في الهرمينوطيقا الإسلامية: الجزء الرابع…مشاكل التأويل السلفي

تكوين

مفهوم الوحي – الوسيط الفقهي

-1-

قياساً بالنص الأدبي أو الفلسفي أو الكلام الدارج، ينطوي النص الديني الكتابي والإسلامي خصوصاً، على صعوبات إضافية في عملية التأويل. الصعوبات الأصلية أو المشتركة في جميع النصوص ترجع إلى طبيعة اللغة، والتعقيدات التي يصعب حصرها في سياقات التعبير وسياقات الفهم على السواء. أما الصعوبات الإضافية الخاصة بالنص الديني فترجع أساساً إلى فكرة “السلطة” التي يتوفر عليها بوصفه كلاماً إلهياً مقدساً صادراً عن الوحي.

هذه السلطة تمنع من إهماله أو تأخيره أو قراءته كنوع من اللغو مثلما يجوز مثلاً مع النص الأدبي أو الفلسفي، كما تمنع من تقليبه أو التعاطي معه تعاطيًا حراً، بل تفرض قراءته عبر اليات فهم مخصوصة، جرى صكها في مراحل التدوين المبكرة، واكتست صلاحيات الزامية موسعة بوصفها جزءاً من بنية الديانة. والحال كذلك، فإن أي عملية تأويلية معاصرة في السياق الإسلامي، لا تتم واقعياً في مواجهة نص واحد بل اثنين: النص الموضوعي التأسيسي ( القرآني/ النبوي) والنص التفسيري الثانوي ( نص الفقيه الحارس للمنظومة المذهبية المدونة في كتب التفسير والحديث، والكلام، والفقه وأصول الفقه، و التاريخ، واللغة ). نحن هنا حيال سلطة الزامية مزدوجة تصدر عن فكرة “الوحى” المقدس من جهة، وفكرة الوسيط الفقهي الكهنوتي من جهة ثانية .

أولاً: مشكلة الوحي

-2-

في هذه الفقرات أناقش المشكلة التأويلية التي يثيرها مفهوم الوحي في صيغته الإسلامية، والتي خلقها التصور النقلي الساذج لدى أهل الحديث عن القرآن كنص أزلي مكتوب حرفيًا في اللوح المحفوظ.

لقد انعكس هذا التصور على سلطة النص التي صارت مطلقة تماماً، أي مقطوعة الصلة بسياقات “التشكل” التاريخي الثقافية واللغوية والاقتصادية في عصر التنزيل، ومن ثم بسياقات ” التطور” التي  تمليها حركة الواقع ومصالحة الاجتماعية المتجددة بامتداد العصور اللاحقة.

لم يظهر مشكل تأويلي جاد في حقبة التنزيل المبكرة، حيث كان الوحي يأتي في شكل آيات متقطعة تعالج الواقع الآني، فتبدو مرتبطة بأسباب ظرفية محددة، ويجرى التغير على أحكامها من وقت لآخر. بدأ ظهور المشكل مع التحول إلى وضعية التدوين المنظم، أي التنظير الكلامي والفقهي الذي أعقب عملية جمع القرآن في المصحف. هذه العملية أدت إلى التحول من ثقافة الشفاهة البسيطة ذات الطابع العملي، إلى ثقافة كتابية مركبة فرضت التعامل مع القرآن كنص واحد طويل أزلي ومؤبد .

الفرق واضح بين وضعية النظر إلى الآيات المتفرقة وهي تظهر قطعة قطعة لتعالج مواقف عملية بعينها، ووضعية النظر إليها وقد تحولت في عصر التدوين إلى وثيقة مجمعة في نص لغوى مقدس ومجهز لتنظيم العالم على مدار الزمن: في الحالة الأولى، حيث يشتغل ” الواقع” المتداخل مع الآيات كجزء من صميم العملية النصية، لم تظهر فجوات ثقافية بين منطوق النص وحاجات المجتمع المباشرة، ولم يبدُ حضور الواقع الاجتماعي مناقضًا للمعنى الإلهي، أي لم يمثل سببًا للحرج كما سيحدث لاحقاً لدى الوعي التدويني، الذي صار يتخوف على مقولة الصدور المطلق، وينفي علاقات التداخل الطبيعي بين النص وظروف تشكله البيئية. وهو التخوف الذي سيتصاعد بشكل مضطرد مع مرور الوقت ليبلغ ذروته في العقل السلفي المعاصر المشغول بالدفاع عن نفسه في مواجهة الحداثة .

-3-

عليا الآن المقارنة بين لحظات نصية ثلاث:

  • ا لحظة التنزيل (الواقع جزء من بنية النص).
  • لخطة التدوين (الواقع يبدأ في الانفصال عن النص ).
  • الحظة الراهنة ( الواقع يبدو بعيداً عن مشاغل النص).

بين التنزيل والتدوين

عندما كانت الآيات القرآنية تصدر مقترنة بأسباب نزولها، حدث بالفعل أن تغيرت أحكام تكليفية خلال فترة الوحي القصيرة نسبياً. هذه الأحكام المتغايرة ستظهر جنباً إلى جنب في النص المجمع، ما تغير منها وما لم يتغير، لكن في حين بدا هذا “التغاير” في مسار الواقع حركة طبيعية مفهومة لدى المخاطبين، بحكم معايشة الوقائع التي كان النص يعالجها بترتيب وقوعها، بدا في كثير من الأحيان غير مفهوم على صفحة النص، الذي لم يتم جمعه على مستوى السور والآيات وفق الترتيب الزمني للنزول. فقد ظهرت الأحكام المتغايرة على سطح النص في شكل تناقضات عقائدية أو تشريعية تتنافى مع التنزيه الواجب لله، وتهدد في الوقت ذاته سلامة المقولات التي يتأسس عليها التنظير الرسمي لعملية جمع القرآن، كمقولة الوجود الأزلي للقرآن في اللوح المحفوظ، ومقولة “النزول المجمل” قبل نزوله المفرق، ومقولة “التوقيف الإلهي” لهيئة الكتاب كما تم جمعة في “المصحف العثماني”.

هنا ظهر التأويل كألية لرفع التناقض في آيات العقيدة بين صفات التشبيه وصفات التنزيه، وظهر “النسخ” كألية لرفع التناقض بين الأحكام التكليفية المتعارضة في الآيات التشريعية. لقد تم عكس وضعية النسخ من مظهر لحركية الواقع يترجمها النص، إلى تقنية تأويلية لخدمة مصداقية النص. الواقع بُعد غائب كما في الوعي الديني عموماً، والمشكل يتعلق بالنص بما هو كتاب مدون في المصحف، أي بما هو موضوع للكلام والفقه، وليس بما هو مواد منجمة أي حالات واقه مقروء في السياق التاريخي البيئي لحركة الجماعة الأولى. فما بدا في المصحف تناقضات كلامية وفقهية تستوجب الحل، لم يكن أكثر من تموجات داخلية في مساء اجتماعي متحرك بطبيعته.

– 4-

عند لحظة التدوين كان النص يتحول إلى موضوع للمعرفة، وجرى التعامل معه كمعطى ثابت ( غير زمني ) مقدس في هيئة اللغوية، وفوق ذلك كوثيقة شمولية منغلقة على “أحكام” نهائية غرضها التشريع للمستقبل. هذه اللحظة تشير إلى مرحلة التنظير، وهي مرحلة متكررة في التاريخ الديني الكتابي تبدأ مع الجيل الثاني، ويتطور فيها التدين من روح عملي أخلاقي وشفاهي عادة، إلى ثقافة مدونة تدور حول ” نص ” مكتوب.

في الإسلام بدأت هذه المرحلة بعملية جمع القرآن في كتاب واحد معتمد يمثل النص التأسيسي، واستأنفت مسارها بتدوين الروايات الشفوية المنسوبة إلى النبي، وتسكينها داخل دائرة “النص” تحت مسمى السنة. الأمر الذي يعنى توسيع نطاق النص من خلال مصدر إضافي مكتوب إلى جوار القرآن. وعلى هذين المصدرين قامت منظومة العلوم النقلية الواسعة التي تشكل فحوى الثقافة في المحيط الإسلامي حتى الآن.

التناقضات الموضوعية التي لم تظهر في مرحلة التنزيل، لم تكن لتظهر على هذا النحو لو لم يتم تجميع النص، أو لو كان قد تم تجميعه بترتيب نزوله حسب الوقائع وبملابساتها الظرفية، في هذه الحالة كانت ستبرز أهمية البعد الذي يمثله الواقع لأجل فهم النص في ذاته، وفى وظيفته الزمنية التي تتسع للتطور. لكننا حينذاك سنكون بصدد ثقافة مختلفة، أعنى حيال تصور مغاير تماماً لـ ” مفهوم النص ” السائد في الوعي الإسلامي. المشكل يبدأ من هذا المفهوم.

مفهوم النص

بوجه عام عبر تراث التدين الكتابي، ينشأ مفهوم النص مع الجيل الثاني، حيث ينبثق الوعي بضرورة توثيق تعاليم المؤسس في مادة مكتوبة، وهذا هو الركن الأول للمفهوم. تاريخياً، لم تكن عملية التوثيق تسفر عن نقل حرفي لمادة التعاليم، بل كانت تلعب على الدوام دوراً إنشائياً يخلق بنية نصية أوسع من بنية النص الأصلي.

تتحول هذه البنية تدريجياً إلى مصدر رئيسي لإنتاج المعرفة و تصير محور الثقافة كمرجعية نظرية شاملة (نفسية وأخلاقية وتشريعية) . وبغض النظر عن كتلة الواقع التاريخي التي تحملت بها في مرحلة التنزيل والتدوين، تقدم بجميع أجزائها كمعطى “مطلق” أي حصري مؤبد ملزم، وهذا هو الركن الثاني من مفهوم النص.

معنى ذلك أن الوعي بما أسميه مفهوم ” النصية” لا يكون مكتملاً في مرحلة التنزيل، بل يكتمل في مرحلة التدوين بفعل الثقافة التي تجرد النص من حمولاته الاجتماعية التاريخية وتحوله إلى مقولات مطلقة هي في النهاية جسم لغوي، أي تحوله من آلية آنية تعالج الواقع إلى لائحة مجردة تشرع للمستقبل. وهو ما ينعكس على الوعي بطبيعة النص ووظيفته وطريقة فهمه. هذه الرؤية المفهومية للنص صارت جزءاً من منطوق الدين، أي من الأصول الثابتة التي لا يجوز العودة إلى النقاش حولها.

الحضور الطاغي للمعنى الإلهي داخل العقل الديني عموماً يغيب على نحو لا شعوري البعد التاريخي الاجتماعي للنص. ومع ذلك يمكن ملاحظة التفاوت النسبي في درجة الغياب بين المنظومتين الرئيسيتين في الثقافة الإسلامية: المنظومة النقلية ( التي تضم التفسير والفقه)،والمنظومة العقلية أو شبه العقلية (التي تضم الفلسفة و علم الكلام ) . وفي الوقت ذاته تستطيع رصد فوارق طفيفة داخل مكونات المنظومة الواحدة، كما بين التفسير والفقه من ناحية، وبين الفلسفة والكلام من ناحية ثانية .

علم التفسير

-5-

بحكم مادته، يعد التفسير “العلم” الأكثر التصاقاً بجسم النص باعتباره بنية موضوعية ذات قوام لغوي. بالطبع لم يظهر هذا العلم في حقبة التنزيل، بل بدأ في التبلور في الحقبة التالية التي شهدت تدوين الرواية وأخبار القصاص، واستمد منها مادة “تاريخية” غزيرة وإن غير موثقة في معظمها.

كانت هذه المادة موجهة بالدرجة الأولى لخدمة الشق الإخباري من النص. ومع ذلك لعبت عبر مفهوم “أسباب النزول” دوراً في إسقاط الضوء التاريخي على آيات الأحكام ذات الطابع التشريعي وهي المنطقة التي يتقاطع فيها التفسير مع الفقه.

والسؤال هو: هل أدى حضور هذه المادة إلى إدراك البعد الزمني الاجتماعي للنص التشريعي؟ هل أسفر عن وعي بالدور الذي لعبه الواقع الاجتماعي في تشكيل هذا النص لحظة التأسيس؟ وهل فكر فيما يعنيه ذلك من قابلية أحكامه للتغير بفعل الزمن مثلما كانت قابلة لتغير بفعل الزمن في مرحلة التشكل ؟

كان التفسير بحكم مادته الإخبارية مهيأ للتعاطي مع هذا البعد الزمني لو لم يكن موجهاً بالرؤية النصية التي تفرضها ثقافة التدين. لقد انهمك في استهداف النص رأسياً من جهة الدلالة اللغوية، ولم يناقش، كموضوع نظري، مسألة تغير الحكم القرآني بتغير الظروف الاجتماعية في المستقبل.

ومع ذلك، سيضطر التفسير لاحقاً تحت الضغط، إلى تطوير صياغات جديدة تعيد تأويل النصوص بغرض التوفيق بينها وبين تحولات الواقع الاجتماعي الناجمة عن التوسع الجغرافي والتمدد الزمني. وفي سبيل ذلك استخدم جميع أدوات التأويل اللغوية والأصولية بما في ذلك النسخ. وتوسع في توظيف منهجية التفسير “بالرواية” بعد أن صارت بحسب الأصول الشافعية نصًا مرجعياً يستطيع محاورة النص القرآني بالتخصيص وبالتقييد وهو ضرب من النسخ الجزئي. المخزون الهائل من روايات الحديث. وفر مادة متنوعة أمكن من خلالها توسيع المساحة الدلالية للنص القرآني وتوجيهها إلى معاني بعينها. (انظر ابن العربي، أحكام القرآن، ج 2، ص 595،وهو يلمز تفسير الطبري منبهًا إلى تزيده في الرواية وتوظيفها التفسيري الموجه ).

ثم واكب التفسير المفاهيم الأكثر تطوراً التي استحدثها علم الأصول، والتي كانت تعبر عن تطور فعلى في حاجات الواقع الاجتماعي، مثل مفهوم “مقاصد الشريعة” الذي أصله الشاطبي في كتابه “الموافقات”، وهو مفهوم يوفر مساحة أوسع لحركة النص حيال الواقع من خلال النظر الكلي. وسوف ينعكس ذلك في مدونات التفسير المتأخرة والحديثة منها على وجه الخصوص، حيث تظهر مقاربات تفسيرية ذات طابع توفيقي حول بعض النصوص الإشكالية (سياسية، أو اقتصادية، أو متعلقة بالأحوال الشخصية).

وفي هذا السياق أيضا صار النشاط التفسيري يوسع صدره لآليات تأويلية مستعارة من مناهج التدين التي تقع خارج الدائرة النقلية، كآليات المنهج العقلي، وحتى آليات المنهج الصوف الباطني. لا أشير هنا إلى كتب التفسير ذات الطابع العقلي الصريح فحسب مثل “الكشاف” للزمخشري، و”مفاتح الغيب” لفخر الدين الرازي، والتي تعرف في الأدبيات السلفية بكتب التفسير بالرأي، بل أشير – أيضًا – إلى تسرب هذه الآليات إلى كتب التفسير بالمأثور التي لا تمتنع عن الاستدلال النظري خصوصاً في مجال الترجيح بين الروايات لتوجيه دلالة النص. انظر مثلاً تفسير القرطبي “الجامع لأحكام القرآن”).

-6-

منذ البداية، لم ينشأ التفسير في مناخ حيادي. أعني لم يظهر في سياق علمي تأملي بريء من فواعل الاجتماع المباشرة وغير المباشرة. فقد ظهر بعد أن كان التدين السياسي قد انتهى من إفراز وتكريس المذهبية، وتبلور في ظل الصراع الجدلي الذي نشأ عنها. ما يعني أنه ولد محملاً بحمولات سياسية واجتماعية مغايرة نسبياً لحمولات النص الأولى، وأسفرت عن تعدد دلالات النص الواحد بتعدد الأطر المذهبية:( انظر مثلاً في الفروق ذات الجذر السياسي الجلي، بين التفسيرات الشيعية والتفسيرات السنية للآيات التي يعتبرها الشيعة أدلة واضحة على إمامة علي وأبنائه، والآيات المتعلقة بالغنائم والفيء والخمس (استحقاقه، وشموله لجميع الأموال). وكذلك في الآيات التي تتعلق بمسائل ذات جذر سياسي مضمر رغم مظهرها الفقهي كمسألة “المتعتين” متعة الزواج ومتعة الحج، التي ترتبط – نفسيا- في التأويل الشيعي باجتهادات منسوبة إلى الخليفة السنى الثاني عمر بن الخطاب، وكبعض مسائل الفروع في المواريث (الأنثى – البنت) التي تستدعى موقف الخليفة الأول من توريث فاطمة).

يمكن ملاحظة التطور في منهجيات التفسير بفعل تحولات الواقع الاجتماعي. من خلال المقارنة بين التفاسير المبكرة والوسطى والمتأخرة وصولاً إلى التفاسير الحديثة والمعاصرة، وهي تشير إلى تزايد مضطرد في مساحة الاختلاف حول آيات الأحكام التي تعالج مسائل اجتماعية واقتصادية وسياسية. كالزواج والطلاق والتبني والحدود، والاستثمار وأعمال البنوك والصرافة، وقضايا الحكم والتعددية السياسية والحريات الفردية والعامة، و… .

-7-

الفقه

يشترك الفقه مع التفسير في مفهوم النصية، وبسببه عجز كلاها أو امتنع عن إدراك البعد الزمني للنص التشريعي (وهو منطقة البحث المشتركة). نظرياً، يبدو التفسير أكثر تهيأ للتعاطي مع هذا البعد بسبب توفره على مساحة تعامل أوسع من الفقه المعنى بحكم غرضه بمعالجة الشق التكليفي من بنية النص. لكن الفقه يبدو أقرب مسافة إلى هذا البعد بحكم تخصصه العملي: يشتغل الفقه مباشرة على الجانب الاجتماعي من النص، وهو الجانب الأسرع تعرضاً لعوامل التطور.

كالتفسير، اضطر الفقه تحت ضغوط الواقع إلى “تغيير الأحكام” من دون أن يغير رؤية النصية، فاعترف بقابلية الفتوى للتغير عند تغير الظروف، لكنه قصر نطاق هذه القابلية على الأحكام الاجتهادية التي لا يغطيها نص قطعي صريح في ثبوته ودلالته (راجع مثلاً، المقارنة الشهيرة في الأدبيات السلفية بين فتاوى الشافعي في العراق وفتاويه اللاحقة في مصر).

بامتداد مرحلة التدوين الفقهي لم تصل حركة التطور الاجتماعي إلى حد التناقض الجذري مع المضامين النصية. ولذلك أمكن احتواء الحاجات الاجتماعية الجديدة من تحت سقف النص ذاته، وجرى ذلك من خلال خطوتين رئيسيتين تظهر فيهما جهود الشافعي التنظيرية:

  • الخطوة الأولى: توسيع مساحة النص بروايات الحديث التي صارت تمثل مصدراً مرجعياً ملزماً مجاوراً للقرآن تحت مسمى السنة.
  • الخطوة الثانية: تمديد دلالة النص المتاح وتكريس إلزاميته الحصرية بأدوات علم الأصول ( أصول الفقه) وفي مقدمتها القياس.

احتوى النص القرآني على عدد من الأحكام التكليفية، ولكنه لم يقدم نظاماً تشريعياً كاملاً بالمعنى القانوني. الأمر الذي ظهر بشكل أوضح مع التمدد خارج الجزيرة العربية بفعل حركة الفتوح. أصول الفقه التي كانت تتشكل وفق الرؤية النصية، كان عليها مواجهة التمدد الاجتماعي. وفي هذا السياق كان اصطناع النص السني عملاً افتتاحياً لأصول الفقه الشافعية، أمكن من خلاله توفير مادة نصية جديدة. ومع ذلك كان الواقع أكثر تطلباً، فظهر الحديث عن الإجماع، وبرزت – بوجه خاص- أهمية القياس.

كان القياس كما قدمه الشافعي تجسيداً مباشراً للرؤية النصية النقلية : فيما أن النص حسب هذه الرؤية مطلق وكلي، فهو شامل ومتعدي، ولذلك يلزم تمرير أي واقعة جديدة عليه، فإن صادفت حكماً صريحاً فيه وجب تطبيقه، وإن لم تصادف حكماً صريحاً فليس معنى ذلك الاجتهاد الحر في شأنها، بل الاجتهاد بإعادة تمريرها عليه لإلحاقها بأقرب شبيه لها في داخله. فالاجتهاد بحسب الشافعي له صورة واحدة حصرية هي قياس الواقعة على نص.

مؤدى ذلك في نهاية التحليل: أن على الواقع أن يتشكل حسب ما هو موجود في النص المتاح (الذي صار واسعًا بروايات الحديث الظنية)، وأن النص يشتمل تفصيلياً على أحكام مكافئة عدداً لحوادث الاجتماع الإنساني حتى نهاية الزمان، وهو فرض لا يصدقه الواقع.

بوجه عام، لعبت النصوص “السنية” الجديدة إلى جانب القياس دوراً كبيراً في استنطاق النص القرآني وتطوير إمكاناته التشريعية. لكن ذلك كان يعنى تكريس الحمولة التاريخية (العربية) داخل النص، أي ربطه نهائياً بالثقافة الموروثة من عصير التأسيس. وهو الربط الذى سيتسرب إلى نسيج اللغة وسيظل حاكماً لأى عملية تأويلية لاحقة.

-8-

علم الكلام

في مجمله لا يختلف الكلام كثيرًا عن المضمون التقليدي للرؤية النصية، وبغض النظر عن منهجيته المغايرة للتيار النقلي، يعمل الكلام بأدواته العقلية تحت سقف النص (بل قد يوظف هذه الأدوات في تكريس المفاهيم النقلية وإسنادها منهجياً كما فعل الأشعري حيال السلفية الحنبلية. انظر الإبانة عن أصول الديانة). لذلك يظل الجدل الكلامي منتمياً إلى ثقافة العقل الديني، ويظل الفارق واضحاً بينه وبين جدل الفلسفة الدينية الذي ينطلق ابتداء من خارج النص.

مع ذلك، وبسبب المنهج والموضوع كليهما، كان علم الكلام يصل إلى مسافات قريبة من منطقة البعد التاريخي (الزمني الاجتماعي) للنص، لكنه لا يدخل في صميمها. ويمكن الإشارة هنا إلى قضايا كلامية ثلاث كاد من خلالها ملامسة هذه المنطقة: 1-

  • – الجدل حول خلق القرآن: قديم أزلي أم مخلوق محدث؟ فرغم أن هذا الجدل كان يدور حول الحضور التاريخي للنص القرآني، أي في صميم علاقة النص بالزمن، الا أنه لم يتطرق إلى فاعلية النص في المستقبل باعتبارها مسلمة، بل انصب على علاقة النص بالماضي حتى وقت نزوله. كان الموضوع هو وجود النص في الأزل، ولم يكن السياق المطروح فيه تشريعياً، بل كلامياً يتعلق بكلام الله كصفة ليست من صفات الذات كما يقول المعتزلة. (الجدل حول الصفات كان المثير الأول للنشاط التأويلي، لحل مشكل التناقض بين صفات التجسيم الحسية وصفات التنزيه المجردة).
  • – الجدل حول الإرادة الإلهية: هل تعلقها بالحوادث المتغيرة في الزمن ينطوي على قول بالتعدد والحدوث أي يتنافى مع وحدانية وأزلية الله؟

في إطار هذه القضية تطرق الكلام إلى إرادة الله حين تتعلق بمراده من العباد، أي بالتكاليف واجبة الطاعة على مستوى الاعتقاد أو التشريع، هل يجوز أن يرد عليه التغير فيما يعرف بالبداء أو النسخ؟ ومرة أخرى كان النقاش موجهاً إلى الماضي، فأنكر البداء الذي ينفي تغير بيان الله بشأن اللاهوت، ودافع عن مفهوم النسخ الخاص بالشرائع. ولذلك لصالح الشريعة المنزلة في القرآن على حساب شريعة التوراة، فحاور الرؤية اليهودية القائلة بامتناع النسخ في حق الله بوصفه ضرباً من البداء.

ورغم أنه في هذه المحاورة استند جزئياً إلى فكرة المصالح المتغيرة، إلا انه توقف بهذه الفكرة عند حدود التوراة، ولم يطور البحث من خلالها ليطاول النظر في الأحكام المنزلة بالقرآن، والتي ستواجه بدورها مصالح اجتماعية متغيرة في الزمن.

في هذه المسألة أوشك المعتزلة على الالتقاء بأرسطو الذي لا يفصل بين إرادة الله وعلمه الأزلي. فإرادة الله ليست شيئاً آخر غير قوانين الطبيعة الثابتة في الكون وفي الإنسان. ومن ثم فهي أزلية لا يتصور تعلقها بحوادث متجددة في الزمن. اعتمد النظًّام هذه الرؤية ذات الجذور الرواقية، وقال – بحسب كتب الفرق السلفية – إن إرادة الله هي فعله بمقتضى عمله. مؤدى هذا القول هو: أن التكاليف الفرعية (أي الشريعة ) لا يمكن أن تكون موضوعاً للإرادة الإلهية. ومع ذلك فإن أحداً من المتكلمين، بما في ذلك أشد خصوم النظام، لم ينسب إليه هذا القول أو يلزمه به. وهو ما يشير إلى غياب تصور المسألة داخل الدائرة الكلامية، بحكم انتمائها إلى مفهوم المرجعية المطلقة للنص.

  • الجدل حول الإرادة الإنسانية: أو خلق الأفعال، الذي دار تحت عنوان “القدر” وعنوان “الجبر والاختيار”. انتصر المعتزلة للقول بفاعلية إنسانية مختارة وقادرة. ورغم السياق السياسي الذي ولدت وتفاعلت فيه هذ المسألة، والذي يتصل مباشرة بقضية الاستبداد وفساد السلطة، إلا أنها لم تلهم في توجيه البحث إلى الشق التشريع الجماعي للإرادة، فظل حبيسًا للإطار الميتافيزيقي التيولوجي، الذي ينصب على فكرة الله من جهة الذات والصفات.

كان النقاش الكلامي رغم آفاقه النظرية الأوسع، يجرى من داخل النص، الذي كان نهائياً ومطلقاً: في القضية الأولى لم يتطور الجدل حول زمانية النص من وجوده في الماضي إلى سلطته في المستقبل، وفى القضية الثانية لم يتطور الجدل حول تعلق الإرادة الإلهية بالحوادث المتغيرة إلى فكرة استمرار الحوادث في التغير بعد صدور النص. وفي القضية الأخيرة لم يتطور الجدل من قابلية الإنسان للاختيار والقدرة على الفعل، إلى الإقرار بفاعلية الاجتماع الإنساني كجزء من القوانين الطبيعية التي تعبر عن إرادة الله.

هل كان بإمكان الكلام أوحى الفلسفة التفكير خارج نطاق الطور العقلي لثقافة العصر الوسيط؟ هل كان يستطيع التوصل إلى الوعي “بمجال” “اجتماعي” مقابل لمجال النص ومتداخل معه، وإلى الوعي بمجال “تشريعي” داخل النص مستقل عن فكرة المطلق؟ وأن يقفز إلى منهجية التفكير بدءاً من نقطة الواقع ؟ أم كان عليه انتظار الحداثة التي صارت تملى عليه مفردات جديدة للوعي في اللحظة المعاصرة.

  • اللحظة النصية المعاصرة

مسألة الوحي / النص / التأويل صارت تظهر طابعها الإشكالي بصورة مختلفة بفعل التطور الجسيم في حركة الواقع، على مستوى الحاجات الاجتماعية المباشرة، وفى طريقة التفكير ومشاغل الوعى. بوجه عام، لم يعد الموضوع الرئيسي للتأويل تيولوجيًا يدور حول التناقض الداخلي للنص، ويهدف إلى التوفيق بين آيات التجسيم وآيات التنزيه، أي لم يعد شاغله الأول الدفاع عن رؤية كلامية معينة ذات طابع مذهبي. بلا صار اجتماعياً يدور حول التناقض الكلى بين النص والواقع الفعلي المتطور، ويهدف إلى التوفيق بين النص ككل وحاجات الواقع؛ إلى أي مدى يستطيع النص إشباع الحاجات والمصالح الاجتماعية الراهنة، التي لم تعد مطابقة للحاجات والمصالح التي صدر لإشباعها في عصر التأسيس ؟ إلى أي مدى يمكن الدفاع من سلطة النص الأزلية والمؤبدة في ظل الوتيرة المتسارعة وغير المسبوقة للتطور الاجتماعي؟

هذا السؤال الأخير يفتح النقاش حول حجم التحول الهائل الذي فرضته الحداثة على الوعى الإنساني المعاصر، والذي لم يؤد إلى إعادة ترتيب المشاغل العقلية والروحية الموروثة فحسب، بل إلى خلق مشاغل عقلية وروحية جديدة تغير وجه النظر في المسألة الدينية لكل. وهذا هو التحدي الأخطر الذي لا يكاد يشعر به العقل الفقهي السلفي المعاصر.

التحولات الحداثية لفتت الانتباه إلى إشكاليات الموقف الديني عموماً والإسلامي خصوصاً، بوصفه موقفًا حصريًا شمولياً يطرح نصوصاً إقصائية تؤدى إلى نفي الآخر، وتنطوي من ثم على قابليات دائمة لتوليد التوتر الاجتماعي وإنتاج العنف. لقد صار النقاش مفتوحاً حول التناقض الصريح بين فكرة الدين وسفك الدماء تحت اسم الجهاد في سبيل الله، وذلك تأسيساً على المعنى الأخلاقي المفترض للدين، والطبيعة الاختيارية المفترضة للإيمان.

الفكر الإسلامي المبكر، لم يتعرض لضغوط مماثلة من قبل الثقافة السائدة في عصر التدوين ( وهي ثقافة قروسطية خاضعة اجمالًا لهيمنة اللاهوت / ومتساهلة حيال واقعة القتال/ وتعكس حالة التوسع السياسي للدولة الإسلامية القائمة)، ولذلك لم يقف الفقه – ولا حتى الكلام والفلسفة – على هذا التناقض الأخلاقي العقلي، فلم يواجه أزمة نظرية متعلقة بالقتال أو بالقتل على الدين، ولم تظهر لديه الحاجة لتقديم “تأويل” أخلاقي لهذا الفعل المبرر ذاتياً بما هو يتم باسم الله وبأمره الثابت في النصوص.

هذه الأزمة تنتصب الآن في وجه الفقه الإسلامي بفعل ضغوط الثقافة الحداثية، التي تبدو أكثر أخلاقية من ثقافة الفقه.  يرتبط العنف بالإسلام كتهمة راسخة، لا في الممارسات الراهنة للجماعات الأصولية المتطرفة فحسب، بل في التاريخ الدموي الطويلة للدولة والفرق الإسلامية، وقبل ذلك في صلب النصوص التي تصرح بمشروعية القتال ضد العالم حتى يدخل في الإسلام.

ثانيًا: الوسيط الكهنوتي.

وصاية الفقه

-9-

من حيث المبدأ يكره الوعي السلفي فعل التأويل، يشرح ابن القيم: “أصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل، الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده. وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد”.

و هو يؤكد أن الأصل في الكلام هو الحقيقة والظاهر فالمقصود من التخاطب التقاء قصد المتكلم وفهم السامع على محز واحد ( الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، ج2، 510) . ولذلك فالتأويل ” يجرى مجرى مخالفة الطبيعة الإنسانية والفطرة التي فطر عليها العبد ، فإنه رد الفهم من جريانه مع الأمر المعتاد المألوف إلى الأمر الذي لم يعهد ولم يؤلف ، وما كان هذا سبيله فإن الطباع السليمة لا تتقاضاه بل تنفر منه ( الصواعق المرسلة ، ج2 ، ص 399 ) .

وبحسب ابن القيم “ينقسم الكلام إلى ما يقبل التأويل وما لا يقبل التأويل. الأول هو الذي يحتمل أكثر من معنى دون وجود مرجع أو قرينة ، وليس في كلام الله ورسوله شيء من هذا النوع ” .

-10-

وفقاً لهذا الطرح، يفترض ابن القيم أن النص الديني واضح بذاته بالنسبة إلى جميع المخاطبين ، في جميع المراحل الزمنية

والسياقات البيئية والثقافية، وهو افتراض واضح التهافت و مخالف لحقائق الواقع، ولا يحظى بالإجماع حتى داخل التراث الأصولي الفقهي الذي تناقش حول درجات وضوح النص من جهة الدلالة على مراد الشارع، وتحدث عن المجمل والمبين والمشكل والمحكم والمتشابه.

ويفترض ابن القيم – أيضا – أن التأويل بما هو توليد لمعنى مستحدث، هو فعل مناقض للطبيعة الإنسانية. فهذه الطبيعة – حسب تصوره – تمنع مخالفة المعتاد المألوف، أي تفرض على الدوام اتباع الماضي واقتفاء السلف. وهذه بدورها فرضية أكثر تهافتًا بسبب تعارضها الصريح مع قوانين الاجتماع الطبيعي التي تقوب بالتطور والتعددية. لكنها تكشف عن طبيعة التفكير “السلفوي” كنزوع وراثي معتاد في الوعي الديني، وتشرح السبب الجوهري لرفض التأويل بوصفه تصدياً عقلياً لفهم النص بدون وصاية من الحرس الفقهي، الذي نصب نفسه كسلطة كهنوتية قابضة منذ عصر التدوين.

بحكم الواقع، لم يستطع الفكر السلفي إثبات مقولاته النظرية المفترضة حول وضوح النص وعدم حاجته إلى التأويل بما في ذلك التيارات النقلية الأكثر تشدداً كالتيار الحنبلي – الذي ينتمى إليه ابن القيم. وهو كما لاحظ بعض الباحثين لجأ إلى التأويل المخالف للظاهر في كثير من الآيات والأحاديث، “فهو يعتقد أن الله سبحانه وتعالى في جهة العلو، وأنه مستو على عرشه بائن من خلقه. وعندما اصطدم بآيات القرب والمعية أولها بأنه قرب من العبد بالعلم ومعية به أيضاً. أو قرب من عبده بملائكته” (انظر عوض الله حجازي، “ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي” القاهرة 1972، ص 106).

بالنتيجة، انتهى جمهور الفقه إلى تمرير التأويل كفعل اضطراري تحت جملة من الشروط المنهجية والموضوعية، التي تضمن خضوع العملية التأويلية لمنظومة التراث المذهبية ووصاية الحرس الفقهي: 1- أن يكون موافقًا للسان العربي – 2 – أن يتوفر على قرنية ترجيح سائغة. -3- أن يجرى وفق قواعد العلم. 4- أن يكون المؤول أهلا للاجتهاد والفتوى، مع قصد إصابة الحق. وما لم تتوفر هذه الشروط يمثل التأويل (أي التفكير في الدين على غير مثال سابق لدى السلف). سببًا للحكم على صاحبه بالتكفير أو التبديع. يشرح ابن حجر: “كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم”.

هذه الوصاية الفقهية تمثل سلطة كهنوتية تقبض على أنفاس النص، وتضاعف من حجم الأزمة التي يواجهها تحت ضغوط التطور. وهي وصاية واقع طفيلية لا تستند إلى أي تأسيس نصي، وهذا موضوع المناقشة التالية.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete