“مُخْتَصَر المستصفى” لابن رشد: قراءة نقدية

لا شك أن الفكر الرشدي بتجلياته الفلسفية والكلامية والفقهية،قد أوصل صاحبه إلى مكانة معرفية متميّزة،فتصدّر بعقلانيته وانفتاحه،المشهد الثقافي العربي،تجاوز في قراءته للتراث، السائد من القراءات،ما أوقعه في مِحَن يستذكرها مريدوه في كلّ مرّة،يتعاظم فيها الإجتراء على العلم وأهله.

تهتمّ هذه المقالة بمناقشة كتابه في أصول الفقه، “مختصر المستصفى “،الذي حققه وقدّم له،جمال الدين العلوي،اختصر فيه “المستصفى من علم الأصول لأبي حامد الغزالي،والكتاب حلقة في سلسلة المتن الرشدي،الغني والمتنوّع،والذي عرف انتشاراً واسعاً في أكثر من ساحة،العربية-الاسلامية واللاتينية والعبرية والمسيحية الوسيطية.

وعلم أصول الفقه من العلوم الأصيلة التي أنشأتها الحضارة الاسلامية،تتداخل فيه أبواب نظرية ومنهجية وأخرى عملية مضمونية مستمدّة من علوم مستقلة بنفسها.على مستوى النظرية والمنهج،يتصل علم أصول الفقه بعلم المناهج الذي يبحث في الأدلّة الشرعية تعريفاً وترتيباً،وبآليات الاستنباط وقوانين الأحكام،ويعنى بالاستدلال وقوانين الجدل والمناظرة،ويبحث في العلم الذي يتناول فلسفة التشريع،وتُشغِل العلوم اللغوية حيّزاً كبيراً منه،لاسيما ما يختصّ منها بدراسة صِيَغ الألفاظ ودلالاتها المستخرجة في ضوء اعتبارات اللفظ الموزعة بين الوضع والاستعمال والوضوح والخفاء ومراد المتكلّم.أما على صعيد المضمون،فعلم أصول الفقه،موصول بسائر العلوم الاسلامي،مثل علم الحديث وعلم التفسير وعلم الكلام وعلم الفقه الذي جاء علم الأصول لاستخراج مبادئه وتحديد مناهجه وترتيب قواعده(١).

١-أهميّة” كتاب المستصفى من علم الأصول”.

إن المهتمّين بالعلوم العربية والاسلامية عموماً وعلم أصول الفقه بخاصة،يدركون أهمية كتاب”المستصفى من علم الأصول”،الذي وضعه الغزالي مابين العام١١٠٥والعام١١١١،نزولاً عند طلب طائفة من محصّلي علم أصول الفقه،ويعرفون تمام المعرفة ما يمثّل هذا الكتاب على صعيد هذا العلم،لا من حيث المضمون فحسب ولكن من حيث المنهجية التي توسّل بها أبوحامد،فاجتهد في أن”يقع في الفهم دون كتاب”تهذيب الأصول”لميله إلى الاستقصاء والاستكثار،وفوق كتاب”المنخول”لميله إلى الإيجاز والإختصار”…وصنّفه وأتى فيه بترتيب يسهّل للناظر في أوّله الإطلاع على جميع مقاصده ويفيده الإحتواء على جميع مسارح النظر”(٢).

لم يخفَ على ابن رشد،المتطلّع إلى البحث في علم أصول الفقه،أهمية “المستصفى…”،فقرأه واختصره تحت عنوان”مختصر المستصفى”،على نحوٍ،سوف نتابع أثره على الكتاب نفسه وعلى منهجية مؤلفه،وعلى حقيقة التكامل والتداخل بين العلوم العربية والاسلامية التي عبّر عنها.

قبل البحث في ال”مختصر…”،لا بدّ من تعيين المفاصل الأساسية في كتاب “المستصفى…”وإبراز المحاور التي يستوي عليها ترتيبه وتستقرّ عليها بنيته،وتظهر في مساحاتها مقاصده وتتبدّى في تماسكها وتداخلها منهجيته.

يشرع الغزالي في الصفحات الأولى من الكتاب بتحديد أسّين لمقاربته:العقل والعلم اللذان جعلهما الله أرجح الكنوز وأربح المكاسب،مفصّلاً العلوم في ثلاثة:عقلي محض لا يحضّ الشرع عليه…ونقلي محض ليس فيه مجال للعقل،وعلم ثالث ازدوج فيه العقل والشرع هو علم أصول الفقه(٣).ثم يرسم في صدر الكتاب بنيته فيقول:”إعلم أن هذا العلم الملقب بأصول الفقه قد رتّبناه وجمعناه في هذا الكتاب و بنيناه على مقدّمة وأربعة أقطاب…ولتذكر في صدر الكتاب معنى أصول الفقه،وحدّه وحقيقته أوّلاً،ثمّ مرتبته ونسبته إلى العلوم ثانياً،ثم كيفية انشعابه إلى هذه المقدمة والأقطاب الأربعة ثالثاً،ثم كيفية اندراج جميع أقسامه وتفاصيله تحت الأقطاب الأربعة رابعاً ثم وجه تعلّقه بهذه المقدمة خامساً(٤).

٢-منهجية الغزالي في كتاب “المستصفى…”

يؤسس الغزالي منهجيته في علم الأصول على الجمع والترتيب ابتغاء الضبط والإحكام،مفتتحاً بالنظر في حدّ علم أصول الفقه،معرّفاً الفقه لغةً:(عبارة عن العلم في أصل الوضع:فلان يفقه الشرّ …يعلمه)،واصطلاحاً:عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأحوال المكلّفين)،حريصاً كل الحرص على عدم إطلاق إسم الفقيه على متكلّم أو فلسفي أونحوي أو مفسّر،لأنه اسم يختصّ بالعلماء،أصحاب العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلّفين،كالوجوب(٥) والحظر(٦)والإباحة(٧) والندب (٨)والكراهية(٩)،وعليه،فإن أصول الفقه عبارة عن أدلة(الكتاب،السنة،الإجماع)الأحكام،وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل(١٠).

تشكّل المقارنة ركناً أساسياً في منهجية الغزالي،يعود إليها في سياق تعيين مرتبة علم الأصول،وتحديد نسبته إلى سائر العلوم،فهو من العلوم الدينية كالكلام والفقه وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن وتطهيره من الأخلاق الذميمة.وهذه العلوم تنقسم إلى ماهو كلّي مثل علم الكلام،وماهو جزئي،وهي العلوم الأخرى ومن بينها علم أصول الفقه.

هذه القسمة،تقدّم لشرح وتحليل مقاصد كل علم من هذه العلوم،فعلم الكلام يثبت مبادئ العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول،ويحرص الغزالي في منهجيته هذه،على إبراز التداخل في العلاقة بين علم الكلام وسائر العلوم الأخرى،فيأخذ الأصولي واحداً مما أثبته علم الكلام وهو قول الرسول الذي أثبت المتكلم صدقه،فينظر في وجه دلالته على الأحكام،إما بملفوظه أو بمفهومه،أو بمعقولية معناه ومستنبطه(١١).وإذا كان كل علم من العلوم الجزئية ينطلق من مبادئ يأخذها مسلّمة بالتقليد في ذلك العلم ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر،فكذلك الأصولي،يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق،ثم ينظر في وجوه دلالته وشروط صحته،كذلك ينظر المفسّر في تفسير الكتاب،وينظر المحدّث في طرق ثبوت السنة وينظر الفقيه في نسبة فعل المكلّف إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والإباحة.

يستمر الغزالي من خلال البحث في كيفية دوران علم الأصول على الأقطاب الأربعة(الأحكام،أدلة الأحكام،استثمار الأحكام،صفات المستثمر)،في وصل الحلقات التي تحكم طريقته وتقعّد منهجه في علم الأصول،فإذا كان الأصولي يبحث في وجوه دلالة الأدلة على الأحكام،فإن على المستثمر أن يجيد معرفة كيفية استثمار هذه الأحكام من الأدلّة التي تدلّ،إما بصيغة لفظها ومنظومه،أو بفحواه ومفهومه أو بمعقولية،والدلالة بالصيغة تتعلّق بالنظر في الأمر والنهي والعموم والخصوص والظاهر والمؤوّل،والدلالة بالفتوى والمفهوم تتعلّق في الإشارة والاقتصاء والدلالة بالمعقول تتعلّق بالنظر في القياس وأحكامه وأركانه.

هذا،ولم يتوقّف الغزالي عند هذا الحدّ من تقرير طريقته،فقد سعى إلى الكشف عن وجه تعلّق علم الأصول بالمقدّمة المنطقة،التي تصدّرت الكتاب،باعتباره من العلوم النظرية التي لها في علوم الحدّ والبرهان كل الفائدة.

٣–طريقة ابن وشد في ال”مختصر…”

يأتي”مختصر المستصفى”ليكشف عن بدايات ابن رشد مع علم أصول الفقه وليسلّط الضوء على علاقة مبكِّرة،تأسست بينه وبين الغزالي،مؤلِّف كتاب”المستصفى من علم الأصول”،وهي على خلاف ما كان معروفاً عن تأريخ الدارسين لهذه العلاقة انطلاقاً من التهافتين.

يلفت النصّ الرشدي في اختصاره،إلى تجاوز حدّ “المختصر…”إلى ما يمكن تسميته بال”مختَرَع”،ومقدمة الكتاب تضع القارئ أمام تصوّر خاص لعلم أصول الفقه،يختلف عن الوارد في المستصفى،منهجاً ومضموناً،فهو ينطلق من تصنيف جديد للعلوم،تنقسم معه إلى ثلاثة:منهما ما يقف عند الإعتقاد الحاصل في النفس،كالعلم بحدوث العالم والقول بالجزء الذي لا يتجزّأ،ومنها ما ينحصر بالمعرفة التي غايتها العمل،وتتفرّع إلى جزئية،كالعلم بأحكام الصلا والزكاة وما أشبههما من جزئيات الفرائض والسنن،وإلى كلية،كالعلم بالأصول التي تبنى عليها هذه الفروع،من الكتاب والسنة والاجماع،ومنها أخيراً ما يغطّي القوانين والأحوال التي بها ينسدّد الذهن نحو الصواب في هذين العلمين،وأصول الفقه جزء من العلم الأخير باعتباره الآلة المنطقية التي تضبط أحكام الفقيه(١٢).

إذا كان ابن رشد قد اعتمد في ال”مختصر…”تقسيم الأصوليين لأصول الفقه وانشعابه في أربعة أجزاء كان فد عبّر عنها الغزالي في”مستصفاه”بالأقطاب،الأول منها النظر في الأحكام،والثاني،النظر في أدلّة الأحكام والثالث النظر في استثمار الأحكام من الأدلة،والرابع،النظر في المستثمر أو المجتهد وصفاته،فإن الجزء الثالث يبقى حسب رأيه  المعبّر عن ماهية علم أصول الفقه(١٣)،أما الأجزاء الأخرى فهي من جنس المعارف العملية،وأن من الممكن أن يُقتصر فيها على أشهر المذاهب،أو أن يشار إلى الاختلاف فيها وتذكر القوانين التي تستنبط الأحكام في المذاهب المختلفة(١٤).

٤-هل اختصر ابن رشد كتاب المستصفى؟

في الحقيقة بدا الاختصار مجحفاً،إذ لم يلتفت ابن رشد في “مختصره” لكتاب “المستصفى من علم الأصول”،إلى تصدير الكتاب وما انطوى عليه من رسم لمنهجية صاحبه في علم الأصول،لقد تجاوز تعريف العلم،ولم يُعِر اهتماماً إلى علاقة هذا العلم بسائر العلوم الاسلامية من كلام وحديث وتفسير ولم يراعِ حرص أبي حامد على تعيين مقاصد كل منها وتحديد محاور تواصلها وتفاصيلها،مهمّشاً الى حدّ التجاوز الناحية التعليمية-التفهيمية في الكتاب،التي تطبع مجمل كتابات حجة الاسلام والتي غالباً ما تأتي استجابة لمطلب الطالبين،أما بشأن المقدّمة المنطقية،فقد شطبها”الاختصار”،في الوقت الذي يعتبر فيه الغزالي أنها مقدّمة لكل العلوم،بما فيها علم أصول الفقه،وقد عوّل عليها في النظر المؤدي إلى الحكم بعد معرفة الدليل.لقد ربط الغزالي ثقته بالعلوم بمدى اعتماد العلماء عليها(١٥)،وعبّر عن اهتمامه بالعقليات في أكثر من موضع،موضحاً أن النظر في الفقهيات لا يختلف عن النظر في العقليات من حيث الصورة،والخلاف يبقى قائماً في المادة فقط.وفائدة المنطق عمّت جميع العلوم النظرية،عقلية كانت أو فقهية،أما اتهامه من قبل البعض بالانحراف عن العادات في تفهيم العقليات القطعية بالأمثلة الفقهية الظنية،فهو صادر عن فاعل قليل الدراية في صناعة التمثيل،وأن صناعة التمثيل لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفي بما هو الأعرف عند المخاطَب والمسترشِد(١٦).

في ضوء ما تقدّم يمكن طرح السؤال الآني:

هل اختصر ابن رشد كتاب المستصفى من علم الأصول للغزالي،أم أنه وضع نصّاً جديداً يعبّر عن مفهومه لعلم أصول الفقه؟والفرق كبير،إذ لابن رشد كل الحق في أن يفهم علم أصول الفقه فهماً يخصّه،في أن يقدّمه بالطريقة أو الصيغة التي يرى فيها فائدة للعلم وطالبيه والمهتمين،وله كلّ الحق في أن يبيّنه ويفصّله في أجزاء وأقسام بدل الأقطاب والدعامات والفنون والمسائل،وأن يبديَ آراءاً في قضاياه وموضوعاته،يراها صائبة من منظاره على الأقلّ،لاسيما أن مادة هذا العلم مطروحة أمام كلّ مهتمّ،يتناولها في ضوء منهجية،يستحسنها لفائدة فيها،غير أن الأمر يصبح على قدر كبير من المسؤولية عندما ندرك أن موضوع كتاب ابن رشد”مختصر المستصفى”ليس علم أصول الفقه،وإنما كتاب المستصفى من علم الأصول للغزالي،وهنا تقتضي الموضوعية والبحث العلمي المجرّد،المحافظة على خصوصية المؤلَّف الذي يختصره،وأولى سمات هذه المحافظة،عدم تشويه منهجية صاحب الكتاب أو إلغائها،لقد تجاوز ابن رشد في “مختصر المستصفى”،الحلقات المتماسكة لمنهجية الغزالي وعبث بأركانها،بدءاً بالتعريف والتحليل والمقارنة والتفصيل،تسهيلاً للتعليم والإفهام والتبليغ،مما أدّى إلى “تهشيم”الكتاب كمرجع مكرّس في علم الأصول،وإلى مسخ طريقة أبي حامد في مقاربة هذا العلم،وقضى على بعض أوجه التداخل بين العلوم،لاسيما العربية والاسلامية منها،كما غيّب بشكل قاطع دور المنطق في المنهجية التي اعتمدها الغزالي في كتابه.

لا شك أن هذا الإجحاف الذي أصاب المستصفى على الصعيد المنهجي،جراء ال”مختَصَر…”،قد ترك أثراً سلبياً على مضمون الكتاب،إن مقابلة بسيطة بين النصّين،تُبرز ابتعاد ال”مختصر…” عن المستصفى،لاسيما حول الحكم وأقسامه وأركانه،وتكشف تغييباً كلّياً للتحليلات والردود التي ساقها الغزالي في معرض ردّه على المعتزلة في سياق تثبيتها لقدرة العقل على التحسين والتقبيح بحجج منها إدراكه الصفات الذاتية للأفعال،اتفاق العقلاء،والضرورة،كذلك يلاحظ في نصّ ال”مختصر…”المتعلّق بالواجب،إسقاط حجج الغزالي القائلة بوقوعه شرعاً وعقلاً،كذلك قسمته بين معين ومخيّر بالإضافة إلى الموضوع،وبين مضيّق وموسّع بالاضافة إلى الوقت،وحذف الأمثلة(١٧) التي وضعها تسهيلاً للفهم ودفعاً لموقف المعتزلة المنكر لكل إيجاب مع التخيير والتوسّع.أهمل ال”مختَصَر…”(١٨)،في مسألة تكليف المعدوم،تأكيد الغزالي(١٩)أن الله آمر لعباده في الأزل،قبل خلقهم،وعليه يكون المعدوم مأموراً على تقدير الوجود واستيفاء شروط التكليف وأهمّها العقل والفهم لأصل الخطاب.

أما الأصول التي اعتبرها الغزالي موهومة،لاسيما منها الاستحسان والاستصلاح(٢٠)،فقد ألغى ال”مختَصَر…”تعريف ألي حامد لهذين الأصلين وأغفل تفصيل المعاني التي يرِد فيها الاستحسان في المذهب الحنفي والاستصلاح في المذهب المالكي،مسقطاً حجج الغزالي في وجه القائلين بهما كأصلين شرعيين للتشريع وبناء الأحكام،فهما برأيه موهومان،لا قيمة شرعية لهما إذا لم يكن مستندهما الكتاب والسنة والإجماع،وإذا كان كذلك،فيقعان عندئذ في باب القياس،ولا حرج عندها في الأسماء.

المقارنة بين القطب الثالث في المستصفى والجزء الثالث الذي يقابله في ال”مختصر…” وموضوعهما استثمار الأحكام من الأصول،تُظهر،تعمّد ابن رشد حذف الفصول التي تتناول مبدأ اللغات(إصطلاح أو توقيف)،جواز القياس لغةً،الأسماء العرفية والأسماء الشرعية،اللفظ المقيّد واللفظ غير المقيّد،طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة.وأخيراً أتى ابن رشد في اختصاره على الفصل المتعلّق بالحقيقة والمجاز،وعلى البحث التفصيلي الذي وضعه الغزالي حول القياس،ومجاري الاجتهاد في العلل،وشرح إثبات القياس على منكريه،متوسعاً في طرق إثبات علة الأصل بالأدلة النقلية،والإجماع والاستنباط،ويتوقّف عند قياس الشبه،وينتهي إلى تعيين أركان القياس وشروط كلّ منها،في حين يقتصر الكلام في ال”مختَصَر…”على نفي ابن رشد أن يكون القياس الفقهي قياساً،وإنكار أن يكون له فعل القياس المنطقي،واستعماله من قبل الفقهاء لا يقع في باب استنباط مطلوب مجهول عند معلوم كما تُستنبط المطالب المجهولة من المقدمات المعقولة،وإنّما يقع في باب تصحيح ابدال الألفاظ،ولذلك كان القياس قرينة وليس قياساً في الحقيقة(٢٢).

أخلص في ختام هذه القراءة إلى القول أن نصّ المستصفى من علم الأصول،يمتاز بتلازم بين منهجية المؤلِّف ومقاصد الكتاب في الأفهام والتعليم،مما يطبع الكتاب بخصوصية انتهت في نصّ ال”مختصر…”إلى الطمس والتغييب.

هذه الحقيقة،يكشف عنها توسّع ابن رشد في استعمال المختصر والاختصار باعتبار الوضع في لسان العرب،مختصرات الطرق:سلوك الأقرب منها على حساب السهل،الاختصار:حذف الفصول في الشيء،فيكون ابن رشد قد وظّف الحذف على حساب التسهيل في التعليم والتبليغ،توظيفاً،أخرج المستصفى عن مقاصده وألغى منهجية صاحبه وطريقته في علم أصول الفقه.

ويبقى السؤال مطروحاً أمام كل باحث،إلى أي حدّ يخدم المختصر من النصوص عامة،على قاعدة الرؤية المخصوصة للمختصِر،الموضوعية العلمية؟وإلى أيّ حدّ يتوافق مثل هذا المنهج مع العقلانية المستنيرة والمنفتحة على الاختلاف وينسجم مع فكر معاصر يهتمّ بإعادة الاعتبار إلى المحذوف واللامدوّن واللامفكَر فيه؟

————————-

المراجع والهوامش:

 

١-راجع:طه عبد الرحمن،تجديد المنهج في تقويم التراث،المركز التفافي العربي،بيروت١٩٩٤

٢-المستصفى من علم الأصول،دار صادر،بيروت…ج١ص٤

٣-المستصفى…ج١ص٣

٤-المستصفى…ج١ص٤

٥-المقول فيه إفعلوه ولا تتركوه مع إشعار بالعقاب على الترك.

٦-المقول فيه إتركوه ولاتفعلوه مع إشعار بالعقاب على الفعل.

٧-المقول فيه إن شئتم إفعلوه وإن شىتم إتركوه.

٨-المقول فيه إفعلوه دون إشعار بالعقاب على الترك.

٩-المقول فيه إتركوه دون إشعار بالعقاب على الفعل.

١٠-المستصفى…ج١ص٥

١١-المستصفى…ج١ ص٦

١٢-مختصر…ص ٣٤-٣٥

١٣-مختصر…ص٢٥

١٤-مختصر…ص٢٥

١٥-راجع،المستصفى…ج١-ص٤ وما بعدها.

١٦-ليقيس مجهوله إلى ما هو معلوم عنده،فيستقرّ المجهول في نفسه،فإن كان الخطاب مع نجار لا يحسن إلا النجر وكيفية استعمال آلاته،وجب على مرشده ألّا يضرب له المثل إلا من صناعة النجارة ليكون ذلك أسبق إلى فهمه وأقرب إلى مناسبة عقله(معيار العلم ص٢٧).

١٧-الواجب معيَّن ومخيّر”الجواز العقلي”قول السيّد لعبده،أوجبت عليك خياطة هذا القميص أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم،أيهما فعلت،اكتفيت به وأثبتك عليه،وإن تركت الجميع،عاقبتك،ولست أوجب الجميع إنما أوجب واحداً لا بعينه-“الوقوع الشرعي”:عقد الإمامة أأكد الإمامين الصالحين للإمامة،والجمع محال.

-الواجب مضيّق و موسّع:قول السيد لعبده خط هذا الثوب في بياض هذا النهار،أما في أوله،أو في أوسطه أو في آخره،كيفما أردت،فمهما فعلت،فقد امتثلت إيجابي”جواز عقلي”،الإجماع منعقد على وجوب الصلاة عند الزوال،وإنه مهما صلّى كان مؤدّياً الفرص وممتثلاً لأمر الإيجاب “وقوع شرعي”(المستصفى…ج١ص٦٧-٦٩).

١٨-مختصر…ص٥٢

١٩-المستصفى…ج١،ص٨٢

٢٠-المستصفى…ج١،ص٢٧٤-٢٨٢

٢١-مختصر…ص٩٨

٢٢-مختصر…ص٢٧

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete