الفلسفةُ في مواجهةِ الهشاشةِ الإنسانيةِ: رحلةُ البحثِ عن المعنى والخلاص

تكوين

هل قدمت الفلسفةُ أجوبةً كبرى إلى الإنسانية؟

منذ انطلاقها حتى حدود عالمنا المعاصر يمكنُ الجزمُ بذلك، ولكن هناك فرق بين الأجوبة الكبرى والحقيقة، وذلك لأن رغبة الفلسفة منذ انطلاقها ليست الوقوف النهائي على أعتاب الحقيقة كما يتصورُ البعض، ولكن هدفها هو تحريكُ الجمود الفكري ووضعُ الكائن الإنساني في أنماطٍ مختلفةٍ من التفكير، لمواجهة هشاشته الكبرى. الفلسفةُ ليست مجرد دراسةِ نظرياتٍ معقدةٍ أو مناقشاتٍ عقليةٍ، بل هي أيضًا وسيلة لتطوير الحكمة الشخصية وإيجاد معنى للحياة. عن طريق طرح أسئلة أساسية مثل ما هو الخير؟ وكيف يمكنني أن أعيش حياة سعيدة؟ فهي منذ النشأة الأولى كانت تساعدُ الكائن الإنساني في التفكير عن قيمته ودوره وتوجيه حياته بطريقة أكثر وعيًا. وهكذا كان الفلاسفةُ اليونانيين القدماء مثل سقراط وأبيقور والرواقيين، يقدمون طرقًا عملية لتطبيق الفلسفة في الحياة اليومية، فقد ركزوا على تطوير الفضائل والتحكم في الرغبات والشهوات وتقبل الأمور الخارجة عن السيطرة، مما يجعلُ الفلسفة فنًا للعيش متوازنًا ومستدامًا. لكن هذا لا يمنعُنا القول إن وضعية الفلسفة أو فهمها أو حتى تعريفها يُمثِّل إشكاليةً حقيقيةً لدى الكثيرين، بمن فيهم المشتغلين في هذا الحقل المعرفي الكبير والمهم والحساس، لأنه يشتغلُ من جهة على مفاهيم مجردة ونظرية، وأيضًا لأن مجال الفلسفة دومًا كان مجالًا متعاليًا ومتجاوزًا للواقع خصوصًا مع تحول الفلسفة إلى فلسفة مدرسية تُدرسُ في الجامعات والمدارس والمعاهد.

في عالمنا اليوم، هناك حاجةٌ مُلحةٌ إلى التفكير الفلسفي، ونحنُ نواجهُ مشكلة التصحر الفكري وسيادة التفكير القبلي والعقدي وهيمنة الأصولية الدينية. فالفلسفةُ هي ذلك الدرعُ الواقي لكلِّ أشكالِ التَبَلُّدِ والتخلفِ. ولا يمكنُ أن نخوضَ تجربةَ التطورِ والتقدمِ دون أن يكون المَدخل الأساسي هو التفكيرُ الفلسفيُّ المتجاوزُ لحدود الذات الضيقة. فالفلسفةُ قبلَ أن تكونَ نظريات أو مقولات مجردة وتطبيقات عملية، فهي طريقةٌ للعيش ونهجٌ للتفكير ولها دورٌ المصباح الذي ينيرُ الطريقَ للخروجِ من كل أشكال الاستعصاء الثقافي، ولعلَّ أهمها مواجهةُ الهشاشةِ الإنسانيةِ المستدامةِ أمامَ الموتِ والفناءِ والأحزانِ. وبما أننا نعيشُ في عالمٍ سائلٍ بتعبير باومان، عالمٌ متغيرٌ ومتحولٌ على مدار الساعة، فإنَّ الحاجةَ إليها لم تعد أمرًا ثانويًا، بل باتت ضروريةً لمواجهةِ تحولاتِ العالم الكبرى.

لهذا أصبح من المشروع أن نعود إلى السؤال الجوهري، ما الذي يجعلُ حياتنا تستحقُّ العيشَ على الرُغم من معرفتنا بأننا كائناتٌ فانيةٌ؟ لماذا نستمرُ في بذل كل هذا الجهد في الحياة؟ هذا هو جوهرُ القضية الذي سنحاولُ مناقشته في هذه الحلقةُ، مستندين إلى أفكار الفيلسوف الفرنسي لوك فيري[1].

ما الفلسفةُ؟

في حوارٍ أجراهُ كلود كابليي مع لوك فيري سأله سؤالًا غايةً في الأهمية: ما الذي يميزُ الجوابُ الفلسفي عن الأجوبةِ الأخرى التي تقدمها لنا الأوامرُ الأخلاقيةُ والمثلُ السياسيةُ وتعاليمُ الحكماء؟ فكان الجوابُ هو أن علينا أولًا التمييزُ بين دائرتين كبيرتين غالبًا ما يتم الخلطُ بينهما عن قصد أو دون قصد. هاتان الدائرتان هما القيمُ الأخلاقيةُ والقيمُ الروحيةُ أو الوجوديةُ. ولكي نميز بين هذين المستويين يمكننا أن نقول ببساطة: في القيم الأخلاقية نجدُ دائمًا مقتضيين أساسيين: الاحترام والسخاء فالمرءُ مثلًا يتخذُ سلوكًا أخلاقيًا اتجاه الآخرين عندما يحترمهم، وحين يضيفُ أيضًا من جهة أخرى إلى الاحترام للآخرين ما نسميهُ بالطيبة ودماثة الأخلاق واللطف والإحسان.

لكن ما معنى القيم الروحية إذن؟ كي نستوعبَ الفرقُ يمكننا أن نتخيل قصة مفادها أننا قد نملك اليوم أو غدًا كما في بعض بشائرِ بعض الأيديولوجيات الطوباوية، نملكُ عصًا سحرية نستطيع من خلالها تحويل الكائن الإنساني إلى كائن خيِّر فلا صراع ولا قتل ولا فساد ولا ظلم. دعنا نتخيل ذلك ونذهب فيه إلى أبعد الحدود، ونصدقه أيضا على الرغم من صعوبة ذلك على النفس الإنسانية وطبائعها. بواسطة هذا الخيال الجامح والقصة غير الواقعية بالأساس يمكننا أن ندرك الفرق الجوهري بين القيم الأخلاقية والأخلاق الروحية. فحتى لو استطعنا أن نحول هذه الفكرة غير الواقعية إلى واقع فعلي وملموس نراه ونبصره ونعيشه، فإن ذلك لن ينفعنا ولن يقينا من بؤس الواقع، فحتى لو كنا أخلاقيين بما فيه الكفاية فهذا لن يمنعنا أن نهرم ونشيخ ونضعف أو نحزن لفراق والد أو والدة أو أخ أو صديق، وهذا هو نفسهُ ما يمكن أن نسميه بالقيم الروحية أو الوجودية، أي تلك القيمُ التي تلامسُ بشكلٍ مباشرٍ واقع البشر وحياتهم. أما القيم الأخلاقيةُ فهي ضرورية لاستمراريتنا ضمن دائرة الحقوق المتبادلة، لكنها ليست شرطًا لحياةٍ موفقةٍ.

لماذا نريدُ أن نميز بين هاتين الدائرتين من الناحية المنهجية؟ لسبب بسيط وهو أننا في هذه الحياة على الرغم مما قد نتصفُ به من قيم أخلاقية دومًا نسألُ ما هو شكلُ الحياةِ الذي نسعى إليه ونخلقَ فيه سعادتنا وحبنا على الرغم من أننا نُوجَعُ حينما نتذكرُ الموتُ والفناءُ. هنا أتذكرُ قولةً للفيلسوف والأديب البرتغالي فرناندو بيسوا[2] الذي يقولُ بأن لا طمأنينة هذا الإنسان، أو شعورُه الدَّائمُ بالخوف ناتجٌ عن أننا: “جميعنا نعلم أنَّنا سنموتُ، وجميعنا نحسُّ أنَّنا لن نموت” هنا المفارقة. إذًا سؤالُ الموت والفناء هو القاعدةُ الصلبةُ التي بنت عليها الفلسفة كل تراثها وأسئلتها وتفكيرها. ولكن يمكن أن يُطرح سؤالٌ هنا إذا كانت الفلسفة تؤكد هذا المعطى بالتحديد، وتحاولُ أن تُقارب موضوع الموت والفناء وتبحثُ له عن إجابات، فما الفرق بينها والدين مثلًا الذي بدوره أثارَ فكرة الموت وانشغل بها وقدَّمَ عنها إجابات كثيرة؟

للجواب عن هذا السؤال يُمكننا أن نؤكد أن هناك مجموعة من الفروق بين الأجوبة التي تقدمها الأديان وما تقدمه الفلسفة، وأهمُّها نجدهُ في:

  • الأجوبة التي تقدمها الأديان تمرُّ عبر الإله، وتقوم على الإيمان والتسليم تبعًا لكل دين ومعتقد. أما الأجوبةُ التي تقدمها الفلسفة فهي تحاولُ أن تُعطي إشارات اعتمادًا على حدة الفكر وحدة العقل.
  • الأديانُ الكبرى تُقدم إجاباتها بناءً على أن الحياة السعيدة أو الخيرة، يمكنُ أن نَكسبها عن طريق خضوعٍ مضاعفٍ للعقل والحرية الفردية، على حساب قوةٍ خارجيةٍ تتمثَّلُ أساسًا في التعالي الإلهي من جهة، ومن جهة أخرى بسبب قوة الاعتقاد والإيمان. أما الفلسفةُ فهي تريدُ أن تبلغَ كل هذه الأشياء اعتمادًا على العقل وحدة الوعي. وهذا لا يعني أنهُ ليس هناك فلسفاتٌ دينية فكثيرٌ من الفلاسفة أدخلوا مبحث الألوهية ضمن المباحث التي درسوها في فلسفاتهم.

الخمسةُ أجوبةٍ الكبرى للفلسفة

قلنا سابقًا إن السؤال المركزي الذي كان يشغلُ الفلسفة منذ بداياتها الأولى، هو سؤالُ الإنسان ومصيرهُ وكيف نضمنُ لأنفسنا حياةً سعيدةً وطيبةً، ضمن وجود سمته الأساسية وهي الفناء والموت. ولكن هذه الأجوبة التي تحاول أن تقدمها الفلسفة كانت تمرُّ خارج مبحث الإله المتعالي وخارج قوة الاعتقاد والإيمان، بل بوسائل العقل وحدها وبوسائل التفكير البشري فقط. ولكن على الرغم من أن الفلسفة اختارت لها طريق العقل محاولة تحديد الحياة الطيبة المرجوة والمنشودة، إلا أن إجاباتها تنوعت واختلفت وتفرقت بفعل محدودية العقل الإنساني، وهذا ليس عيبا ولا يجعلنا نفضل نسقًا على الآخر بقدر ما نرى في كل نسق إمكانات غير متاحة في آخر وهكذا. لماذا؟ لأن تاريخ الفلسفة مثل تاريخ الفن، ففي المجال الجمالي الفني يمكنُ للإنسان أن يكون محبًا للفن الرومانسي أو الكلاسيكي أو الواقعي أو غير ذلك، دون أن ينظر إلى هذه التعبيرات الإنسانية نظرة تفضيل.

إذًا ما هي أهم الأجوبة التي جاءت بها الفلسفة في بحثها عن الخلاص الإنساني؟

  • الجواب الأول: تناغمُ الكوسموس

يُمثلُ مفهوم الكوسموس أحدُ المفاهيم الجوهرية التي اشتغلت عليها الفلسفة اليونانية، وقد كان يشير هذا المفهوم الكوسموس (Cosmos) إلى النظام المنظم والمرتب للكون. فكلمة “كوسموس” تأتي من اللغة الإغريقية القديمة وتعني “النظام” أو “الترتيب”، وغالبًا ما تُستخدم للإشارة إلى الكون بصفته كيانًا منظمًا يتسمُ بالترتيب والتناسق. وفي مقابلها نجد كلمة كاوس (Chaos) التي تعني الفوضى أيضًا في اللغة الإغريقية. وقد تشيرُ أيضًا إلى حالة اللامعنى والعبثية واللامعقولية التي كانت تسبق تكوين النظام الكوني.

إذًا يُقصد بالكوسموس التناغم الكوني. أي أن الكائن الإنساني إذا أراد أن يتمثل الحياة الطيبة يجب أن يكون متوافقًا مع النظام الكوني، وهذا يتأتى بمعرفة الكمال الإلهي والتأمل فيه من أجل الالتصاق به والسعي في التماهي معهُ. هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية، فكلما ازددنا إحساسًا بأننا نشارك في ألوهية التناغم الكوني قلَّ خوفنا من الموت وقلقنا اتجاههُ. أي أننا بوصفنا قطعةً من الكوسموس أو التناغم الكوني فنحن قطعٌ من هذه السرمدية والأبدية أجزاءُ من الكون الأكبر. وانطلاقًا من هذا التصور فحينما نفقدُ شخصًا أو حينما نفقدُ أيضًا ذواتنا بالموت فلن نفقد في الحقيقة إلا النصيب الأتفهُ من وجودنا الفردي.

لكن كيف يمكننا أن نحقق هذا التناغم الكوني؟ هنا يمكننا أن نشير إلى ثلاثة محاذير أساسية:

  • الأول: تجنب الإفراط .hybris وهو مصطلحٌ إغريقي قديم يشيرُ إلى الغطرسة أو الغرور المفرط. أما في السياقات الأدبية والفلسفية اليونانية، تعني تجاوز الحدود أو التصرف بتحدٍّ للآلهة أو النظام الطبيعي، مما يقود إلى العقاب أو السقوط. وقد كان هذا المعنى السائدُ له في الأساطير اليونانية، غالبًا ما يرتبط بالأبطال أو الشخصيات الذين يتجاوزون مكانتهم أو يتحدَّون الآلهة، فيعتقدون أنهم لا يُقهرون أو يستحقون مكانة أعلى من تلك التي يمتلكونها. هذا التحدي يؤدي في النهاية إلى أن تعاقبهم الآلهة اقتصاصًا منهم.
  • الإقامةُ في الماضي: لا بُدَّ من التذكير هنا بأن الماضي والمستقبل بالنسبة لليونانيين أمران يُثقلان الكاهل الإنساني ويجعلانه عبدًا لهما، فالماضي يمنعنا الإقامة في الحاضر والعيش فيه، إما لأنهُ سعيد فيجذبنا إلى الحنين، وإما لأنه تعيس فيغرقنا أيضًا فيما يسميه سبينوزا بالأهواء الحزينة. يقول سينيك: فإننا من فرط العيش في الماضي أو في المستقبل تعوزنا الحياة. وهي نفس الدلالة التي عبرَ عنها نيتشه بـ amor fati أي حب ما هو موجود هناك، حاضر أمامنا.
  • الخوف: الخوف في نظر اليونانيين هو العدوُّ الأول للحكمة، فهو يحوِّلنا إلى أغبياء وخبثاء. أغبياء لأن دواعي خوفنا لا عقلانية في أكثر الأحيان، وهو ما يجعلنا متعصبين ومتمركزين في ذواتنا ومنغلقين عن الآخر، وهو ضد الحكمة لأن الحكيم هو نقيض الخواف، لأنه ببساطة هو ذلك الشخص القادرُ على هزيمة مخاوفه والتفكير بحرية والقادر على حب الآخرين والانفتاحُ إليهم.

 

  • الجواب الثاني: اللاهوتُ اليهوديُّ والمسيحيُّ

عندما نشيرُ إلى اللاهوت لا بُدَّ من معرفة المعنى المقصود هنا، فمصطلح اللاهوت اليهودي المسيحي يشير إلى التداخلات والتأثيرات المشتركة بين الديانتين اليهودية والمسيحية في مجالات الفكر الديني والعقائد. ومعلوم أن الديانتين اليهودية والمسيحية نشأتا منفصلتين، إلا أن هذا لم يمنع وجود قواسم مشتركة بفعل الامتدادات الثقافية والفكرية بينهما، وإذا أردنا تتبع هذا التداخل الحاصل بين الديانتين والمُجَسِّدُ الفعلي لمصطلح اللاهوت، يمكننا أن نشير بداية إلى التوراة أو العهد القديم النصُّ المحوريُّ في اليهودية، والجزء الأساسي مما يسمى بالكتاب المقدس المسيحي. وهنا يشتركُ اليهود والمسيحيون في الإيمان بالعديد من الأنبياء والشخصيات التاريخية مثل إبراهيم، موسى، داود، ويؤمنُ كلا الدينين بأنَّ الله أبرمَ عهدًا مع بني إسرائيل، كذلك يتفقُ اللاهوتان في قضية العهد الإلهي الذي أبرمه الله مع بني إسرائيل في اليهودية، باعتباره جزءًا من خطة الله لقيادة البشر إلى الخلاص. ففي المسيحية يُعتبرُ يسوع المسيح إتمامًا لهذا العهد وتجسيدًا للوعود التي جاءت في الكتابات العبرية. أما قضية الخلاص والتي تشكل عصب العقيدة المسيحية، فإن اليهود يعتقدون بأن الخلاصَ يأتي من اتباع القوانين والشرائع الإلهية كما هي موضحة في التوراة. أما في الخلاص والنعمة في المسيحية فيعتبران هبة مجانية من الله عن طريق الإيمان بيسوع المسيح لا عن طريق اتباع الشريعة.

في هذا السياق المتصل بالتحول الذي أحدثه اللاهوت المسيحي تحديدًا بالفلسفة اليونانية القديمة، يمكننا الإشارة إلى أن المسيحية أحدثت تحولًا جذريًا في الفلسفة اليونانية، فقد طرحت رؤية جديدة للخلاص تختلف تمامًا عن فكرة التناغم الكوني التي دعت إليها الفلسفات اليونانية، بخاصة الرواقية. ولمعرفة الطريقة التي قارب بها الرواقيون الأوائل مسألة الخلاص يمكننا اختصار ذلك فيما يلي:

  • الكون المنظم والمتناغم: في الفلسفة الرواقية تعدُّ فكرة الكوسموس محورًا مركزيًا، تفهمُ الكون على أنه نظام متناغم ومنظم بشكل دقيق، ويشيرُ هذا المصطلح في الفلسفة الرواقية إلى الكون باعتباره كيانًا منظمًا يخضع لقوانين طبيعية وعقلية، فكل شيء مترابط ويعمل في انسجام تام وفقًا لخطة عقلية إلهية أو “العقل الكلي”.
  • القدر والقوانين الطبيعية: يؤمنُ الرواقيون بالقدرية (الاعتقاد بأن كل شيء يحدثُ لسبب وفي وقت محدد وفقًا للنظام الكوني). الكون يخضعُ لقوانين طبيعية ثابتة لا يمكن للبشر السيطرة عليها. الإنسان جزء من هذا النظام ويجبُ عليه أن يتقبلَ الأحداث التي يواجهها في الحياة باعتبارها نتيجة للقوانين الكونية.
  • التناغم مع الطبيعة: أحد المبادئ الأساسية للرواقية هو العيشُ وفقًا للطبيعة، وعلى الإنسان أن يتناغم مع قوانين الكون.

 

مع أن هذه الرؤية المسيحية قد حققت انتصارًا فكريًا على تلك الفلسفات، إلا أن هذا الانقلاب الفكري لم يأتِ دون تكاليف كما يشيرُ لوك فيري، كان من أبرز هذه التكاليفُ إخضاع العقل لسطوة الإيمان. فبدلًا من أن يكون الإنسان هو المعيار الأساسي لتحقيق سعادته، أصبحت إرادة الله هي الموجهةُ لهذه السعادة. فما الذي حدث؟

لقد حققَ اللاهوتُ المسيحيُّ انتصارًا كبيرًا على الفلسفة الرواقية، بسبب عدة عوامل معقدة تشملُ التحولات الثقافية والاجتماعية والدينية، التي شهدها العالمُ في العصور القديمة المتأخرة. فالرواقيةُ كانت تعتقد في فكرة التناغم الكوني والخلود، عن طريق العيش في توافق مع الطبيعة. بينما قدمَ اللاهوت المسيحي مفهومًا عن الخلاص الشخصي الذي يرتكزُ على العلاقة الفردية مع الإله، فقد اعتبر الإيمان بيسوع المسيح خلاصًا للأفراد وطريقًا لضمان الحياة الأبدية. ثم قدمت المسيحية أجوبةً أكثر وضوحًا عن الأسئلة الوجودية والروحانية التي كانت تشغلُ الإنسان في ذلك الزمن، مثل علاقة بين الحياة والموت والفناء والمعاناة الإنسانية. هذه الإجابات كانت أكثر جاذبيةً في ظلِّ الظروف الاجتماعية والسياسية المضطربة التي سادت تلك الفترة.

كما ركزَ اللاهوتُ المسيحيُّ على القيم الأخلاقية الشخصية مثل الحب، الرحمة، التسامح. بينما كانت الفلسفة الرواقية تركزُ على الانضباط الشخصي والعقلانية. هذه القيمُ المسيحية شَكلت أساسًا قويًا يجذبُ الأفراد إلى الإيمان المسيحي. ومع انتشار المسيحية وسيادتها في المجتمعات بخاصة مع تبني الإمبراطورية الرومانية لها في القرن الرابع الميلادي، لم تعد تأويلاتها العقدية مجرد تحول ديني، بل أصبح تأثيرها يمتد إلى ما هو اجتماعي وثقافي وسياسي، مما أدى إلى اندحار وتراجع الفلسفة الرواقية مقابل الزحف المسيحي الكاسح. وهذا ما حذا بالفلاسفة المسيحيين، مثل أوغسطينوس إلى إعادة صياغة بعض أفكار الفلسفة اليونانية بما في ذلك الرواقية، ودمجها في الإطار المسيحي. هذا التطور جعل اللاهوت المسيحي أكثر قوة وملاءمة للزمان والمكان، مما ساعده على تجاوز الرواقية، وكأنَّ المسيحية بهذا التحول الكبير قدمت تجربة روحية شاملة مستخدمةً العبادة الجماعية، الأسرار، الشعائر. هذه العناصرُ الرُوحيةُ أضافت بعدًا جديدًا للإيمان لم يكن موجودًا بشكل قوي في الفلسفة الرواقية. وتبقى نقطة التحول الكبرى في المسيحية هي الأمل والخلود الشخصي، فبينما قدمت الرواقية فكرة الخلود بوصفه نوعًا من الاندماج في الكوسموس، قدمت المسيحية الأملَ في خلود شخصي، مما جعلها أكثر جاذبية للناس الذين كانوا يبحثون عن معنى وهدف في حياتهم.

هذا التحولُ كان ثوريًا، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار السياق الفكري الذي كان سائداً آنذاك. وربما تُظهرُ الفلسفة الرواقية في ظلِّ هذا التحول وكأنها أكثر بساطة. فالرواقية كانت تدعو الإنسان إلى الذوبان في نظام كوني واسع والبحثُ عن الانسجام معه من أجل تحقيق السعادة. لكن هذا الذوبانُ يمكنُ أن يؤدي إلى فقدان الفرد هُويتهُ الشخصيةُ الواعيةُ. في المقابل، اللاهوت المسيحي قدمَ رؤيةً مغايرةً تمامًا عن الخلاص، فهو لم يكن مجرد نوع من التناغم الكوني، بل قدمَ وعدًا بالخلود الشخصي لنا ولأحبائنا وأصدقائنا، ليس فقط روحًا، بل جسدًا وصوتًا وصورة. هذا الخلودُ الشخصي جعل المسيحية تعيدُ صياغة مفهوم الخلاص بأسلوب جديد ومبتكر، مما مكنها من التفوق على الفلسفات اليونانية والسيطرة على الفكر العالمي لما يقارب خمسة عشر قرنًا.

الجواب الثالث: المبدأ الإنساني

يُعتبرُ المبدأ الإنساني أحد المبادئ الأساسية التي تركز عليها الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وهو واحد من الأجوبة التي قدمتها الفلسفة في مسارها الإنساني، حيث يُعبرُ عن فكرة أن الإنسان هو محور التفكير الفلسفي والأخلاقي. ويمتدُّ هذا المفهوم ليشمل كرامة الإنسان، حقوقه، حرية اختياره، وهو ما يُبرزُ أهمية الفرد في تشكيل المجتمع والحضارة.

فما هو المبدأ الإنساني؟

يشيرُ هذا المصطلح إلى الاعتقاد في أن كل إنسان يحمل قيمة فريدة ويمتلك حقوقًا لا يمكنُ انتهاكها أو تجاهلها. ويُعزز هذا المبدأ فكرة أن جميع البشر متساوون في القيمة، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو العرقية أو الدينية. ويؤكدُ هذا المبدأُ أهمية كرامة الفرد وحريته في اتخاذ القرارات، مما يُسهم في بناء مجتمعات قائمة على العدالة والمساواة. وهذا يعني أن لهذا المصطلح أبعادًا أخلاقية، حيث يُعتبرُ أساسًا للأخلاقيات المعاصرة. كما يُحفزُ هذا المبدأُ على احترام حقوق الآخرين، ويُشجعُ على التعاطف والتفاهم بين الأفراد. ويطلبُ من الناس أن يتعاملوا مع بعضهم بوصفهم أشخاصًا ذوي كرامة، مما يُسهم في تعزيز العلاقات الإنسانية الصحية ويُعزز من السلم الاجتماعي. أي أنه مبدأ يرتبط بشكل وثيق بالمفهوم العالمي لحقوق الإنسان. لأنهُ يُحددُ الحقوق الأساسية التي يجبُ أن تُمنح إلى كل فرد بغض النظر عن ظروفه. وتُعتبرُ هذه الحقوق متأصلة في طبيعة الإنسان وتشمل الحق في الحياة والحرية والأمان والتعليم والمشاركة في الحياة السياسية. وقد تناولت الفلسفة المعاصرة مفهوم المبدأ الإنساني بشكل موسع. فقد تبنى عديدٌ من الفلاسفة، مثل لوك فيري، هذا المبدأ بوصفه إطارًا لتطوير الأخلاقيات والسياسات. ويُعتبرُ المبدأ الإنساني حافزًا على التفكير النقدي، فهو يُحثُّ الأفراد على تحليل العواقب الأخلاقية لأفعالهم والتفكير في كيفية تأثيرها في الآخرين.

الجواب الرابع: مبدأ التفكيك

لقد كان التفكيك أو فلسفة التفكيك أحد الأجوبة الكبرى، التي قدمتها عبر قصتها الإنسانية منذ النشأة حتى وقتنا المعاصر. إنه أحد المفاهيم الفلسفية المركزية في أعمال لوك فيري، الذي سلط الضوء على الحاجة إلى إعادة تقييم المفاهيم والأفكار التي نأخذها بوصفها مسلمات في حياتنا اليومية. وكيف أن التفكيك يُعززُ التفكير النقدي ويشجع على الفهم الأعمق للواقع الاجتماعي والثقافي الذي نعيشه.

فما التفكيك؟

إنه يُشيرُ إلى عملية تحليلية تتضمن تفكيك المفاهيم والأفكار السائدة لكشف المعاني الخفية وراءها، والهدفُ من هذه العملية هو تحدي المسلمات وتلك الأفكار أو القيم التي اعتدنا على قبولها دون تفكير، فالتفكيكُ يفتحُ المجال أمام التفكير النقدي، لأنهُ يُشجعُ الأفراد على طرح الأسئلة واستكشاف وجهات نظر جديدk. ويعدُ التفكيك مفهومًا قديمًا، ولو أنه اشتهر مع الفلسفة الحديثة ومع رواد فلسفة التفكيك، أي أنه ليس مفهومًا جديدًا، بل له جذور في الفلسفة الغربية ولذا فلا مناص منه خصوصًا أنه يقدمُ رؤيةً جديدةً تُحاولُ تقديم أدوات ووسائل من أجل فهم العالم المعاصر. أي أنه هنا يُعتبر أداة تحليلية تتيح للناس تجاوز الأساليب التقليدية في التفكير.

فـأين تتجلى أهميته؟

  • تحدي المفاهيم التقليدية:

في عالم مليء بالتحيزات والأفكار المسبقة، يُعتبرُ التفكيك أداة قوية في تحدي المفاهيم التقليدية. ويُعززُ هذا الأسلوب النقدي  قدرة الأفراد على النظر إلى العالم من زوايا متعددة، وتحفيزهم على التفكير بطريقة أكثر نقدية. وهذا التحدي للمفاهيم الراسخة يُسهم في إنشاء بيئة فكرية مرنة تُشجعُ الابتكار والإبداع.

  • فتح آفاق جديدة:

التفكيك يُتيح للأفراد الفرصة لاستكشاف آفاق جديدة من المعرفة، عندما تُفككُ الأفكار يمكن أن يظهر المعنى الذي لم يكن واضحًا من قبل، ويُعتبر هذا الأمر حيويًا في الفلسفة، فالفهم الأعمق للأفكار يمكنُ أن يقود إلى اكتشافات جديدة.

  • الأهمية الفلسفية:

التفكيكُ له أهميةٌ كبيرةٌ في السياق الفلسفي، إذ يُعتبرُ من الأدوات الأساسية في الفلسفة المعاصرة، لأنهُ يُعززُ التفكير النقدي. ويُشجع على إعادة النظر في القيم والمعايير التي تشكل الأسس الفكرية والثقافية، مما يفتح المجال من أجل فهمٍ أعمقَ للحياة البشرية.

إن مفهوم التفكيك، كما يقدمهُ فيري، يُعدُّ أداة قوية في فهم العالم المعاصر، عن طريق تحفيز التفكير النقدي وإعادة تقييم المفاهيم الراسخة وفتح آفاق جديدة للفهم والتفاعل، إن التفكيك ليس فقط وسيلةً لتحليل الأفكار، بل هو أيضًا دعوةٌ إلى التفكير الحر والتخلص من القيود التي يمكنُ أن تُعيق نمو الفرد والمجتمع. فبالاعتماد على هذا المفهوم، يمكنُ للأفراد تطوير وعي نقدي يُساعدهم في مواجهة التحديات المعاصرة واستكشاف إمكانيات جديدة للحياة، وبهذه الطريقة يُعززُ التفكيك قدرة الأفراد على التفاعل بشكلٍ إيجابيٍّ مع العالم حولهم، مما يُعززُ الوعي الاجتماعي والفردي في مجتمعاتنا المعاصرة.Bas du formulaire

الجواب الخامس: الحب مبدأ جديدًا للمعنى:

في سياق الفلسفة المعاصرة يُعتبرُ الحب من القيم الأساسية التي تتجاوز مجرد العواطف الشخصية، ويعبرُ فيري في كتاباته عن كيف أن الحب يمكن أن يكون مثل مبدأ جديد للمعنى في حياة الأفراد والمجتمعات، إنه الرابطةُ العميقةُ الجامعةُ بين البشر، كما يشكلُ أساسًا للعديد من القيم الأخلاقية والاجتماعية.

فما الحب؟

الحبُ في نظر فيري، ليس فقط شعورٌ عابرٌ أو عاطفةٌ سطحيةٌ، بل هو قوةٌ دافعةٌ تعززُ الفهم والاتصال بين الأفراد، ويمكن أن يُعرفَ الحب على أنه ارتباط عميق بالآخر يتجاوزُ الأنانية ويخلق مساحة للتضحية والرعاية. كما يُعتبرُ الحب عنصرًا أساسيًّا من أجل بناء المعاني والأهداف في الحياة، لأنهُ يُعطي الأفراد دافعًا إلى العيش بشكل أفضل.

فكيف يتحول الحب إلى مبدأ للمعنى؟

  • الحب بوصفهِ قيمةً إنسانيةً:

يُعتبرُ الحب قيمةً إنسانيةً عليا، فهو يسهمُ في تعزيز الروابط الاجتماعية، فعن طريق الحب يمكنُ للأفراد تحقيق الاندماج والاتحاد في المجتمع، كما يُشجعُ الحب على تقديم الدعم والرعاية للآخرين، مما يؤدي إلى بناء مجتمع أكثر تعاطفًا وإنسانية.

  • التواصلُ العميقُ:

يُعززُ الحب القدرة على التواصل بشكل أعمق مع الآخرين، ويُشجعُ الأفراد على التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم، مما يؤدي إلى تبادل الآراء والخبرات، هذا التواصل يُساعد على توسيع آفاق الفهم والتعاطف بين الناس.

  • البحث عن المعنى:

يُعتبرُ الحبُ أداة قوية للبحث عن المعنى في الحياة، وعندما يرتبطُ الأفراد عن طريق الحب يمكنُ أن يجدوا معنى أعمق لوجودهم، يُعطي الحب إلى الأفراد هدفًا ودافعًا للعيش، مما يُساعدهم على مواجهة التحديات والصعوبات.

إن الحب كما يراهُ فيري يُمثل مبدأ جديد للمعنى في الحياة، لأنهُ يتجاوز العواطف الشخصية ليصبح قوة دافعة، تُعززُ الروابط الاجتماعية وتُسهم في بناء المجتمعات، فمن خلال الحب يمكنُ للأفراد البحث عن معنى أعمق لوجودهم وتجاوز التحديات التي يواجهونها. فالحب ليس فقط شعورًا، بل هو أيضًا فلسفة حياة تدعو للتواصل والتضحية والاحترام المتبادل. وبتحفيزه حياتنا يمكننا خلقُ عالم أكثر تعاطفًا وتفاهمًا، مما يُعزز الرفاهية النفسية والاجتماعية لجميع الأفراد. 

المراجع:

[1] – فيري، لوك. تعلم الحياة. ترجمة سعيد الولي. دون دار النشر، أو طبعة أو تاريخ.

[2] – فرناندو، بيسوا. اللاطمأنينة. ترجمة المهدي أخريف، المركز القومي للترجمة، ط2،2008.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete