الحقيقةُ المغيَّبةُ في نهضويةِ فرح أنطون

طبعت الحداثة بقيمها المختلفة مُجمل النصوص التي نَسَجَهَا فرح أنطون عن النهضة العربية وسبل تحقيقها، وأبرَزَ الأغلبُ من الكتابات التي تناولت فكره الجوانب المتصلة بالعلمانية والديمقراطية والعقلانية، باعتبارها أركان النظام المعرفي المتقدم الذي أسهم في تحقيق نهضة الغرب الحضارية، لاسيما في ميادين العلم والثقافة وأنظمة الحكم. لقد أنصفت هذه الدراسات فرح أنطون وسلَّطت الضوء على دوره في إثراء الفكر العربي الحديث، فكان إلى جانب عديد من حاملي لواء التحديث، يتقدمون معارك الدفاع عن سيادة العقل وقدسية الحرية، لكن ثمة مسكوتٌ عنه في هذه الإضاءات بخصوص انتاجه، لقد أَهمَلت النظر إلى أصالة الثقافة المسيحية وقيمها في تجربته والتي كانت حاضرةً، سواء في حواره مع محمد عبده عن الفصل بين الدين والدولة (ابن رشد وفلسفته،الإسكندرية،١٩٠٣) أو في دفاعه عن المبادئ المسيحية في وجه العقيدة اليهودية في حواره مع استير(اليهودية) (بلسان إيليا) في (أورشليم الجديدة، أو فتح العرب بيت المقدس، الإسكندرية ١٩٠٤)، أو في تناوله للمسألة الاجتماعية في (المدن الثلاث، الدين والعلم والمال، الاسكندرية١٩٠٣) سوف أشيرُ بما يكفي من الإيجاز إلى هذه المصادر، من أجل إبراز أصالة هذه الثقافة في تحديثية فرح أنطون ومنحاهُ الإصلاحي.

١—الفصل بين الدين والدولة

اعتقد فرح أنطون اعتقادًا جازمًا أن العلم هو أساس التقدُّم على صعيد الاجتماع وللمجتمع قوانينه العلمية القائمة على مبادئ عقلية، دون أن ينكر على الدين دوره في بناء الأخلاق وصقلها وإغنائها بما يعززُ أبعادها الإنسانية الكلية الجامعة، ويُحيي في أعماق الإنسان جَذوةَ الأمل بسعادة تنتظرهُ على درب التقوى والفضيلة.
لم يكن القولُ بالفصل بين الدين والدولة خيارًا محرجًا لفرح أنطون، فالمسيحيةُ التي يعتنقها أجازت الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية، ما سهَّلَ لهُ إمكان الدفاع عن العلم انطلاقًا من إيمانه بدور العقل في فهم الأشياء والظواهر وإدراك عللها واكتشاف أبعادها، وهو في ذلك لا يخرجُ عن إيمانه بالدين ودوره، يقول: “ذلك أننا نرى أن السلطة المدنية في الإسلام مرتبطةٌ بالسلطة الدينية بحكم الشرع، لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معًا، وبناء على ذلك فإن التسامح يكون في هذه الطريقة أصعبُ منهُ في الطريقة المسيحية، فالديانة المسيحية قد فصلت بين السلطتين فصلًا بديعًا، مما مهَّدَ للعالم سبيل الحضارة الحقيقية والتمدُّن الحقيقي وذلك بكلمة واحدةٍ “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه” (ابن رشد وفلسفته،ص١٢٥).

أفسحت المسيحية مجالًا واسعًا أمام العقل باعتباره ملكةً أنعم الله بها على الإنسان، فمنحته الحرية في ممارسة وظيفته والانطلاق في معركة البحث عن الحقيقة مستخدمًا أدواته، متجاوزًا المعوقات التي نصبها على دربه أعداؤه، ومنهم بعض رجال الدين الذين عملوا على تحجيم دوره واستتباعه لأفهامهم المُغرضةُ ومقاصدهم المستثمِرةُ في الدين. هذه المرجعية الإنجيلية عند فرح أنطون هي مقدمة كبرى انطلق منها في النظر إلى مسائل الحياة وقضاياها، وعلى قاعدة هذا الفهم لمبدأ الفصل بين الدين والدولة، يعود إلى “الخطبة على الجبل” ليُمعنَ في إثبات هذا المبدأ وليُظهر أن المسيحية وفي ضوء المبادئ التي زيَّنت هذه الخطبة، تمكَّنت من الانتصار على جميع “العثرات اليهودية والرومانية وغيرها” (فلسفة ابن رشد،م.س.ص١٩٣)، حتى أن أعداء المسيحية يرون “أن ما أقام الديانة المسيحية في الأرض لا سيف ولا ديوان تفتيش ولا دول، وإنما الذي أقامها تلك المبادئ البسيطة التي هي صورة للكمال الذي يجب على البشر أن يجتهدوا لرفع نفوسهم إليه” ( ابن رشد وفلسفته،م.س.ص١٩٣). وإذا كانت “خطبة الجبل” تُفقِدُ الإنسان رغبتهُ في التعلِّقِ في “الأرضيات”، فمن هو المسيحي إذًا؟ هو ذلك الذي لا يقتني ذهبًا ولا فضةً ولا يكنزُ شيئًا، هو الذي لا يخاصمُ أحدًا لأنهُ يفعلُ بالناس ما يريدُ أن يُفعلَ به، وإذا خاصمهُ أحدٌ لم يقاوم، بل إذا ضُرِبَ على خدٍّ أدار الآخر… (ابن رشد وفلسفته…ص.١٩٣-١٩٤). لقد أسهبَ فرح أنطون في شرح المبادئ الكلية والشاملة التي تمتازُ بها المسيحية وخطبة الجبل هي ذروتها، ما ساعدَ هذه الديانة على احتواء مُجمل الأفكار التي تنادي بالتحديث والتجديد وتأكيدها ترك (الفصل بين الدين والدنيا) قد ثَبَّتَ أسس التسامح والتساهل في الأرض بين الفئات والشعوب المختلفة، “أما نحن فنقول، والقول لفرح، إن النتيجة التي تخرج بها من تلك المقدمات هي أن الديانة المسيحية حفظت نفسها وحفظت المدنية وسهَّلت التساهل والتسامح في الأرض بين العناصر المختلفة بهذا التّرْك أي بهذا الفصل بين الدين والدنيا” (ابن رشد وفلسفته ص.١٩٤).

لا يترددُ فرح أنطون في العودة إلى المجمع الفاتيكاني الثاني لتأكيد استقلال الشئون الأرضية عن الشئون السماوية”، إذا كان المقصود باستقلال الشئون الأرضية أن الأشياء المخلوقة والمنظمات ذاتها لها نواميسها وقيمها الخاصة، فيجب على الإنسان أن يتعرَّفَ عليها تدريجيًا ويستخدمها وينظمها، فهذا النوع من الاستقلال المطلوب هو شرعيٌّ تمامًا، ولا يطالبُ المعاصرون فقط بهذا الاستقلال إنما هو مطابق لإرادة الخالق (الوثائق المجمعية، نقلها إلى العربية الآباء: يوسف بشارة، أغناطيوس عبدو خليفه اليسوعي “خبير في المجمع الفاتيكان الثاني”، فرنسيي البيطري، الجزء (١)، المطبعة الكاثوليكية،بيروت،ص.٧٥).

البحثُ في ماهية الأشياء والظواهر واكتشاف القواعد والنواميس التي تضبطها بواسطة العقل، إنما هو عائد إلى نعمة الحرية في استخدامه، وقد منحنا الله إياه وجعله المنارة التي تضيء أمامنا سبل الحياة، “فعلى الإنسان أن يحترم كل ذلك ويقرُّ الوسائل الخاصة لكل من العلوم والتقنيات. ولذا فالبحث المنهجي في كل فرع من فروع المعرفة لا يكون منافيًا للإيمان إن قادهُ الإنسان بطريقة علمية صرفه مراعيًا قواعد الأخلاق (المجمع الفاتيكان الثاني، ص.٧٥).

كان فرح يدركُ أن المجمع الفاتيكاني الثاني يعي حقيقة التغيُّراتِ في المجتمع ويرى ضرورة مواكبتها، فَعَمَدَ إلى استنطاق التاريخ ليُثبِتَ بالبحث والتحليل أن الديانة المسيحية بأبعادها الإنسانية الشاملة قادرةٌ على هضم واستيعاب كل حركة مغيِّرةٍ ومطوَّرِةٍ، وليظهر تلك الجدلية القائمة بين “الترك” وبين الظروف الاجتماعية التي أحاطت به.

يستفيضُ أنطون في توصيف الواقع الذي كان سائدًا بين اليهود والرومان قبل مجيء المسيح، كان الاضطرابُ قائمًا والفسادُ مستشريًا والشهوة مستأثرةٌ بكل طاقات النفس البشرية والمادةُ متسلِّطةٌ في مناحي الحياة كافة، ما دفع المسيحية إلى المناداة بترك شروط الحياة الدنيا ومغرياتها، فكانت دعوتها هذه سببًا في انتصارها وانتشارها “كان اليهود… خاضعين للسلطة الرومانية وكان الاضطراب شبيهًا باضطراب إيرلندا اليوم… وكان رؤساء الدين اليهودي ينتظرون مجيء المسيح الذي تدلُّ كتبهم عليه أي مجيء الملك الذي يجمع كلمتهم ويحرر أمتهم من نير روما ويبسط سلطتهم على جميع الأمم” (ابن رشد وفلسفته ص.١٩٤).

رأى اليهود المسيح ملكًا عنصريًا يرتبط بهم برباط العرق والدم، ومجيئهُ فقط من أجل نصرتهم وصون قوميتهم الضيقة والثأرُ من الرومان أعدائهم ومضطهديهم، لقد فاتهم إدراك حقيقة الرسالة المسيحية الإنسانية الشاملة التي لا تتوقف عند العرق واللون وسائر المعتقدات على اختلافها، لأن يسوع المُخِلِّص أتى من أجل خلاص البشرية جمعاء، وعليه فإن تدبير الدنيا وإصلاح شئونها وتحرير الأمة اليهودية من قبضة القيصر، ما كان ليحصل من وجهة نظر المسيحية بالثورة العنيفة، لأن العنف يُولدُ العنف فيستفحلُ الشرُّ ويعمُّ الخراب، لذا دعا إلى “إعطاء قيصر ما لقيصر”، والإصلاحُ الذي نحتاج إليه إنما هو في داخل نفوسنا لا خارجها. فالمسيحُ لم يأتِ إلَّا ليشفي النفوس من أمراضها، أمراض العنصرية والأنانية والحسد والعصبية وسائر الشهوات التي تجتاح الحياة الأرضية، وبذلك “كان كأنه حارب قيصر وخلع نيره أي أنه خلع نير القوة والوثنية ووضع مكانه نير الكمال الروحي، وهذا النير كُسر بعد ذلك نير قيصر، لأن قيصر نفسه… دخل في الديانة المسيحية وبذلك كان انتصار المسيح عليه عظيمًا جدًا”.

٢—لحظةُ الإفصاحِ والتهفيت

إذا كان كلام المسيح في الإنجيل قد شَكَّلَ مرجعية فرح في الفصل بين الدين والدولة، فإن “أورشليم الجديدة” كانت المناسبة التي أفصح فيها، على لسان إيليا عن عمق إيمانه بالحقيقة المسيحية، وأبرز بواسطتها تهافت الاعتقاد اليهودي وهشاشةُ المنطق التسويغي الذي جرى على لسان أستير الفتاة اليهودية.
أورشليم الجديدة عبارة عن رواية تتحدثُ عن فتح العرب لبيت المقدس، تتناول الأسباب التي أدَّت إلى سقوط الدولة المسيحية على امتداد فصولها يَظهرُ إيمان أنطون جليًا عبر ذلك الحوار الذي حصل بين إيليا (بطل الرواية وحامل وجهة نظر أنطون) وتلك الفتاة اليهودية أستير التي جاءت إلى بيت المقدس ليلة الميلاد وأنقذها إيليا من أيدي العامة التي شعرت بدخول يهودي إلى المدينة لمجرَّد انطفاء الشموع المضاءة، أنقذها من الجموع المؤمنة وآواها في أحد الأديرة. عانت رؤية الصليب مرفوعًا فوق عتبة الغرفة التي كانت تأويها، من ذلك النور السماوي الذي يتجاوز في معناه حدود المعرفة العقلية البحتة، أضناها أمر التواجد في حضرة من جنى عليه شعبها وصلبه بعد أن أهانوه وأذاقوه مُرَّ العذاب.

أمام إنكار أستير مجيء المسيح، اعتمد فرح في دحض ادعائها على مجموعتين من البراهين: التاريخية والعقلية المنطقية، لقد آثر الابتداء بالبراهين التاريخية الموجودة في التوراة التي يعتقد اليهود صحتها، لإثبات مجيء المسيح، فيذكر ما جاء في الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين عن مجيء “شيلون” أي المسيح، إذ تنبَّأ يعقوبُ لابنهِ يهوذا أن قضيب الملك لا يزول من يهوذا حتى يجيء المسيح، فقضيبُ الملك قد زال من يهوذا وتفرقت مملكته… مما يدل على أنَّ المسيح قد أتى، ثم يعودُ فرح فيستشهد على لسان إيليا بنبوءة أشعيا في إصحاحه السابع عن حبل السيدة العذراء وولادتها ابناً اسمهُ عمانوئيل أي الله معنا وهكذا صحَّت النبوءة وولِدَ المسيح في بيت لحم وهو الصبي المنتظر طبقًا لقول ميخائيل في الإصحاح الخامس: “أما أنتِ يا بيت لحم… فمنك يخرجُ الذي يكون متسلِّطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم، منذ الأزل” (أورشليم الجديدة ص.٨٤).
لقد أدرك فرح أن هذه الحقائق قد فعلت فعلها في نفس اليهودية أستير، فلم تستطع نفيها، ما شجَّعهُ على دعوتها إلى عدم الخوف من الحقيقة التي بانت أمامها، إنها حقيقة تجرح وتعذِّب، لكنه يبقى دون العذاب الذي لقِيَه المسيح، مستذكرًا أشعيا في الإصحاح الثالث والخمسين في قوله إن شيلون كان “محتقر مخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن” (أورشليم الجديدة ص٨٤). إن عذابكِ من وهج الحقيقة ليس شيئًا أمام العذاب الذي تحمَّلهُ يسوع على يدِ قومك الذي كان يحبهم ويحلو له العشرة معهم “ليس مبغضي تعظّمَ عليّ فأختبئ منه بل أنت إنسان عديلي ألفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة” (أورشليم الجديدة ص٨٥).
لم يكتفِ فرح في حجاجه بما جاء في التوراة على لسان الأنبياء من براهين تاريخية، بل انصرف إلى تعزيز موقفه بالأدلة العقلية، فالبرهان العقلي غالبًا ما يحوزُ على الإجماع أكثر من الكتب التي قد يؤوِّلها فريق تأويلًا يوافقُ مذهبهُ ويخدمُ مصالحهُ، فإذا نظرنا إلى الأشياء بعقولنا “ألا يجبُ أن تعتبري انتصار المسيحية في الأرض وتغلُّبها على الأديان القديمة وعقول ملايين البشر دليلًا على أنها من أفعال الله تعالى، فهذا برهان واقعي بسيط على أن تأويلي للتوراة أصحُّ من تأويلك، ولا ينقضُ هذا البرهان إلا القول بأن الله لا يدبِّرُ شئون الكون، بل ليس بموجود أصلًا… فيجبُ علينا أن نُسلِّمَ لإرادة الله ونعترف بأفعاله ولا نعارض في أحكامه” (أورشليم الجديدة ص٨٥).

إن إرادة الله هي التي دبَّرت كل شيء، ونكران هذه الحقيقة هو نكران لإرادة الله ولوجوده في آن، وانتصار المسيحية ورسوخ مبادئها وتعاليمها في نفوس ملايين البشر هو دليلٌ قاطعٌ على أنها من أفعال الله، لذلك وجبَ علينا الإقرارُ والتسليمُ والاعترافُ بأفعال الإرادة الإلهية وأحكامها.

إن الحجج التي أدلى بها فرح أصابت صميم العقيدة اليهودية، كان أثرها مؤلمًا في نفس أستير، لقد فهمت قصده وإيحاءه بأن إرادة الله هي وراء سقوط اليهود وتشتتهم وضياعهم، فحاولت أن تدفع هذا الواقع عن أمتها وادَّعت أن الله لم يسقط هذه الأمة إلا لينهضها، وأوردت دعمًا لادِّعائها، قولًا للنبي هوشع في إصحاحه الثالث “لأن بني إسرائيل سيقعدون أياماً كثيرة بلا ملك… ويفزعون إلى الحرب وإلى وجود في آخر الأيام” (أورشليم الجديدة ص٨٦). لكن فرح لم يتردد إثر نَدْبِها لأحوال البؤس والاضطهاد التي عانها الشعب اليهودي، في مؤاساتها نافيًا أن يكون للمسيحية يدٌ في مصاب هذه الأمة “كوني على ثقة من أن المسيحيين الذين يصنعون هذا يخرجون عن المسيحية، لأن المسيحية إنما هي حبُّ الأعداء ومباركة المبغضين” (أورشليم الجديدة ص٨٧).
كان البعدُ الـ “أونيفرسالي” للقيم المسيحية حاضرًا بقوة في خلفية أنطون الفكرية، لعلَّها كانت الباب الذي نظر منه إلى الحداثة وقيمها، لنقل أنه أتى إلى القيم الإنسانية الحداثية من تلك الآفاق الجامعة التي رسمتها حقول العلم والعمل في الإنجيل، فكانت له خير المقدمات إلى محبة الآخر والانهمام في قضاياه ومناهضة الافتئات على إنسانيته واغتصاب حقوقه.

لم يستطع فرح مع روحه المسيحية السمحاءُ أن يسكت عن إفهام الأمة اليهودية التي استغلَّت مأساتها استغلالًا طال جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتذكيرها بـ “أنَّ الذي داس الحق في زمانه لا تؤثر كثيرًا في النفوس شكواه من دَوْس الناس حقّه” (أورشليم الجديدة ص٨٧).

لقد اغتال اليهود الحق وداسوا عليه عندما سفكوا دم المسيح وصلبوه، فعلوا به ما فعلوا عندما ساءهُ، وهو الحق والعدل والمحبة أن يرى شعب إسرائيل يخالف مضمون التوراة، الكتاب المقدَّس المُفعم بمبادئ الرفق والعدالة والصدق، وقد همَّشهُ الكهنة وحوَّروا مضمونهُ “فالكهنةُ ألَّفوا في الأمة طبقة ممتازة لها السعادة والقوة والثروة والجاهُ وكان الشعبُ تحتهم يئنُّ من الفقر والضيق والذلِّ” (أورشليم الجديدة ص٨٨).

٣—إنجيلية فرح أنطون.

لم يخفِ أنطون اتِّباعهُ المذهب الإنجيلي، فنقمَ على رجال الدين الذين تحصَّنوا بالامتيازات التي وفَّرها لهم ثوب الكهنوت، فإذا بهم يتمسكون بمظاهر الدين وشكليات التديُّن، ويتعامون عن حقيقة الدين وجوهره “فوضعوا أن العبادة الحقيقية لا تكون إلا في هيكل أورشليم أي أنهم جعلوا بين نفوس البشر وبين خالقها حاجزًا عظيمًا لا يرفعهُ إلا الكهنة خَدَمَةُ ذلك الهيكل ولا عجب في ذلك لأن دخْل الهيكل كان المورد العظيم لرزقهم وثروتهم” (أورشليم الجديدة ص٨٨). لم يستطع المسيحُ السكوت عند رؤيته هذا الخروج الفاضح على الشرائع الإلهية، “فنادى أن العشَّارَ الغريب المنبوذ أفضل من الكاهن الفرِّيسي إذا هو استقبل الله بقلب نقي، والسامريُّ المضطهدُ المحتقَرُ أفضل من اليهودي إذا هو أغاث غريبًا جريحًا على طريق أريحا ولم يغثْه اليهودي” (أورشليم الجديدة ص٨٨). لقد وَضعت أقوال المسيح وأفعاله الأساس المتين لمبادئ المحبة والعدالة والإخاء بين جميع البشر، هادمًا العوائق الاجتماعية والعرقية الموضوعة بينهم، جاعلًا معيار الفضل والصلاح محبة الآخر وفعل الخير المجرَّدِ تجاه أي من الناس “ولما قالت له السامرية على بئر “شكيم-نابلس” أن اليهود يقولون أن الصلاة لا تجوز إلا في أورشليم صاح بها قائلًا: أيتها الامرأة قد جاءت الساعة التي فيها يُعبد الله في كل مكان بالحق والروح” (أورشليم الجديدة ص٨٨)، أي أن كل إنسان يجبُ عليه أن يكون كاهن نفسه وعبادته يجب عليها أن تكون في كل مكان بالحق والروح أي بطهارة القلب وصفاء الضمير، بعيدًا عن المظاهر المادية والمقاصد الدنيوية.
لقد أحدثت المسيحية بأبعادها الإنسانية الزاخرة بالمحبة وبذل الذات إنقاذًا للبشرية، تحوُّلًا جذريًا في النظر إلى الإنسان والقيم المعزِّزة لوجوده وكرامته، فالمسيحُ واجه الموت بالمحبة والغفران “أغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعلمون ماذا يصنعون”، محدِثاً في انتصاره عليه بالقيامة، تحريرًا للبشرية من وطأة الخطيئة التي رزحت تحتها قبل تجربة الفداء العظيمة. من هنا كانت صيحةُ فرح “لنجثُ كلُّنا أمام الصليب لأنه رمز أبدي لا يفنى إلى الحقِّ الذي يجبُ ألا يداس في العالم وإذا داسه أحد فإنه ينتصر أبداً” (أورشليم الجديدة ص٨٩).

٤—رسالة الدير التقوية والاجتماعية

إن نقمة فرح على رجال الدين لم تمنعه النظر إلى المؤسسات الدينية الرهبانية، نظرة واثقة إلى دورها في المجتمع على صعيدي التقوى والإنماء الاجتماعي، فوجود الأديرة ضروري من أجل تلبية الحاجات الروحية عند بعض النفوس التوَّاقةُ إلى العزلة والتعبُّد، ما لا يتعارض مع رسالة الدير المدنية والاجتماعية “فالدير عبارة عن قوَّة ممدِّنة للجهات التي يكون الدير قائمًا فيها، والديور تقام عادة في القفار والجبال والقرى البعيدة، أي في الأماكن المحتاجة إلى… تعمير وإحياء، فتأمَّل مقدار الخير الذي يستطيع الدير صنعه في تلك الجهات” (الوحش الوحش الوحش، أوسياحة في أرز لبنان، الإسكندرية ١٩٠٣، ص١٧). جعل فرح الدير في دوره الاجتماعي مؤسسة عظيمة يجتمع حولها أهل القرى ليتعرَّفوا على أيدي الرهبان إلى فضائل التقشف والتقوى، ويتعلموا طريقة زراعة الأرض وإنشاء صناعات جديدة يعتمدون عليها في جميع شؤونهم العملية اعتمادًا متبادل النفع بين الفريقين “فإن الدير يصير في هذه الحالة عبارة عن مركز أعمال القرويين ومستشارهم في جميع أشغالهم” (الوحش… ص١٧).

يحلو لفرحٍ النظر إلى ذلك الراهب منصرفًا بعد تأدية صلاته وإتمام فرضه الروحي، إلى حقول القرية مع معوله وفأسه، حيث ينتظره أهلها بوصفه رسول العلم والمدنية، يسترشدون بإرشاداته التي راكمها بالدرس والاختبار، والتي ما كانت لتصل إليهم دونه. ولا يعادلُ هذه المهمة بالنسبة لفرح سوى رؤيةُ ذلك الراهب خارجًا من الدير وبيدهِ الإنجيل إلى عيادة مريض في القرية أو تسلية حزين “ولست أعرف شيئًا في هذا العالم يعادل نفعهُ نفع الديور في التمدين والتعمير إذا سلكت بإخلاص ونزاهة هذا السبيل” (الوحش…ص١٧).
يُعوِّلُ فرحُ كثيرًا على مجتمع الدير، على الرهبان هذه الفئةُ من الناس التي أدارت ظهرها لمفاسد المجتمع وضغط الإغراءات الدنيوية، “لقد خرجوا عن دائرة البشر، ويصير البشر في الاجتماع ينظرون إليهم نظرهم إلى معلمين مرشدين موضوعين فوقهم، فكأن الإنسانية في هؤلاء المنفردين قد تكررت وصفَت وصارت جديدة لا همَّ لها في الارض غير فعل الخير مساعدة الضعفاء” (الوحش…ص١٨). لم يفُتْ فرح الإشارة بإعجاب إلى، المعيشة الديرية الاشتراكية المحضة التي تعيشها الأديرة وتلك الحياة الأخوية التي تسودها المساواة والمحبة “فإن معيشتها اشتراكية محضة، الكلُّ متساوون قولًا وفعلًا” (الوحش…ص١٩)، فلا ملكية شخصية في الدير، فكل شيء بين الرهبان مشتركًا، لكنهم مع تساويهم هذا خاضعون إلى سلطة عليا خضوعًا تامًا لأنهم يثقون بها كل الثقة، لعلمهم أنها لا تأمرهم إلا بالخير وما فيه الخير، فالدير بنظره واحةُ الأخلاق والنظام في مجتمع سقطت فيه القيم واندثرت تحت ركام الأنانية والشهوة “بينما تكونُ الدنيا قائمة قاعدة بالاضطرابات والفتن والثوراتُ بين كل الطبقات، ترى الهدوء والنظام…في الدير وما حوله، كأنه صار قطعة من الجنان” (الوحش…ص١٩).

لقد حَرَصَ فرح في معظم كتاباته على إبراز البعد الاجتماعي المسيحي، فتراه في أورشليم الجديدة وعلى لسان الراهب ميخائيل يقول “فكنتُ أذهبُ حافيًا مكشوف الرأس بحالة يرثى لها إلى منازل الأغنياء وقصور الكبراء وهناك مثل يوحنا المعمدان كنت أُفزِعهم بسوط التأديب وآخذ منهم مالًا لإخوتهم الفقراء وكان الذي يتمنع منهم عن إعطائي أناديه باسمه على السطوح أنه ليس بمسيحي”.

لم ينظر فرح إلى الدين فقط بوصفه بنية ميتافيزيقية بعيدًا عن المجتمع وقضاياه، بل وجد في المبادئ الدينية منبعًا للقيم الكفيلة بشفاء الهيئة الاجتماعية من أمراضها وعللها، وتحرير النفوس البشرية من العوائق التي تقف حائلًا بينها السعادة الحقيقية. فالتجربة المسيحية التي عاشها أنطون بمبادئها القائمة على المحبة والعدل والمساواة والحرية، شَكَّلت الأصل الذي أسهم إلى حدٍّ كبيرٍ في بناء تفكيره الإصلاحي والتحديثي الرائد.

٥—فرح المسيحي علمًا وعملًا

كانت “المدنُ الثلاث/العلم والدين والمال” القولُ الفصلُ في المسألة الاجتماعية، فيتجلى بوضوح انحيازه الكامل والمطلق إلى شمولية القيم المسيحية وإلى وجوب تماهي العلم والعمل في سلوك المسيحي الحقيقي، فرجال المال يقدمون خدمات كثيرة إلى الهيئة الاجتماعية فيستثمرون أموالهم في بناء المؤسسات، لكن هذا لا ينفي ظلمهم وجشعهم واستغلالهم الطبقات الفقيرة والفئات الكادحة، كذلك أهل العلم لهم دورهم في تعليم الشعوب وتثقيفها وإنارة الطريق أمام الإنسان في صراعه من أجل الحياة، لكن هذا أيضًا لا يُلغي الروح الانتهازية التي ميَّزت تعاونهم مع العمال في الظاهر لكنهم ساوموا على حقوق هؤلاء تحقيقًا لمصالحهم وتحسين مواقعهم، ولم ينسَ فرح أن يُعربَ عن استيائه من ممارسات العمال على الرغم من دورهم الفاعل في الإنتاج وشرعية حقوقهم، فقد نعتهم بأشنع النعوت بوصفهم “جماعات كأنهم أبالسة خرجوا من الجحيم فصاروا ينهبون ويسلبون” (المدن الثلاث…ص٤٦). كان ذلك إثر الحريق الذي دبَّ في هذه المدن امتدت النيران إلى أرجائها كافة فاغتنم المتطرفون من العمال الفرصة واقتحموا “القصور الكبيرة والنار تضطرم فيها، وبَدَلَ أن ينقذوا النساء والأولاد الذين كانوا بين الدخان… كانوا يقتلون وينهبون كل ما وصلت إليه أيديهم” (المدن الثلاث…ص٤٦). لقد هالهُ ما فعل العمالُ لاسيما الغلاة منهم، مشيرًا إلى ضلوعهم في التآمر معلنًا بغضب “لو كنت أملك الآن مسدسًا ومائة خرطوشة لكنت أُظهر رأيي… فإنني كنت أذهب وأحرق أدمغة كل من أراه في طريقي من هؤلاء الأبالسة الذين يقتلون وينهبون” (المدن الثلاث…ص٤٧).

لقد هَدَمَ فرح في النهاية المدن الثلاث لأنها فشلت في تقديم الحلول المرضية إلى مشاكل الناس بفئاتهم المختلفة، والفشل في رأيه عائدٌ إلى الإنسان وميوله النزَّاعةِ إلى الجشع والأنانية، فهو الآتي من فضاء الإنجيل وتعاليمه هالهُ أن يرى الأنانية والطمع والمال وحُبَّ الجاه، آفات متحكمة بسلوك البشر تقودهم إلى صراعات ومآسي وترمي المجتمع عمومًا بالفوضى والدمار. لقد وَجَدَ أن هذه القبائح كلها لم تكن لتحدث لولا “الشراهة والاثرة والطمع” (المدن الثلاث…ص٤٩). لم يبرِّئ أحدًا منها “والتبعية واقعة على جميع الأحزاب، ولا أستغرب أن تخسف بنا الأرض وتنقضَّ علينا صواعق السماء ما دمنا بعيدين إلى هذا الحدِّ عن مبدأ الرفق والإخاء” (المدن الثلاث…ص٤٩).

يَحرصُ أنطون في فهمه للمسيحية على الوصل المطلق بين الإيمان والممارسة، فلا قيمة للعلم بمعزل عن العمل والمسيحي الحقيقي مدعو إلى تحقيق مبادئ المحبة والعطاء، لأنهما من أفعال العناية الإلهية “لذلك لم نجد في الكون كله شيئًا أجفَّ وأثقل من قلوب الذين لم يتعوَّدوا العطاء”. (راجع: وليد الخوري: البعد الاجتماعي المسيحي في فكر فرح أنطون، رسالة لنيل شهادة الماجستير، الجامعة اللبنانية/كلية الآداب،١٩٧٩).

 

—أقولُ في خاتمة هذا البحث، إن المُتابع لكتابات أنطون يتنامى عنده شعور بأنها قد أُخرِجت عن سياقها، وتمَّ تهميش جوهرها تحت ضغط الأيديولوجيات العلمانية المجتهدة في سبيل مواجهة الفكر الإسلامي المتطرف، بل سادَ في الأعم الأغلب من الدراسات التي تناولت فكره، نمطًا من الانتقائية المجحفة استهدفت التعمية على أصالة الثقافة المسيحية في توجيه فكره، فاستقرَّ التعاملُ مع أفكاره على أنها وليدة تأثرهِ بالثقافة الغربية وبالأفكار التحديثية التي حملتها، لكن غاب عن أصحاب هذا التوجُّه أن هذه الأفكار المتصلة بقيم الحرية والعقلانية، هي أصيلة في ثقافته المشرقية والمسيحية تحديدًا.

 

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete