الظاهرة الإسلاموية: معضلة القراءة

تكوين

تروم هذه المقالة التنبيه إلى معضلة نظرية نعاينها في المنطقة العربية، حتى لا نتحدث عن العالم الإسلامي، بخصوص القراءات البحثية التي تشتغل على الإسلاموية أو الحركات الإسلامية.

تكمن هذه المعضلة المؤرقة في تبني قراءات أحادية أو اختزالية في سياق التعامل مع الظاهرة، وبما أن أداء خطاب مّا، هو نتيجة حتمية لتصوره لمعالم الأداء نفسه، كما هو مُسطّر في جهازه النظري، فطبيعي أن تتضح معالم هذا الاختزال في الأداء الميداني الخاص بقراءة الظاهرة المعنية.

إمّا أن نتبنى قراءة مركبة للظاهرة، وإمّا أن نتبنى قراءة أحادية واختزالية، وفي الحالتين معاً، لا بد أن نعاين تبعات هذا الخيار في نتائج القراءة ومع الخلاصات، ونزعم أن هذه المعضلة، توجد في مقدمة الأسباب التي تفسر تواضع الأعمال النوعية الصادرة هنا في المنطقة العربية حول الظاهرة نفسها، وبيان ذلك كالتالي.

انتشار الإسلاموية

استحضار القراءة المركبة يقتضي بالضرورة استحضار مجمل الأسباب التي أفضت إلى ظهور وانتشار الإسلاموية داخل وخارج المنطقة العربية، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو دينية أو اجتماعية أو غيرها. وبالنتيجة، فإن معالم الاشتغال على أداء الإسلاموية والتفاعل معها، لا بد من استحضار تلك المحددات، وهذا عين ما تحقق عملياً في بعض التجارب الميدانية العربية، من قبيل ما جرى في كل من المغرب والسعودية ضمن أمثلة أخرى، في سياق مواجهة ظاهرة التطرف العنيف، حيث كانت الغلبة بداية، لا تخرج عن الانتصار للمقاربات الأمنية، خاصة بعد منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، قبل الانتقال في مرحلة لاحقة إلى تبني مقاربات مركبة، تستحضر المحددات الثقافية والاجتماعية والنفسية وغيرها.

هذا عن دائرة صناعة القرار المعنية بمواجهة الظاهرة، ولا يختلف الأمر نفسه مع الأقلام البحثية المعنية بالاشتغال عليها، بصرف النظر أيضاً عن مرجعيتها النظرية، حيث إننا نعاين التقسيم نفسه بين القراءة المركبة والقراءة الاختزالية في معرض ذلك الاشتغال.

ومن باب الإنصاف، فالحديث عن المقاربة المركبة، مصدره أطروحة للمفكر الفرنسي إدغار موران، وعنوانها الفكر المركب، ما سطرها منذ عقود في كتابه بعنوان “مدخل إلى الفكر المركب”.

تفسير هذا الخيار وجيه لأنه منطقي، ومفاده أن الإسلاموية تبقى ظاهرة مُجتمعية مُركبة، حتى لو كانت ترفع شعارات دينية أو سياسية أو طائفية أو غيرها، فهذا أمر ثانوي مقارنة مع الأمر الجوهري، أي إنها بزغت من صلب مجتمعات المنطقة، وليست كائنات هلامية أو افتراضية أو غير مرئية، وبالتالي نحن إزاء كائنات مجتمعية.

في مقابل هذه القراءة المركبة، نعاين أن الساحة العربية تعج بالقراءات الاختزالية، بما في ذلك القراءات الصادرة عن الأقلام الإسلاموية نفسها، والتي تزعم الاشتغال على أسباب التطرف العنيف، أو تدبير أنظمة المنطقة العربية للمعضلة الإسلاموية، الإخوانية نموذجاً، فالأحرى الأقلام التي تختلف إيديولوجياً مع المرجعية الإسلاموية، لكن نسبة منها، تسقط في معضلة الاختزال نفسه، بسبب النهل من أفق نظري اختزالي.

وبالنتيجة، من المفترض أن تأخذ أغلب أقلام الساحة العربية مسافة نظرية صريحة من التناول الاختزالي للظاهرة، أي عدم اختزال تلك القراءات في بُعد تفسيري واحد، حتى لا نلج الباب الذي كان يُحذّر منه الراحل محمد أركون؛ أي السقوط في مأزق “السياجات الدوغمائية المُغلقة” لأن هذه السياجات تؤسّس لنماذج تفسيرية تكاد تكون اختزالية إن لم تكن كذلك؛ أي التركيز مثلاً على المُحدد السياسي في قراءة الظاهرة، انطلاقاً من أدبيات “العلوم السياسية”، أو التركيز على المُحدد الاجتماعي أو الديني انطلاقاً من أدبيات “علم الاجتماع الديني”، وغيرها من المُحدّدات النفسية والاقتصادية والفلسفية والأمنية والاستراتيجية وغيرها.

كلما اتسعت دائرة المُحدّدات التي تتناول الظاهرة اقتربنا من نموذج تفسيري مُركب يساعد الباحث المعني، بلْه المتلقي، على القراءة والتفاعل. وواضحٌ أن إحدى أهم المُعضلات المنهجية ذات الصلة بقراءة الظاهرة ترتبط بموضوع المقاربة التفسيرية المُتبعة في البحث، فكانت النتيجة فورة في “الكم التفسيري”، البحثي والإعلامي، العربي والغربي، الذي يشتغل على الظاهرة، مع تواضع في “النوع التفسيري”، وهذا سببٌ وجيه، ضمن أسباب أخرى، يُغذّي بشكل مباشر مصالح المشروع الإسلامي الحركي، ولاسيما إذا كانت هذه المقاربات البحثية ذات صلة بالقرارات الاستراتيجية التي يستأنس بها صنّاع القرار في معرض التفاعل الميداني مع الظاهرة، على غرار ما عاينّاه بشكل واضح مع لائحة عريضة من التقارير البحثية الصادرة عن المراكز البحثية الأمريكية، ولاسيما التقارير التي اشتغلت على بعض أنماط التدين في المجال التداولي الإسلامي: التديّن الصوفي، والتديّن الرسمي، والتديّن الإسلامي الحركي والتديّن السلفي المتفرّع بدوره على ما يُصطلح عليه بـ”السلفية العلمية” أو “التقليدية”، و”السلفية الجهادية”.

ليس هذا وحسب، لا زالت العديد من الأقلام البحثية تتحدث عن الإسلاموية بالجمع، دون التفرقة بين أبسط تجلياتها الحركية، والموزعة إجمالاً على ثلاثة تفرعات: دعوية وسياسية وقتالية (أو المسماة جهادية).

مؤكد وجود عدة قواسم نظرية بين مجمل هذه التفرعات، لكن مؤكد أيضاً وجود عودة فوارق، وتكفي عودة إلى ما جرى في المنطقة بعيد اندلاع أحداث 2011، لكي تتضح للباحث بعض معالم هذه القواسم والفوارق.

تعقيدات الإسلاموية

لكي نأخذ فكرة أولية عن تعقيدات أيّ ظاهرة مجتمعية، بما فيها الإسلاموية، سوف نتوقف عند بعض النماذج التفسيرية، انطلاقاً من مُحدّد أحادي دون سواه:

ــ التفسير السياسي: ونجده عند الأقلام المُسيسة خاصةً، ومعها الأقلام التي تنهل من العلوم السياسية والإدارية والقانونية، والتي غالباً ما تلخص أداء الفاعل الإسلامي الحركي في الشقّ السياسي، كأن تشتغل على الأداء السياسي والحزبي، مع تغييب أو تجاهل الأداء الدعوي والجمعوي والنقابي والطلابي وغيره.

ــ التفسير الاجتماعي: ونجده عند بعض الباحثين في علم الاجتماع، الذين يربطون بين التضخم الديمغرافي الذي مرت منه المنطقة، وصعود المد الإسلامي الحركي، الإخواني والسلفي، الدعوي والسياسي والقتالي، مع استحضار تراجع دور الدولة في التفاعل الميداني مع المطالب المتوقعة لارتفاع نسبة النمو الديمغرافي والتمدد العمراني في آن، أو الأوضاع الاجتماعية للفاعل الإسلامي الحركي.

ــ التفسير الديني: ونجده على سبيل المثال عند الأقلام البحثية والإعلامية المحسوبة على المرجعية الإيديولوجية المنافسة للمرجعية الإسلامية الحركية، من قبيل ما يُصطلح عليه بـ”المرجعية العلمانية”، أو “المرجعية الحداثية”، ومن باب تحصيل الحاصل، أقلام “المرجعية الليبرالية”. وترى هذه الأقلام أن ولادة الظاهرة مرتبطة ببُعد ديني صرف يكمن أحد أسبابه في تراجع المؤسسات الدينية عن تلبية الطلب على الدين في “سوق دينية” مفتوحة البقاء فيها لمن يتفاعل نظرياً وعملياً وبشكل نوعي مع مؤشرات “السؤال الديني” و”العرض الديني”.

ــ التفسير النفسي: وهذا ما عايناه مع أعمال الراحل عبد الوهاب المؤدب، الذي أكد أنه ينهل من عدة مرجعيات وهو يُحرر العمل، منها أعمال ابن عربي ونيتشه، أو كتاب المُحلل النفسي فتحي بن سلامة، ويُركز هذا المُحدد على البعد النفسي بالدرجة الأولى، ويُساعدنا على قراءة حالات إسلامية حركية فردية، ولكن يصعب إسقاط حيثياته ومضامينه على الحالة الإسلامية الحركية برمّتها في التداول الإسلامي، سواء في محور طنجة ــ جاكرتا، أم لدى الفضاءات المجتمعية التي تضم جاليات وأقلية مسلمة.

ــ تفسير “فلسفة الدين”: لا يزال حقل “فلسفة الدين” متواضعاً في المنطقة العربية، مع أن أدبيات هذا الحقل توجد في مقدمة المفاتيح المفاهيمية التي تساعد الباحثين وصنّاع القرار على قراءة الظاهرة الإسلامية الحركية، لولا أن الوعي بمفاتيح هذا الحقل المعرفي متواضع، ومن ثم نحتاج إلى تأهيل الأقلام البحثية أولاً، وانتظار المنتوج البحثي لاحقاً. وإذا كانت قضايا ومفاهيم “فلسفة الدين” غائبة عن التداول الفقهي في المؤسسات المعنية بالتصدي للظاهرة الإسلامية الحركية، فواضحٌ أن غيابَ تطبيقاتها أولى؛ لأنها توجد في مقام اللامفكر فيه بتعبير ميشيل فوكو.

توقفنا هنا عند نموذج تطبيقي يهم معضلة القراءات الاختزالية أو الأحادية لقضايا الساحة في المنطقة العربية، من خلال قراءات الأقلام البحثية للظاهرة للحركات الإسلاموية، ولنا أن نتخيل معالم المعضلة نفسها عندما يتعلق الأمر بالخوض في قضايا الإصلاح والنهضة والتحديث والتنوير، وهذا موضوع يستحق وقفات تأمل.

سؤال الدولة في الفكر الإيديولوجي العربي

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete