تكوين

إذا كان دور الفلسفة إنتاج المفاهيم كما صرح جيل دولوز مرارًا، فينبغي أن يكون الدرس الأول في الفلسفة هو مفهوم المفهوم؟ بمعنى ما المفهوم؟ وهكذا يمكنني القول، المفاهيم مواضعات اصطلاحية تعيد بناء العالم نظريا لجعله قابلا للفهم، وجعلنا قادرين على التفاهم. المفهوم هو ما يمكننا أن نفهمه أوّلا، نفهم به ثانيا، ونتفاهم من خلاله ثالثا.

محاولة فهم الحب، أي جعله مفهوما بتلك الدلالات، تضعنا أمام خيارين اثنين، إما أن نعتبره حاجة وفق مقاربة أفلاطون، أو نعتبره رغبة وفق مقاربة سبينوزا. الرؤيتان كلاهما مبرر، لكنهما تحملان بعض الصعوبات، وهذا بيان ذلك:

اعتبار الحب حاجة هو رأي مبرر، إذ لا أحد ينكر حاجتنا إلى الحب. إلّا أن هذا التعريف يحمل مفارقة شائكة طالما من طبيعة الحاجة أن تختفي مباشرة عقب تلبيتها. بعد أن أتناول وجبة الأكل تنتهي حاجتي إلى الأكل ولو مؤقتا، بعد أن أمارس الجنس تنتهي حاجتي إلى الجنس حتى إشعار آخر. لكن ماذا عن الحب؟ قد يبدو الحب بدوره كذلك، ما أن يتحقّق حتى ينتهي، ما أن يحصل كل واحد على الآخر حتى تنتفي الحاجة. وربما هذا ما يفسر الملل الذي يتسلل إلى قلاع الحياة الزوجية، فيلجأ البعض إلى بعض الحيل أو بعض التسويات، ويغرق الكثيرون في صقيع الطلاق الصامت.

إلّا أنّ هناك استدراك ممكن:

الحاجة إلى الحبّ لا تنتفي بالضرورة عقب تحققها بل قد تدوم، وذلك بسبب أن الحب بطبعه غير قابل للإشباع.

“ماء العشق أشربه فأزداد عطشا” ! تلك شكوى كل الذين ذاقوا العشق منذ غابر العصور إلى اليوم.

كيف نفسر ذلك اللاإشباع؟

هناك تفسيران ممكنان:

التفسير الأول، إذا كانت الحاجة إلى الحب غير قابلة للاكتفاء فلأنّ الحبّ تبادليّ بطبعه. الحب من جانب واحد لا يدوم إلّا إذا تحوّل إلى حالة مرضية. الحب لا يكون إلا على النحو الآتي: ما أعطيه لك ينبغي أن تعطيه لي في الحال بلا نقصان. عندما أمسك بيدك تمسك بيدي أنت أيضا في الحال، وإلا لن يدوم الأمر طويلا. حين أقبل فمك تقبل فمي بدورك في الحال وإلا لن أواصل طرق الباب. حين أقول “أحبك” ينبغي أن يأتي رجع الصدى في الحال، “وأنا أيضا”، وإلا لن أعيد قولها. في الحب كل ما أعطيه آخذه في الحال، لذلك لا شيء ينقضي.

التفسير الثاني، إذا كانت الحاجة إلى الحب دائمة فلأن إشباعها لا يتحقق بنحو كامل. مثلا، يسكنني جزء أنثوي ناقص وأسعى إلى إكماله من خلال المرأة التي أعانقها. في المستوى الميثولوجي فإن حواء التي كانت ضلعا من آدم سيمثل انفصالها انشطارا للجزء الأنثوي، وسيكون الحب بالتالي هو حنين الجزء إلى بعضه. إلا أن التطلع إلى الاكتمال لا يتحقق بالتمام والكمال طالما جزئي الأنثوي غير قابل للاكتمال. مهما اعتصرتُ المرأة بين ذراعي وحاولتُ ابتلاعها بالشفتين فلن تعود إلى أضلعي، سيبقى جزئي الأنثوي ناقصا، وهي كذلك سيبقى جزءها الذكوري ناقصا. بهذا النحو تظل الحاجة إلى الحب غير قابلة للإشباع، ما يبرر الخيبة الملازمة لمعظم قصص الحب.

في كثير من اللغات الأوروبية يتم التعبير عن الحب باستعمال فعل، “تنقصينني”، أو “تنقصني”، وهو فعل يحيل إلى الخصاص المزمن، حيث يبقى الشوق حارقا مهما بلغت درجة الارتواء.

إذا كان الأمر كذلك فما جدوى محاولة إشباع حاجة غير قابلة للإشباع؟

هنا يمكننا أن نفترض بأنّ الحب ليس حاجة، وبالتالي ليس خصاصا نسعى إلى تعويضه، بل هو رغبة كما يرى سبينوزا. الحب الصادق طاقة حيوية تدفعنا إلى النمو المتبادل.

إلا أن تعريف سبينوزا للحب باعتباره رغبة، قد يوقعنا بدوره في نوع من المفارقة. اعتبار الحب رغبة قد يثير فينا غريزة التملك. على أن الحب قد يبدو تملكيا بالفعل، إذا ما أقع في حب امرأة حتى أرغب في تملكها، وهي بدورها ما أن تقع في حبي حتى ترغب في تملكي.

أنت لي وحدي ! أنا لك وحدك ! ذلك هو الغزل الذي يريد أن يسمعه العشاق من أفواه العشاق.

ما المشكلة؟

سواء أكانت الرغبة هي أن أكون كذا، أو أمتلك كذا، فمشكلة الرغبة أن من طبيعتها عدم الاكتفاء. أرغب في أن أكون موظفا، ثم رئيس مصلحة، ثم رئيس قسم، ثم مدير مديرية، إلخ. أرغب في نيل جائزة أكاديمية أولى ثم ثانية، إلخ، أرغب في بطولة رياضية محلية، ثم وطنية، ثم قارية، ثم عالمية، ثم ثانية، وثالثة، إلخ. في مستوى الحاجة فأنا أحتاج إلى امرأة واحدة، أو اثنين على أبعد تقدير، (كذلك المرأة)، لكني في مستوى الرغبة فقد أرغب في كل امرأة أراها، قد أرغب في عشرات الحريم كما كان يفعل السلاطين والخلفاء والأباطرة قديما، إلا أن الذي يحدث في تجربة الحب هو شيء آخر، إذ يحدث للرغبة نوع من التثبيت الحاد، تحت وعد ملحمي يقول: أنت أو لا أحد.

سأحبك إلى الأبد. قد تكون العبارة صادقة بالمعنى الآتي: حتى وإن فشلت علاقتي بك فلن أحب أحدا بعدك. إنه وعد نبيل لكنه مأساة الكثيرين.

ما الرغبة إذا؟

الرغبة هي مجموع الدوافع الإنسانية التي لا تضبطها الغرائز، وهي لذلك خاصية إنسانية خالصة. الحيوان مبرمج على ما يريد وما لا يريد، عكس الإنسان الذي قد لا يعرف ماذا يريد؟ قد لا يعرف متى يريد؟ وقد لا يعرف كيف يريد؟ قد يرغب في أي شيء، كل شيء، أو لا شيء، وقد يرغب فيما ينفعه كما يرغب بالقدر نفسه فيما يضره. لا ضوابط لرغباته، بل لا حدود لها، إذ قد يرغب الإنسان في شيء لكنه ما أن يحصل عليه حتى يرغب في شيء آخر.

في العصور القديمة كان الإنسان يرغب في أن يذهب إلى كل مكان في الأرض، وهو اليوم يرغب في أن يذهب إلى الكواكب الأخرى، المتطوعون موجودون من الآن، وذلك دليل إضافي على أن الرغبة بلا حدود.

يرغب الإنسان في السفر بضعة أميال، وما أن يدركها حتى يرغب في الذهاب أبعد، ثم أبعد. قدر الرغبة ألا تكتفي بقدر معين.

إذا كان الحب رغبة فإن رغبة الحب خلاف سائر الرغبات الأخرى، تخضع لقدر عال من التثبيت، وهنا تنشأ تعقيدات الحب: الرغبة بطبعها تغلي في كل اتجاه وبلا حدود، لكنها في حالة الحب عليها أن تهدأ، عليها أن تتعلم كثيرا من الزهد. لذلك يبدو أن دور الحب هو العمل على ترويض الرغبة، وهنا لا أقصد الرغبة الجنسية وحدها، بل أقصد كل الرغبات الإنسانية، سواء أكانت رغبات الكينونة أم رغبات التملك.

حين تبلغ الرغبة في السلطة أو المال أو الشهرة من الجموح ما قد يؤذيها ويؤذي صاحبها كما يحدث للملايين، فلن يقدر على لجمها وترويضها سوى الحب.

قد لا ينجح الحب دائما، قد يفشل أحيانا، لا ننسى ذلك، لكن كل ما يحتاجه المرء حينها هو الزيادة في الجرعة. كثيرا ما ننسى ذلك.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete