الملك المؤله في الميثولوجيا السورية وأصل فكرة المسيح ابن الاله

تكوين

تتمتع فكرة المسيح ابن الاله التي طورها اللاهوت المسيحي  (بعد أن جعل الامبراطور قسطنطين المسيحية دينا للامبراطورية الرومانية في مطلع القرن الرابع الميلادي) بتاريخ طويل ومتجذر في الثقافة السورية ، تتبدى لنا اصوله في الايديولوجية  الملوكية الكنعانية ، كما ترسمها لنا النصوص الميثولوجية  لحضارة مدينة اوغاريت السورية على ساحل المتوسط الشمالي،  والتي ترجع بتاريخها الى اواسط الألف الثاني قبل الميلاد ،  لاسيما في ملحمة كرت وملحمة أقهات . وتشترك هذه النصوص مع بقية  النصوص الميثولوجية للشرق القديم في فكرة قدسية مؤسسة الملوكية وصلتها الوثيقة بالعالم  الإلهي ، فالملوكية في الإيدولوجيا السومرية قد أُنزلت من السماء :

بعد أن قام الآلهة الكبار آنو وإنليل وإنكي

بخلق الكائنات الإنسانية

انبعثت المزروعات ونمت الارض

وجرى خلق الكائنات التي تدب على أربع

وبعد أن تم إنزال الملوكية من السماء

بعد أن جرى إنزال التاج السامي والعرش

بنى الآلهة المدن الخمس الأولى وأسكنوا فيها البشر .

وتقدم لنا ملاحم  مدينة أوغاريت فكرتين مترابطتين عن قدسية مؤسسة الملوكية في كنعان ، فالملك الأوغاريتي هو إبن بالتبني لكبير الآلهة إيل ، ولذلك  فقد حمل لقب “إبن ايل ” ، وبهذا اللقب نجد الإله ابل نفسه ينادي الملك كرت بينما هو يصلي طالباً أن يرزق بولد يرثه على العرش :

في حلمه رأى كرت الإله ايل ينزل

في رؤياه رأى أبا البشر يقترب

سائلا : لماذا تبكي يا كرت ؟

ولماذا تدمع عينا النعمان ابن إيل ؟

هل يرغب في مُلك كملك ابيه الثور إيل ؟

ام يبغى سلطانا كسلطان أبي البشر ؟

هل يطمع في الذهب والفضة أم  في العبيد والإماء والجياد ؟

فأجابه كرت ، أجاب أبا البشر :

أريد أن أرزق ولداً ، أريد الخلف الكثير .(1)

هذا الموقع المتميز للملك الكنعاني يجعل منه وسيطاً بين السماء والارض ، وصلة وصل بين القوى الإخصابية الكونية ومظاهر حياة الطبيعة ، فإذا خارت قوى الملك أو ألمّ به مرض ، انعكس ذلك على مقدرته على تحقيق هذه الصلة مع القوى الإخصابية ، فيحل الجفاف وينقطع المطر ويجوع الناس . وهذا ماحدث بعد ذلك في سياق الملحمة .

فقد وجّه الإله إيل الملك كرت إلى مملكة آدوم الواقعة الى الجنوب من البحر الميت ليخطب ابنة ملكها فابل ، ووعده   منها بذرية ووريث على العرش . فجهز كرت جيشا وأقام الطقوس التي أمره بها إيل وتوجه نحو آدوم . وعند شروق اليوم الثالث وصل الى معبد الإلهة عشيرة ربة أهالي صور و صيدون ، وهناك نذر  كرت نذراً للإلهة عشيرة قائلا : ” أقسم بحياة عشيرة الصورانين  وربة الصيدونيين ، أني اذا اخذت حورية ابنة فابل الى بيتي ، فسوف  أقدم ضعفي مهرها فضة وثلاثة اضعاف مهرها ذهباً نذرا ً للإ لهة عشيرة . ”

وصل كرت بجيشه الى آدوم  وحاصرها الى أن رضخ ملكها فابل لطلبه ، وأعطاه ابنته حورية زوجة فعاد بها الى دياره ، وهناك انعقد مجلس الآلهة لمباركة زواج كرت ، وقال له كبيرهم إيل :

لقد اتخذتَ زوجة يا كرت

لقد جئتَ بزوجة الى بيتك

سوف تلد لك سبعة ابناء

سوف تنجب لك ثمانية

سوف تلد لك الفتى يصب

الذي سوف يرضع حليب الإلهة عشيرة

ويمتص من ثدي الإلهة عناة العذراء

مرضعتي الآلهة .

هذا الخطاب يلفت نظرنا الى عنصر آخر في الايديولوجية الملوكية الكنعانية ، فالعناية الإلهية تتعهد ولي العهد بالرعاية مثلما تتعهد الملك نفسه ، وهو منذ صغره يرضع من حليب مرضعتي الآلهة عشيرة زوجة ايل وعناة ربة الخصوبة . فإذا أصابه مكروه اختل نظام الطبيعة ايضا على ماسنرى في ملحمة اقهات.

 

مرت سبع سنوات أثبتت بركة ايل  خلالها فعاليتها ورزق كرت بعدد من الاولاد والبنات . ولكن عشيرة لم تنس نذر كرت الذي لم يف به ، وتسببت له في مرض عضال تفاقم حتى اشرف على الموت ، فطلب كرت من زوجته أن تعد وليمة تدعو اليها أعيان الدولة ليحضروا الى القصر فيأكلوا ويشربوا ويبكوا على الملك . وقد شارك اولاده أيضا في هذه المناحة وعبروا عن دهشتهم  لأن ابن الاله إيل سيموت مثل سائر البشر . فقد دخل أحدهم الى حضرة ابيه باكياً وقال :

يا ابانا . بحياتك نبتهج وبدوامها نفرح

هل تموت يا أبي مثلما يموت الناس ؟

وهل يعطى مُلكك لآخر او يترك بين أيدي النساء ؟

أبي ، كنزي . كيف يقولون إن كرت ابن الآلهة

وان كرت من ذرية اله الرحمة

وأنه من ابناء القدوس ؟

أوَ هل تموت الآلهة يا ابي ؟

وذرية إله الرحمة ألن تعيش الى الأبد ؟

ثم تدخل أخته تيمانيت وتشارك في ندب ابيها :

يبكيك يا أبي جبل صافون ، جبل بعل

تبكيك الرايات العظيمة المقدسة

الرايات الرحبة  المجنحة

أليس كِرت من ابناء ايل

أليس كِرت من ذرية إله الرحمة

ومن سلالة القدوس ؟

وبينما كانت تيمانت تشرف على  تجهيز قبر لأبيها تلاحظ آثار الجفاف :

رفع الفلاحون رؤوسهم

وانتصبت ظهور من يبذرون الحبوب

لقد نفد الخبز من معاجنهم

ونضبت الخمرة من دنانهم

ونفد السمن من قربهم

وهنا يقرر الاله ايل دفع الكارثة فيجمع الالهة ويسألهم :

منَ مِن الالهة يداوي المريض ويطرد الشر ؟

ولكن أحد منهم لم يجبه بكلمة

فثنّى وثلث قائلاً :

مَن مِن الآلهة يداوي المريض ويدفع الشر ؟

ولكن أحداً من الآلهة لم يجبه بكلمة

فربّع وخمّس

فسدّس وسبّع

ولكن احدا لم يجبه بكلمة

فقال اللطيف ايل اله الرحمة :

عودوا الى مساكنكم يا ابنائي

سأكون الذي يداوي المريض ويطرد الشر .

ولهذه الغاية فقد قام ايل بممارسة طقس سحري ، فقبض قبضة من روث ناعم ثم احرقها وهو يتمتم بتعازيم سحرية ، فخرجت  من الدخان إلهة اسمها شعنقة شافية المرض ، فبعث بها لشفاء الملك . طارت شعنقة فوق الحقول تجمع الاعشاب الطبية الشافية فجاءت  الى كرت تداويه بها ، ثم جعلته يتعرق حتى اغتسل بعرقه ففارقته الحمى واندحر الموت، وانفتحت شهيته للطعام فأكل . وبعد الطعام تقوى كرت وعاد للقيام بمهامه الملكية ، ولكن ممارساته دلت على انه لن يعود الى سابق عهده ، فما كان من ابنه الاكبر يصب  إلا ان دخل عليه واتهمه بالعجز عن ادارة شؤون المملكة وطلب منه التنحي حفاظاً على المملكة :

فذهب الفتى يصب ودخل على ابيه

دخل رافعا صوته مناديا:

لم تعد تقضي للأرملة ولا تنصف اليتيم

لقد لازمت فراش المرض وانست السرير

فتنازل عن العرش لأملك مكانك

وعلى عرشك اجلس.

فأجابه كرت النبيل :

فليكسرن حورون الاله رأسك يابني

ولتحطم الإلهة أستارت سمية البعل هامتك

فتنحدر من علياء كبريائك.

عند هذه النقطة ينكسر اللوح وتضيع بقية أجزائه ولا نعرف كيف انتهت القصة . ولكن المشهد الاخير زودنا بمعلومة مهمة عن الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية ؛ فاذا كانت الملوكية قد نزلت من السماء ، وكان الملك يحكم بموجب حق الهي ، إلا انه ملزم بأن يحكم بالعدل ويقضي للمستضعفين ، وان لم يفعل كان لزاما عليه أن يتنحى أو ان يُنحى من قبل شخص قادر على الحلول محله . لذلك فإن تمرد يصب على ابيه لم يكن بدافع حب السلطة وإنما بدافع الواجب . ومن الممكن لنا أن نفترض أن اقصاء الملك العجوز عن العرش أو تنازله الطوعي كان عادة متبعة في كنعان وجزءاً من الإيديولوجية الملوكية  الكنعانية .

في الملحمة الأُخرى المعروفة باسم ملحمة أقهات ، نجد الجانب الآخر من الايديولوجيا الملوكية الكنعانية الذي يركز على ولي العهد ، الذي يتسبب موته لاموت الملك بجفاف الزرع والضرع.  تبتدئ الملحمة بما ابتدأت به ملحمة كِرت ، أي الملك الصالح العاقر الذي يتضرع الى الآلهة من أجل ابن يرثه على العرش . فقد كان دانئيل (=دان ايل ، اي : ايل يقضي ) حاكما محبوبا وقاضيا عادلا يجلس للقضاء عند بوابة المدينة كل يوم ، يقضي للأرملة وينصف اليتيم ، ثم يعتكف في المعبد ليقدم القرابين الى الآلهة علها تزيل لعنة العقم عنه . وأخيرا عطف عليه الاله بعل وتوسط لدى كبير الألهة ايل لشفائه من العقم :

ليس له ابن كما لأخوته

ولا وريث كابناء عمومته

لقد قدم ذبائح لطعام الالهة

وماء قربان  لهم ليشربوا

فلتباركه يا ابي الثور ايل

ولتقوينه يا خالق الخلائق

فيكون له ابن في بيته وذرية في قصره .

وهكذا ولد لدانئيل ابن دعاه اقهات صار فتى مولعا بالصيد  ومتمرساً بفنونه .  وفي احدى المرات وبينما كان دانئيل جالسا عند بوابة المدينة يقضي ، رأى عن بُعد اله الصناعة والحِرَف  اليدوية كوثر حاسيس قادماً اليه من موطنه في مصر ، وبيده قوس وعلى كتفه جعبة ونبال . فأرسل لزوجته قائلا : أعدي خروفا من القطيع لإكرام كوثر حاسيس ، وتجهزي لإطعام وإسقاء الآلهة . وهكذا أكل الإله على مائدة دانئيل وشرب ، وعندما همّ بالمغادرة أعطى القوس الذي يحمله وجعبة النبال هدية لأقهات ابن دانئيل .

بعد ذلك نجد الإلهة عناة مدعوة الى وليمة أُخرى في بيت دانئيل ، وهي تعبُّ الخمر كأسا بعد كأس حتى انتشت وسر فؤادها . وعندما عرض عليها أقهات القوس دهشت وهي الصيادة الماهرة لما رأت من جماله وإتقان صنعته ، وتملكتها الرغبة في امتلاكه ،  فرمت كأسها الى الأرض ورفعت صوتها قائلة لأقهات :

اسمع يا أقهات ، ايها الفتى المقدام

أُطلب فضة مني أُعطيك

اطلب ذهباً اعطيك

ولكن أعط قوسك لعناة

اعطها الجعبة والنبال .

ولكن اأقهات رفض طلبها وقال ان باستطاعتها أن تطلب من كوثر حاسيس أن يصنع لها قوسا مماثلا ، ولكن عناة لم تيأس وتمادت في ترغيب اقهات :

أُطلب الحياة يا اقهات ، أُطلب أيها المقدام

أُطلب الحياة اعطيك والخلود امنحه لك

فتستوي مع بعل بسنوات العمر

وتستوي بالشهور مع ابناء ايل .

يرفض اقهات عرض عناة كرةً اخرى ،  ولكن جوابه في هذه المرة يتخطى حدود اللياقة لأنه يتهم عناة بالكذب :

لاتكذبي علي ايتها البتول .

أليس الكذب على الفتى المقدام عيبا ؟

ماهي آخرة الانسان وما الذي يأخذه من دنياه ؟

يُصب الكلس على رأسه والجص على جمجمته

سأموت مثل كل انسان فان

كبقية من ماتوا ، نعم سأموت

شي آخر أود قوله لك :

إن القِسيَ معدة للرجال

وماعرفت النساء الصيد قط .

في قسمه الاول كان جواب اقهات واقعيا لأنه ينكر مقدرة عناة على تحقيق ماوعدت به . أما في قسمه الثاني الذي ينكر اهلية عناة للصيد  ، فقد تحدى جوهر الالهة المقاتلة الصيادة ، فكانت ردة فعلها اقسى مما توقع ، وقالت له متوعدة بأن ساح المعركة هي التي ستفصل بينهما :

التفت الي يا اقهات ايها المقدام واسمع ما اقوله لك :

اذا لقيتك في دروب الشر

اذا لقيتك في دروب الخيلاء

سأصرعك تحت قدمي يا اجمل الناس وأشدُّهم .

لم تكن عناة راغبة في قتل اقهات بل في الحصول على القوس بالقوة ، فاتفقت مع خادمها يطفان على أن تحوله الى نسر يطير بين النسور ، وعندما يجلس اقهات الى الطعام في قرية الأباليم ، ينقض عليه يطفان ويضربه على رأسه وينتزع منه القوس . سارت الخطة كما ينبغي ولكن ضربة يطفان  كانت من القوة بحيث قتلت اقهات ، فانتزع منه القوس وطار به ، ولكن القوس سقطت من يده وهو يحلق فوق البحر ولم يُعثرَ لها على اثر ، فبكت عناة وناحت لأنها قتلت اقهات ولم تحصل على قوسه ، فأخذت على نفسها عهدا بأن تعيده الى الحياة .

في هذا الأثناء كان دانئيل يمارس القضاء عند البوابة عندما لاحظت ابنته فوغة أن الخضرة قد ذبلت في الحقول ، فطلب دانئيل منها أن تُسرِج له حماراً ،  وخرج بصحبتها يتفقد حقوله الذابلة ويصلي لانهمار المطر . ولكن الارض كانت قد دخلت في دورة جفاف ستدوم سبع سنوات . ثم جاء من يخبرهما بموت اقهات ، فبكى دانئيل على ابنه وصاح : سوف أصرع من قتل ابني ، ،سوف اقضي على من قضى على ذريتي . وبعد أن أعدّ جنازة لأقهات أقام مناحة استمرت سبع سنوات ، تم صرف النساء الندابات وقدم اضحية للآلهة . عند ذلك تقدمت منه فوعة ملتمسة اذنه لكي تذهب وتنتقم لأخيها من يطفان فباركها وودعها ، ولكن الرقيم ينكسر  بعد بضعة اسطر وتضيع بقية القصة .

اعتماداً على هذه الخلفية الميثولوجية الكنعانية ،نستطيع أن نفهم فكرة الوعد بالذرية التي تسيطر على قصص الآباء الاوليين في سفر تكوين التوراتي  . فهؤلاء قد عاشوا في وسط ثقافي كنعاني ، والإله الكنعاني ايل الذي كان وفق الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية حريصا على استمرار النظام الملكي باعتباره وسيطا بين الارض والسماء ، هو نفسه الذي يعدهم بالذرية ثم يفي بوعده . فكما قال ايل في الملحمة الاوغاريتية للملك كرت : ” لماذا تبكي ياكرت ؟ هل تطمع في الذهب والفضة ام في العبيد والإماء والجياد؟ ” . فقال له كرت : ” أريد أن ارزق ولدا “. كذلك يقول ” ايل ” اله سفر التكوين لابراهيم : ” لا تخف يا ابراهيم أنا ترس لك ، أجرك كثير جدا ” . فأجابه ابراهيم : ” ماذا تعطيني وانا ماضٍ عقيماً، ووارث بيتي هو خادمي اليعازر الدمشقي ؟ فقال له لا يرثك هذا بل الذي يخرج من احشائك هو الذي يرثك “- (التكوين 15: 1-4 ) . فهاجس الذرية الذي كان مسيطراعلى احداث ملاحم اوغاريت هو أيضا المسيطر على احداث قصص الآباء . كما نجده أيضا في العديد من القصص اللاحقة ، مثل قصة ولادة النبي صموئيل وقصة ولادة القاضي شمشون .

واعتماداً على هذه الخلفية نفسها نستطيع أن نفهم أصول قدسية مؤسسة الملوكية في اسرائيل ويهوذا ، والتي انتقلت اليهما من الوسط الكنعاني . فالملوك الأوائل  في عصر الملوكية منذ الملك شاؤل كانوا من اختيار اله اسرائيل المدعو في النص باسمائه الثلاثة : ايل ، ايلوهم ، يهوه . وقد دُعي كل منهم باسم  ” مسيح الرب ” ، في اشارة الى  الطقس الرئيسي في التنصيب وهو المسح بزيت المعبد المقدس الذي يحول الممسوح الى شخصية قدسية ، لأن الرب قد جعل منه ابنا له بالتبني . ونحن هنا مجددا امام الملك المؤله ابن ايل الأوغاريتي. الذي يكلمه ايل دون وسيط لينفذ مشيئته على الارض .

يقول داود في المزمور 2 من سفر المزامير : ” إني أُخبر من جهة قضاء الرب . قال لي : أنت ابني ، أنا اليوم ولدتك . اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الارض ملكا لك ” -المزمور2 :  ٧-٩   .  وفي المزمور 89 يقول الرب : ” وجدتُ داود عبدي يدهن قداستي مسحته … هو يدعوني ابي انت ، الهي وصخرة خلاصي . وانا أيضا اجعله بكراً أعلى من ملوك الارض . الى الدهر احفظ له رحمتي وعهدي يَثبت له ” 89 : 20-27 . وفي سفر صموئيل الثاني نقرأ على لسان يهوه بخصوص الملك سليمان بن داود ما يلي : ” هو يبني بيتا لاسمي وانا أثبتُ كرسي مملكته الى الأبد . أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا ” –  صموئيل الثاني 7 -13-14  .

هذه المقتبسات تفيد في معناها تبنّي الإله لملك اسرائيل منذ يوم مسحه ، ورفعه الى مرتبة لم يحلم بها موسى نفسه ، الا أن بعض المقاطع ذات الطابع السراني  في التوراة تجعل من ولادة مسيح الرب نوعا من الفيض الحاصل في عالم الأُلوهية . ففي المزمور 110 لدينا  مقطع غامض يخاطب فيه الرب مسيحه قائلاً : ” من جمال القداسة ، من رحم الفجر ، لك ندى شبابك “- 110: 3. أي أن الملك مسيح الرب يأتي من العالم القدسي . ولدينا في المزمور 45  مقطع غامض لا يمكن فهمه الا اذا افترضنا أن النص يطلق على مسيح الرب صفة الاله: 🙁 ” كرسيك يا الله الى دهر الدهور . قضيب استقامةٍ  قضيب  مُلكك . احببت َ البر وابغضتَ الاثم ، من أجل ذلك مسحك الله الهك بدهن الابتهاج “- 45 : 6- 7 . والسؤال هنا هو : كيف يمسح الله الله بزيت الابتهاج ؟ وكيف يكون الله اله الله ؟ وفي الحقيقة فإن هذا الالتباس يزول اذا افترضنا أن جملة ” كرسيك يا الله ( ايلوهم ) الى دهر الدهور تصف الملك المؤلة ابن ايل ، وبناء على ذلك يجب أن تُقرأ : ” كرسيك يا اله ” وليس ” كرسيك يا الله ” . وبذلك يستقيم المعنى :  ” كرسيك يا اله الى دهر الدهور ، قضيب استقامةٍ هو قضيب مُلكك. أحببتَ البر وابغضت الاثم ، من أجل ذلك مسحك الله الهك بزيت الابتهاج ( لتكون ملكا على شعبه ) ” .

شاهد ايضاً: كيف ساهم المسيحيون في النهضة العربية؟

لقد كان قادة اسرائيل السابقين مجرد وسائط لنقل فعل يهوه الخلاصي في التاريخ ، اما في ايديولوجيا عصر الملوكية اللاحق ، فإن الملك من موقعه المميز  كإبن ليهوه صار وسيطا للبركة الإلهية وضامنا لها : ” يارب بقوتك يفرح الملك وبخلاصك كيف لايبتهج . شهوة قلبه اعطيته ، وملتمَس شفتيه لم تمنعه ، لأنك تتقدمه ببركات خير ” – المزمور 21 : 1-3.   فهو شفيع لخصب الطبيعة وضامن لللنعم التي تنسكب على الحقول : ” اللهم أعط احكامك للملك وبرك لابن الملك ، يدين شعبك بالعدل ومساكنك بالحق …..يَنزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوم الذارفة على الارض ، يشرق في ايامه  الصديق وكثرة السلام … يكون للقمح توافر في الارض، غلته في رؤوس الجبال تتموج كلبنان مثل العشب “- المزمور  72: 1-16

وبعد أن كانت السلطتان الزمنية والدينية مستقلتان قبل عصر الملوكية ، فقد اتحدتا الآن في شخص الملك الذي اكتسب لنفسه الوظائف الطقسية التي للكاهن والوحي الذي للنبي : ” في شفتي الملك وحي ، وفي القضاء فمه لايخون” -الامثال 16 : 10  .  ” أقسم الرب ولن يندم ، أنت كاهن الى الابد على رتبة ملكي صادق ” – المزمور 110 :4 . ” هذه كلمات داود ، وحي داود بن يَسّي ، وحي القائم في العلا مسيح إله يعقوب “-  صموئيل 23 : 1 .

بعد وفاة سليمان في القصة التوراتية ، وزوال مايدعى بالممملكة الموحدة التي انقسمت الى مملكة السامرة /اسرائيل ومملكة يهوذا ، فسد النظام الملكي وحاد الملوك عن دين يهوه وعبدو الآلهة الكنعانية القديمة . وهذا ماخلق لدى الانبياء رجاءً في ملك مثالي قادم ومسيح حقيقي للرب يأتي من نسل الملك داود . لاسيما بعد زوال مملكة السامرة عام 721    ق م . ثم زوال مملكة يهوذا عام 578   ق م . وانتهاء عصر الملوكية الأول  .  فمسيح الرب لم يعد ملكاً يحكم على شعب يهوه في الزمن الحاضر ، بل تحول الى شخصية رؤيوية قدسية سوف تظهر في المستقبل لتعيد العصر الذهبي لاسرائيل . وقد قامت اسفار الانبياء في التوراة برسم صورة لهذه الشخصية ، اختارُ منها ما ورد في سفر إشعيا  وسفر دانيال .  فهو في سفر إشعيا بشكلٍ ما إله :

” الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً … الجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور …لأنه يولد لنا ولد ، ونعطي ابناً ، وتكون الرياسة على كتفيه ،ويدعى اسمه عجيباً ، مشيراً ، الهاً قديراً ، اباً ابدياً ، رئيس السلام.  لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ، من الأن والى الابد .” – إشعيا7: 14 .

وفي سفر دانيال تَعرضُ للنبي رؤيا في الليل :

” كنت ارى انه وضعت عروش وجلس القديم الايام (= الرب )، لباسه ابيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي … ورأيتُ  في رؤى الليل فإذا مع سُحب السماء مثل ابن انسان أتى وجاء الى القديم الايام فقربوه قدامه ، فأُعطيَ سلطانًا ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والامم ، سلطانه ابدي لايزول وملكوته لا ينقرض . ” – دانيال 9: 13 .

بهذه الطريقة فقد مهدت التوراة العبرانية اعتمادا على الموروث الكنعاني الطريق للاهوت  المسيحي ، عندما كان يصوغ مفهومه عن الملك المؤله المسيح ابن الله . ففي تاريخ الدين لاشيء يخلق من العدم ، وكل فكرة تبدو جديدة هي تنويع عن فكرة قديمة . وعلى حد قول مؤلف سفر الجامعة التوراتي : ” ماكان فهو مايكون ، والذي صُنع فهو الذي يُصنع، فليس تحت الشمس جديد “. الجامعة 1: 9 .

 

الهوامش  :

  • المقتبسات التي قدمتها اعلاه من ملاحم اوغاريت هي من ترجمتي عن :
  1. L .Genberg, Ugaritic Myths and Legends, in : J. Pritchard , Ancient near Eastern Texts, Princeton , New Jersy,1969 .

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete