“المحنة” أو “فقه الابتلاء”.. سرديات الإسلام السياسي التلفيقية الجزء الثاني

تكوين

ارتكاز القوى الأصولية والتيارات الإسلاموية على مبدأ المظلومية، يوفر لها قدرات هائلة على الالتفاف وصناعة السرديات الموازية. فليس ثمة رواية واحدة موثقة يمكن اللجوء إليها لإثبات حدث أو نفي واقعة، بل هناك نسخ متفاوتة من التاريخ في كل مراحله ومحطاته، تحديداً، التي اشتبكت معها هذه التنظيمات، لا سيما الجماعة الأم “الإخوان المسلمون” منذ المرشد المؤسس حسن البنا. حتى ترتيب الوقائع بتفاصيلها وملابساتها، فضلاً عن تأويلها، يقع داخل ذهنية التنظيم (ومصالحه الحركية) بغرض صناعة مشهد مؤثر. وذلك من خلال سياقات يتم إخفاؤها، وأطراف تتخفف أدوارها، للتعمية عن الحقائق والنتائج.

خطاب المحنة للإخوان المسلمين

عملياً، يمكن مراجعة ذلك في حوادث عديدة، تاريخية ومعاصرة. فمع إخفاق جماعة الإخوان بمصر في الحكم ونبذها مجتمعياً وسياسياً، برز خطاب المحنة في وقت مبكر، وذلك بخلاف صداماتها التاريخية المتكررة منذ النصف الثاني من عشرينات القرن الماضي وحتى عام 2013. البحث عن المظلومية كان هو البديل الجاهز في ظل الإخفاق السياسي المرير، تحت وطأة مشروع “التمكين” و”أسلمة/ أخونة” المؤسسات وأجهزة الدولة، فضلاً عن أولوية “الجماعة” على المجتمع بتنوع أفراده. بل إن خطاب المظلومية الذي يساهم في ترميم الفجوات الناشئة بفعل هذه الأزمات والتصدعات، يستدعي الاصطفافات من جديد عبر نداءات التبشير الدينية، كما يؤدي لتحريك القواعد، وتحريض الحواضن، بخطاب ديني وعظي وأخلاقي متشدد، يراكم مقولات تحض على “الشهادة” و”الفدا” و”التضحية”.

المنهجية التربوية التي يتمترس خلفها أعضاء التنظيمات الإسلاموية، وترادف بينهم وبين التجربة النبوية كما كل التاريخ الإسلامي في نسخته المؤدلجة في أدبياتهم التنظيمية، تصنع حالة من “الاستعلاء الإيماني” بتعبير المنظر الإخواني سيد قطب. وهذا الاستعلاء يعمل ضمن عوامل أخرى لتحقيق “العزلة الشعورية” عبر “جيل قرآني” مهمتة بناء أو ابتعاث دولة “الخلافة”. ولهذا، توخى القيادي الإخواني، محمد البلتاجي، من منصة اعتصام رابعة، خلط حديثه الدعوي التحريضي على العنف والقتال بآيات قرآنية، وقال: “الله اختاركم لتكونوا شهداء على الناس فاسعدوا بهذا الدور العظيم وابشروا”. ثم ردد الآية القرآنية: “ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم”. وتابع: “اللهم اجمعنا فى مقعد صدق عند مليك مقتدر مع النبيين ووالصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”. وتابع: “إما أن نصلح الكون والوطن والأرض إما يتقبلنا الله جميعا عنده شهداء”.

ومن بين ما كان يردده القيادي الإخواني: “تمتلئ قلوبنا فخراً وعزة بكم، أنتم الذين تقدمون أرواحكم فداء لأوطانهم، والله إن إخوانكم الذين رحلوا عنكم اليوم فى يوم الفرقان لهم مع شهداء بدر الأوائل “وكأين من نبى قتل معه ربييون كثير”، والربييون هم أصحاب الأنبياء. أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، لا أحد يستمع لكلام المنافقين الذين يقولون (علام نقتل أنفسنا) بل نقف بفضل الله أعظم مواقف التاريخ”. وعقّب على خطابه التحريضي كما هي العادة بالآية القرآنية: “فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله”، و”لا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله”. وقال: “ماقمتم به اليوم هو شرف لكم ووجهوكم ليست من وجوه الدنيا، إخوانكم الذين استشهدوا اليوم أرسلوا لكم خطاب يستبشرون بما ستصنعون من بعدهم”.

كما زعم القيادي بالجماعة الإسلامية من المنصة ذذاته، وهو يكرر قسمه المغلظ: “أقسم دكتور محمود (هكذا قال) كان شديد الإيمان تم قتله فى الجيزة وبعد أن أغمض عينيه عاد وفتحها وقال (الجنة أنا شفت الجنة ) ثم أغمض عينيه مرة أخرى ومات”. وفي مقابل هذه الصورة الإيمانية والصوابية تجاه التضحية من أجل “التنظيم” أو “الجماعة”، وصف الخصوم بهذه الطريقة “اللي هيعيش هيعيش مذلول للكنيسة”.

الإلحاح على الموت الخلاصي والمعنى الاستشهادي، ليس عفوياً، إنما هو إدارة للعنف المقدس الذي راكمته الجماعات من خلال مناهجها التربوية والعقائدية المؤدلجة، واختباره في تلك اللحظات المأزومة، والخروج بأقصى حالات العنف ودرجاته النهائية طالما “الاستعلاء (الإيماني) هو الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء، والاستعلاء مع ضعف القوة وقلة العدد وفقر المال كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء”، كما يوضح قطب في كتابه: “معالم في الطريق”. ويردف: “الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان. وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان. وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان”.

ويمكن القول إنه بخلاف اللحظة السابقة وتوابعها التي تتكشف فيها المظلومية على نحو عنيف ومتوحش، ويبدو مثل انفجارات عشوائية متتالية، وهي فوضى تماثل التجارب الإسلاموية مع عدوى الصعود للحكم إبان ما عرف بـ”الربيع العربي” كما في تونس والمغرب، كانت هناك لحظات أخرى صنع فيها الإخوان مثلاً سرديات موازية لنفي شبهة تورطهم في القتل أو التحريض على العنف. فمع أزمة خميس والبقري العاملين المتهمين بالانضمام إلى “التنظيمات الشيوعية” بعد وصول “الضباط الأحرار” لحكم مصر عام 1952، وقد طالبا “الثورة” وقتذاك بتعديل أوضاعهم العمالية، كان سيد قطب المحرض الرئيس على استعمال البطش بحق العاملين. وقال أو بالأحرى برر أي انتهاكات محتملة في مقال له بمجلة “روز اليوسف” بأن “نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة كلها تذبل وتموت”. وفي مقال آخر بجريدة “الأخبار” وصف الحركة العمالية على هذا النحو: “لقد أطلع الشيطان قرنيه فلنضرب.. لنضرب بقوة.. ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبور وأن يهيل التراب”.

اعدام خميس والبقري

غير أن الجماعة، لاحقاً، اعتبرت إعدام خميس والبقري “ذكرى مريرة”. وذلك بعد نحو ستة عقود، لجهة توسيع قاعدتها وحفر أو تبيئة مظلوميتها مع قوى لم تتقاطع معها يوماً وهي “العمال” إلا بتحريض أو تعسف وتشريع لكل ما يهدر حقوقها. لكنها حاولت في إطار خصومتها السياسية مع النظام، التفتيش عن حواضن جديدة بعد تآكل قاعدتها والتباعد بينها وبين فئاتها المستهدفة مع تجربتها المريرة في السلطة.

يقول يوسف القرضاوي في مجموعة مقالاته الإلكترونية المعنونة بـ”سيرة ومسيرة”، وفي مقال بعنوان: “محنة عام 1965”: “كان هذا هو اتجاه جمهور الإخوان بعد محنة 1954 – 1965، وهو الكمون والسكون، حتى تتغير الأحوال، وتواتي الفرصة. والتغيير حقيقة كونية، ودوام الحال من المحال، ومداولة الأيام سُنَّة قررها القرآن: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140). ويردف: “لكن الإخوان فوجئوا -برغم اعتزالهم لأي نشاط سياسي أو حركي- بهذه الهجمة العامة التي لم تدع أحداً له صلة بالإخوان إلا امتدت يدها إليه، حتى بعض من ضعف إيمانهم، وتراخت عزائمهم، ولم يكتفوا باعتزال النشاط الدعوي، بل أوسعوا الإخوان ذمّاً وتجريحًا، عسى أن يشفع ذلك لهم، فلم يغنِ عنهم ذلك شيئًا، وشمت بهم من شمت ممن نالهم أذاهم وتطاولهم من إخوانهم”.

رأي القرضاوي في جماعة الإخوان

ولهذا ينظر الإخوان إلى هذه “المحنة” الهائلة المريرة على أنها من جانب آخر كانت “منحة” ساقها الله تعالى للإخوان، والحديث ما زال للقرضاوي، الذين أرادوا أن ينشغلوا بهمومهم المعيشية عن همومهم الدعوية، وأن يقول كل منهم: نفسي نفسي فشاء الله تعالى أن يريهم أن اعتزالهم لواجب الدعوة لن ينفعهم، وأنها قد أصبحت مكتوبة على جبينهم، مقروءة في وجوههم، موصولة بحياتهم، لا تنفصل عنهم، ولا ينفصلون عنها، فليحملوها بإرادتهم واختيارهم، بدل أن يُحمّلوها رغم أنوفهم، ففي الحالة الأولى يؤجرون على كل ما يصيبهم في سبيلها، وتجد أنفسهم السكينة والرَّوْح كلما مسهم قرح، أو نزل بهم بلاء، فهو في سبيل الله، أما في الحالة الأخرى، فلا أجر فيها ولا مثوبة في الآخرة، ولا سكينة ولا راحة في الدنيا.

واستكمالاً للمبدأ ذاته الذي يحرص القرضاوي أن يدشنه، باعتبار جماعة الإخوان “جماعة ربانية”، ويتخطى هنا فكرة “المحنة” و”المظلومية” إلى اعتبار تصحيح مسارتها من خلال مخاضات الصدام مع السلطة إنما هو “هدف إلهي” لتكون بعدها المنحة والانفراجة. فيقول: “لقد فكرت وتأملت في سبب هذه المحنة الهائلة التي فُتِحت فيها النار على جماعة الإخوان من كل جانب، وسلطت عليهم آلات التعذيب الجهنمية، تحطمهم ماديًّا، وتحطمهم نفسيًّا، آلات تأكل من لحومهم، وتشرب من دمائهم، وتهشم من عظامهم. لقد قلت: إن جمهور الإخوان لم يمارسوا أي نشاط، وهذه حقيقة لا ريب فيها، وقد كان بعضهم لم يزل في سجون عبد الناصر يقضون المدد المحكوم عليهم فيها بالأشغال الشاقة بعيدًا في “الواحات” بعد أن وقع ما وقع في “ليمان طرة” من مذبحة..  ولكن أجهزة عبد الناصر، أعلنت أنها اكتشفت “تنظيمًا سريًّا” خطيرًا جدًّا، يقوده “سيد قطب” ومعه مجموعة من الإخوان، منهم: الشيخ عبد الفتاح إسماعيل، ومحمد يوسف هواش، وعدد قليل آخر، منهم شخص اشتروه بالإغراء، والتأثير بالوعد والوعيد، والعفو عنه من حبل المشنقة -وهو علي عبده عشماوي- فخارت قوته، وانهزمت إرادته، فسقط في أيديهم فريسة سهلة، وأمسوا يلقنونه ما يجب أن يقول، فيذعن لهم، ويصبح رجع الصدى لما يقولونه. وهذا الطريق مَن وقع فيه؛ فقد وقع في حفرة لا ينجو منها إلا إلى حفرة أشد منها عمقًا، ومَن مضى فيه خطوة لم يستطع الرجوع عنها، ومَن سقط السقطة الأولى ظل يسقط ويسقط، إلى ما لا نهاية، فقد غدا لا يملك من أمره شيئًا، غدا مسيّرًا لا مخيّرًا، زمامه بيد غيره؛ لأن الذي يبيع نفسه للطاغوت؛ قد خسرها بالمرة، وهذا لون من الشرك بالله، الذي ينحط به الإنسان إلى أسفل الدركات، {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج:31)”.

زعيم حركة النهضة الغنوشي

وفي ما يبدو أن الرأي ذاته، يعرضه زعيم حركة النهضة (فرع إخوان تونس) راشد الغنوشي، والذي يتحدث عن العلاقة بين الحركة الإسلامية وأنظمة الحكم المختلفة، فيقول: “العلاقة تتراوح بين الاعتراف المتبادل والصريح والضمني” موضحاً أن “المشكل لا يتمثل في رفض الحركة الإسلامية الاعتراف والتعايش مع الدولة أو القبول بالمشاركة الجزئية فيها وإنما المشكل يتمثل في من يقنع هذا الغول المدعوم بأحدث تقنيات القمع والإخضاع، والمؤيد من قبل قوى الهيمنة المعادية لأمتنا وحضارتنا وكل الحضارات الأخرى، من يقنع هذا التنين بالتواضع والاعتراف بالشعب والآخر، من يروض هذا الوحش دون كفاح ناصب”.

وتبعاً لذلك، فإن ولادة المظلومية وجدل المحنة المرتبطين حتماً بمشقة “الامتحان الإلهي”، تجعل إرادة الأفراد لها جناحان أحدهما في العالم الدعوي والآخر دنيوي، يحتمي الأخير أو يتخفى في الأول المصنوع في ذهنية “الجماعة” للتعمية عن ما هو براغماتي ومؤقت لصالح ما هو مفارق وغير زماني، الأمر الذي يعفيها من المسائلة سواء في ما يخص إخفاقاتها أو مشكلاتها وتورطها في العنف والقتل وما تراكمه من أجساد متهالكة وضحايا. بل إن المظلومية حتماً تنشر الكراهية ضد الآخر.

فيما يوضح نجيب جورج عوض الأكاديمي السوري المختص في الفلسفة والعلوم الإنسانية، ومدير قسم دراسات الدكتوراه في كلية هارتفورد للدراسات الدينيَّة في كونيكتكت، بالولايات المتحدة، بأن لديه قراءة تبدو مغايرة قليلاً ومقاربة ذات بعد مختلف لخطاب المظلومية. ويقول: “إنني أعتقد أن خطاب المظلومية لا يقف على طرف نقيض معاكس تماما ومضاد ديالكتيكيا لخطاب الكراهية. خلافا لذلك، إنني أقترح أن خطاب المظلومية يمكن في الحقيقة أن يكون مشابها في بعض الحالات والسياقات وأسباب صدوره لخطاب الكراهية، بحيث أن الفرق الموضوعي والبنيوي بينهما لا يعود كبيرا في الواقع بل يقتصر على فروقات منهجية أو نفاذات تتعلق بالمقاربات وبالمركبات الهرمنيوتيكية لكل خطاب وللدور الذي يلعبه. وهي في المدى الأقصى فروقات في الأسلوب والدرجة وليس بالضرورة فروقات في الجوهر والمضمون والنتائج”.

خطاب الكراهية

ومن حيث الكينونة المفاهيمية والموضوعية، يرتبط كلا الخطابين بمسألة الكراهية: خطاب الكراهية يقارب موضوع “الكراهية” مقاربة مباشرة، بأن يوظف كل تعبيراته وافتراضاته وتفاسيره ومكوناته المعرفية في خدمة تسليط الضوء على مشاعر ومواقف وتقييمات وأحكام تدور كلها بشكل لا مواربة فيه حول فكرة شيطنة الآخر وإدانته والمغايرة القيمية معه والعنفية تجاهه. أما خطاب المظلومية فيـقارب موضوع الكراهية مقاربة غير مباشرة بل مضمرة وتلميحية من خلال الحديث عن حالات وجودية معينة وتقديم تفسيرات تحليلية عن شعوريات وسلوكيات الذات أو النفس تقود من يقرأها، أو يسمعها، في المحصلة إلى اتخاذ موقف أو تطوير شعور أو إبداء استعداد لشيطنة آخر ما وإدانته وتحقيره ومغايرته عنفيا، وفق الأكاديمي السوري. ويقول: “إذا، في الوقت الذي يتعامل فيه الخطاب الأول مع الكراهية بشكل مباشر يدور حول فكرة “الآخر” وينطلق بلا مواربة من تقديم هذا الآخر بشكل سلبي وعنفي وظلامي، فإن الخطاب الثاني لا يقارب الكراهية مباشرة، وإنما يوحي بها ويستنفر التفكير حولها بشكل تلميحي يدور حول فكرة “الأنا” ويعمل بشكل غير مباشر على قيادة من يقرأ الخطاب المذكور أو يسمعه كي يستنتج لوحده أن الطرف الذي يجعل صاحب “الأنا” موضوع الخطاب تشعر بالمظلومية لهو طرف شرير وقبيح يستحق الإدانة والتحقير والشيطنة ومن ثم الكراهية”.

كما يذكر الكاتب المراسل الصحفي البريطاني جون آر برادلي، الذي أقام في الشرق الأوسط بين عامي 1998 و2010، في كتابه: “في قلب مصر”: أول ما وقعت عليه عيناي في صالة الاستقبال بالدور الأرضي لمقرهم (مقر جماعة الإخوان) الجديد، عندما ذهبت للقاء رئيس ممثليهم في البرلمان كان ملصقًا كتب عليه: “القرآن دستورنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.. التقيت بعد بضعة أشهر من انتخابات ديسمبر/كانون الأول ٢٠٠٥ بممثل الجماعة البارز حمدي حسن في مقر الجماعة الجديد بالقاهرة… صافحني بقوة ووجهه تعلوه ابتسامة عريضة وأنا أخلع نعلي، ثم سرنا على بسط الصلاة ليستقر بنا المقام على أريكة. تساءلت ما الذي يدعونا إلى الالتقاء في قاعة صلاة، وثمة ثمانية طوابق في هذا المقر الجديد؟ واكتشفت فيما بعد أن حسن هو تجسيد لكل ما يجده نقاد جماعة الإخوان المسلمين مثيرًا للسخط؛ من ميلهم إلى الحديث عن أفكار مجردة بدلًا من الخوض في التفاصيل، واختزال القضايا في شعارات، والإدلاء للأجانب بما تود حكوماتهم سماعه. أثار غيظي في البداية لإصراره على الحديث إليَّ بالعربية الفصحى مع أنني احتججت على ذلك بأنني أتحدث العامية المصرية، ومن ثم سأجد فهم ما يقوله أصعب. يفضل الكثير من الإسلاميين التحدث بلسان العربية الفصحى التي تستقي ألفاظها من القرآن؛ إذ يرونها لغة خالصة تقريبًا من الشوائب التي أدخلتها تيارات العصر الحديث البذيئة، من ثم هي أقرب إلى اللغة التي تحدث بها النبي محمد. لكن من جهة أخرى لا يستطيع أي مصري آخر تقريبًا أن يتحدث بها بطلاقة، أو أن يستمتع بسماع الحديث بها، بل إن المصريين في الواقع يفتخرون بأن لهجتهم صارت اللهجة المشتركة في العالم العربي وهذا يرجع إلى حد بعيد إلى السيطرة التاريخية لقطاع صناعة التليفزيون والأفلام والموسيقى القاهري على المنطقة العربية منذ زمن بعيد. ومن العجيب أن جماعةً تزعم أنها تمثل مصالح الشعب المصري الحقيقية وتعظم برامجها الاجتماعية تبقي على فواصل بهذه الأهمية بينها وبين المواطن العادي. اعتمدنا في نهاية المطاف على مترجم يترجم من الفصحى الرفيعة التي استخدمها حسن إلى لغتي — الإنجليزية — أو إلى اللهجة العامية المصرية الدارجة، وهو ما بدا أمرًا شديد الغرابة. ولعل عناد حسن يبين كيف قد تنتصر المذهبية على العملية والعقلانية عندما يصعد هو وزملاؤه إلى السلطة”.

ويردف: “في دورة ٢٠٠٠–٢٠٠٥ البرلمانية، صب أعضاء جماعة الإخوان المسلمين اهتمامهم الأكبر على تقييد حرية التعبير في ثلاثة مجالات هي الثقافة والإعلام والتعليم؛ وهذه السيطرة ضرورية لتحقيق أهداف أجندتهم الساعية إلى أسلمة المجتمع المصري من جذوره.. يستخدم الإخوان حيلة بارعة للفوز بقلوب وعقول العديد من الناخبين، تقوم على الجمع بين أجندة غامضة مفتوحة للتأويلات المختلفة تحظى بتأييد مختلف الجماعات، وتستند بوجه عام إلى المبادئ الإسلامية المتصلة بالأخلاقيات المتأصلة في المجتمع.. اتضحت حقيقة جماعة الإخوان المسلمين عندما وضعت الجماعة أول برنامج سياسي مفصل لها في أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠٠٧. يقرر البرنامج حرمان النساء والأقباط من تولي الرئاسة، ويزمع إنشاء هيئة من علماء الدين المسلمين لمراقبة أداء الحكومة. وهي خطوة رأى الكثير من مراقبي المشهد أنها تذكر إلى حد مخيف بالدولة الإسلامية في إيران”.

ولم تكن المظلومية لدى هذه القوى الأصولية سوى حاضنة لكافة الانسدادات والتوترات والصراعات التي خاضتها منذ تدشين الجماعة الأم عام 1928. في حين تؤشر خطابات المظلومية (وأصواتها ونداءاتها الداخلية، الخفية والمعلنة) عن صلات بنيوية وهيكلية من الناحيتين النظرية والحركية في الأدبيات المؤسسة للجماعات الإسلاموية. إذ إنّ المسألة تتخطة كونها أداة لردم الفجوات وتجسير التباينات على خلفية أزمة تنظيمية مؤقتة أو مرحلية على خلفية تفجر التناقضات (الرئيسية) مع السلطة، أي سلطة، بل إن تلك “خطاب المحنة” هو بمثابة الحامل الموضوعي لظاهر الأصولية الدينية، وأدلجة الخطاب الديني وتسييسه. الخطاب الذي يتبنى نفي الآخر وتهميش وجوده وعزله بل قمعه، لدرجة فرض هوية قسرية على “الأمة” من خلال “الجماعة” وبواسطة “أستاذية العالم”.

كتاب معالم في الطريق

وعبر قطب في كتابه: “معالم في الطريق”، عن حمولاته النظرية التي استلهمها من التراث الديني الإسلامي لتصنيف السلطة بـ”جاهلية” أو “بربرية ما قبل الإسلام”، الأمر ثم تعميم هذا الوصف التكفيري على المجتمع، وبالتبعية نجح في المزاوجة بين أفكاره النظرية وطرحه الحركة حيث كان “فكر حسن البنا لمن يطالعه فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس عامة، وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى، وفكر سيد قطب هو فكر مجانبة ومفاصلة وفكر امتناع عن الآخرين.. والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب”. بل إن قطب كان “فكراً لجيش مقاتل وليس فكرا لدعوة مفتوحة. إنه ليس الفكر اللازم لبناء مجلس نيابي بل هو عينه الفكر اللازم لبناء جيش مقاتل من الرجال. الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي”، حسبما يوضح طارق البشري في كتابه: “الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر.

ويقول قطب: “”لأمة المسلمة ليست أرضاً كان يعيش فيها الإسلام، وليست قوماً كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي، إنما الأمة المسلمة جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي…وهذه الأمة، بهذه المواصفات، قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعاً”.

ويردف: “نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً.. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!!”. و”هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية.. وهي الحاكمية.. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، الشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله”. كما أن “المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده.. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية.. وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار “المجتمع الجاهلي” جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً !!”.

الجاهلية كتاب معالم في الطريق

وانتقل لتعميم “الجاهلية والتكفير على المجتمع قائلاً: “الناس ليسوا مسلمين ـ كما يدعون ـ وهم يحيون حياة الجاهلية، وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك، ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئا.. ليس هذا إسلاماً، وليس هؤلاء مسلمين”. ومن ثم “على أصحاب الدعوة الإسلامية حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة ـ حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون! ـ يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو “أولاً” إقرار عقيدة: “لا إله إلا الله” بمدلولها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله وحده في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم وإقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعها وواقعهم”. إذ إن “المجتمع المسلم لا يقوم حتى تنشأ جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله.. لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور، ولا تدين بالعبودية لغير الله في العبادات والشعائر.. ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع.. ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة.. تنقي ضمائرها من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله ـ معه أو من دونه ـ وتنقي شعائرها من التوجه بها لأحد غير الله ـ معه أو من دونه ـ وتنقي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله ـ معه أو من دونه ـ عندئذ ـ وعندئذ فقط ـ تكون هذه الجماعة مسلمة، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلما كذلك.. فأما ما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلاص عبوديتهم لله… فإنهم لا يكونون مسلمين.. وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلماً. لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام، ولا تقوم فيها شريعته، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقوانينه، وليس وراء الإيمان إلا الكفر، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية، وليس بعد الحق إلا الضلال”.

وبينما ظلت الجاهلية نقطة الارتكاز التي اعتمد عليها قطب لتحقيق أهدافه النظرية والعملية، فإن ذلك عنى التطبيق القسري داخل المجتمع المعاصر الذي هو بالأساس “صورة متطورة لهذه الجاهلية”، وخلق “العصبة المؤمنة” و”الجيل القرآني” الذي يقف على مسافة حادة وحيادية تجاه مجتمعه في حالة من “العزلة الشعورية”، دون ثمة ارتباط عضوي أو انتماء أو التماس هوية فيه. فالواجب، بناء على ذلك، أن تكون نظرة المسلم هذا للمجتمع مماثلة لنظرة الرسول والصحابة إلى مجتمعهم، وطليعة اليوم يجب عليها أن تسترشد بهذه القدوة في تحديد أسلوب عملها. وقد استخدم الرسول تكتيك المراوحة بين الانسحاب من المجتمع الذي يعيش فيه والاتصال به، وهو الذي اختار، على سبيل المثال، أن يهاجر من مكة إلى المدينة عندما وجد نفسه في موقف ضعيف، ليعود في النهاية فاتحاً للمدينة التي هجرها قبل ذلك.

ويشير سيد قطب إلى مصطلحي “الحركة” و”البيان” بشكل ضمني باعتبارهما الوسيلة التي حققت انتشاراً للإسلام من وجهة نظره الحركية. أي من خلال المصحف والسيف. والمصحف والسيف قد أصبحا متلازمين، تاريخيا، وكل منهما كان له مجال تطبيقه الملائم: “فالسيف يستخدم لإخضاع المناطق التي يحكمها غير المسلمين، وداخل هذه المناطق لإرغام الكفار على تغير دينهم، وإلا فالموت جزاءهم. ومن ناحية أخرى، فإن المسيحيين واليهود لا يجبروا على الدخول في الإسلام. لكنهم بدلا من ذلك يفترض دخولهم الإسلام من باب القرآن وحده- بمعنى آخر، من خلال الدعوة. (في الواقع، يكون دافعهم للتحول إلى الإسلام هو المصالح العامة التي توفرها عضوية جماعة المسلمين)، وفق ما جاء في كتاب: “النبي والفرعون” لجيل كيبل.

المصادر:

-جيلز كيبل: النبي والفرعون، ترجمة أحمد خضر، مكتبة مدبولي، القاهرة.

-سيد قطب: معالم في الطريق سيد قطب، ط6، دارا الشروق، القاهرة، 1979.

-طارق البشري: الملامح العامة الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، دار الشروق، القاهرة.

نجيب جورج عوض: خطاب المظلومية وتسويغ الكراهية، مجلة الجديد، القاهرة، حزيران (يونيو) 2022.-

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete