الإنسان والعنف المقدس: موجز للأشكال الأولى من التعصب

تكوين

في البدء كان العنف…

الإنسان كائن معقد ومركب، ومنذ لحظة وعيه الأولى كان العنف، ربما هي طبيعة الحياة وقساوتها من فرضت عليه أن يبدو عنيفا في علاقاته مع الذات ومع المحيط. وربما لأن وجوده ضمن الجماعة الإنسانية الكبيرة فرضت أيضا إيقاعها العنيف على تركيبته المعقدة فزادت من عنفها. هذا الجانب المحوري في تركيبة الإنسان لا يعني أنه لم يخضع عبر صيرورة تاريخية لعمليات تدجين هذبت من أخلاقه وغرائزه، وجعلته أكثر تحضرا وتمدنا من كل أشكال عائلته القريبة من الثديات. فالثقافة عملت عملها فيه، واحتكاكه بالطبيعة شكل معالم كائن مختلف، وتداخل علاقاته وتعقدها طورت من البنية العقلية والفكرية له، مما جعله يفكر خارج أطروحة الغريزة والفطرة التي تتنازعه بين الفينة والأخرى. هنا لا بد أن نقرأ العنف قراءة نستوعب فيها تاريخ الإنسان بعيدا عن المقاربات التي ترغب أن تضع الإنسان في صلب الكون، وليس جزءا منه، أو طرفا فيه. هذه المقاربات يمكن أن نقول عنها مقاربات طوباوية، وتفتقر إلى الحد الأدنى من الواقعية. وإذا كان العنف هو واقع الحال، وربما هو الحالة الأكثر أصالة في الإنسان لولا حدود الثقافة والفكر والتمدن، فإن هذا يجعلنا نضع صلب أعيننا ما يسمى بالعنف المقدس، ذلك العنف الذي ينطلق من قاعدة دينية أو فكرية أو إيديولوجية، ويصير هو المنطلق والدافع للتأسيس للعنف، والدعوة إليه خارج حدود الأعراف، والقوانين المتعارف عليها، والمشترك الإنساني.

لقد قضت الإنسانية مدة طويلة انصهرت فيها كل الطاقة العنيفة للكائن الإنساني بفعل الثقافة والفكر والحضارة، غير أن هذه المسيرة كانت تتخللها دائما هذا الحنين، وهذه العودة الأبدية للجذور الأولى التي يعري فيها الإنسان عن وجوده العنيف، خاصة إذا طبع العنف وأحاطه بهالة قدسية، وأصبح يتحرك ضمن دائرة المقدس، والمطلق، والإلهي. هذا هو الوهم والخطر في حد ذاته الذي استعملته وما زالت كل الأصوليات بما في ذلك الأصولية الإسلامية، التي اعتبرت بأن العنف قد يأخذ أبعادا مقدسة إذا كانت غايته التوسع الدعوي، ونشر الإسلام، وربما فرض الدين على الأفراد والجماعات دون مراعاة لقاعدة لا إكراه في الدين، وأن الدين ينبع من الذات وليس من الآخر، وأن ما يولده العنف ليس سوى النفاق الاجتماعي، والخوف والمواربة والتخفي. وهذا ما يأباه الدين نفسه، وتمنعه المواثيق الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكل المكتسبات الإنسانية التي شاركت فيها الأمم والجماعات البشرية، والحضارات المختلفة منذ الوجود الأول للكائن الإنساني على هذه الأرض.  لكنه الإنسان بغرابته المعهودة دوما ينزع إلى الوهم، ويهرب من حقيقة ذاته. كأننا نطبق تلك المقولة التي أشار إليها بافيزي[1] وهو ينظر إلينا نظرة يطبعها الإشفاق، لأننا تعلّمنا كيف ننسج من الأوهام أحلاما، وكيف نجعل من الانتظار طريقا للخلاص. الأخطر في كل هذا الواقع هو أنّ في حلمك على حد تعبير بافيزي لستَ أنت المؤلف. لماذا؟. لأنّك لا تعرف حتى كيف سينتهي؟. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الخروج من متاهات الوهم يبدأ منذ اللّحظة التي يتخلَّص فيها العقل الإنساني من الحماسة المفرطة في امتلاك الحقيقة.

  • تقديس الأفكار والأشياء: جدل الإنسان والقداسة

عندما نريد أن نتحدث عن المقدس والدنيوي تحضرنا أطروحة تحدث عنها روجي كايواه في كتابه الإنسان والمقدس وهي أن أي تصور ديني للعالم يفترض التمييز بين مستويين: الأول: هو مجال المقدس وهذا مجال محاط بهالة من التقدير والاحترام والتبجيل. والثاني: هو مجال الدنيوي وهو المساحة التي يتحرك فيها الإنسان بحرية ونشاط، بحيث لا يؤثر ذلك النشاط على خلاصه الأبدي. هذين المجالين هما ما يتحرك فيهما الكائن الإنساني، وبالتالي لابد من أن نؤكد بأن الإنسان المتدين هو من يعتقد قبل كل شيء بوجود وسطين متكاملين: أحدهما: يستطيع أن يتحرك فيه بكل حرية ونشاط. والآخر يضبط فيه كل ميولاته وتصرفاته بتحفظ كبير. هذين العالمين أو المجالين هما المقدس والدنيوي، أو المقدس والمدنس. هنا يمكننا الجزم بأن القاعدة التي يبنى عليها السلوك الديني لا تخرج عن إطار المقدس تحديدا، إذ هو الخاصية النوعية، والإطار الناظم الذي يفرض على المؤمن بفكرة او عقيدة أو تصور شعورا بالاحترام والتقدير والتبجيل من شأنه أن يوفر الحصانة لهذا الايمان ضد كل نقد، أو مساءلة تمس به. وعليه حسب أطروحة روجي كايواه فإن الفكرة الأصلية التي يتأسس عليها الإيمان الديني هي فكره المقدس، وقد انطلق من الفرضيات التي أسس لها هنري هوبر الذي كان يرى أن الأساطير والمعتقدات هي التي تحلل مضمون الدين، والطقوس تستخدم خصائصه، أما الكهنة فوظيفتهم هو التجسيد العملي لهذا الدين أو ذاك في معابدهم وأماكنهم المقدسة.

إذا من خلال كل ما سبق يتبين لنا بوضوح بأن المقدس يغطي الحياة الإنسانية بمختلف مجالاتها وتمظهراتها. ولن نكون مبالغين إذا قلنا بأنه يمثل العلاقة الأولى مع الإنسان والمتمثلة أساسا في المعتقدات الدينية والطقوس العملية فماذا يعني هذا ببساطة؟ يمكننا القول بأن المقدس كما يتجسد في الحياة العملية للإنسان هو خاصية إنسانية بامتياز يضفيها هذا الكائن الغريب على كل الأشياء، سواء كانت أدوات للعبادة، أو كائنات يعتبرها منزهة عن الخطأ، أو أمكنة وأزمنة يصبغ عليها طابع القداسة. وهذا دليل واضح على أن ليس هناك شيء في هذه الحياة لم يضف عليه الإنسان طابع القداسة. ما الذي يجب أن يفهم في هذا السياق؟ أن المقدس ليس صفة تملكها الأشياء في حد ذاتها. بل نحن من نتكفل بأن نعطي لهذا الشيء أو ذاك هذه الصفة أو ننزعها عنه. هذا الأمر عبر عنه رجل هندي بقوله:” كما أن الطائر المحلق يتوقف ليبني عشه، والإنسان السائر يتوقف حيث يطيب له التوقف، كذلك الألوهة جعلت من الشمس مكانا تتوقف فيه، ومن الأشجار والحيوانات أماكن أخرى، ونحن إما نتضرع إلى هذه كلها لأن بلوغنا مكان توقف المقدس يخولنا أن نستمد منه العون والبركة “. إنها علاقة جد معقدة تربط الإنسان بالمقدس وتجعله يمشي على خيط رفيع بين المقدس والمدنس، وتجعل من الدخول في ألفة بينهما تهديدا يجر عليه الوبال. لهذا نجد بأن الإنسان من خلال هذا الاحتماء بالمقدس يخلق له حماية من كل اعتداء دنيوي، لأنه حسب هدا الفهم البشري يفسد هذا التداخل كينونة المقدس، وينزله من المكانة الاعتبارية المحيطة به، وبالتالي يفقد كل معنى أو هالة أو تقدير، وذلك ما يحرص الإنسان على عدم ضياعه أو تدنيسه. وهناك أمثلة كثيرة في تاريخ البشرية تؤكد هذا التمايز الحاصل بين المقدس والدنيوي، والحرص على عدم تداخلهما. ففي أستراليا لا يحق إلا للكاهن الدخول إلى قدس الأقداس، كذلك بالنسبة إلى الماوريين الذين كانوا إذا دخلت إحدى النساء إلى أماكن يجرب فيها تصنيع الزورق المقدس، يعتقدون أنه لن يقوى على خوض الغمار، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.

لقد كان المقدس طيلة المسيرة التي قضاها الكائن الانساني على هذه الأرض، يشكل مصدر كل فاعلية بالنسبة إليه. وإذا ما أردنا أن نفهم العلاقة الجامعة بينهما بشكل أدق، فقد نقول بأن المقدس هو هذا الاحترام الذي يكنه الإنسان لكل الأشياء المحيطة به، ويمتزج فيه الرعب والثقة، والترغيب والترهيب، حتى إنه ظل لمدة طويلة يعتقد بأن ما يصيبه أو يعترضه من كوارث أو مصائب سببه انتهاك هذا المقدس. لهذا ظل يروض نفسه ويكبح عقله من أجل أن يبقى وفيا لهذه القداسة، وهذا الأمر ليس مقتصرا فقط على الديانات التوحيدية التي تعتبر بأن الله أو الإله هو المصدر الأسمى للسراء والضراء. بل أيضا تشترك كل العقائد والتصورات في هذا المقدس التي كانت ترى فيه الحماية والحصانة من كل شر. وهكذا فالدين بأي صيغة أردنا أن نعرِّفه يتضمن قرارا بقوة القداسة التي يتعين على المؤمن التمسك بها، وحمايتها والتعامل معها بكل احترام وتقدير. هكذا هو المقدس في ذهنية المؤمن يتمتع بهذه الجاذبية السحرية، والإغراء الكامل، والخطورة المتوقعة، مما يجعل من الإنسان مستعدا لتحمل كل تبعات انتهاكه. وانطلاقا من هذا المعطى يمكننا أن نتوافق مع روجي كايواه في تصوره حول المقدس في صورته الأولى البسيطة، حيث اعتبر أن المقدس هو طاقة خطيرة خفية على الفهم، وعصية على الترويض، وشديدة الفاعلية. لهذا ظل الإنسان في علاقته بالمقدس يحاول قدر الإمكان استخدام هذه الطاقة في مصلحته واستمالتها لخدمته، دون أن يعمل على تدنيسها أو الحط من قيمتها، لأن مجال المقدس بالنسبة إليه محفوف بالمخاطر. ولكي نفهم هذا الأمر بشكل أدق يمكننا أن نعطي أمثلة تبين بأن قوة القداسة لا تقبل التدجين ولا التحلل ولا القسمة. فمثلا ألوهة المسيح بالنسبة للمسيحيين مسألة حاضرة بالكامل في كل كِسرة من كِسر الخبز المقدس. لهذا يجب الحذر من التطلع الى امتلاك هذه القوة دون أخذ الحيطة والحذر. وفي العقائد التي تقدس الزعيم يحظر لمس هذا الاخير وتتلف ملابسه وأوانيه وبقايا طعامه.

  • العنف المقدس: استراتيجية الأصولية الأولى

قبل أن نتحدث عن العنف المقدس لابد من الإشارة الى أن الفكرة أو الأشياء المحيطة بنا قبل أن يطبعها الإنسان بطابع المقدس تحتاج الى من يقوم بحمايتها، والعمل على إدامتها والسير بها إلى منتهاها. وهنا يمكننا أن نشير إلى دور المشتغلين بحراسة الأفكار أو من يسمون بحراس العقيدة والأفكار. ويمكن اختزالهم في ثلاثة مكونات أساسية، لها دورها الكبير والخطير في صناعة ما يسمى بالعنف المقدس. المكون الأول: هو السياسي ودوره هو الحماية والدفاع عن نظامه، وبرنامجه السياسي وإيديولوجياته بكل الوسائل المتاحة، سواء الوسائل الأمنية أو الوسائل الأيديولوجية. المكون الثاني: هو المثقف ودوره أن ينظر للمجتمع أو الجماعة التي ينتمي إليها، ويسوقها بالأفكار والتصورات التي من شأنها أن توطد العلاقات بين أفراد المجتمع، وتزيد من قوته، وتحد من إشكالياته وصراعاته. المكون الثالث: هو الأصولي ودوره هو أن يحافظ على الوضع القائم قدر الإمكان بكل الوسائل المتاحة، بحيث يقيس كل الأشياء على نقطة مرجعية في ذهنه وأصوله، ويعتقد جازما بأنها هي النقطة التي تحدد معالم الصواب والخطأ. وبالتالي يحرم المجتمع من كل تقدم محتمل. ومن خلال هذا الثلاثي تتحول الفكرة إلى أقنوم مقدس يرفع الفكرة إلى حيث لا يجب أن ترتفع فتأخذ طابع الإطلاق، وتجاوز حدود البشرية، فيقع الإنسان بذلك في الارتكاس إلى الوراء والرجعية في التفكير، والتخلف في الرؤية. والذي يجب أن ينتبه إليه الإنسان في هذا الصدد هو أن الفكرة حينما يتجاوز بها الانسان حدود المعقول تنقلب الى ضدها، لأن الأفكار في نهاية المطاف ليست شعارات جوفاء، ولا مقولات متجاوزة للواقع. بل هي فقط أدوات لفهم الحدث وتشخيصه.

هنا نستحضر ما قاله علي حرب[2] في معرض نقده للأوهام التي يصدر عنها مثقف اليوم، فالعقلانية مثلا: ليست فكرة تقوم بذاتها ولذاتها، بقدر ما هي صياغة لتجاربنا وعلاقاتنا بالأشياء والأحداث، بلُغة مفهومية لا تكون نهائية، بل تخضع للنّسخ والتّعديل والتّطوير. كذلك الأمر بالنّسبة إلى الاستنارة، فهي مفهوم يتمّ تداوله بشكل واسع، دون الوعي بأنّه فسحة لممارسة حيوية الفكر، على نحو متواصل، للعودة النّقدية للفكر على ذاته، ومساءلة بداهاته وآليات اشتغاله. أمّا الحرية: فهي ليست مجرّد وهم نتعلّق به للتحرّر من سلطة الاستعباد والديكتاتورية، بقدر ما هي اندراجنا في هذا العالم بقواه وسلطاته، بأنظمته ومؤسَّساته عبر تفكيك المعنى، وأصول الحق، ومرجعيات القصد. وخلاصة الأمر، فدورنا ليس هو ترداد المفاهيم، وصياغتها واستهلاكها دون وعي لمآلاتها الواقعية، ولكنْ هو ذلك الّذي يقيم مع منظومة المفاهيم والقيم علاقة نقدية، تتيح له القدرة على إغناء مفاهيمه حول الحرية والاستنارة والعقلانية.

بالرجوع الى موضوع العنف المقدس يمكننا أن نقول أن خلف كل هذه الطاقة المقدسة ذاكرة تختزن يقينا جماعيا ينبثق من قاعده عنيفة، ويرجع بالإنسان إلى أصوله الأولى، إلى حيث بدايات تشكل الظاهرة الإنسانية في أبعادها الغرائزية والحيوانية. وبالتالي فكل التقديس الذي تضفيه الأصوليات الدينية واللادينية على العنف كاستراتيجية أولى لبث الرعب في نفوس الخصوم، أو نشر الأفكار هي استراتيجية بدائية تقفز على حدود الحضارة الإنسانية والمشترك البشري، الذي سار فيه الإنسان فقطع فيه أشواطا كبيرة جعلته يحقق إنسانيته ويتجاوز وحشيته المفترضة.

هنا نتذكر الكثير من الناس الذين يجعلون من أفكارهم وتديناتهم، وأنماط تفكيرهم فيصلا بين الحق والباطل، وبين الهداية والضلال. هذه الأصناف الفكرية المغلقة لا يمكن أن تنتج إلا العنف في أشد صوره بشاعة، ما لم تواجه بالنقد والمساءلة والتعقل. والمثير في كل هذا السياق البشري الممتد عبر التاريخ هو أن الإنسان لم يستطع في الكثير من الفترات أن يتخلص من هذه القداسة التي يضفيها على العنف، بالرغم من أنه قد يكون أول ضحاياه. هنا يمكننا أن نطرح التساؤل التالي: كيف يمكن أن يتحول الإنسان من خلال معتقداته أو أفكاره او إيديولوجياته إلى أداة لممارسة العنف والتدمير. هنا يمكننا الجزم بأن الفكرة حينما تتجاوز شروط إنتاجها، وتبتعد عن النقد وتأخذ طابعا مطلقا يحميها من المساءلة تصبح هي مصدر الفزع الأكبر، لأنه كلما ابتعدنا عن نقد الأفكار وعدم أخذ مساحات كافية بيننا وبينها سقطنا في المحظور، وأصبحنا ضحايا لأفكارنا، وما تنتجه عقولنا وهذه هي المفارقة. مشكلة الإنسان هي أنه يصنع الأفكار وبدل أن يتحكم فيها تتحكم فيه. هذا هو الخوف عدو الإنسان الأول. الخوف من المجهول، والخوف من التغيير، والخوف من الأفكار التي من شأنها أن تنقلنا من حالة نكون فيها آمنين وواثقين، إلى حالة يطبعها الشك والريب. الخوف ليس شيئا نشعر به فقط. بل هو شيء نمارسه أيضا ويتحكم فينا، وفي بعض الأحيان نعجز عن إدراك ماهيته ومصدره، وقدرته على تحطيم آمالنا وأحلامنا. وبالتالي نصبح كما وصفنا مصطفى حجازي بالإنسان المهدور. إنسان بكامل طاقته وقدراته، غير أنه عاجز بفعل عوامل مختلفة على ن يحيى هذه الإنسانية في أبهى صورها، أو على الأقل في أدنى صورها.

إذا كان الخوف أحد العوامل وربما أخطرها في إدامة هذه القداسة على الأشياء والأفكار، سنكون ملزمين بأن نقر بالدور الذي تفعله فينا التنشئة الاجتماعية وخطورتها على الكائن الإنساني، اذ هو الوحيد الذي يحول الأفكار والمعتقدات إلى طابوهات ومحرمات يصعب المساس بها، وربما حتى الاقتراب منها. هذا ما يديم أزمة الإنسان مع ذاته ومحيطه، ويفاقم إمكانيات الهدر الإنساني الذي يتعرض له الإنسان بمختلف مستوياته، خاصه إذا ابتعد بشكل أكبر عن أن يسائل مسبقاته، وما يرثه عن آبائه وأسلافه. ربّما يشير سيوران إلى أزمة المعنى، فكلّ ما يشير إليه النَّقد في ثقافتنا، يكون في اتّجاه الآخر، متناسين ذواتنا، وأشيائنا وأفكارنا، وما نشأْنا فيه ومنه بفعل القهر الاجتماعي. إن الخوف من النقد لا يتأتى فقط من كوننا نشعر بأن ما وجدنا عليه آباءنا هو الأصوب والأصلح. ولكن فقط لأن هناك شعورا يلازمنا بالخوف من الاقتراب من كل الأشياء المسكوت عنها، أو الأفكار المغلقة التي نخاف أن تفاجئنا في كل حين بما لا يسرنا. فهو المأزق الذي نعيشه جميعا الذي يجعل من ثقافتنا تعيش محنة تكشف عن عمق الجروح النرجسية التي نعاني منها كأفراد ننتمي إلى مجتمعات سائرة في طريقي النمو. كأننا أطفال في مرحلة الحبو لم نستطع السير على الأقدام بشكل سوي بعد. هذا الوضع الثقافي يبدو مفهوما حينما نقر بأن الثقافة أيضا لها ممارساتها وأساليبها المكشوفة والخفية التي تضمن من خلالها استمراريتها، وبسط سلطتها على الكائن الانساني الذي ظل ولا زال يتأرجح بين ثنائية الطبيعي والثقافي. فالأفكار المغلقة والإيديولوجيات الشمولية تنزع دوما بالإنسان أن يكون فردا فاقدا للأهلية، سمته الطاعة والولاء والخضوع لبديهيات الجماعة.

  • العنف المقدّس ونزعة تدمير الإنسان

بهذا العنوان يمكننا أن نتساءل كيف يصبح العنف المقدس وسيلة لتدمير الإنسان؟ ببساطة يدمر الإنسان كل عنف يمارس بطابع الإطلاق والقداسة، لأنه يرجع بالكائن الانساني إلى أصوله الأولى. أي إلى حيث البدايات الطبيعية لكائن غير قادر على تجاوز حدود غرائزه وانفعالاته الطبيعية، ولكن مع تطور العقل الإنساني والرحلة الطويلة التي قضاها نحو التمدن والتحضر والتفاعل الايجابي مع المحيط القريب والبعيد، بدأ العنف يأخذ أشكالا أكثر إنسانية، أو على الأقل يستعمل في حدوده الدنيا، خاصة بظهور الدولة التي احتكرت العنف وجعلت وسائله محصورة في القانون والمؤسسات التي لها الحق في أن تمارس العنف المشروع. ومع ذلك فبالرغم من كل هذا التطور البشري المتنامي عبر العصور ما زال هناك من يصر على أن العنف من حق الافراد والجماعات، وليس حكرا فقط على الدولة. وهذا تصور بدائي يخرج العنف عن حدود الأنسنة، ويضع الأفراد والجماعات في طابع متوحش، يقضي على الأخضر واليابس. هذه العقلية ما زالت تردد هذه الأنشودة التي يحتضنها الأصوليون بكل مكوناتهم، حيث نرى أن خلف كل هذه الاحداث الدموية، والسلوكات العدوانية، والنزعات التدميرية أفكار مغلقة تحرك هذا العقل، وتجعل منه آلة لصناعة الموت والصراع والتوحش البشري. كأن هذا الإنسان لم يقطع هذه المسيرة الطويلة مع العنف دون أن تكون له رغبه في عدم العودة الى التوحش من جديد. فالعنف المقدس مهما بدا بأنه يحقق لهذه الأصوليات أهدافها واستراتيجياتها، فإنه في النهاية يرتد عليها ويصبح عائقا من عوائق التواصل بين مكوناتها وأفرادها وجماعاتها. فمن يؤمن بالعنف ضد الآخر فهو حتما يؤمن به ضده بطريقه عكسية، دون أن يشعر أو يحس بذلك. إن العنف قبل أن يكون ممارسة تدميرية ضد الآخر، أو ضد الذات فهو فكرة تنمو وتربو داخلنا، وإذا وجدت التربة الخصبة بعيدا عن النقد والمساءلة، فهي تتحول إلى أخطبوط يمد أياديه في كل اتجاه وهذا هو الخطر القادم. إنه مسار العقل الإنساني منذ لحظات تشكله الأولى، فلا شيء يحد من إمكانياته، ولا أفق يرسم سقف توقعاته، كأن قدر الإنسان أن يعيش في القلق لينتبه إلى حقيقة الوجود كما يرى هايديجر.

قد نتساءل كما تساءل الكثيرون ومنهم كولين ويلسن[3] في كتابه التاريخ الإجرامي للجنس البشري على هذا الجنون البشري، والسعي وراء تحقيق الأهداف عن طريق العنف سواء ذلك الذي يمارسه الفرد أو ذلك الذي تمارسه الجماعة. يؤكد كولين ويلسن بأن هذا الجنوح وهذا السعي لم يأت من فراغ. بل هو نوع مشوه من الأفكار المثالية التي تحاول أن تخلق عالما مثاليا أحسن وأفضل بالنسبة لها من العالم المعيش. هكذا يصر ويلسون على أن كل شخص أو جماعه عنيفة ليست بالضرورة جماعة مهووسة. بل هي جماعة مثالية متحمسة. فالإجرام من خلال هذا المنظور ليس شذوذاً يتسم بالطّيش أو نزعة لانتهاك القانون، بقدْر ما هو نتيجة حتمية لتطوّر ونموّ الذّكاء البشري. إنّ أسوأ أنواع الجرائم لا يرتكبها الحمقى والأغبياء، بل يرتكبها المتحضّرون الأذكياء، باتخاذهم قرارات يوفّرون لها المبررات والدوافع الكافية. إنه جنون الإيمان كما كان يراه برنار شوفييه[4]، فكلما فتشنا خلف كل الأحداث العنيفة، أو التي تطبع بالعنف سنكتشف نفسيات تتحرك بأفق مقدس موحش وموغل في الوحشية، أناس وضعوا أنفسهم في مواجهة الذات والمحيط، وجعلوا من تصوراتهم وعقائدهم أفقا لصراع أزلي بين المقدس والمدنس، وبين الباطل والحقّ، وبين الشرّ والخير. لكن هذا الأمر وهذه السلوكات العدوانية تسمح لنا أيضا أن نقرأ نفسياتهم لعلّنا نضطلع بالكيفية التي يتحوَّل فيها التطرّف من مجرد وسيلة إلى غاية نُعلن فيها موت الإنسان.

وإذا أردنا أن نفهم هذا بشكل جيد لابد أن نستحضر بأن التعصب ليس وليد اليوم، ولا وليد الحداثة نفسها. بل تعود جذوره إلى عمق الثقافة ومكوناتها الأساسية. لذا يصعب علينا العثور على تجلياته وتمظهراته بشكل دقيق وواضح. ولكن هذا لا يعني أن ليس له آثار ومعالم في فترة ما قبل التاريخ. وللجواب عن هذا السؤال نقول بأن في العصر الحجري القديم كانت ظروف البقاء قاسية، لذلك تشكلت جماعات على أسس قبليه مارست العنف في سبيل وحدتها ومعتقداتها، كما تعد العصور اليونانية القديمة مليئة بالأشكال الأولى للتعصب، فكلمه FANUM تدل على مكان ممارسة الطقوس الدينية أي المعبد. وهنا وقع تعارض بين المقدس والمدنس الذي أصبح ممثلا في المكان. وبذلك صارت كلمه FANUM تدل على المكان الذي خلعت عليه الجماعة القدسية. وهذا التمييز بين المقدس والمدنس في هذا المقام يعد بالغ الأهمية إذ أن تدنيس المكان المقدس يعتبر جناية وجريمة يستحق مرتكبها القصاص والعقاب الاجتماعي. بهذا الموجز التاريخي يجد المقدس أساسه وقوامه بين الفرد والقوى الداخلية التي تسكنه، أو بتعبير أدق المقدس هو التقاء المذهل مع ما يبعث الرعب في النفس. وهي نفس العبارة التي أكد عليها روجي كايواه حينما قال بأن الكون المدنس هو عالم أشياء، بينما الكون المقدس هو عالم قوى. هذه الحقيقة تضعنا امام فهم أعمق لظاهرة المقدس. إذ يمكن أن نفهمه على أنه شحنة من الطاقة غير الواعية ذات الطبيعة الغريزية التي تمنح الكائن الانساني القوه والدافعية لفعل أي شيء دون وعي أو قصد.

ماذا يعني كل ما قلناه سابقا؟ يعني ببساطة أن التطرف أو كل أشكال العنف التي تأخذ طابعا مقدسا تتغذى على جهاز مفاهيمي دزغمائي. هذا الأساس سماه روكيتش بالصرامة المنطقية فعرفه :” بعدم قدرة الشّخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلّب الشّروط الموضوعية ذلك، وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقلٍ ما، تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة، وذلك بهدف حلّ هذه المشكلة بفعالية أكبر “.إنه جهاز يتشكل حسب روكيش من ثلاث نقاط. الأولى: إنه عبارة عن تشكيلة مغلقة قليلا أو كثيرا مشكلة من العقائد ولا عقائد خاصة بالواقع. ثانيا: إنه متمحور حول لعبة مركزية من القناعات ذات الخصوصية والأهمية المطلقة. ثالثا: إنه يولد شكلا من أشكال التسامح واللاتسامح.

  • عوامل التطرف

لا ينشأ التطرف من الفراغ. بل كل فعل متطرف وعنيد ينطلق من قاعدة مقدسة الى ان يثبت العكس. وحينما نتعامل مع الأحداث والوقائع التي تكتسي طابع العنف نتعامل معها تعاملا اختزاليا بحيث نرى بأنها هي نتاج عقلية مؤامراتية، يريد هذا الآخر الكامن فينا أن يشوه صورتنا أمام المحك التاريخي، في حين أن التأمل في واقعنا التاريخي والاجتماعي والثقافي نجد بأن العنف متأصل فينا الى الحد الذي يصعب فيه الانفصال. هذا النوع من التفكير هو ما كان يدعوه طارق حجي بالإيمان الصخري بنظرية المؤامرة، حيث تلتبس علينا الأمور، وتصبح رؤيتنا للواقع ممزوجة بنوع من النقد والأسطرة. هنا نفهم كيف أن العقل الديني ما زال مهووسا بنظرية المؤامرة التي يخوض من خلالها حروبا وهميه مصبوغة بطابع القداسة لم تستطع إلى حدود اللحظة أن تبوئه المكانة التي يدعيها. قد نختفي وقد نختبئ وراء مثل هذه التصورات. ولكن المؤكد هو أننا لن نستطيع أن نخرج من هذا المأزق الثقافي في غياب ثقافة النقد، وبهذا تواصل ثقافتنا إمكاناتها اللامحدودة في اللعب بعواطف الناس، وتنزيه الذات عن كل العيوب والنواقص، وسحبها على عدو مفترض لم نستفد من عداواته غير المزيد من التخلف والرجعية، ويمكننا اختصار العوامل المؤثرة في الشخصية المتطرفة والعنيفة في عدة عوامل نجملها فيما يلي:

  • النرجسية وجنون العظمة: هذا المعنى بأهمية الذات والتفرد والمبالغة في الإنجازات والتركيز على هول المشاكل، والاستعراض المبالغ في حب الظهور من الإشكالات الجوهرية التي يعاني منها العقل المتعصب والعنيف. ولعل الشعارات التي يرفعها المتطرفون العنيفون تؤكد صدق ما نقوله من قبيل شعب الله المختار والفرقة الناجية والأمة المختارة.
  • عقدة الاصطفاء: وتعني بأن العقل الأصولي يرى بأن أفكاره وأصوله وقواعده تجعل منه شعب الله المختار أو خير أمة أخرجت للناس، بالرغم من أنه يعارض هذه الفكرة لدى الشعوب الأخرى، وعلى أساس هذا الاصطفاء يكون الولاء والبراء واستحقاق الجنة الأبدية.
  • عقدة امتلاك الحقيقة: هناك عقدة تحرك العقل الدغمائي بحيث يرى نفسه أنه هو الأجدر والأقدر على امتلاك الحقيقة من غيره، وهي عقلية تمتح من مجموعة من المبادئ والعقائد والتصورات المنغلقة على الذات وعلى الآخر، وترى نفسها كأنها صاحبة الحق المطلق في الحكم على الناس، والقابضة على مفاتيح الهداية والخلاص البشري. وهو منزع استعلائي وأفق اصطفائي ينظر للآخرين على أنهم قاصرين، ويشردهم من إنسانيتهم مقابل قبول اعتناق هذا المنزع الاستعلائي.
  • المبدأ السكوني: وهو مبدأ يرى أصحابه حسب علي حرب، أنّ الأصل عندهم ثابت، لأنّ مصدره علويّ مفارق، ومتعالٍ عن الزّمان والمكان. ولهذا فإنّ أصحابه يعتبرون كلّ ما لديهم قد نسخ ما قبله، ويلغي ما عداه. النرجسية وجنون العظمة التي تسم العقل المسلم،
  • الاحتماء بالماضي: لأن العقل الأصولي عقل ماضوي فهو يتخذ من التاريخ والماضي آلية دفاعية يحمي بها مكتسباته ومعتقداته وتصوراته. وفي الحقيقة فهو يفعل ذلك من أجل مواجهة الإحباطات التي قد تواجهه في عالم لم يعد له مكان آمن أو بيئة حاضنة لأفكاره، خاصة وأن الثقافة التي يصدر عنها هي ثقافه متخلفة، وعلى أحسن تقدير هي ثقافة عبرت عن واقعها، فلم يعد لها القدرة على الاستجابة لمطالب فئات اجتماعية نمت وتطورت في قلب تحولات اجتماعية كبيرة. وبالتالي فنزوع الإنسان نحو الماضي يعبر تعبيرا صريحا على إحساس الفرد والجماعة بالعجز والضعف على التواصل مع المحيط القريب والبعيد. وهنا نفهم كيف يتمّ تمجيد الماضي في العقل السّلفي، وتقديس رموزه، واستجلاب الحلول منه لقضايانا المعاصرة. فهو شكلٌ من أشكال الدّفاع اللاّإرادي ضدّ الحاضر والمستقبل، كما أنّه تعبير صريح على عدم القدرة على الانفكاك من عقدة النّقص التي يستشعرها المرء.

المراجع:

[1] – بافيزي، تشيزاري. مهنة العيش. ترجمة عباس المفرجي. المدى، ط1، 2016 ,

[2] – حرب، علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. المركز الثقافي العربي. دون طبعة أو تاريخ نشر.

[3] – كولن، ويلسون. التاريخ الإجرامي للجنس البشري. ترجمة رفعت السيد علي. جماعة حور الثقافية، ط1،2001، ص: 7 .

[4] – شوفييه، برنارد. المتعصبون أو جنون الإيمان. ترجمة قاسم المقداد. دار نينوى، ط1، 2017. ص: 15.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete