطها المعرفي، حضور تداركي، تتابعي، تراكمي، انبنائي، وكلّ ذات وجدت أو موجودة أو ستوجد في هذا العالَم، ستساهم بطريقةٍ أو بأخرى في هذه العملية الملحمية، بصرف النظر عن مدى تأريخ هذا الإسهام أو عدم تأريخه، وبالتالي تشكيل تجمّع لهذه الإسهامات في مصبّ واحد، هو المصبّ الحضاري. فالمعرفة ليست نتاجاً ذاتياً خالصاً، بل هي حصيلة تفاعلات بين ذوات عديدة، لذا ثمة تقاطع واتصال بين هذه الذوات أثناء مرحلة التشكّلات والانبناءات والتداخلات، لكن ثمة انفصال في مرحلة المُخرجات. وهنا يمكن مقاربة الإبداع الفردي والذاتي، لناحية قدرته على إحداث جديد في بنية النسق الحضاري، فالبصمة الفردية تَظهر في التجلّي البَعْدي للذات. وهذا شيء ينطبق كثيراً على ما أصطلح على تسميته بـِ (التناص)؛ تحديداً في الحقل الأدبي[2]، ففي نهاية المطاف لا يمكن لأي كاتب في الوجود –مهما بلغ من العلم والمعرفة- أن ينفصل انفصالاً كلياً عن نصوص مَنْ سبقوه، بل لا بُدَّ له –لكي يكون جزءاً من الإرث البشري العظيم- أن يتأثّر بالمُتراكِم في الذهن البشري من نصوص ومعارف، فهو مُتصل بهذا الإرث وناهل من معينه وعابٌّ من عذب مائه. لكنه منفصل عنه لحظة الإبداع؛ لحظة التنوّر الكبير. لذا يتم وسم اللحظة الإبداعية بوسامٍ ذاتي، وذلك من خلال إلحاق تلك اللحظة بصاحبها أبد الدهر، إذ يتم التأشير –دائماً أبداً- على أن النص الفلاني هو لفلان ابن فلان، وليس لغيره من بني البشر. فالمُنْتَج البَعْدي (بعد عمليات البناء المعرفي التي دامت سنوات عديدة، والتقى فيها الكاتب شاء أم أبى مع ذوات معرفية أخرى) هو منتج ذاتوي وخاص بكاتبه حصراً، على عكس المُدخلات (مُدخلات عقله) فهي مشتركات بين ذوات كثيرة ومُـجاوزة للزمن. فالعقل قد يتأثر –وعى ذلك أم لم يعي- بمعلومة قالها “كونفوشيوس” قبل آلاف السنين، كما يتأثر بمعلومة قالها أحد أبطال رواية (الشطَّار) للروائي “محمد شكري”، وقد تظهر تَبِعات ذلك في المتن النصي البَعْدي، إلا أنّ التكتّل الكُلِّي للنص هو نِتاج فردي، لا نتاج جمعي. ولا يمكن –بحالٍ من الأحوال- نسبة نصّ إلى آخر غير مؤلفه، إلا إذا تمَّت سرقته، ونسب الجهد إلى غير أهله.

إذاً، والحال هكذا، ليست ثمة طهارة؛ لا طهارة جسدية ولا طهارة عقلية، فوجود الإنسان ضمن شرطه البشري هو وجود دَنِس، آثم، غير طاهر، لكن عبقريته هي في دنسه وعدم طهارته. أي أن انفصال الإنسان عن سياقه الجسدي، لن يكون بمجرد إنجابه أو خلقه لمولود جديد، بل في رعايته وتربيته كأبدع ما يكون، بحيث يكون انفصاله الجسدي لحظة إبداعية كبيرة. كذلك الأمر مع انفصاله العقلي، لن يكون بمجرد إبداعه نصاً أو لوحة أو فيلماً أو قطعة موسيقية…إلخ، بل في إبداع هذا الانفصال كأبدع ما يكون، فحجم المنافسة سيكون شرساً وقوياً كلما تقدمنا ناحية الأمام، وتعمّق عدم طهارتنا على المستويين الجسدي والعقلي.

 

[1] يقينا، ليس النقاء الأخلاقي في هذا المقام، بل النقاء الوجودي.

[2] ينطبق هذا على جميع أنواع الكتابات التي مرَّت على الجنس البشري، سواء كانت فلسفية أم أدبية أم نقدية أم دينية أم سياسية…إلخ.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete