البحثُ عن “رينيسانس” عربي! (الزَّبيدي نموذجًا)

تكوين

(1)

كان طرحُ سؤال الحداثة في مصر والعالم العربي وتوقيت لحظتها الملتبسة مدخلًا للحديث عن القرن الثامن عشر المصري، الذي شهد تلك الحركة أو ذلك النشاطُ الملحوظُ الذي رصدته كتبٌ ودراساتٌ حديثةٌ أعادت النظر فيما تم تناقله طيلة عقودٍ عن تاريخها (وبخاصة النصفُ الأخير من القرن الثامن عشر).

كان السائدُ أو المتعارفُ عليه عن تلك الفترة أنها امتداد لحالة الجمود والسكون والتخلف التي رانت على المنطقة العربية، وفي القلب منها مصر في أثناء القرون الثلاثة السادس عشر والسابع عشر، والثامن عشر..

فَصَّلنا القول عن القرن الثامن عشر الذي ساد الاعتقاد طويلًا بأنهُ عصرُ جمودٍ وتخلفٍ، لكن جُهودَ مدرسة من المؤرخين المحدثين والمعاصرين (الأجانب والمصريين خصوصًا) أثبتت تقريبًا أن هذا القرن -وبخاصة في نصفه الثاني- قد شَهِدَ نشاطًا فكريًّا وثقافيًّا وأدبيًّا ملحوظًا تَجلى في ظهور عددٍ من الأسماء (مثل الشيخ مرتضى الزَّبيدي، والجَبرتي تلميذه، والشيخ حسن العطار، والشيخ إسماعيل الخشاب، وغيرهم).

موسوعة تاج العروس

وتَجلى أيضًا في عددٍ من المؤلفات الموسوعية الضخمة، كان من أهمها وأشهرها بل وأضخمها أيضًا «تاجُ العَروس» الذي يكادُ يقتربُ من الأربعين مجلدًا (إن لم يكن تجاوزها في بعض الطبعات الحديثة)، وفي شرح إحياء علوم الدين (للزَّبيدي) أيضًا، وهذا بِدوره في حاجة إلى إضاءة كاشفة وساطعة ليس بوصفه شرحًا على متنٍ ديني كُتبَ لهُ الذُيوعُ في دائرة التصوف وتزكية النفوس وهو «إحياء علوم الدين» لحُجة الإسلام (أبي حامد الغزالي)، بل بوصفه “متنًا” ضمن مجموعة متون تضامت وانشغلت بحركة “إحياء” وتواصل مع مؤلفات عصور سبقتها، وتطويرها والإضافة إليها.

هذه الفكرةُ الذهبيةُ العظيمةُ -أقصدُ تأسيس عصر إحياء أو نهضة أو رينيسانس عربي- ظلت غائبةً عن أذهان المؤرخين ومؤرخي الفكر بخاصة حتى توفرت مدرسة علمية عظيمة الشأن كان من أبرز أعلامها المرحوم الدكتور (رؤوف عباس والدكتور أحمد زكريا الشلق والدكتورة نللي حنا وغيرهم) من الذين ركزوا جهودهم في إعادة النظر في تفاصيل هذه الفترة إجمالًا مع التركيز على القرن الثامن عشر، وإبراز ما كان يَتَخلَّقُ في أحشائه من حركة علمية وفكرية كانت بداءةً لما يمكن أن نطلق عليه عصرُ “إحياءٍ” عربي.

وفي هذا السياق لا تفوتنا الإشارة إلى ما أورده المرحوم الدكتور (جمال الدين الشيال) في كتابه القيم «محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث» بشأن حقيقة هذا القرن -الثامن عشر- وما شهدهُ من بزوغِ نشاطٍ فكريٍّ وعلميٍّ وثقافيٍّ، بدأت بواكيرهُ تتشكل في مصر والشام على يد شيوخ الأزهر وعلمائه والمنتسبين إليه، وإلى ما يماثلهُ من مؤسسات دينية كانت مركزًا لهذا الحراك ومنطلقًا له، يقول:

“أما الظاهرةُ الثالثة، فكانت تُمثِّلها نهضة ثقافية علمية، بدأَت تَباشيرُها تظهر في مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت هذه النهضة تلقائية، بمعنى أنها نبتَت نباتًا داخليًّا في مصر، ولم تكن متأثرةً بأي مؤثر خارجي شرقي أو غربي، وكان يمثلها مجموعةٌ من رجال الفكر المصريين، لم تَعرِف مصرُ شبيهًا لهم في القرون الثلاثة السابقة”؛ ويفصل المرحوم الشيال مظاهر هذه “النهضة”.

ففي ميدان الدراسات الرياضية والفلَكية، ظهر الشيخ (حسن الجبرتي الكبير)، وفي ميدان الشعر والنثر ظهر رجال مثل الشيخ (محمد الشبراوي)، والشيخ (حسن العطار) -وقد وَلِيَا مشيخة الأزهر- والشيخ (إسماعيل الخشاب)، وفي التاريخ ظهر الشيخ (عبد الرحمن الجبرتي الابن)، وفي ميدان الدراسات اللُّغوية والدينية والمعارف العامة ظهر الشيخ (محمد مُرتَضى الزَّبيدي).

وكان مِن الممكن أن تسيرَ هذه النهضةُ في طريقها وتتطوَّرَ تطورًا طبيعيًّا، وأغلب الظن أن هذا التطور كان سيأخذ شكلًا بعثيًّا إحيائيًّا، بمعنى أن هذه النهضة كانت ستعمل على بعث أمجاد الماضي العلمية ونشر التُّراث القديم.

غير أنَّ هذه النهضةُ “التلقائية” أُصِيبت بقطعٍ أو انفصالٍ وقْتيٍّ عند مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، فقد أتى مع الحملة عددٌ من العلماء الفرنسيين وكان هؤلاء العلماء، بل كانت الحملةُ كُلها تَحملُ معها إلى مصر مَظاهر نهضة علمية مختلِفة عن مظاهر النهضة المصرية اختلافًا بيِّنًا في كل شيء.

وزارَ نفرٌ من العلماء المصريين المعهدَ الذي أنشأه العلماء الفرنسيون في القاهرة، وزاروا المكتبةَ والمطبعة، وبهَرَهم ما رأَوْا وبدَأوا يفكرون ويقارنون بين ما في أيديهم من علم وما في أيدي هؤلاء الفرنسيين من علم. وجَلَت الحملة عن مصر وحدَثَت اضطرابات واستقر الأمر (لمحمد علي) واليًا على مصر، وأدرك النظامُ الجديدُ أنهُ لا بُدَّ من النقل عن الغرب إذا كانت مصرُ تريد نهضةً حقيقيةً تُسايِرُ بها العالم، وفُتِحَت المدارس الجديدة وأُرْسِلَت البعثات إلى أوروبا ووقَفَت حركةُ التأليف مؤقتًا، لتبدأ حركةُ الترجمة ولتستمرَّ طوال عصر (محمد علي).

وما يقالُ عن القرن الثامن عشر في مصر يُمكن إلى حدٍّ كبير أن يقال في سوريا ولبنان وغيرهما من الأقطار العربية التي حكمها العثمانيون‏.

(2)

أما الشيخ (محمد مرتضى الزَّبيدي) (1732-1791) فقد تألق وعلا نجمهُ وحازَ شُهرةً واسعةً جدًا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبخاصةً بعد أن ارتحل إلى مصر في عام 1754 واستقر فيها حتى وفاته في عام 1791، وألَّفَ فيها أشهر وأكبر مؤلفاته على الإطلاق: وهما (تاجُ العروس بشرح جواهر القاموس)، وكتابهُ الآخر (إتحافُ السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين)، هذا عدا مؤلفاته الأخرى في التفسير والحديث والجغرافية.

وقد تزامن وجودُ الشيخ مرتضى الزَّبيدي في مصر مع تلك الحركة الثقافية التي نشطت وازدهرت في مصر، وبخاصة في الأزهر الشريف، وكان من أعلامها (الشيخ مرتضى والشيخ محمد الصبان والشيخ خالد الأزهري وتلاميذهم الكبار الشيخ الجبرتي المؤرخ والشيخ إسماعيل الخشاب الشاعر والشيخ حسن العطار الذي صار شيخَ الأزهر في دولة محمد علي)، ما جعل مؤرخي تلك الفترة يُطلقون على تلك الحركة العلمية والثقافية (نهضةً علميةً، وحركة إحياء بازغة) قبل وصول الحملة الفرنسية إلى مصر في عام 1798.

وتُجمع المصادر على أنَّ تلك الشخصية المُهمة والمحورية (الزَّبيدي) لعبت دورًا مركزيًّا في تاريخ النهضة الحديثة وحركةُ الإحياء العربي كما أطلقنا عليها، وقد تأسسَ كتابي «الشيخ حسن العطار» الذي كان واحدًا من أبرز وأنبغ تلاميذ الشيخ (مرتضى الزَّبيدي)، على طرح سؤالٍ واضحٍ وبسيط في صياغته: من أين استمد الشيخ (حسن العطار) اتجاهاته التجديدية التي كانت تُعتبرُ “ثورية” في عصره؟[1]

للإجابة عن هذا السؤال الذي يبدو بسيطًا كان لزامًا عليَّ البحثُ في السياق التاريخي لعصر الشيخ (العطار) وسيرة حياته وتفاصيلها واستخلاص بعض الحقائق التي تُؤطر موضوع التجديد والإصلاح، لعلَّ من أهمها أنَّ الشيخ (العطار) لم يَقْنَع بدراسة العلوم المعروفة في عصره ولكنه درس الهندسة والرياضيات وتعمق في دراسة الفلك ودرس الطب.

الشيخ الزبيدي

والشيخ (العطار) الذي أصبح شيخًا للأزهر هو الذي قاد حملةً تجديديةً كُبرى داخل مجال التدريس في الأزهر، وساندهُ في ذلك الشيخ (الزَّبيدي) صاحبُ كتاب «تاج العروس». ويقررُ الباحثُ الأمريكي المعروف (بيتر جران) في كتابه الشهير «الجذور الإسلامية للرأسمالية» أنَّ (الشيخ العطار والزَّبيدي) “هما اللذان قاما بالتجديد الفكري في الأزهر”.

ويرى الدكتور (أحمد زكريا الشلق) أنَّ كتابات (الزَّبيدي)، الذي كان عالمًا باللغة والحديث والأنساب، تكشفُ عن وعيٍ نقديٍ واضحٍ وتُبرز أصول النظرة العلمية التي نمت بعد ذلك في القرن التاسع عشر، وعبَّرت عنها الرموز الثقافية مثل (حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي).

لقد كان (الزَّبيدي)، فيما يرى الدكتور (الشلق) شخصيةً فريدةً في عصره وأبرزُ كُتَّابِهِ، وإن لم يتفرغ أحدٌ لدراسته دراسةً علميةً تجدرُ به. وقد تنوعت مجالات كتاباته وكثُر طلابه وكثُرت رحلاته واتصالاته ودرس بالهند والحجاز على ما هو معروف، وقد صوَّر (الجَبرتي) لحظة وصوله إلى مصر في عام 1754 باعتبارها من اللحظات العظيمة للحياة الفكرية في القرن الثامن عشر[2].

وسنحاولُ أن نتوقفَ قليلًا عن الأدوار التي لعبها (الزَّبيدي) في هذه الحركة، فضلًا عن التوقف أمام عمليهِ الكبيرين (تاج العروس)، وشرحهُ (لإحياء علوم الدين).

وسأبدأ من النقطة المهمة في مسيرة الشيخ دون التعرض المُفصلِ لسيرته أو لحياته -فلهذا مقامٌ آخر- لكن سأبدأُ منذُ حضوره إلى مصر واستقراره فيها في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وقد تَحَلَّقَ حولهُ مجموعةٌ من أنبهِ وأنبغِ العلماء وطُلاب الأزهر -في ذلك الوقت- وعلى رأسهم المؤرخ الكبير الشيخ (عبد الرحمن الجَبرتي) صاحب «عجائبُ الآثار في التراجم والأخبار»، وختام السلسلة الذهبية من مؤرخي مصر الإسلامية العظام (من الكندي صاحبُ فتوح مصر والمغرب، وحتى ابن إياس صاحب «بدائع الزهور في وقائع الدهور»).

وربما كان أهمُّ شيءٍ وَجَّهَ (الجَبرتي) إلى كتابةِ التاريخ هو صلتهُ بالسيد (الزَّبيدي)، فقيهُ اللغة في زمانه وصاحبُ المعجم المشهور “تاجُ العروس”. فقد هبطَ (الزَّبيدي) إلى مصر، وهو أصلاً من اليمن، في عام 1754، أي عام مولد (الجَبرتي)، وسكن في الصاغة ودرس بالأزهر داخل جامع شيخون ولازمهُ (الجَبرتي) في شبابه، وقرأ عليه مع لفيف من شباب الأزهر وشيوخه.

(3)

ونتوقفُ هنا قليلًا -في هذا السياق- أمام وضعية (الزَّبيدي) ومكانته ودوره في سياق تلك الحركة، وبخاصة أنهُ نال حُظوةً عارمةً ربما لم ينل مثلها شيخٌ آخر من شيوخ تلك الفترة.

وتُفيدنا المصادر بأن (الزَّبيدي)، وُلد بزبيد اليمن -وإليها ينسبُ- ونشأ وتعلم بها وعلى عادة العلماء المسلمين في تلك الفترة، كان لا بد من قيامه بـ “الرحلة” أو “الارتحال” لصقله علميًّا، ويقالُ إن (الزَّبيدي) ارتحل كثيرًا في طلب العلم حتى وصل إلى الهند وإلى مكة ثم سار منها إلى الطائف وتَعَمَّقَ هناك في العلوم الدينية والعربية.

ثم نصحهُ أساتذته بالرحلة (الارتحال) إلى مصر ليصل في العام 1167هـ/ 1754م، وفي ذلك يَروي تلميذهُ (الجَبرتي) في تاريخه “إنَّ أحد شيوخه شَوَّقَهُ إلى دخول مصر بما وصفهُ له من علمائها وأمرائها وأدبائها وما فيها من المشاهد الكريمة، فاشتاقت نفسهُ إلى مصر”، وهو ما كان.

وهناك بدأ يَدرسُ على يد شيوخ عصره وتلقى عنهم الإجازة. وفي القاهرة حاز (الزَّبيدي) من العلم والشهرة ما لم يعرفه معاصروه، فقد عرفهُ كبار القوم وأغدقوا عليه عطاياهم تشجيعًا له وتقربًا إليه بعد ازدياد شهرته، مثل الأمير (إسماعيل كتخدا عزبان)، وحتى شيخ العرب (همام)، وأصبحَ مقربًا أيضًا من السادة الوفائية، والقصة الشهيرة في هذا الشأن قصته مع (محمد بك أبو الذهب)، فقد اشترى الأخير نسخة من قاموس الزبيدي الشهير «تاج العروس» بمائة ألف درهم ليضمه إلى خزانة الكتب في جامعه الشهير.

إذًا فقد كان وصول (الزَّبيدي) إلى مصر نقطةٌ فاصلةٌ في سيرته وفي النشاط العلمي والحركة الفكرية والثقافية التي شهدتها مصر خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهي الحركة التي نالت اهتمام العديد من المؤرخين والباحثين في تاريخ الفكر العربي الحديث.

وكما أسلفنا، لقد وصلَ (الزَّبيدي) إلى مصر في عام 1754، وكان مجيئهُ مشهودًا بكل ما تعنيه الكلمة لقد استُقبلَ فيه استقبالًا أسطوريًا، وإلى الحدِّ الذي دفع تلميذه الشهير (الجَبرتي) إلى وصفِ لحظة وصولهِ بأنها “لحظةٌ حاسمةٌ في تاريخ عصره”. وكانت مصر بالنسبة (للزَّبيدي) نقطة التقاء مهمة للعديد من التلاميذ والعلماء الذين يَفدون إليها من شتى أنحاء العالم الإسلامي. وذاعت في الأرجاء شهرتهُ حتى كَاتَبَهُ سلاطين الدولة العثمانية وأمراءُ الحجاز واليمن والهند والشام والعراق وشمال إفريقيا وبلادُ السودان إلى أن تُوفي في عام 1205هـ/ 1791.

(4)

ولا بُدَّ هنا من بعض التفصيل والتركيز على سيرة (الزَّبيدي) بمصر في تلك الفترة (1754-1791) قرابة العقود الأربعة، فما أن وصل الشيخ إلى مصر حتى انتظم في سلك الأزهر الشريف للاستماع إلى أكابر شيوخه آنذاك، مثل الشهابين (الملوي) و(الجوهري) وغيرهما، فأخذ عنهم وأجازوه (منحوه الإجازة للإفتاء والتدريس).

ومن ثمَّ انصرفَ إلى التدريس والتأليف ووضع الكُتبَ “المطولات”، فوضع معجمهُ الشهير المعروف بـ «تاج العروس بشرح جواهر القاموس» الذي استغرق منه قرابة 14 عامًا أو يزيدُ قليلًا، وجاء فيما يقرب من خمسة عشر جزءًا، ولم يشأ (الزَّبيدي) أن يُخرجهُ للناس كما تُخرجُ المؤلفات العادية، بل أقام مأدبة عظيمة يوم إخراجه دعا إليها المشايخ وطلبة العلم وأظهر لهم “تاج العروس” وطلب منهم أن يذكروا محاسنها ومباهجها، فتهافتوا عليها جميعًا يقرظونها نظمًا ونثرًا، ولما فرغ (محمد بك أبو الذهب) (المتوفى في عام 1189 /1775) من بناء مسجده الشهير في مواجهة الجامع الأزهر مباشرة وأضاف إليه خزانة كتب كبيرة، حَدَّثهُ مقربون إليه بأنها لا تستكمل “نفاستها” ولا قيمتها إلا إذا ازدانت بهذا المعجم الضخم، فاشتراه بمائة ألف درهم وهو مبلغ يَمثِّلُ ثروةً مهولةً في ذلك الزمان!

في دروب “الفكر المصري” بالقرن الثامن عشر!

عاش (الزَّبيدي) في القاهرة ذائع الصيت يتلقاه الكبراء من العلماء والأمراء بالترحيب والإجلال، واتخذ مسكنًا جديدًا له بسويقة “اللالا”، التي كانت -آنذاك- عامرةً بالأكابر والأعيان فالتفوا حوله وقصدهُ طلبة العلم من شتى الأرجاء، فكانوا يجدون في قصره الكبير نزهةً ومتعةً، بالإضافة إلى ما يتزودون به من علم ومعرفة، واستمر صيتهُ في ذيوع حتى عَرفهُ ملوك الإسلام في مختلف البلدان واعتقد فيه أهل المغرب اعتقادًا زائدًا، إلى الدرجة التي إذا مرَّ فيها أحدهم بمصر وهو في طريقه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ولم يظفر بلقاء الشيخ (الزَّبيدي)، أو لم يصله بشيء اعتبرَ حَجَّهُ ليس كاملًا!

وتدفقت الهدايا والصلات والعطايا والهبات من حكام وسلاطين العالم الإسلامي وغيرهم من الأمراء والوجهاء على الشيخ (الزَّبيدي)، إعظامًا وإجلالًا وإكبارًا لمكانته العلمية وسمعته التي جابت الآفاق، كما بعثوا إليه طيور الببغاء وطرائف الهند وأنواع العود والعنبر والعطور وغدا قصره يُضاهي قصور الأمراء أو يزيدُ عليها، واتسعت حلقتهُ العلمية بالجامع الأزهر وتضاعفت وازدحمت وأقام المآدب للضيوف وأكرم الوافدين إليه من الآفاق البعيدة والقريبة وتعهد كثيرًا من الطلاب، وكان يجيد اللغتين الفارسية والتركية، لذا دعاه الباب العالي بالآستانة (مقر الحكم العثماني) لزيارة عاصمتها إستنبول، لكنه اعتذر لكثرة ارتباطاته العلمية.

وظلَّ الشيخ (الزَّبيدي) مقيمًا في القاهرة، علمًا من أعلام الفكر والثقافة الإسلامية والعربية، إلى أن وافاه أجله في الطاعون الكاسح الذي حلَّ بالقاهرة، في شهر شعبان من عام 1205/ 1791م.

(5)

لكن ماذا قدَّم الشيخ (الزَّبيدي) للحركة العلمية؟ وما أوجه التعاون بينه وبين معاصريهِ وتلاميذهِ؟ ولماذا كانت أعمالهُ الكبرى بخاصة في المعاجم والتأليف اللُّغوي والشرح الذي كتبه عن “إحياء علوم الدين” محلَّ عنايةٍ واهتمامٍ خاص؟

كُلُّ هذه الأسئلة وغيرها مما تولد منها قادني إلى إبحارٍ ممتعٍ في قراءة المصادر والمراجع المتاحة عن الشيخ (الزَّبيدي) في سياق إعادة قراءة الحركة الفكرية والثقافية والعلمية “الإنسانية” في القرن الثامن عشر الميلادي، قبل مجيء حملة نابليون على مصر (1798-1801)، وقد استوقفني في أثناء هذه الرحلة الطويلة والمرهقة والممتعة أيضًا، ذلك الحضورُ المُشِعُّ لشخصية هذا الرجل صاحب أشهر وأضخم قاموس ومعجم لغوي “عربي” وصلنا عبر العصور!

لم يكن مجرد تأليف كَمِّيٍ ولم يكن مجرد الزهو والافتخار بهذا الجهد الضخم الذي يُفني الأعمار (على اعتبار أنه لم يؤلف غيره، وإن كان ألف غيره في مجالات معرفية أخرى وبأحجام تفوق حجم تاج العروس!)، إنما وببساطة وضعية هذا العمل الموسوعي العجيب ضمن سياق أوسع وأشمل يمكنُ أن نُطلق عليه بذور “إحياء” أو عصر “رينيسانس” عربي، يَنبشُ ويُفتشُ في أصولنا التراثية “المعرفية” والانطلاق منها والتأسيس عليها وصولًا إلى إحداث “نهضتنا” نحن الآن وهنا!

أكدَ تلك الفكرة وصاغها بلغةٍ واضحةٍ ومنضبطةٍ المؤرخ القدير الدكتور (الشلق) في كتابه عن «النهضة والاستنارة»، إذ يكشفُ لنا عن تلك الحركة المزدهرة في تأليف المعاجم اللغوية في تلك الفترة، حتى أن هناك ستُّ نسخٍ بين كل ثماني نسخ من المعاجم ترجعُ إلى القرن الثامن عشر، وارتبط ذلك بعمل علماء الحديث أيضًا، ويبرزُ معجم «تاج العروس» بوصفه أحد أهم منجزات هذه الفترة، التي شهدت أيضًا نشاطًا في الكتابة في النحو وكان من فرسانها (الزَّبيدي) نفسه، و(الصبان).

ويلاحَظُ أنَّ علماء هذا العصر كانوا بعامةً من «الموسوعيين»، الذين درسوا وكتبوا في أكثر من علم وفن وموضوع، والذين لم تشهد مصر مثيلًا لهم طوال القرون الثلاثة السابقة قبل القرن الثامن عشر. وكانت تلك بطبيعة الحال مرحلة من مراحل التطور العلمي والفكري، والتي شكَّلت تمهيدًا وقاعدة لمرحلة التخصص التي تليها، بل هناك من يرى أنَّ «دائرة المعارف» الفرنسية التي لا يضارعها إلا القليل في عصرنا، والتي كانت من نتاج شخصيات عظيمة في فرنسا، ربما لا تُضارعُ «تاج العروس»[3].

ومن المهم إلقاءُ بعضُ الضوء على هذا العمل الفذِّ الذي يتجاوز كونهُ مجرد معجم أو قاموس، فتلك فيما أظن نظرة قاصرة ومحدودة لقيمة الكتاب ومادته الهائلة وجمعه الاستقصائي المُذهل لكل معارف وفنون العصر.

الكتاب عُنوانه بالكامل «تاج العروس من جواهر القاموس» (أو الحاوي من جواهر القاموس)، وهو شرح للقاموس المحيط الذي ألفه اللُّغوي الشهير (الفيروز آبادي).

ويقعُ هذا الشرح في عشرة أجزاء (تصل في النسخ المطبوعة المحققة إلى أربعين مجلدًا)، واستغرق (الزَّبيدي) في تأليف كتابه الضخم أربعة عشر عامًا، فقد بدأ الاشتغال به في عام 1774هـ/ 1760م وانتهى منه في عام 1188هـ/ 1774م.

(6)

لقد بدأ (الزَّبيدي) في تأليف هذا الكتاب بعد أن مضى على قدومه إلى مصر سبعُ سنوات كاملة، فقد جاء إلى مصر كما ذكرنا آنفا 1754م، بعد أن بلغ التاسعة والعشرين من عمره… لكن لماذا قرر التصدي لهذا العمل الضخم، بل بالغ الضخامة؟

يجيبنا عن ذلك الدكتور (عبد الله العزباوي) في أثناء رصده لنشاط الحركة العلمية في القرن الثامن عشر، وبخاصة نصفه الثاني، فيوضحُ لنا أن (الزَّبيدي) اضطلع بشرح هذا الكتاب عندما شعر برغبة علماء الحديث في فهمه لأنهم كانوا محتاجين إليه للاستعانة به في دروسهم ودراساتهم، فقد ذكر الزبيدي في ديباجة هذا الشرح: “فلما أنست من تناهي فاقة الأفاضل إلى استكشاف غوامضه والغوص على مشكلاته، ولا سيما من انتدب منهم لتدريس علم غريب الحديث، فناط به الرغبة كل طالب وعشا ضوء ناره كل مقبس ووجه إليه النجعة كل رائد”.

ويتفقُ هذا الذي ذكره (الزَّبيدي) مع ما ذهب إليه العلامة (ابن خلدون) في مقدمته من أن الاهتمام بالعلوم اللُّغوية راجعٌ إلى أنها علومٌ مساعدةٌ للعلوم الشرعية حتى يمكن فهم معانيها وفهم ما جاء في الكتاب والسنة، ويعودُ (الزَّبيدي) فيؤكد هذه الحقيقة فيقول:

“فإنني لم أقصد سوى حفظ هذه اللغة الشريفة، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية، ولأن العالم بغوامضه يعلمُ ما يوافق فيه النية اللسان، ويخالف فيه اللسان النية”.

تَطلبَ شرحُ القاموس من (الزَّبيدي) مجهودًا ضخمًا، فقد كان لزامًا عليه أن يقرأ كلَّ معاجم اللغة السابقة عليه، مثل (الصحاح للجوهري واللسان للفيروز آبادي والجمرة لابن دريد و«المخصص» و«المحكم» لابن سيده و«التهذيب» للأزهري وفصيح ثعلب والأساس والفائق للزمخشري وإصلاح المنطق لابن السكيت والخصائص لابن جني والمجمل لابن فارس والمعرب للجواليقي…)، وقد قرأها بأكملها وهذا وحده جهد مذهل.

لكن هل اكتفى بقراءة هذه الأصول والمعاجم اللغوية فقط؟

أبدًا. فإلى جانب هذه القواميس والمعاجم الضخمة قرأ (الزَّبيدي) أيضًا كتب التواريخ والحديث والإسناد والأنساب والرجال والتراجم وتقويم البلدان «الجغرافيا، والرحلات» والطب والحيوان والنبات ودواوين الشعر، ولو أوردتُ أسماء هذه الكتب التي تشكِّل تقريبًا ما يزيد على ثلاثة أرباع المكتبة التراثية العربية التي وصلتنا منذ عصر التدوين وحتى عصره لاحتجنا مقالين أو ثلاث لإيراد هذه القائمة بكاملها!

وهكذا نرى أنَّ المصادر التي اعتمد عليها في تأليفه للشروح على القاموس واسعة ومتباينة وغزيرة، وهي إن دلَّت على شيء، فإنما تدلُّ على ثقافته الواسعة “المذهلة” المتعددة الألوان وعلى معرفته الوثيقة بالمكتبة العربية والمصادر الأصلية المهمة.

وكان منهجهُ في شرح القاموس، هو أن ينسب كثيرًا من التفسير اللُّغوي إلى قائليه إرجاعًا لمتن القاموس إلى أصله الذي استمد منه، ثم يشرح “المادة” التي ألفها (الفيروز آبادي)، ويضيفُ إليها معتمدًا في ذلك على المعاجم اللغوية الأخرى، فينتقي منها ما لم يذكره صاحب القاموس ويضيف إليه، كما يستعينُ بكتب التاريخ والتراجم والجغرافيا والرحلات، فيضيف أسماء الرجال والمواقع والبلدان المتصلة بكل مادة بشرحها، ثم يضيفُ بعد هذا كله جديدًا من عنده يضعه تحت عنوان «المستدرك».

وهذا الجديدُ في معظمه هو خلاصةُ تجاربهِ والمعرفة التي حَصَّلها في أثناء رحلاته داخل  الهند وبلاد العرب ومصر، فقد يكون هذا «المستدرك» لفظًا علميًّا يستعملهُ أهل مصر أو اليمن أو الهند، وقد يكونُ موقعًا في قُطر من الأقطار، ولهذا كانت لهذه «المستدركات» أهميةٌ كبرى لأنها تتضمنُ معلوماتٍ جديدةٍ انفرد بها وحدهُ، ولا توجدُ في أي مرجعٍ أو معجمٍ لُغويٍّ آخر.

وقد امتازت شروحهُ على القاموس بروحٍ “تاريخية” يَعرفُ معها الباحث والدارس وجوهًا لمعاني الكلمات التي تتعلق بحياتها واصطناعها وهو ما ينقص معاجمنا العربية حتى اليوم، فليس هناك في العربية معجمٌ يذكر حياة الكلمات وموتها، ولكن (الزَّبيدي) تتبعَ حياة الكلمات وموتها.

وقد ذاعَ أمرُ هذا الشرح في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، فعندما أنشأ (محمد بك أبو الذهب) مدرسته الشهيرة بالقرب من الأزهر ووضع فيها خزانة للكتب واشترى جُملةً من الكتب أُشيرَ عليه بشراء هذا الشرح لأنه “إذا وُضعَ بالخزانة كَمُلَ نظامها وانفردت بذلك دون غيرها”، ولذا فقد اشتراه بمبلغ 100 ألف درهم. كما اشترى هذا الكتاب أيضًا كل من سلطان تركيا وسلطان دارفور وسلطان المغرب.

يمكننا القول في ختامِ هذا التعريف المُختصر بـ«تاج العروس»، إنهُ يكشفُ عن عقلية مؤلفه التي تمارس وظيفتها في مجالٍ واسعٍ من العلاقات العلمية والمعرفية، والذي يقفُ على قدمٍ وساقٍ مع دوائر المعارف والموسوعات الشهيرة في أوروبا، وفق ما أثبتت الدراسات التاريخية الحديثة والمعاصرة.

المراجع:

[1] – إيهاب الملاح: الشيخ حسن العطار (المجددون)، دار ريشة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2024.

[2] – أحمد زكريا الشلق: من النهضة إلى الاستنارة في تاريخ الفكر المصري الحديث، دار الكرمة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2022، ص 19.

[3] – أحمد زكريا الشلق، المرجع نفسه، ص 20.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete