العقلانية الرشدية في ميزان الفكر العربي المعاصر

قد يتساءل البعض عن دوام انشغال الفكر الفلسفي العربي بالعقلانية،باستلهام النصوص التي عبّرت عنها،لاسيما النصوص الرشدية،كلّما استعرت نار التطرّف الديني وعلت وتيرة الانهمام بالفلسفة في بلادنا،وكلّما واجهتنا الأسئلة عن موقعنا من الحداثة،لكن هذا التساؤل لا يلبث أن يتلاشى،ويتضاءل الشعور بوقعه،وتتراجع وطأته،عندما يُدرك المتسائل أن النصّ الرشدي في الفلسفة،يحتلّ في القول الفلسفي السائد،موقعاً فعّالاً ومؤسّسا للنظر،ومكرّساً للعقلانية القادرة على أن تلبّي مطلب الخروج من جمود التقليد،وأن تجيب على سؤال النهوض والتحديث،وهو سؤال قد شكّل وما يزال يشكّل التحدّي المثير للفكر الفلسفي العربي المعاصر،بل المطلب الملحّ الذي يجتهد هذا الفكر ويسعى من أجل تقديم الأجوبة المؤمِّلة بتحقيق أحلام الناس في التنوير والتنمية.

١-العقلانية الرشدية والخروج من المأزق.

لا شك أن الغرض من العودة إلى العقلانية الرشدية،هو البحث عن حلّ لأزمة العقل العربي الذي لم يستطع في تعبيراته الثقافية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية أن يخفف من عِظَم الفرق وعمق الهوة،على صعيد المعرفة والعلم والتقنية،بين المجتمع الغربي والمجتمع العربي،وذلك لأسباب،أبرزها عند البعض،كون هذا العقل مطوّقاً بثوابت الشرع،مسلوب القدرة على إنتاج المعرفة،على التفلسف والإبداع.

ليست الغاية في هذه المقالة مناقشة صلاحية هذا السبب،لكن أحداً لايستطيع أن ينكر وطأة حضوره في الكتابات التي نمت وازدهرت على هامش العقلانية الرشدية،وحفر أصحابها مليّاً في نصّه،سعياً إلى حلّ إشكالية العلاقة بين الحكمة والشريعة.

إن وجوه العقلانية الرشدية وأحوالها ليست واحدة في الخطاب الفلسفي العربي المعاصر،وهو أمر يتّفق مع فاعلية هذا النصّ ومع كونه متعدداً بدلالاته المحتملة وإضافاته وأوضاعه المتجددة(١).إنه نصّ متوتّر تنوء عبارته تحت فائض من المعنى،ولعلّ كتاب”فصل المقال”(٢)،قد استحوذ على اهتمام الكثير من الباحثين المنشغلين بسؤال العقلانية عند ابن رشد وأثرها في إمكان تحقيق النهضة المنشودة.

٢-التفلسف و”الاعتبار”.

تأتي كتابات(٣) الجابري،في ظاهرها وباطنها،بمثابة دعوة للرهان على العقلانية الرشدية،فصاحب”رباعية العقل العربي”،يرى إلى النظام المعرفي البرهاني،كما عبّر عنه ابن رشد،منهجاً صالحاً وملائماً لإعادة الاعتبار للعقل بما هو ملكةfaculté قادرة على إنتاج المعرفة وتحقيق الإبداع،وللعقلانية بماهي أصل التقدّم ومصدر الرقي،يؤدّي التوسّل بها إلى الخروج من التخلّف،بتجلّياته المختلفة،إلى رحاب العلم والمعاصرة.

تحت قبّة العقلانية هذه،يشرح الجابري في مقدّمته ل”فصل المقال…”،ما قرّره ابن رشد في شرعية الفلسفة”إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع،أعني من جهة ماهي مصنوعات،فإن الموجودات إنما تدلّ على الصانع”(٤)،ويقطع بأن الشرع قد حثّ على اعتبار الموجودات في قوله تعالى:”فاعتبروا يا أولي الأبصار”[الحشر٢]،كما في قوله تعالى:”ألم تنظروا في ملكوت السماوات وما خلق الله من شيئ وأن يكون قد اقترب أجلهم،فبأي حديث بعده يؤمنون”[الأعراف١٨٥]،وعليه ففعل الفلسفة يقع في باب الواجب شرعاً،والآيات القرآنية دعوة صريحة إلى العبور من عبر إلى عبر،من شيء إلى شيء آخر،من مقدمات إلى نتائج وهو القياس العقلي،ومن أصل إلى فرع وهو القياس الفقهي،لذلك فالواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بأفضل أنواع القياس وهو البرهان.

هذا التلازم الذي أرساه ابن رشد بين الشرع وفعل الفلسفة،بدا واضح التأييد في شرح الجابري،إنه جعل المعرفة بالمنقول شرطاً لاكتساب شرعية الخوض في العلوم الفلسفية(٥)،ويذهب في توكيد هذه الفكرة إلى البناء على نصّ لابن خلدون في”إبطال الفلسفة وفساد منتحلها”فيقول:”والجدير بالذكر أن الفلاسفة الذين ناقش ابن خلدون آراءهم ووصفهم ممّن أضلّهم الله من منتحلي هذه العلوم وذكر أسماءهم إثنان الفارابي وابن سينا،ونحن،والكلام للجابري،لم نجد مبرراً لسكوت ابن خلدون عن ابن وشد،إلا فيما ختم به هذا الفصل،بعد مناقشة آراء الفلاسفة”فليكن الناظر في الفلسفة متحرّزاً جهده من معاطبها،وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه،ولا يُكبّن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة”(٦).لقد سار ابن رشد على هذا المنوال ولم يخرج عن هذه القاعدة،واشترط فيمن يريد النظر في كتب القدماء أي الفلسفة وعلومها،أن يكون على ذكاء فطري،على عدالة شرعية وفضيلة علمية وخلقية(٧).وصل الجابري في رهانه على العقلانية الرشدية وانحيازه المعلن لفكر ابن رشد،إلى حدّ الدعوة إلى جعل روحه حاضرة في الفكر العربي،آخذة مكانها ودورها في رؤاه وتطلّعاته،حضور الروح الديكارتية في الفكر الفرنسي،أو الروح الأمبيريقية التي دشّنها هيوم ولوك في الفكر الإنكليزي،فالروح الرشدية قابلة للتكيّف مع العصر الحاضر،لأنها تتلاقى معه في العقلانية والواقعية والنقد(٨).

٣-التمويه بال”عارف”.

ما لم يقلْه الجابري في حداثة العقلانية الرشدية،تكفّل به محمد أركون،فرأى إلى أن البناء على الشرع في تشريع”فعل الفلسفة”صيغة مموَّهة اختبأ وراءها ابن رشد تحاشياً لإشهار اختلافه مع ما هو سائد من الاعتقاد الذي يقطع  بأن العلم الرسمي،علم الفقهاء،هو الذي يقرّر وحده شرعية أو فساد أية معرفة ينتجها البشر،وترجيحاً لهذا الرأي ،يتوقّف أركون عند استخدام ابن رشد لكلمة ال”عارف”(فصل المقال…٨٩)،فيقول”وإذ يستخدم(ابن رشد)كلمة “عارف”ذات الإيحاء الصوفي بدلاً من فيلسوف،فإنه يحاول بذلك عدم الظهور بمظهر الخارج على العلم الرسمي التقليدي للفقهاء”،لكن هذا التمويه ما لبث أن انكشف عند اعتباره أن العقل البشري قادر على إنتاج الحقيقة باستقلالية كاملة،وأن هذه الحقيقة تستطيع وحدها تفسير الحقيقة الموحى بها،وفي تشديده على أهمية التضامن التاريخي بين مفكّرين ينتمون إلى عصور وديانات مختلفة في انجاز حقيقة عقلانية،في كليهما(الإعتبار والتشديد)ما يغلّب التاريخ الدنيوي على التاريخ المتعالي،ويعاكس الحقيقة التدشينية العامودية،حقيقة الوحي المطلقة،بحقيقة أفقية قابلة للتعديل والتصحيح باستمرار،لقد افتتح ابن رشد برأي أركون ساحة الحداثة العقلية التي تشق طريقها في الغرب،مفرِّقة بين المتعالي والمحسوس،بين المعرفة الأولية والمعرفة التجريبية،بين المقدّس والدنيوي،بين السلطة الدينية والسلطة العلمانية…(٩).

لقد أثارت هذه”المبايعة”إذا جاز التعبير،للعقلانية الرشدية،جملة من الأسئلة كان من شأنها أن تعيد النقاش  إلى المربّع الأول،إلى صلاحية اعتبارها معبراً آمناً إلى الحداثة،ومسلكاً منهجياً،يفضي اعتماده إلى تحقيق الإصلاح وتثبيت قيم الحرية والديمقراطية.

٤-الفلسفة المطوّقة la philosophie encerclée

قدّم ناصيف نصّار بحثاً حول أعمال ابن رشد،تناول فيه مفهوم الفلسفة عنده،الفلسفة بما هي النظر في الموجودات باعتبار دلالتها على الصانع،مباشراً القول بالتأكيد على وحدة أعمال ابن رشد ووحدة فكره،رغم تنوّع هذه الأعمال بين الفلسفة والكلام والفقه والطب(١٠)،وأيّد رأيه وما ذهب إليه بموقف لروجيه إيرنالديز،يعتبر فيه أن تفسير أعمال ابن رشد أو تأويلها انطلاقاً من نظرية ” الحقيقة المزدوجةla double vérité »،يقع في غير محله،يقول،والكلام لإيرنالديز:”لا نستطيع في الحقيقة أن نفصل بين المسلم الذي يطبّق الشريعة والمفكّر الذي يشرح أرسطو ويعتقد صحة فكره”(١١).

ينصرف نصّار عقب هذا التأكيد، إلى تحليل مفهوم”فعل الفلسفة”بالصيغة التي ورد فيها في “فصل المقال…”(١٢)،وينطلق من التعريف الذي يقول أن فعل الفلسفة واجب بالشرع،فيرى إلى أن الفلسفة تبدو في نص “فصل المقال…”عبارة عن فاعلية لا تبحث في غير النظر في الموجودات وفي علاقتها بالصانع،ويتساءل مع ألان دوليبيرا:ما قيمة الفلسفة إذا لم يكن قصدها ومحورها الانسان في الكون،وانحصر مفهومها في بعدٍ خاص لها:ميتافيزيقا الصانع(١٣).

يعود ابن رشد،حسب رأي نصّار،إلى”فلسفة الصانع”هذه،مرّات عديدة في سياق البحث في “شرعية الفلسفة”،لكي يذكّرنا بأن معرفتنا بالصانع هي أكمل من معرفتنا لمصنوعات،وأن هذه المعرفة هي الباب الذي فتحته الشريعة أمام الناس،فيعبرون منه إلى معرفة الله الحقيقية،وعليه،فإن الفلسفة لا يمكن أن تنال قبولاً إلا في إطار النظر الذي لا يشكّل تهديداً لأصولها،ولهذا،فإن تعريف”فعل الفلسفة”على هذا الشكل أمر مطلوب بالأساس ومنذ البداية،ولا يمكن أن يكون فعل العقل الحرّ الذي لا غرض له سوى الحقيقة والسعادة،فحقله وميدان حركته محددان سلفاً:الصانع ومصنوعاته،أما التوسّل بالتفكير البرهاني في البحث في الموجودات،صفاتها،ماهياتها،أسبابها،وأثرها بمعزل عن اعتبار حضور الله الخالق/الصانع،فهذا مما يقع في باب التجوّز والانحراف عن”المفهوم السوي للفلسفة”،ولا ضرورة للقول أن هذا المفهوم يُخرج الفكر الملحد من دائرة اهتمام الفلسفة،لأن العقل النظري بحسب ابن رشد قادر على البرهنة على وجود الله،والفلسفة النظرية تبقى شرعية ومشروعة بقدر ابتعادها عن الإلحاد وعن كلّ ما يؤدي إليه(١٤).

إقرأ أيضاً: الفكر وسؤال التركيب

لم يقف نصار في نقده لمفهوم الفلسفة في المتن الرشدي عند الجانب النظري،بل تعدّاه إلى الجانب العملي،محاولاً إبراز الخط الجامع بينهما،فيقول:إذا كان فعل الفلسفة أمراً مشروعاً،فبفضل الشرع ومن داخل الشرع،فليس له أن يمتدَّ إلى الميادين التي يعود أمر رعايتها والبحث فيها إلى الشريعة،والفلسفة العملية،لا يقع القبول بها إلا بقدر ما تتلاءم مع الفلسفة الطبيعية والميتافيزيقية للعالم و الصانع،وهذا يعني أن الإنسان هو أحد موضوعاتها باعتباره أحد كائنات الطبيعة وأحد مصنوعات الصانع،لكن الانسان،يضيف نصّار،بما هو كائن أخلاقي وسياسي،يخضع للقانون،فأمره مناط بالشرع،وابن رشد يقطع في فصل المقال في المسألة،فيقول:”مقصود الشرع تعليم العلم الحق والعمل الحق”والعمل الحق هو العمل الذي يؤدي إلى السعادة ويجنب الشقاء وهو أمر يقع على عاتق الشرع في أبوابه الكلام والفقه والتصوّف(١٥).

لم يفكّر ألن رشد بحسب تحليل نصار،في أي وقت من الأوقات بإخضاع الفعل الحق لسيادة الفلسفة،ويرى إلى أن تهميش ابن رشد للفلسفة العملية في فصل المقال،لم يكن إجرائياً،كما أشار جورج حوراني في مقدمته لهذا الكتاب،وإنما كان موقفاً أراده عن تفكّر وقناعة تامّيْن.

٥-فعل التفلسف:من مطلب العلم بالحقيقة إلى مطلب رديف.

تقاطعت هذه المقاربة لمفهوم الفلسفة عند ابن رشد مع ما وصل إليه موسى وهبه في”نقد الحاجة إلى ابن رشد”(١٦)حيث قلّل من أهمية الفكر الرشدي في إحداث التغيير المنشود؛يقرّر ابن رشد أن الخطأ في الشرع على ضربين:واحد يُعذر فيه من هو من أهل النظر لأنه بمثابة خطأ من اللبيب الماهر،وخطأ لا عذر فيه، إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر؛وإن وقع في ما بعد المبادئ فهو بدعة”.والمبادئ الملزمة هي الايمان بالله وبالنبوّات وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي.يعلّق وهبه بالقول إن الفيلسوف القرطبي قد ضيّق،شأنه في ذلك شأن عصره الوسيط،على حرية التفكير،ووضع سقفاً للنظر في الموجودات أي التفلسف،فضاقت المسافة بين الفلسفة بمعناها الإغريقي،وعلم الكلام بمعناه الإعتزالي،حتى بدا الإعتزال أوسع أفقاً من ابن رشد،لاسيما عند اعتباره وجوب حصر الحق في التفلسف أي في النظر بالموجودات بأهل البرهان شرط عدم إذاعة علومهم المربكة بين الناس؛ويضيف أن قول ابن رشد”فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع”،بالمقارنة مع تعريف أرسطو للفلسفة بما هي “علم الكائن بما هو كائن”،ما يكشف أن” اعتبار الموجودات من جهة دلالتها على الصانع”إضافة رشدية تضمر اختزال فعل التفلسف من علم الحقيقة بإطلاق،بحسب أرسطو نفسه،إلى جزء منه وهو الميتافيزيقا،ومن ثم اختزال الميتافيزيقا إلى تيولوجيا،و من مطلب العلم بالحقيقة،وهو مطلب منزّه عن الغرض،إلى مطلب رديف تقتضيه أحوال العصر وأحوال الأمة أو أحوال أخرى.

٦-المسكوت عنه في المتن الرشدي

يبدو واضحاً أن خلفية هذه القراءة النقدية لمفهوم الفلسفة عند ابن رشد،تستبطن تحفّظاً وتشكيكاً في صلاحية العقلانية المنبثقة من هذا المفهوم،للتحديث والتنوير؛لعلّ هذا التوجّه قد بدا أكثر انكشافاً وظهوراً في نصّ محمد المصباحي(١٧)بل أكثر تعبيراً عن الجانب النقدي للخطاب العربي المعاصر حيال حداثة العقلانية الرشدية،إن الباحثين الحداثيين الذي استدلّوا على عقلانية ابن رشد التنويرية،من دعوته إلى الفصل بين الحكمة والشريعة،من دفاعه عن ضرورة التعدّد وحقّ الاختلاف،ومن قوله بوحدة العقل،لم تسعفهم هذه الأسباب جميعها في بلوغ مقاصدهم،لقدغلطوا في اعتبار دعوته إلى الفصل بين الحكمة والشريعة،تبشيراً بالعلمانية،وفاتهم أن أبا الوليد لم يفصل بين الحكمة والشريعة وإنما فصل بين الحكمة وعل الكلام،كما فصل بين الحكمة والتصوّف؛في فصله الأول،أراد صون القول الفلسفي من الانحراف عن طبيعته البرهانية غير المقيّدة بمقاصد الملل والنحل والثقافات،إلى طبيعة جدلية سفسطائية،كلامية،وفي الثاني،قصد حماية القول الفلسفي من التَوْه في غيب الاشارة والعلامة.أما اعتبار الحداثيين وحدة العقل عند ابن وشد،إحدى دعائم الحداثة التي تساوي بين الناس في حظّهم منه،فمسألة فيها نظر،لأن وحدة العقل تقود إلى فصله عن الأفراد،مما يحول بينهم وبين ملكية عقلهم الخاص،فيغدو الفرد محروماً من “أناه”،لقاء مشاركته في عقل عام و”أنا”كلية،ويذهب ابن رشد،برأي المصباحي إلى أبعد من ذلك”في مخطّط إلغاء الذات”إذ يعتبر أن الاتصال بالعقل الفعّال غاية الوجود البشري،الأمر الذي يهدّد بانمحاء العقل النظري-العملي،أمام هذا العقل”المفارق”،ويضيف،أنه لو سلّمنا بأن الانسان الفرد،يمتلك عقلاً خاصاً به،هو العقل النظري،فإن ابن رشد يجعله وقفاً على الخاصة دون الجمهور(١٨).أما قول أبي الوليد بالتسوية بين التأويل والبرهان وحصرهما بالخاصة،فقد أدّى إلى إبطال القول بالاختلاف،لأنه حرَم العامة من الحق في الفهم والتعبير،والبرهان،كما هو معلوم،يقطع بحقيقة واحدة لا مجال للاختلاف فيها.

٧-الوقوع في فخّ الغزالي

إن قسمة الناس بين عامة وخاصة،وجد فيها نصرحامد أبوزيد وقوعاً في فخّ الغزالي صاحب كتاب” المضمون فيه على غيرأهله” في مجال المعرفة،

وقد عبّر عن اعتقاده هذا،في الكثير من أقواله،مثل”لا تعلّقوا الدرّ في أعناق الخنازير”شارحاً المثل بأنه أفشاء المعرفة لغير أهلها.وهنا يتساءل أبو زيد،إذا كان ابن رشد يعتقد أن من أسباب هذه القسمة قيود العامة بتقاليدهم وعاداتهم وقلّة حظوظهم من التعلّم،”ألم يكن متوقعاً من فيلسوف قرطبة،بدل الوقوع في هذا الفخّ، أن يكون داعية لإشاعة المعرفة البرهانية ونشرها لتواجه فساد المعرفة الجدلية؟يضيف أبو زيد بعد تساؤله:قد يكون هذا السؤال في غير محلّه بالنسبة لابن رشد،لكنه يبقى سؤالاً مهمّاً بالنسبة للناس في عصر ديمقراطية المعرفة وثورة المعلومات،العصر الذي لا يليق به أن يبقى رهين الصراع الأيديولوجي،وأسير مقولة”الخاصة والعامة”وما يجوز التصريح به وما لا يجوز من الناحية المعرفية”(١٩).

يستكمل أبو زيد نقده لمبدأ التمييز بين العوام والخواص في حق التفكير والتعبير واكتساب المعرفة،كما عبّرت عنه العقلانية الرشدية، بتسليط الضوء على خطر الشمولية التي حرص الشافعي على منحها للنصوص الدينية[الامام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية،م.الثقافي العربي،الدار البيضاء،٢٠٠٠]وعلى جعل القياس عليها،آخر ما يستطيعه العقل البشري،فرأى في هذا التدبير الأيديولوجي لفعل التفكير تكبيلاً للإنسان وإلغاءاً لقدرته على إنتاج المعرفة،وإهداراً لخبرته،وإخضاع عقله لسلطة النصوص بعد أن تمّت صياغة الذاكرة في عصر التدوين-عصر الشافعي-تبعاً لآليات الاسترجاع المحكم والمضبوط على حساب التفكير الحرّ الذي يصنع مقدماته ويستثمرها في عملية البحث عن الحقيقة.ينتهي أبو زيد إلى القول:إنه السياق الذي صاغه الأشعري فيما بعد في نسق متكامل،ثم جاء الغزالي بعد ذلك،فأضفى عليه أبعاداً فلسفية أخلاقية،كتب لها الشيوع والاستمرار والهيمنة على مجمل الخطاب الديني حتى عصرنا.

استطاعت هذه المواقف النقدية لحداثة ابن رشد أن تكشف عن مساحات مسكوت عنها في نصّه،حرص أكثر الباحثين فيه عن حداثة،على تغييبها وعدم التوقّف عندها،دون أن يدركوا أن هذا الإهمال يسهم في طمس بعض من ثرائه،فالعقلانية الرشدية ظاهرة متقدّمة في تاريخ الفكر الفلسفي العربي،يتّفق الباحثون على اعتبارها تجربة فكرية غنية،يتشاركون التفكير في صلاحيتها الحداثية نفياً وإثباتاً،وفي الكتابة عنهاً تأييداً ورفضاً،لكنها تبقى في جميع الأحوال،صاحبة حضور وازن في معقول الخطاب العربي المعاصر.لم تخرج الآراء المعبّرة عن أحوال هذه العقلانية المخصوصة عن المنهج البياني التفسيري الذي يبحث في معناها داخل النص الرشدي،سعياً إلى شرحه وإيضاحه،يتقصّى دلالاته رغبة في التبيين والفهم والإفهام،حتى بدت الفلسفة مع هذا المنهج،بحسب ڤيتغنشتاين(٢٠)،عبارة عن جهد تبييني للأفكار وسعيٍ لتوضيح الغامض من معانيها.

 

_______

الحواشي

١-أنظر،حسن حنفي،”الاشتباه في فكر ابن رشد”،عالم الفكر،١٩٩٩.

٢-ابن رشد،فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال،مدخل ومقدمة للدكتور م.ع.الجابري،بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،١٩٩٧

٣-م.ع.الجابري،تكوين العقل العربي،بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،١٩٨٤،بنية العقل العربي،م.د.الوحدة العربية،بيروت١٩٨٦.

٤-ابن رشد،فصل المقال…٥٩

٥-الجابري،ابن رشد،سيرته وفكره،بيروت،م.د.الوحدة العربية،١٩٩٨-ص٣٣

٦-ابن خلدون،المقدمة،بيروت،دار العلم للجميع،٥١٩

٧-الجابري،ابن رشد ٣٤

٨-M.A.al-jabiri,introduction à la critique de la raison arabe,Paris,édition de la découv,1994,168.erte

٩-راجع:محمد أركون،”ابن رشد رائد الفكر العقلاني والإيمان المستنير”عالم الفكر(٢٧)،١٩٩٩،عاطف العراقي،الحس النقدي عند الفيلسوف ابن رشد،عالم الفكر(٢٧)،١٩٩٩

١٠-ناصيف نصّار،الفلسفة المطوّقةla philosophie encerclée،أعمال مؤتمر حول ابن رشد،هايدلبيرغ،منشورات جامعة هايدلبيرغ ١٩٩٨.

١١-Roger Arnaldez,Avérroès et Avérroisme en Islam,Paris,Balland,1998

١٢-ناصيف نصّار،الفلسفة المطوّقة،م.س.١١٥

١٣-المرجع نفسه،١٢٠

١٤–ابن رشد،فصل المقال…١١٥

١٥-ناصيف نصار،الفلسفة المطوّقة ١٢٢

١٦-راجع،موسى وهبه،ابن رشد وإمكان الفلسفة بين الأمس واليوم،الفكر العربي المعاصر(١٠٨-١٠٩)أعمال مؤتمر كلية الإلهيات،جامعة مرمره،بمناسبة مرور ٨٠٠ عام على وفاة ابن رشد.

١٧-راجع،محمد المصباحي،الوجه الآخر لابن رشد،بيروت دار الطليعة،١٩٩٨

١٨-المرجع نفسه،٣١

١٩-نصر حامد أبو زيد،الخطاب والتأويل،بيروت،المركز الثقافي العربي٢٠٠٠

٢٠-عبدالله الجسمي،المنطق وتصوّر فيتغنشتاين للفلسفة،عالم الفكر،ع٢٩-٢٠٠٠/٢٠٠١.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete