تتكاثر القراءات التفكيكية للنص التراثي،والقرآن بشكل مخصوص،وتتوالى الاجتهادات بشأن المنهجيات الحديثة المعتمدة في هذه القراءات،منها ما يشيد بفاعليتها،في إعادة تركيب الحقل الدلالي للنصّ القرآني بما يتوافق مع شروط التفكير الحديث والحياة المعاصرة،ومنها ما ينظر إلى هذه المنهجيات بارتياب وحذر،و يرى فيها،محاولة لزحزحة مبتنيات العقيدة،وخلخلة عناصر الثبات في بنيتها،وتجريدها من الصفات القدسية الملازمة لأصلها الالهي.

هذا الاختلاف بين النظرتين،يقود إلى حقيقة مفادها أن النظر في الكائن المخلوق وشروط حياته المرتبطة بالخالق،يخضع لنمط من التفكير يختلف كل الاختلاف عن نمط آخر من التفكير في الكائن فقط ال”هو هو” و حياته المحكومة بشروط الواقع وطبيعة حركته  وأدوات “عقله”،والتباين الحاد بين هذين النمطين من التفكير،حاضر بقوة في المقاربات المختلفة للنصوص الدينية،لاسيما النص القرآني والمقتضيات المعرفية لتفسيره وفهمه.

اشكالية تبعث على التساؤل عن قيمة هذه المنهجيات،وعن الهدف الذي يسعى إليه المتوسلون بها،وعن المخاطَبين الذين يتوجّه إليهم هذا الخطاب،وفي هذا السياق،ربما جاء الموقف الحذر  الذي يتبناه “الجموديون”،من القراءات التفكيكية،وليدالأسئلة”الإقتحامية” والمحرجة التي تقود إليها،و يصبح الأمر على قدر من الوضوح، إذا ما توقفنا عند معنى القراءة التفكيكية،وتفحصّنا آليات اشتغالها،وتبيّنا المقاصد التي تتوخّى تحقيقها.

١-جاك دريدا والتفكيك

يقول جاك دريدا فيلسوف التفكيك”ما يهمني في القراءات التي أحاول إقامتها هو ليس النقد في الخارج وإنما الاستقرار والتموضع في البنية غير المتجانسة للنصّ،والعثور على توترات أوتناقضات داخلية،يقرأ النصّ من خلالها نفسه،ويفكك نفسه،أن يفكك النص نفسه يعني أنه يتبع حركة مرجعية ذاتية،حركة نصّ لا يرجع إلا إلى نفسه،ولكن هناك في النص قوى متنافرة تأتي لتقويضه و تجزئته”(١).

القراءة التفكيكية إذن،ليست القراءة المكتفية بفهم المعنى الطافي على سطح النص،بل هي أشياء لم تأتِ على ذكرها كلمات النصّ المكوّن في حقيقته من فراغات (٢)،تفتح الباب أمام القارئ لكي يقول قوله في النصّ و يشارك في إنتاجه.

يعترف دريدا أن منهجيته التفكيكية هذه،تعود في جانب جوهري منها، إلى موقف هايدغر من الميتافيزيقا،حيث يقول في جواب على سؤال حول دَيْنه لهايدغر:أن هايدغر هو أول من قرع نواقيس نهاية الميتافيزيقا وعلّمنا أن نسلك معها سلوكاً”استراتيجياً” يقوم على التموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متتالية لها ومن الداخل…أن نطرح عليها أسئلة،تظهر أمامها من تلقاء نفسها،عجزها عن الاجابة،كما وتفصح عن تناقضها الجواني…(٣).ثم يكمل تفنيد نظرته إلى التفكيك فيقول:إن الميتافيزيقا كما عبّرْتُ عنها في موضع آخر ليست تخماً واضحاً ولا دائرة محدّدة المعالم والمحيط،(بل)يمكن أن نخرج منها ونوجّه لها ضربات من هذا”الخارج”،ليس هناك من ناحية ثانية “خارج” نهائي،مطلق،إن المسألة مسألة انتقالات موضعية،ينتقل السؤال فيها من طبقة معرفية إلى طبقة أخرى ومن معلم إلى مَعلم حتى يتصدّع الكلّ،وهذه العملية هو ما دعوته ب”التفكيك”(٤).

المرأة بين الوحي والعرف

واضح أن دريدا،يصدر،في “تفكيكيته”عن شبكة من الأركان، يقوم عليها صرح فلسفته،الاختلافdiffére(a)nce،مركزية العقلlogocentrisme ،علم الكتابةgrammatologie و موت المؤلّفmort de l’écrivain…،ما يعني الخروج على السائد،وتركيز العقل على تفكيكه،واعتبار الكتابة هي الحاضر المطروح أمام عقل سؤول لقارئ متحرر من مراد المتكلم”المؤلّف”،ما يجعل من التفكيكية سلاحاً معرفياً مقلقاً لذوي التفكير الديني المحافظ والتقليدي،والمناقض كليةلهذه الأركان،وهو مقلق بالدرجة نفسها لأصحاب المنظومات الأيديولوجية المقفلة،فكانت التفكيكية،على هذا الوجه، أمضى المنهجيات التي استثمرتها القراءات النقدية عموماً،لاسيما المدرسة الأركونية،في قراءة النص الديني واستكشاف حقول دلالية مسكوت عنها في طبقاته ،وقد يكون مؤسسها،محمّد أركون هو صاحب الخطاب الرائد في مسيرة البحث عن إسلام متجدّد، متصالح مع ما أنتجه إلى الآن مشروع الحداثة(هابرماس) من منجزات معرفية وثقافية وانسانية.

لا شك أن القراءة التفكيكية للنص القرآني والتراثي عموماً،كما تُمارس في المدرسة الأركونية،تستهدف المباني الأيديولوجية لوجوه التفسير التقليدي وقد كرّس علماء التفسير مخرجاته،وبسطوها حقلاً دلالياً مهيمناً،يطوّق مراد المتكلم،ويحتكر المعرفة بمقاصده.وتذهب هذه القراءة في جذريتها إلى جعل الموروث المدوّن والشفهي،موضوعاً للمساءلة النقدية،بكل ما يتطلّبه النقد من أدوات منهجية قادرة على الحفر في طبقاته واستكشاف المهّمش والمسكوت عنه واللامفكر فيه من المعاني والدلالات.

ومعلوم أن أركون يسلك في قراءته للنص الديني،مسالك ثلاثة،يسميها لحظات:اللحظة الألسنية،واللحظة الأنتروبولوجية،واللحظة التاريخية،طبيعة الأولى أن تقود إلى الكشف عن نظام بنيوي يثوي عميقاً تحت الفوضى الظاهرية للنص القرآني،واللحظة الثانية أي الأنتروبولوجية،نقف بواسطتها على لغة ذات طبيعة مجازية أسطورية للقرآن،واللحظة الثالثة أي التاريخية تتحدّد من خلالها محدودية التفاسير التي جرّبها المسلمون على القرآن منذ العصور القديمة إلى اليوم،بما هي تفاسير منطقية-معجمية لفظية وتفاسير خيالية(ه).

٢-الألسنية السوسورية وشكلية اللغة

تتقدّم المنهجية الألسنية،المقاربة التفكيكية،فيعود أركون إلى عالم الألسنيات فرديناند دو سوسور،الذي يعتبر أن “اللغة ليست مضموناً ولاجوهراً إنما هي شكل”،ما أوحى للعالم الدانمركي لويس هجمسليف فكرة التخلي عن المنهجية التقليدية لدراسة اللغات القائمة على الاستقراء induction و الاستنباطdéduction،واستبدالها بالمنهجية التحليليةméthode analytique،التي تدعو إلى التركيز على النص ككل باعتباره نظام من العلاقات اللغوية الداخلية المترابطة…(٦).نجد تطبيقا مثمراً لهذه المنهجية في دراسة تحت عنوان”ألله والإنسان في القرآن” للعالم الياباني توشيهيكو إيزوتسو ،يعمل من خلالها على تفكيك الشروط المرافقة لتطوّر بعض المصطلحات المفتاحية في القرآن(٧).

استثمر الخطاب النقدي المنهجية الألسنية،باعتبارها مستوى من مستويات القراءة التفكيكية، في مراجعة الحقل الدلالي للكلمات المفتاحية في النصّ القرآني،منطلقة من أن الدلالة المعمّمة للنصّ،يشوبها الكثير من التشابه والإشكال،وتثير الكثير من الأسئلة حول المباعث الفكرانية(الأيديولوجية) التي كانت وراء تخريجها،وبسط هيمنتها(٨).

٣-الوحي في اللغة والاصطلاح

لعلّه من المفيد،على سبيل التحقيق، النظر في الكيفية التي تتعامل بها القراءة التفكيكية مع هذه المصطلحات-المفاتيح،ولننظر على سبيل التفحّص والامتحان،في الوحي،فاللفظ  في معناه الأصلي،المتداول قبل الاسلام،قد ورد بمعنى التواصل،أو “العلاقة بين شخصين”،وكلمة “شخص”،مأخوذة بمعنى”الشخصية الدرامية”أي الفاعلة والمنفعلة،ما يقود في التحليل الدلالي، إلى معرفة عدد”الشخصيات أو “الأشخاص-الممثلين”الذين يبقى حضورهم على المسرح،شرطاً لحصول الحدث(النص)،وعليه فإن فكرة”الشخص”،قائمة في البنية الجوانية المضمرة للمعنى حتى ولو غابت عن البنية”المورفولوجية”للّفظ،وعلى سبيل المثال،فالشخص حاضر في معنى الكرسي لأنها وجدت ليجلس عليها وحاضر في معنى الكتاب لأنه وجد ليقرأه،وحاضر في معنى الخطاب لكونه وجد ليتلقاه باعتباره مخاطَباً.

أما في السياق القرآني فيبرز الوحي بوجهين اثنين،يفيد في الوجه الأول”الكلام”بالمعنى الفني الضيّق للمصطلح،المختلف عن اللسان،في حين يتعلق الوجه الثاني بحقيقة مفادها أن الله أنزل خطابه باللغة العربية،لكي تكون وسيلة الكلام الالهي وأداته،والتمييز بين الوجهين يجد مرجعيته الألسنية في الفرق الذي أشار إليه سوسور بين الكلامparoleوبين اللغة أو اللسان المقابل العربي للكلمة الفرنسية langue،وإذا كانت اللغة،بما هي عليه من ثبات وسكون، عبارة عن مجموعة القواعد النحوية والصرفية والصوتية فضلاً عن المفردات ومعانيها،التي يختص  بها مجتمع من المجتمعات،فإن الكلام،محفوف بالحركة والتغيّر، هو الممارسة العملية واليومية لهذه اللغة،وبالتالي،فكلمة وحي،بمعناها الأصلي الذي يفيد التواصل،بين شخصين،تعود لتظهر في السياق القرآني،تواصلاً بين الله والإنسان وبالتالي،شرطاً لوقوع الحدث،الذي يدعى الوحي.

٤-حراس العمارة:التفكيك”لعب بالنار”.

وعليه،

فإنّ التفكير التفكيكي بهذا المعنى،يلعب “بالنار”كما يقول”حرّاس العمارة”،حين يستهدف السيادة التاريخية لنظام معرفي،سعى ونجح في تثبيت سياج دوغمائي حول أدوات اشتغال العلوم الاسلامية*،وحول ما أنتجته،عند تفسيرها،شرحها وتأويلها لأحكام النصّ القرآني، من حقول دلالية مقفلة،ما زالت إلى اليوم،ترخي بثقلها،وتفرض هيمنتها على الثقافة العربية والاسلامية السائدة.

لذلك

يصبح،ختاماً، من السهل والمتاح،إدراك الأسباب التي تقف وراء العدائية التي تطبع الخطاب الاسلامي “الرائج”،لاسيما خطاب الاسلام السياسي،وموقفه المتصلّب من الآخر المختلف،خطاب “خائف”،يستميت في الدفاع عن الثقافة”الجمودية”يرى في كل جديد معرفي،وانفتاح ثقافي،وقيم حداثية،مجلبة لأخطار تهدّد أركانه،وتزعزع مسالك التلازم بين قراءته لنصوص الكتاب والمقتضيات الشرعية المبرِّرة للمعارك التي يخوضها من أجل احتكار المعنى والإمساك بالسلطة في آنٍ معاً.

الحواشي والمراجع:

١-مقابلة مع جاك دريدا،مجلة الكرمل،عدد١٧،ص٥٩

٢-درويش،عبد الكريم،فاعلية القارئ في إنتاج النص،مجلة الكرمل٢٤/١١/٢٠١٠،ص٢٢١

٣-الكرمل…م.س،ص٤

٤-الكرمل…//   //      //

٥-أركون،محمد،قراءات في القرآن،ترجمة هاشم صالح،دار الساقي،بيروت ٢٠١٧،ص٨٨

٦-أركون محمد،م.س،ص٨٨

٧-راجع:توشيهيكو إيزوتسو،ألله والانسان في القرآن،تحليل سيمانتيكيي معنوي للرؤية القرآنية للعالم،ترجمة هلال محمد الجهاد،المنظمة العربية للترجمة،توزيع مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت ٢٠٠٧

٨-راجع:أركون محمّد،الفكر الاسلامي،قراءة علمية…(قراءة الآية الخامسة من سورة التوبة).

*_العلوم الاسلامية:علوم اللغة،علوم الفقه وأصوله،علم الكلام،علم التفسير،علم الحديث،علم الباطن….بما هي علوم بيانية،بمعنى أنها تكوّنت على هامش النص القرآني،في سياق تبيين حقول المعنى وتخريج الدلالات التي تنطوي عليها أحكامه في العبادات والمعاملات…

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete