مثّلت الصلاة، في الإسلام كما في ديانات أخرى، بما فيها البدائيّة، الحالة الطقوسية والشعائرية، التي تؤدي وظائف جمّة، بعضها يتصل بالفضاء المقدس والامتثال لهذا العالم الخفي، بدلالاته ورموزه، والبعض الآخر له صلة بالانتماء للجماعة الفئوية التي تتشكل في دائرة قد تعاديها وتقاوم وجودها، بينما تحاول الأولى أن تتموقع في هذا الحيز الناشيء، وتجد لنفسها صيغة تنظيمية مرنة (تاريخية الصلاة وتطورها من البيئة المكية للمدنية) لتقوية الروابط بين الأفراد، والسعي لتعزيز وبناء الخبرة الدينية.

لكن المعضلة الراهنة هي ظاهرة الإلحاح على طقسنة الدين وتقويض فعالية الإيمان في ممارسات شكلانية مسيّسة ومؤدلجة، تتجاوز دورها في إدارة آمنة لعلاقة الإنسان بالعالم والوجود إلى اصطفاف الجماعة/ الأمة، وتعبئة الأفراد، للاحتجاج والانخراط في صراعات مادية ورمزية.

تتباين وظائف الطقوس بين الديني والاجتماعي وحتى النفسي، لدرجة أنّ علماء الأنثروبولوجيا الدينية وصفوا الإنسان بأنه “كائن طقوسي” في ظل وفرة ووجود النشاط الرمزي في الأديان كافة، وارتباطه بجوانب إيمانية واحتفالية تتسع لسيرة الإنسان بداية من الولادة مروراً بمراحل مثل الختان ثم الزواج  وحتى الوفاة، وهي طقوس العبور التي تجعل الفرد ضمن الجسم الاجتماعي. وكما تساهم طقوس العبور في تعيين الكائن البشري داخل سياق قدسي، فإنّها تواصل “توجيه السلوك البشري والتحكم فيه على نحو إلزامي إكراهي يحدّ من حرية الإنسان ومن اختياراته”، كما يذكر عبد الرحيم بوهاها في كتابه: “طقوس العبور في الإسلام”.

فيما يرى أنه سواء كانت للطقس آثار اجتماعيّة أو كان في ذاته استجابة لنوازع نفسيّة، فإنّه يحوي نشاطا رمزيّاً هاماً يوازي النّشاط المادي الظاهر في الفعل الطقسي. وقد لاحظ علماء الأنثروبولوجيا الدينية هذه الخصوصية في النشاط الطقسي والديني عموماً. فأبرزوها وجعلوها منطلق أعمالهم، وهو ما فتح المجال أمام بعض الدارسين لرسم الكائن البشري بأنّه كائن طقوسي بالأساس، اعتباراً لما للطقس من قيمة في حياة الإنسان ولحضوره البارز في جميع الأديان.

وتكون الطقوس في الأديان كافة دورية بينما تتزامن مع حوادث معينة مرتبطة بمواقيت الحصاد في البيئات الزراعية، أو ظرفية مثل طقوس العبور كالختان والولادة والموت والزواج. فيما تسعى الطقوس إلى تحقيق هذا الدور المزدوج للأفراد المتدينين في وجودهم الاجتماعي والتاريخي من خلال ربطهم بالزمن المقدس والتماس مع هذا البناء السحري الملغز، ثم تشكيل رابطة وجودية أيدولوجية مماثلة للإخوة البيولوجية.

كما أنّ مسار التجربة الدينية، لدى الشخص المؤمن، يكشف عن ولادة مستمرة لهذا الفيض المعنوي، وترقيته للأماكن التي يتخذ فضاءها طبيعة سحرية تلغي حدودها الواقعية والمادية. وهذا الفيض استجابة لإلحاح داخلي بأنّ “الانتقال إلى العالم الآخر، العالم المفارق، ممكن رمزياً” وفق مرسيا إلياد في كتابه: “المقدس والدنيوي: رمزية الطقس والأسطورة”.

فالمسجد، أو المكان المقدس، الذي يباشر فيه الفرد (أو الجماعة) الصلاة يكون عتبة المرور لعالم آخر تنقطع فيه الصلة بما هو أرضي ودنيوي لحساب ما هو سماوي وأخروي. ومن ثم، يفرض أداء مجموعة من الطقوس، مثل السجود والصلاة.

بل إنّ النبي يعقوب، الذي جاءته رؤيا في أرض حران بعد انتقاله لها من فلسطين، يكشف عن ميل آخر لتشكل أو بالأحرى “تحريض المكان المقدس” بتعبير مرسيا إلياد، عبر حيل وضغوط عديدة متخيّلة. وقد رأى النبي يعقوب سلّماً تصعد فيه الملائكة إلى السماء وتهبط، بينما يتنامى إلى سمعه صوت الإله يردد: “أنا الرب إله إبراهيم”، فأجاب النبي يعقوب: “ما أرهب هذا المكان”.

وهذه الرؤيا المعراجية جعلت المكان مقدساً بينما يتاخم حدود اللامتناهي ويلامس الإله المتجلي. ووثق “سفر التكوين” هذا الحدث وما أعقبه من تحولات رافقها الأداء الطقسي لتخفيف وطأة المقدس وحمولاته الثقيلة، وجاء فيه: “وبكر يعقوب في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عموداً وصب الزيت على رأسه ودعا اسم ذلك المكان بيت إبل”.

إذاً، ثمّة “وجه شبه بين الشعائر والرموز في الأديان كافة. وتنشأ هذه المشابهة، لا ريب، عن اضطرار الروح البشرية إلى إدماج تصوراتها في الدوائر النفسية القليلة التي أطلق عليها فلاسفة الماضي اسم مقولات الإدراك، فقوالب الفكر هذه إذ كانت تفيد التعبير عن الأمور فإنها تحدد ما تنطوي عليه التصورات الدينية، والشعائر التي تمسكها، من الممكنات”، بحسب ما ذكر غوستاف لوبون في كتابه: “حياة الحقائق”.

والمسجد من حيث هو مكان له طبيعة أنطولوجية له ارتباط عضوي بكونه مجال المؤمن وعلامة إيمانه وتدينه وارتباطاته الهوياتية بالجماعة المسلمة.

فالمجال المقدس يمنح الأفراد القدرة على إعادة تشكيل العالم من موقع متوازن تختلط فيه مشاعر التوجس والقلق بالرضا والخضوع والإذعان. وانتقالات الجسد وحركيته في اتجاه محدد “القبلة” تدريب على الطاعة، فضلاً عن القبول بالعوالم الرمزية غير المرئية، وخلق دلالاته المختلفة في المتخيل الديني، بما يصنع الفواصل والمسافات والأزمنة وحدود الخفي والمعلن والأزلي والمتلاشي.

إذاً، فالطقوس هي إلغاء للزمن الدنيوي والاحتماء بالزمن المقدس وأسطرة التاريخ. فذكرى الحدث الواقعي التاريخي لا يصمد في الذاكرة الشعبية فترة طويلة إنّما يتحول لحدث أسطوري وتبطل الشخصيات التاريخية وتحولها لنماذج بدائية كما يقول مرسيا إلياد في كتابه: “أسطورة العود الأبدي”. فلكل طقس مثاله الإلهي حيث إنّ الإنسان (البدائي وحتى غير البدائي) الذي يعمل ستة أيام ويستريح في السابع هو بمثابة محاكاة للرب التوراتي الذي خلق الدنيا في ستة أيام واستراح في اليوم السابع.

لذا، لم يكن النبي محمد وهو يباشر أداء الطقوس، في مرحلة ما قبل البعثة ثم التحنث في غار حراء مروراً بتلقي الوحي حتى اكتماله، بعيداً عن شروط الاجتماع الإنساني في بيئته التي تغلب عليها الوثنية، بل كان جزءاً منها حتى لو بدا، في مرحلة لاحقة، تتشكل لديه انزياحات معرفية حلحلت البنى التقليدية من إيمان وفكر، وألح على عقله شعور مغاير جعله مهيّئاً للحظة الفلق. ففي كتابه: “الأصنام” يقول ابن الكلبي: “وقد بلغنا أنّ رسول الله ذكرها يوماً فقال: لقد أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي”. وهذا كان ضمن الممارسات الطقوسية في الوسط القرشي.

ويكاد لا يختلف هذا الانخراط الإيماني المحموم عن انقطاع النبي محمد للعبادة في غار حراء مع آخرين ممن عرفوا بـ”الحنيفية”. بل إنّ أثر التعبد الشاق في منتصف الليل وحتى مطلع الفجر ظل ممتداً في مرحلة النبوة، وقد كان يقضي الفترة ذاتها في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآـن والتهجد، حتى خففه بعد حين القرآن عنه كما جاء في سورة المزمل. وهذه العبادة عرفتها الديانتين اليهودية والمسيحية في البيئة المتاخمة للنبي. إذ جاء في المزامير”: “في منتصف الليل أقوم لأحمدك علي أحكام برك”. وكان النبي داوود يقضي “نصف الليل في القراءة وتراتيل أناشيد الرب وذكر اسم الله العظيم” وفق ما ورد في تاريخ اليعقوبي.

إذ لمّح جواد علي في كتابه: “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، إلى أنّ عبادة الليل قد أخذت وقتاً طويلاً من أوقات النبي حتى أجهدته. وقد جاء في الأخبار: “لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد بقوله تعالى (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى، وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم). وهو الناسخ لما قبل ذلك من التحديد في أول السورة الحاصل بقوله: (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا). وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء”.

إذاً، التهجد بمثابة عبادة ليلية تطوعية اختيارية، يقوم بها الرسول تقرباً إلى الله، مثلها مثل انهماكه في العبادة قبل النبوة بغية البحث عن هذا الشيء المفقود حتى فاضت روحه (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً). مقرونة بتلاوة آيات من القرآن.

وعليه، فإن الإلحاح في طقسنة الدين إنّما هو لتغييب محاولات العقلنة ورفض تاريخية حدوثه. فيما تضحى الممارسات الإيمانية التقليدية وسائط إكراه تاريخية، تمنع تجاوز الطقس أو تعيينه بشكل يتناسب وشروط التاريخ الجديدة.

يقول فولتير في قاموسه الفلسفي: “لا نعرف أيّ دين بلا صلوات، فحتى اليهود لديهم بعضها، رغم أنّه لم يكن لديهم أي صيغة عامة حتى ذلك الوقت الذي كانوا يرتلون فيه مدائحهم في معابدهم، وهو ما حدث في فترة متأخرة جداً”.

ويردف: “بإيجاز، نحن نصلي لله فقط لأنّنا جعلناه، حسب تصورنا، نعامله وكأنّه باشا، وكأنّه سلطان يمكن للمرء أن يستفزه أو يسترضيه. باختصار، كل الأمم تصلي لله، وكل الحكماء يسلمون أنفسهم له ويطيعونه. فلنصلِّ مع الناس، ونسلم أنفسنا مع الحكماء”.

الثابت أنّ الصلاة في الإسلام عرجت عبر مراحل متباينة، بل انطوت على مجموعة من التعديلات، رافقت تنامي الدعوة وانتشار الرسالة، ومن ثم، زيادة أتباعها وأنصارها. فزادت الصلوات، وتتابعت الفرائض على المسلمين، بعد هجرة الرسول إلى المدينة، حتى اكتملت (الصلاة) بالشكل الذي يمارسه المسلمون اليوم، وأضحى بإمكانهم الجهر بصلواتهم، بعد التخفي والخشية من اضطهاد قريش لهم في مكة. ثم عرف الآذان الذي يتردد قبل الصلوات الخمس اليوم.

وقد تعددت الروايات حول تاريخية الصلاة في الإسلام، ومنشأ هذا الركن، وتتبع حدوثه، واكتماله، والتحولات الطارئه عليه، ضمن الظواهر الدينية التي تشكلت داخل التاريخ. فثمّة من يقطع أنّ فرض الأمر بالصلاة وقع مباشرة مع لحظة نزول الوحي على النبي محمد، كما يروي ابن اسحق والذي يقول إنّ “الصلاة حين فرضت على رسول الله أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل توضأ، ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله بصلاته، ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله خديجة، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه السلام ثم صلى بها رسول الله عليه السلام كما صلى به جبريل فصلت بصلاته”.

تقول هذه الرواية إنّه في اللحظة التي نزل فيها جبريل إلى الرسول، يخبره باختيار الله له ليكون رسولاً، علمه الصلاة والوضوء، إلا أنّها تتناقض مع النص القرآني، وقد نزلت آياته في سورة المائدة بتشريع يحدد شكل الوضوء والطهارة عند الصلاة، وتقول الآية: “إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين”. فهي إحدة السور التي نزلت في المدينة بعد هجرة الرسول. لكنّ الأمر الأكثر دلالة، هو تناقض هذه الرواية مع الحالة النفسية والشعورية التي غلب عليها القلق والتردد والتوجس للنبي محمد مع نزول الوحي، بما ينفي احتمالية حدوث هذا الأمر. فقد جزعت نفس النبي من اللقاء الأول بجبريل. وتروي أحد أحاديث الرسول عن هذا الموقف، أنّه قال لزوجته خديجة: “لقد خشيت على نفسي”.

كانت أول صلاة للرسول في مكة صلاة ذات ركعتين يحددهما جواد علي في كتابه: “تاريخ الصلاة في الإسلام”، فيقول: “يخرج الرسول أول النهار إلى صلاة الضحي، وكانت صلاة لاتنكرها قريش، فيصليها في الكعبة وكان وأصحابه إذا جاء وقت العصر، تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى، فيصلون العشي”.

والصلاة لا تعدو كونها حدثاً عرضياً أو مباغتاً، بل إنّها محايثة للواقع التاريخي والاجتماعي، وربما العقائدي، للمجتمع المكي. فضلاً عن صلات هذا المجتمع في شبه الجزيرة العربية بالشعوب الأخري. فكانت الصابئة إحدى الديانات المنتشر، آنذاك، في ما بين النهرين، وورد ذكرها في القرآن، تصلي ثلاث صلوات، أولها قبل طلوع الشمس بقليل، والثانية عند الظهر، والثالثة مع الغروب، وكانت صلواتهم ركوعاً وسجوداً كما يشير الشهرستاني في كتابه: “الملل والنحل”.

وفي “قصة الحضارة” للمؤرخ الأمريكي ويليام ديورانت، عزا تحديد النبي محمد الصلوات بخمس لاتصاله بالفرس الذي عرف عنهم الأمر نفسه. فيقول: “وفي بداية الأمر كانت الخمس صلوات ركعتين، إلى أن هاجر محمد إلى المدينة، والسبب في أنه اختار خمس صلوات، هو اتصاله بالفرس في أثناء ترحاله في التجارة، وعرف منهم أنّ صلاتهم خمس مرات في اليوم”.

كما أنّ صلاة الضحي، إحدى الصلاتين المفروضة علي المسلمين، خلال الفترة المكية، كان يصليها النبي محمد في الكعبة دون أن تعترض عليها قريش. وهو ما يعلق عليه جواد علي في الكتاب ذاته أنّه “إذا لم يكن هذا ينص علي وجود صلاة الضحي عند الجاهليين، يشير إلى أنّها تعرفها وتركت الرسول يصليها، فلم تنكرها”.

حتماً، تؤشر هذه التباينات والتطورات على مستوى الصلاة إلى ملائمتها للبيئة وتوسعها بحساب ومرونة (قبل عملية مأسّسة الدين)، وبما يحقق الأغراض الإيمانية ويمتّن الصلات بين الجماعة المسلمة، ومن دون أن يفصم عراها مع الوجود الاجتماعي أو يجعلهما في صدام أو صراع وجودي على مساحة من يملك الفضاء العام. هذا الفضاء الذي ستتشكل فيه الدعوة وتخوض تجربتها، حتى النهاية، لم يشهد لحظة أيّ درجة تعالي من جانب الدعوة المحمدية على مستوى الخطاب أو الممارسة.

فالدين هو “التعبير الجمعي عن الخبرة الدينية الفردية، وقد تم ترشيدها في قوالب فكرية وطقسية وأدبية ثابتة” على حد توصيف فراس السواح في كتابه: “دين الإنسان”. بالتالي، فالظاهرة الدينية داخل الاجتماع تتبدّى من “معتقد” و”طقس” و”أسطورة”، وهي عناصره الرئيسية، ومن أخلاق وشرائع، وهي عناصر ثانوية تتصل بالدين أو الإسلام كتاريخ دون أن تكون من صلبه.

أما عن علاقة الأفراد بهذين الشكلين للحياة الدينية، فيمكن القول إنّ الفرد لا يشعر بانتمائه إلى دين القوم قدر شعوره بالانتماء إلى عبادة معينة تسود ضمن بيئته الاجتماعية المباشرة، ولتكن مدينة أو قرية أو عشيرة، أو شريحة اجتماعية ما من شرائح المجتمع الكبير. فالعبادة هي المناخ الديني الذي تنشط ضمنه الحياة الروحية للأفراد، والمؤسسة التي يشعرون بالانتماء المباشر إليها، أما دين القوم فيبقى رابطة عامة تجمع أهل الثقافة الواحدة دون أن يكون له حضور مباشر ويومي في الحياة الدينية للناس.

ثم إن تتبع تاريخية الصلاة في الإسلام والتي تكشف عن تحولات طارئة عليه مع نمو الجماعة المسلمة، من ناحية تضاعف الصلوات المفروضة، إنّما يؤكد الثابت الوظيفي للطقس الذي يبعث الانتماء للمقدس والدنيوي معاً، والسعي لملء المكان والفضاء البشري للجماعة الجديدة بسياق قدسي. فالمنظومة الطقوسية التي تحمي الفرد داخل الجماعة وتمنحه الهوية الجديدة “تنقل الإنسان من وضع قلق ومشوش إلي وضع مطمئن، من خلال إدراجه في سياق قدسي، خارج الإطار الدنيوي الذي يعيش فيه”، كما ذكر عبدالرحيم بوهاها، في كتابه: “طقوس العبور في الإسلام”.

هذا تحديداً ما يجعل الإلحاح بشأن طقسنة الإسلام بمثابة تعطيل لمعاني الصلاة المتعددة، كما وردت في الخطاب القرآني، وتحويلها، أي الصلاة، لمجرد نمط تدين بدائي غرائزي (سريع ومؤقت) ومن دون وعي أو تمييز بين إسلام الرسالة وإسلام التاريخ. هذا ما يعطل التجربة الإيمانية عن انفتاحها المستمر على عوالم غنية تتوسل القدرة التخييلية للمعطى الديني في رموز قريبة من الوعي، بينما تجعل المرء يتخفف من حمولات القوة والتعالي التي تجعل المقدس بعيداً وثقيلاً وضخماً بلا قدرة على التناول أو التداول. فتحويل الإسلام إلى مجرد ممارسة طقوسية شعائرية، مؤقتة، يغلب عليها الأداء الجسدي (المرتبك بين الإيمان والطاعة) الذي يتعين في مجال المقدس المتعالي يقلص الدعوة المحمدية والرسالة في دائرة تاريخية ضيقة ومحدودة، ومع شروط اجتماعية وثقافية قديمة، من دون التمييز بين أنماط المجتمعات الرعوية والزراعية والتجارية، فضلاً عن الصناعية.

فالصحابة وبحسب ما وثق فخر الدين الرازي في كتابه: المحصول” كانوا “مع شدة عنايتهم بأمر الدين واجتهادهم في ضبط أحواله عجزوا عن ضبط الأمور التي شاهدوها كل يوم خمس مرات وهو كون الإقامة فرادى أو مثناة والجهر بالقراءة ورفع اليدين”.

هذا ما يستدعي، حتماً تلقائياً، صورة أخرى على النقيض، متمثلة في تعطيل المجال العام، بدعوى الصلاة جماعات في الأماكن العامة أو الإعلان عن تعطيل العمل في المكاتب والمؤسسات، وكأنّما الصلاة هنا وسيلة لفرض هيمنة لها صفة مقدسة وعنف رمزي في مقابل خصوم متخيلين أو بالأحرى مواصلة بناء عوالم تطهرية ورؤى خلاصية.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete