محاولة تأمّل فلسفيّ في مفهوم “الموت”

تكوين

في ظلّ ضبابيّةٍ ميتافيزيقيةٍ مترنّحة بين كمّ من الشكّ واليقين، يسلك الانسان منذ انطلاقة نَفَسه الأول في الحياة، وحتى استسلام نَفَسه الأخير، طريقاً مشوباً بتساؤلاتٍ لامتناهية حول جدليّة الحياة والموت التي تُعتبر إشكاليةً تاريخيةً، لم ولن تبلغ يوماً حدّها النهائيّ.

أكان فرداً عادياً، أو كان من ذوي الاختصاص العلميّ، أو كان أديباً أو شاعراً أو فناناً أو فيلسوفاً… أيّاً كان، هو إنسان خُلق.. ليموت، بعد لحظة، بعد سنة، أو بعد سنواتٍ طوال.

حتميّة الموت هذه دفعت الانسان إلى ردّات فعلٍ تراوحت بين توقٍ جامحٍ إلى الخلود في العصور التاريخية القديمة، وبين تعلّقٍ بالعلم لدراسة الظواهر الطبيعية وعلاقتها بالحياة، أو غوص في فلسفةٍ متأرجحة بين التعالي والكمون، بحثاً عن أجوبةٍ ربّما تكون شبه حاسمة من جهةٍ أخرى.

ظاهرة الموت في التاريخ والفكر الفلسفي

في جميع الأحوال، الموت واقع، فكيف تظهّر عبر التاريخ والفكر الفلسفي؟!

  1. مكانة الموت في بعض الأساطير الغابرة

  الخوف من الموت كان الحاضر أبداً منذ القدم. ألم يكن جلجامش في بلاد ما بين النهرين ذاك البطل الأسطوري لمدينة أوروك الساعي إلى الخلاص والخلود؟ فإذا ما التقط النبتة التي تجدّد الشباب، تسرقها منه أفعى، ليعود إلى مدينته يتملّكه الحزن، وتنتهي الملحمة بنفحاتٍ من اليأس والأسى؟

ألم يصف المؤلّف الأميركي ول ديورانت الدين في الحضارات القديمة بأنه “عبادة القوى الكائنة فوق الطبيعة”]1[   قاصداً تعلّق الناس به خوفاً من الموت؟ ألم يُحرم أورفيوس Orphée ، بحسب الأسطورة الاغريقية، من أخذ حبيبته معه وإنقاذها من عالم الأموات، لأنه خالف ما قاله له الإله زيوس Zeus بعدم النظر وراءه، ليكمل حياته نادماً حتى الممات؟

هكذا قارب الأقدمون مفهوم الموت، فكانت أساطير موت الإله في سبيل شعبه وعودته مجدّداً إلى الحياة، كأسطورة أدونيس في الحضارة الفينيقية، وأوزيريس في الحضارة المصرية القديمة، وكانت عبادة الأسلاف خوفاً من الأموات… ليبقى الموت بذلك تلك الغيمة القاتمة التي تأتي من مكانٍ ما، وتأخذنا إلى حيث لا ندري؟!

ما هو الموت عند الفلاسفة؟

  1. مفهوم “الموت” في الفلسفة الاغريقية

  تعدّدت تفسيرات الموت لدى فلاسفة الاغريق. فسقراط، الذي لقّبه هيجل ب”شهيد الانسانية” وليس “شهيد الفلسفة” فحسب، كان المواجه الاستثنائي للموت عبر ارتشافه السمّ بشجاعةٍ وصلابة بعد تقصّد الحكم عليه ظلماً، كما كان المحاور الاستثنائي كذلك في انتقاء كلماته وعباراته مع تلامذته خلال ساعات الوداع الأخيرة، كما رواها أفلاطون في كتابه “فيدون” Phédon ]2[ ، وذلك بعدما اعتبر سقراط الموت إمّا نوماً بدون أحلام، وإمّا عبوراً وهجرةً إلى عالمٍ آخر. وفي الكتاب ذاته، أكّد أفلاطون على خلود النفس وعلى وصفها ب “سجينة الجسد”، كما عرض لعدّة حججٍ أساسية لإثبات هذا الخلود: من التذكّر، إلى بساطة النفس غير المركّبة والتي لا تفسد، إلى التمييز بين التحوّل في عالم المحسوسات والثبات في عالم المُثُل، إلى حجّة التناقضات حيث لا يأتي الموت فعلاً إلاّ لما هو حيّ… فضلاً عن دفاعه عن عقيدة التقمّص، متأثّراً بفيثاغوراس، كما ورد في العديد من محاوراته، حتى أنه استخدم اثنَين من الفيثاغوريين : سيمياس Simmias وسيبيس Cébès لمناقشة سقراط حول خلود النفس، لينتهي النقاش باعتبار سقراط أنّ النفس التي تلج الجسد وتبعث فيه الحياة، لن تتلقّى حتماً نقيض ما فعلت.. ففي الموت استمرار والنفس خالدة.

أمّا عند أرسطو، “فالنفس كمال أول لجسمٍ طبيعيّ آليّ”]3[، والانسان مركّب من نفسٍ وجسد، وهما متّحدان كاتّحاد الصورة بالمادة. “وإذا كانت صورة الجسم الطبيعي لا تفارق مادّته في الوجود، كان مصير النفس تابعاً لمصير الجسم، فلا توجد بالفعل مستقلّةً عنه… والذي يبقى من النفس بعد الموت، إنّما هو العقل الذي أطلق عليه أرسطو إسم العقل الفاعل.”]4[

“المحنة” أو “فقه الابتلاء”.. سرديات الإسلام السياسي التلفيقية الجزء الثاني

وفي الفلسفة الرواقية، أتى التعبير الأمثل عن الموت على لسان إبكتيتوس الذي رفض وصف الموت بالشرّ. فالانسان مكوّن من أربعة عناصر أوّلية: الماء، والأرض، والهواء، والنار.. وفي لحظة الموت، تنحلّ هذه العناصر، وتعود إلى ما كانت عليه. فما يكوّنني كإنسان ليس خاضعاً للدمار والاندثار، بل لعودةٍ إلى الحالة الأولى. فبالموت نعود إلى ما كنا عليه قبل وجودنا في الحياة. لذا، ينبغي ألا نخشاه بتاتاً، ومن يخشاه ليس بسالكٍ درب الفلسفة الحقيقية، وليس منعتقاً من القيود المادية.

من جهةٍ أخرى، إرتكز أبيقورس في نظريته الفيزيائية على مذهب ديمقريطس في الذرّية L’atomisme ، وكانت له فكرة خاصة حول الموت عبّر عنها كما يلي: إنّ الألم الذي يتسبّب بالخوف الأكبر لدى الانسان، ونعني بذلك الموت، ليس شيئاً بالنسبة لنا، فحين نكون على قيد الحياة، لا يكون الموت، وحين يأتي الموت، لا نكون أحياء… فإن أدرك الانسان أنّ الموت هو لا شيء، فإنه يستطيع أن يحيا حياةً ممتعة وهانئة، لا بإطالة أمدها إلى زمنٍ لا محدود، بل بالكفّ عن الرغبة في الخلود.

  1. مفهوم “الموت” في الفلسفة العربية والاسلامية

  لم يكن الموت بانسبة للكندي أمراً رديئاً، لأنه “تمام طباعنا”، فإن لم يكن موت، لم يكن إنسان… وما هو رديء حقّاً هو الخوف من الموت. لقد تفكّر الكندي بمسألة الموت بإيجابية لأنه اعتبره أشبه بالارتقاء إلى مرحلةٍ أفضل من سابقتها.

أمّا الفارابي، فيمكن توصيف رأيه بالموت بالمضطرب إلى حدّ ما. فهو تارةً يقول “إنّ القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط… وهو مفارق للمادة بعد موت البدن، وليس فيه قوّة الفساد”]5[ ، ويؤكّد تارةً أخرى أنّ “نفوس أهل المدن المضادة للمدينة الفاضلة تؤول بعد الموت، إمّا إلى الشقاء الدائم، وإمّا إلى العدم”]6[ ويضيف أن لا بقاء إلاّ للنفوس الفاضلة والكاملة.

النفس في فكر ابن سينا

والنفس في فكر إبن سينا لا يتحقّق كمالها إلاّ بالموت. وحالة من يخشى الموت هي حالة من لا يدرك الموت في حقيقته، أو لا يعلم إلى أين تتّجه نفسه، أو من يظنّ أنه إذا انحلّ، فقد انحلّت ذاته.

وأكّد المعرّي أن لا حقيقة عصيّة على الشك أكثر من حقيقة الموت. وعلى رغم ذلك، لم يُخف قلقه ممّا بعد الموت. فنحن، وإن كنا نعلم علم اليقين أنّ الحياة لا تبقى لحيّ، إلا أننا نجهل ما سيكون مصيرنا بعد الموت. وهذا ما عبّر عنه المعرّي في أبياته الآتية:

 

“سأرحل عن وشك ولست بعالِم        على أيّ أمرٍ لا أبا لك أقدم

أرواحنا معنا وليس لنا بها             علم فكيف إذا حوتها الأقبر

أمّا الجسوم فللتراب مآلها              وعييت بالأرواح أنّى تسلك”]7[   

النفس رأي الغزالي

ورأى الغزالي أنّ النفس جوهر خالد لا يموت بموت الجسد، وهي لا تعرف الفناء. هي سرمدية، ولا يمكن تصوّر فنائها. إلى ذلك، فقد تناول مسألة الخوف من الموت، حاصراً هذا الخوف بأولئك الذين يتشبّثون بالحياة المادية، وهم ممّن لا يدركون حقيقة النفس ومآلها بعد الموت بحسب الاسلام. فالموت هو لحظة التجلّي المطلق، وبداية الحياة الروحية الحقّة.

وقد اعترف إبن رشد بأنّ مسألة النفس من أكثر المسائل تعقيداً في الفلسفة، فكيف بطرح مصيرها بعد الموت؟ وبالنسبة إليه، إنّ تشبيه الموت بالنوم إستدلال على بقاء النفس. إنّ “النفس يبطل فعلها في النوم ببطلان آلتها، ولا تبطل هي، فيجب أن يكون حالها في الموت كحالها في النوم.” ]8[ يستحيل إذاً فناء النفس البشرية بعد مغادرتها الجسد، فالجسد ليس مكاناً لها، بل هو آلة تستخدمها النفس بواسطة القوى الموجودة في الجسد.

خاتمة

  أتينا الحياة تجمعنا صفة “الانسان”، وتفرّقنا تناقضات كثيرة على شتّى المستويات، فهل من المنطق أن يكون مصيرنا بعد الموت واحداً؟!

نختلف في وجودنا وجوهرنا، في انتماءاتنا الدينية والتزاماتنا، في طرق مقاربتنا أمور الحياة ومواجهتنا أزماتها ومعضلاتها..

نختلف في سُبُل تصرّفاتنا إزاء الصحّة والمرض، الفقر والغنى، الظلم والعدالة، الخير والشرّ، وفي آرائنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..

نختلف في وجوهنا ونظراتنا وسماتنا، في ثورتنا واستسلامنا، وفي رؤيتنا معنى “الحياة والموت”.. فهل يكون مصيرنا بعد الموت واحداً؟!

في جميع الأحوال، لكلّ منّا توقيت لساعة موته، ونحن خاضعون حكماً لحتمية هذا التوقيت.. وتبقى الرهبة أمام الموت التي تختلف بدورها بين البشر، بين من يشعر أنه سيدخل نوراً، وبين من يخشى ولوجه ظلمةً أبدية.

المهمّ أن يكون الانسان صالحاً وفاضلاً في حياته الزمنية، حبّاً بالصلاح والفضيلة، دونما أيّ طمعٍ في جنّةٍ موعودة أو أيّ خوفٍ من تهديدٍ بالعذاب.

جدلية الحياة والموت مستمرّة إلى ما لا نهاية، تماماً كما الموت بذاته، أكان بالنسبة لنا بداية أو نهاية.. أكان انتقالاً أو عبوراً أو حتى عدميّة… هو يبقى لغزاً لم يستطع أيّ عالِمٍ أو فيلسوف إكتشاف كنهه الحقيقي حتى اليوم!! ونتساءل أخيراً: هل بالموت يتألّم الانسان أم تنتهي عذاباته على الأرض؟ ربما تكون الاجابة في قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء”!!

 

المراجع:

]1[  ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جامعة الدول العربية، الطبعة الخامسة، المجلّد 1-2 ، ص. 98.

]2[  Platon, Phédon, traduction d’E. Chambry, Ed. Garnier, 1958, p. 117-118

]3[  جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1981، ص. 79.

]4[  المرجع نفسه.

]5[  المرجع نفسه، ص. 166.

]6[  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1959، ص. 121-122.

]7[  جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، مرجع مذكور، ص. 324.

]8[  إبن رشد، تهافت الفلاسفة، دار المعارف،الطبعة الثالثة، القاهرة، 1981، ص. 833.

 

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete