أصالة “العقلنة” في الخطاب التراثي

يستمر النقاش حيّا والحوار منعقدا حول العقل ومدى حضوره في العلوم التراثية عموما ومنها الفقه وأصوله،وتترجح في الأعم الأغلب من الخلاصات،العقلنة* وجهاً أصيلا لهذا الحضور،وفعلا خصبا من أفعال العقل،مشدودا إلى”تعقيل” اليومي من التكاليف والتجارب،و تحقيق نوع من الملاءمة بين المنطق الذي يحكم وصف أو تفسير ظاهرة من الظواهر و بين واقع الظاهرة نفسها،إنها عبارة عن آلية ذهنية تعمل على إبراز شكل من أشكال التلازم بين التجربة و معقولية تفسيرها،سعيا إلى توفير سبل الفهم السليم أمام المتلقي الناظر ،بل العاقل الذي ينساق ب”عاقليته” إلى القصد المبتغى.

١-بين العقلنة والعقلانية والتبرير العقلاني

تختلف العقلنة عن العقلانية في كون العقلانية تقدّم رؤية للعالم تترجم الاتفاق الكلي بين ما هو عقلي فيه،أي التناسق والنظام وواقع الكون نفسه،ولعلّ في هذا المفهوم للعقلانية ما يؤول بها في رؤيتها للواقع،إلى إقصاء اللامعقول فيه،أو ما ليس ذا طابع عقلي ،وعلى هذا الأساس يمكن للأفعال الانسانية والمجتمعات عموماً،أن تكون عقلانية في مبادئها ونظام علاقاتها ومبررات أهدافها.كما تبتعد العقلنة عن “التبرير العقلاني الذي يبني رؤية كلية للكون،انطلاقاً من واقعة جزئية أو عامل واحد ووحيد،كأن تعتقد جماعة معينة أن المآسي التي تعاني منها البشرية تعود في أصلها إلى عامل واحد أو واقعة مخصوصة،ما يفضي إلى تهميش و تغييب ما يكون موجوداً من أسباب ووقائع أخرى وراء هذه المآسي،وعليه فالتبرير العقلاني يستطيع انطلاقاً من مقدمة أولى “وهمية”أن يبني أجموعاً منطقياً،يفضي إلى نتائج عملية(١).لعلّ هذه المرتبة من مراتب الأفعال التي يمارس العقل من خلالها نشاطه،هي أقرب ما يكون إلى التعبير عن الأيديولوجيا بمعناها الحي والمباشر.

٢-العقلنة في مسارها التراثي

إن المتبصر في أنماط التفكير السائدة في ميدان العلوم التراثية وفي النسق الفقهي تحديدا يستطيع أن يتلمس معالم هذه العقلنة ويقف على أصالتها فيه،ويرصد آلية اشتغالها في أبواب التصنيف والتعليل والاستقراء(بمعنى تعقّب الجزئيات) التي تختص بالتعامل مع أفعال المكلفين وأحوالهم ومع الأوضاع الشرعية التي تؤول إليها أو تترتب عنها.

شكّل الطابع الوصفي مع بدايات النسق الفقهي،نموذجا حيّا للعقلنة باعتبارها فعلاً من أفعال العقل،ومسلكاً من المسالك التي يعتمدها” العاقل” في تحقيق “معقولية”ظاهرة من الظواهر،وتبدو ظاهرة الإستعارة من الفقه الجاهلي،مثلا معبرا عن العقلنة هذه،لقد عمد الرسول إلى استعارة بعض الأحكام الفقهية من الأعراف القانونية المختلفة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي المتعدد القبائل قبل الإسلام،مضافا إليها عاداتهم و تقاليدهم وعادات وتقاليد أبناء الشرائع التي كانت قائمة قبل الدعوة.مع مجيء الإسلام،وجد الرسول نفسه أمام واقع قانوني وعرفي،فيه من القواعد مايتفق مع شرع الله ومنها مالايتفق،فعمد إذاك إلى تثبيت المتفق وإقراره وإسقاط المختلف ونبذه،وحرص في صنف ثالث من القواعد على إبقاء أصلها والتعديل في حكمها،وكان لا بدّ،في عملية التمييز هذه،من أن ينصرف المشرّع إلى إجراء نوع من التصنيف،المبني على التمحيص الإحصائي والتنقيح الوصفي،لأضرب السلوك التي يجمعها جامع واحد،فيأخذ ببعضها ويترك البعض الآخر،ويمكن التوقف،تدليلا على سمات العقلنة هذه،وعلى سبيل المثال لا الحصر، عند نموذجين حاضرين بقوة في التراث التشريعي الإسلامي،الزواج والطلاق**،تكشف الأوضاع الشرعية التي استقرا عليها،المزايا الفنية التي انمازت بها عقلنة” المشرع”لأنواع كل منهما.

٣-منطق التصنيف

يتجلى التصنيف باعتباره آلية منطقية في عملية تقرير نوع الزواج الذي استقرت عليه الشريعة الإسلامية،بين مختلف أنواع النكاح التي عرفها المجتمع الجاهلي،ولم يكن لهذا الاستقرار أن يتم لو لم يعمد المشرع إلى إحصاء ،وصف وتصنيف أنواع الزواج التي سبقت بعث الاسلام وانتشاره.

في هذا السياق نقل عروة عن عائشة”أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:فنكاح منها نكاح الناس اليوم،يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو إبنته فيصدقها ثم ينكحها.ونكاح آخر،كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها،أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه،فإذا تبين حملها،أصابها زوجها إذا أحبّ،وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد،فكان هذا النكاح يسمى نكاح الإستبضاع.ونكاح آخر،يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم فيصيبونها،فإذا حملت ووضعت،ومرّ ليالٍ بعد أن تضع حملها،أرسلت إليهم،فلم يستطع رجل منهم أن يتمنّع حتى يجتمعوا عندها،فتقول لهم،قد عرفتم الذي كان من أمركم،وقد ولدت، فهو إبنك يا فلان،فتسمي من أحبت باسمه،فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.ونكاح رابع،يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة،ولا تمتنع ممن جاءها وهنَّ البغايا ينصبْن على أبوابهن الرايات تكون علما،فمن أرادهن دخل عليهن،فإذا حملت إحداهن ووضعت ألحقوا ولدها بالذي يَرَوْن ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك،فلما بعث الله محمدا بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم”(٢).

في موضوع الطلاق،وما أبقاه الاسلام من أنواعه التي تعارف عليها العرب في الجاهلية،يفصل د.جواد علي بدقة هذه الأنواع في كتابه”المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام”**.

فإذا بها تستقرّ على الآتي:

أ-طلاق “الظهار”،واسمه مأخوذ من قول الرجل لزوجته:أنتِ علي كظهر أمي أو كبطنها أو كفخذها،أوكظهر أختي أو عمتي…،عند هذا القول يقع الطلاق،وهو فعل شديد التحريم  عند أهل الجاهلية وشدته متأتية من كونه وضع زوجته موضع الأم والأخت،فيصبح تحريمها عليه حكما قاطعاً.لم يكن لمثل هذا الطلاق أي اعتبار في القرآن،قال تعالى:”والذين يتظاهرون منكم من نسائهم،ما هنَّ أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم،وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا”(المجادلة ٢ ومابعدها).

ب-طلاق “الإيلاء”وهو أن يعزم الرجل على عدم الاقتراب من زوجته مدة تتراوح بين شهور وسنة،وقد حفلت كتب الفقه بالحديث عن هذا النوع من الطلاق،لاسيما”كتاب الطلاق”للبخاري الذي أفرد بابا خاصا به.لقد حرّم الاسلام  الترابص مدة تزيد على أربعة شهور(البقرة،٢٢٦)واعتبر “الإيلاء” نوعا من الطلاق المؤجل.

ج-طلاق الخلع،وهوأن يكون للزوجة أن تبادر إلى  طلب “خلع”نفسها عن زوجها،(لأن حقها بالطلاق لم يكن قائما في الجاهلية،بعد أن تدفع له استرضاءا،مبلغا من المال  لكي يقبل تطليقها                                    .

د-طلاق العضْل،يقوم على إهمال الرجل زوجته،فلا يراجعها ولا يطلقها،يستمر على هذا السلوك إلى أن تدفع له ما يرضيه،فيقبل تطليقها وزواجها من رجل آخر.حرّم الاسلام هذا النوع من الطلاق في سورتي البقرة٢٣٠ وما بعدها، والنساء١٩.

هـ-طلاق”الغيظ”وهو نوع من السلوك المضرّ والمؤذي الذي يسلكه الرجل مع زوجته،فيطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها…عشرات المرات لكي يشبع غيظه منها،جاءت الآية ٢٢٩ من سورة البقرة لتحرّم هذا النوع من الضرر  الواقع على الزوجة”الطلاق مرتان،فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”.

و-الطلاق ثلاثا على التفرقة،وهو ماكان شائعا بين أهل مكة عند ظهمور الاسلام،يمنع هذا الطلاق الرجل من مراجعة الزوجة بعد المرة الثالثة لأن طلاقها يصبح بائنا،لكن زواجهامن رجل آخر ثم تطليقها يشرّع لها من جديد الزواج من الزوج الأول(٣)،وغني عن البيان أن الإسلام أبقى على الطلاق البائن(بينونة كبرى-بينونة صغرى)والطلاق الرجعي،وأسقط أنواع الطلاق الأخرى.

 

٤-منطق الوصل والفصل أو” الأنالوجيا البسيطة”

إن “استعارة” الاسلام من التراث العرفي الجاهلي في مسألتي الزواج والطلاق وأنواع كل منهما،ما أسقطه وما أبقاه منها،بعد إخضاعها لمنطق التصنيف،أفضى إلى تعيين الآلية المعرفية التي حكمت قراءته لهذه المادة وأدت إلى النتائج التي انتهى إليها. لم يكن باستطاعة المشرّع أن يقرّ ضربا من ضروب الزواج أو الطلاق بدون أن يقوم بحصر  لأنواع كل منهما بعد تفحص صفات كل من هذه الأنواع وتعيين صفة الوصل التي تجمع ضروب الزواج في فئة واحدة،وصفة الفصل التي تجمع ضروب الطلاق في فئة أخرى،فيسقط بعد هذا التعيين، من الفئتين،الأضرب التي لا تتفق مع مبادئ الدين الجديد،والوسيلة  المعرفية لوصف هذه الأنواع وتصنيفها على التساوي والتشابه القائم بينها هي الأنالوجيا أو قياس الشبه،باعتباره آلية منطقية بلورت وجها من وجوه عقلنة الخطاب الفقهي المتمثل في أحكام الزواج والطلاق في الاسلام.

إلى جانب هذه الآلية،احتل قياس الغائب على الشاهد مكانة في مسار عقلنة الخطاب الفقهي،والأمثلة كثيرة على انتهاج النبي هذه الطريقة في الحكم على الوقائع المستجدة،يروي أبو داوود في هذا السياق حديثا لعمر عندما قال”هششت إلى امرأتي فقبّلتها وأنا صائم،فأتيت الرسول فقلت:يا رسول الله أتيت أمرا عظيما:قبلت وأنا صائم،فقال رسول الله”أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم”؟قلت: لا بأس،قال ففيمَ؟.

وعليه،

المضمضة لا تفسد الصوم(شاهد)

قبلة الصائم( غائب)؟

قياسا على المضمضة لا تفسد الصوم

قياس الغائب على الشاهد لاشتراكه معه في علة عدم تحقّق الفطر.

يبدو جليا في هذا الحديث أن قياس القبلة(واقعة حكمها غائب)على المضمضة(واقعة حكمها شاهد-عدم إفساد الصوم)يؤدي إلى الحكم بأن القبلة لا تفسد الصوم،إذ لما كان إدخال الماء إلى الفم،ولو كان يفتح طريق الشرب، لا يفسد صوم الصائم لأنه لا يتحقق به فطر،فالحكم نفسه يجري على قبلة الصائم،لأنها،وإن كانت تفتح الطريق إلى الشهوة،لكنها لا يتحقق بها شهوة،وبالتالي فهي لا تفسد صوم الصائم(٤)٠

وفي مثل آخر يرويه النسائي”قال رجل يا نبي الله إن أبي مات ولم يحج أفأحجّ عنه؟قال”أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟قال:نعم قال:فدين الله أحقّ أن يقضى”(سنن النسائي ج٢،ص٤)،أيضا،يتجلى في هذا الحديث قياس الغائب على الشاهد،في قياس  الحج على  الدَيْن لاشتراكه معه في وجوب القضاء(٥).

إلى المماثلة وقياس الغائب على الشاهد،تستمر العقلنة في إثراء مسارها التطوري،وتأكيد أصالتها،من خلال التجريب والاستقراء ومسالك تحققهما في مفهوم النسخ،على سبيل المثال،والنسخ لغةهو الرفع والإبطال،وفي الاصطلاح هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر،والحكمة منه،مراعاة تبدل وجه المصلحة التي يناط بها الحكم الشرعي،ما يعني أن الحكم يشرّع لتحقيق مصلحة معينة ولأسباب محددة من جهة الوقت،إلى أن يتغير وجه المصلحة مع تغيّر  هذه الأسباب.وعليه،فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي نسخت،وقع نسخها استجابة لهدف أسمى هو سعادة  الانسان واعتبار مصالحه،إذ،أظهرت التجارب الاجتماعية ومتطلبات الحياة،أن من الآيات والأحاديث ما لا يراعي مصالح الناس،”ولهذا فقد تمّ إبطالها ونسخها لما اقتضت المصلحة ذلك”(٦).في هذا السياق،يأتي التجريب والاستقراء ليسهما في عقلنة خطاب النسخ وتحقيق مبتغاه بصورة تدريجية،أخذا بالإعتبار صعوبة الخروج دفعة واحدة مما كان عليه المجتمع الجاهلي،من تقاليد وأعراف راسخة في حياة أهله ومتأصلة في نفوسهم،والأمثلة كثيرة على هذه العقلنة في التراث الفقهي،أكتفي منها بأحكام الخمر.

كان الخمر شائعا في المجتمع الجاهلي، عمَّ احتساؤه أهل الجزيرة،واحتل منزلة كبيرة في نفوسهم،وعليه، لم يكن سهلا أن يأتي القرآن ويحرّم شربه دفعة واحدة، والدليل على ما تقدم ما رواه البخاري عن السيدة عائشة أنها قالت”ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا”(٧)،وعليه،يبدو أثر التفكير التجريبي الاستقرائي جليا في الآيات التي نزلت بشأن الخمر،فالآية الأولى وردت في سور ة النحل٦٧(ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ان في ذلك لآية لقوم يعقلون)،واضح أن هذه الآية تبيح شرب الخمر ولا تحرمه،ما يعني أنها كانت على الإباحة مع بدايات الإسلام.ثم جاءت الآية الثانية لتنبّه إلى أن ضررها أكثر من نفعها(ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس،وإثمهما أكبر من نفعهما)(سورة البقرة،٢١٩)،لم يلقَ هذا الحكم استجابة عند جميع المسلمين،ودليله أن كبار الصحابة استمروا في تعاطيها بعد نزوله،ومع ذلك،كان لهذا الحكم دور في تهيئة النفوس وإعدادها لتقبل الحكم النهائي بشأن الخمر.بعد التنبيه إلى ضررها،جاءت الآية الثالثة لتحرّمها بصورة قاطعة أوقات الصلاة(يأيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)(سورة النساء٤٣)،إلى أن انتهى هذا التدرّج في نزول أحكام الخمر إلى الحكم الأخير الذي حرّم الخمر بصورة كلية(يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)(سورة المائدة٩٠-٩٢)(٨).

إن النزول التدريجي للأحكام عموما وأحكام الخمر تحديدا،يستبطن منحى استقرائيا عماده التجربة والملاحظة،فوقْع الحكم على الناس،وتعاملهم معه رفضا أوقبولا،ومعاينة المشرع لحيثيات ترجّح أحدهما على الآخر،كلها آليات ملازمة لمبدأ التدرّج في الأحكام،ومسالك معبرة عن الجُهد المبذول من أجل عقلنة الخطاب الفقهي،وتحقيق معقوليته عند المتلقي.

لا يخرج الاستقراء من جهة الاصطلاح عن المعنى اللغوي وهو التتبّع،تتبّع الجزئيات المتشابهة للاستدلال على خاصية كلية فيها،يصح إجراؤها عليها جميعا،وبهذا المعنى،استُخدم الاستقراء لعقلنة العديد من القواعد الفقهية،لاسيما عند الشافعية،لقد استفادت منه في وجهيه الكامل والناقص،الأول،وهو التام الذي يفيد اليقين،جاء استثماره في معرض الاستدلال على”امتناع التكليف بالممتنع لذاته”،ورد عند الأسنوي الشافعي “وحاصل الدليل إنا تتبعنا التكاليف فلم يرد فيها ما هو ممتنع بالذات”،والتتبع أو الاستقراء الكامل كان ممكنا لأن دائرة التكاليف محصورة،أما الاستقراء الناقص ف”إنه لا يفيد القطع لجواز أن يكون حكم ما لم يُستقرأ من الجزئيات على خلاف ما أستقرئ منها”،والأحكام مع الاستقراء الناقص هي ظنية،ويختلف الظن باختلاف كثرة الجزئيات المستقرأة وقلتها(٩).

كان من شأن هذا التراكم  لتجارب المماثلة والاستقراء وقياس الغائب على الشاهد،البسيطة والعفوية،أن يؤسس لمنطق فقهي متماسك بلغ، مع الشافعي،في صرامة نظمه ودقة معانيه ومبانيه،مبلغا متقدما من الضبط والإحكام،استوى معه المنهج السائد في ميدان التعليل والاجتهاد،والآلية المعرفية الأوقع أثرا في بنية الثقافة العربية الاسلامية السائدة.

إذا كانت العقلنة قد بدأت مسيرة نضجها في تجارب البدايات كما سبقت الإشارة،و خطت خطوات مهمة في  استحسان(*)المذهب الحنفي واستصلاح(**) المذهب المالكي،فإنها تجلت مكتملة في منهج القياس(١٠)،الذي أرسى دعائمه الشافعي،ووضع قواعده وشروط الصحة في الأحكام والنتائج التي ينتهي إليها.

ه-العقلنة خصيصة المذهب الشافعي

إن مراجعة كتاب”الأم” وهو أهم أعمال الشافعي،تكشف كيف أن  صاحبه استطاع أن يعيد تنظيم قضايا العصر الأساسية،ويجد لها من الحلول ما يرضي الوعي الديني الاسلامي،ويؤثر على الفقهاء والعلماء الذين عاصروه والذين جاؤوا بعده.

تعود أهمية الإمام والتفوّق الذي حازه  إلى ثقافة شاملة، أفادها من المراكز العلمية التي تنقل بينها في مكة والمدينة والعراق وسوريا،و من علم المنطق الأرسطي الذي كان حاضرا في منتدياتها،و إلى عبقريته في استثمار الأفكار التي كانت سائدة ومعمولا بها في عصره،وكيفية صوغها في نظام معرفي متكامل،ومنهجية متماسكة،استطاعت أن تحقق قبولا واتفاقا عليها بين أهل العلم في المذاهب و أن تترجم إلى حدّ كبير وحدة التفكير الفقهي(١١).أضف إلى ذلك،عوامل أخرى قد أسهمت في ترسيخ حضوره،منها،شرف نسبه القرشيي،وقد ورد عن الرسول،إن الأئمة من قريش،وإيلاؤه أهمية كبرى لوحدة الأمة،وانتماء الإمام وتلامذته إلى أهل الحديث والسنة،ورغم مناصرته للقياس بقيت الأولوية عنده للنص عند وجوده،وعن الثقة بآرائه وفتاويه،يذكر الرازي أن هناك خمس عشرة مسألة،تبين أن رأي الإمام فيها هو الأصوب وقد لاقى استحساناً في أوساط المذهب الحنفي،ثم إن الإمام يحتاط في أحكامه فلا يبنيها إلا على أدلة صريحة من القرآن والسنة(١٢).

مزية العقلنة هذه التي طبعت منهج الشافعي،لم تحل دون توسله بالتبرير العقلاني دفاعاً عن السنة وانتصارا للأيديولوجية السنية التي كان له الفضل الأعظم في بناء أسوارها العقدية واللغوية،فالقياس الذي وضع شروطاً  صارمة لمقدماته،كان عبارة عن ميكانيزم معرفي،ضابط  لقواعد التفكير،وصل في صرامته  إلى حدود إقفال باب الإجتهاد.لقد بذل جهداً في سبيل تجذير الطابع الوثوقي للمذهب السني،ونجح في ذلك،بحيث كثرت في أعماله  المؤشرات التي تشهد على انغلاق هذا الباب.لعلّ أبرزها:انتقاده منهج الاستحسان واعتبار قيامه من غير أصل شرعي قيام باطل،لا يُعتد بحكمه،لأن الحَسَنَ هو ما حسّنه الشرع،وإذا كان مستنده أصلاً شرعياً فهو القياس.

ومن هذه المؤشرات على هذا الانغلاق ما أورده من شروط،يجب أن تتوفّر في المجتهد،تلامس حدود التعجيز والإنهاك،،يقول:”ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله،وجهة العلم بعدُ،الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وصفت من القياس عليها،ولا يقيس إلا مَن جمع الآلة التي له القياس بها،وهي العلم بأحكام كتاب الله:فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه وعامّه وخاصّه وإرشاده.ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله،فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين،فإن لم يكن فبالقياس،ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب،ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل وحتى يفرق بين المشتبه ولا يعجل بالقول دون التثبيت…”(١٣).

لا شك أن هذه”الترسانة”من الشروط التي أوردها الشافعي،تضع الاجتهاد في حيّز ضيق،والعقل الإجتهادي على شفير العقم،بعد أن قيّدت فاعليته،لأن الأحكام في القضايا تتعيّن عقب تحديد أماراتها(عللها)في الأصول،والعقل الإجتهادي في هذه الحالة ينحصر دوره،في الاهتداء إلى الأحكام بواسطة هذه الأمارات(علامات وضعها الشارع)وبالتالي  فإن ما قاله برونشفيك ينطوي على نسبة عالية من الصواب”إن الحلول الملموسة التي يقترحها هذا الإمام(الشافعي)،تبقى أكثر من مرة، على الصعيد السوسيولوجي، متأخرة عن الحلول الحنفية والمالكية البدائية.إن البناء التشريعي المقام بروح”رجعية”كما هو الحال عند رجلنا،لا يمكن قطّ،أن يولّد التطوّر في عمق الأمور”(١٤).

ومع ذلك،يُبرز الخطاب الفقهي في ذروته الشافعية أفعالاً تحمل سمات العقلنة وتصل إلى حدود التبرير العقلاني،وهي تندرج في سياق ترجمة مفهوم العاقلية الذي استقرّ عليه تحديد الغزالي للعقل(١٥)،واستوى باعتبار ه الأسّ العقدي لفقه الأعمال والقاعدة المفهومية التي تشيد عليها الثقافة الاسلامية صرحها الأخلاقي.

قبل أن أصل إلى ختام هذه المقالة أشير ، ومن باب الإشارة فقط،إلى أن المتابع للقراءات الحديثة والمعاصرة للنصوص الدينية التأسيسية أو التراثية عموماً، على اختلاف مسالكها وتنوّع أدواتها، يستطيع أن يستشعر حرص  الغالبية من أصحابها،كلّ على طريقته،وتبعاً لمشربه الثقافي والأدوات المعرفية التي يتوسل بها،على إبراز العقلنة كمنهج أصيل في هذه النصوص،هذا ما اجتهدت في سبيل تأكيده المعرفيات التقليدية والمنهجيات الداخلية للعلوم الاسلامية،والمقاصد نفسها  قد ثَوَت في المقاربات التحليلية والتفكيكية التي حقّقها روّاد الفكر النقدي بأدواتهم المنهجية التي أفرزتها علوم الانسان والمجتمع.(١٦).

أخلص إلى القول أن العقلنة هي شكل من أشكال استثمارالعقل في إبراز “معقولية” الخطاب التراثي والفقهي منه تحديداً،وهي بهذا المعنى تبدو أصيلة في تاريخ المعرفيات العربية والإسلامية،تستقي أصالتها من تقليد فكري،أو اعتقاد سائد،يرى إلى العقل،في الإنسان صفة،حتجعله عاقلاً، يعقل(يربط) العمل بالعلم،غير المعلوم بالمعلوم،الغائب بالحاضر أو الشاهد،وهو،فيماهيته هذه،يؤكد حضوره المخصوص في ثقافة طبعته بخصوصيتها،وألقت عليه عباءة،تقي مقدّماته المكرّسة،من العبث المجدي والتحرّش الخلاّق.

 

———————

*_المقابل الفرنسي لبعض المصطلحات المفاتيح الواردة في هذا المقال:

-عقلنة-rationalisation

-عقلانية-rationalisme

-تبرير عقلاني-justification rationnelle

-عاقلية-raisonnabilité

-تصنيف-classement

-إستقراء-dénombrement

-تعليل-raisonnement

-قياس الشبه-raisonnement par analogie

-الاستدلال بالشاهد على الغائب – inférence du présent sur l’absent

**_لم يأتِ ورود هذين المثلين(الزواج والطلاق) فقط لغاية معرفية(إيبستمولوجية) إنما أيضا من باب الاشارة إلى ثقافة “الفراش” في أرض العرب والمسلمين،فأنواع العلاقات الجنسية في الجاهلية وما استقرت عليه في الاسلام،ترسم واقعا تاريخيا ثريّاً لهذه الثقافة.

*_الاستحسان:استبدال الحكم على واقعة بحكم آخر استحسنه الفقيه نتيجة دليل خفي انقدح في ذهنه(المذهب الحنفي).

**_الاستصلاحء:الحكم على الوقائع المستجدة التي لا حكم بشأنها في الأصول(قرآن،سنة…)انطلاقا من المصلحة(المذهب المالكي).

١-راجع:العقل والعقلانية،إعداد محمد سبيلا و عبد السلام بنعبد العلي،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء٢٠٠٧

٢-راجع:الشوكاني،محمد بن علي،نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار،ج٦.د.ت.

٣-راجع:جواد علي،المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام،ط٤،دار الساقي،٢٠٠١.

٤-راجع:بدران أبو العينين بدران،أصول الفقه،دار المعارف القاهرة١٩٦٥.

ه-شرف الدين عبد العظيم،تاريخ التشريع الاسلامي،الخرطوم١٩٧٢.

٦-راجع:محمد سلام مدكور،المدخل للفقه الاسلامي،دار النهضة العربية،القاهرة١٩٦٦.

٧-محمد محمود فرغلي،النسخ بين الإثبات والنفي،(جزآن في مجلّد واحد)،الجزء الأول،القاهرة،دار الكتاب الجامعي١٩٧٦.

٨-راجع محمد مدكور،مرجع سابق.ص١٥

٩- راجع:محمد مدكور،م.س.ص٣٢٠-٣٢١

١٠-راجع:وليد الخوري،حرية التفكير:سلطة العائق المعرفي،أعمال المؤتمر الفلسفي الدولي…منشورات مركز علوم الانسان،جبيل٢٠١٥.

١١-راجع:كولسون،ن.ج.،في تاريخ التشريع الاسلامي،ترجمة محمد أحمد سراج،المؤسسة الجامعية للنشر،بيروت١٩٩٢.

١٢-راجع:فخر الدين الرازي،مناقب الامام الشافعي،حققه أحمد حجازي السقا،مكتبة الكليات الأزهرية١٩٨٦؛ابن ألي حاتم الرازي،آداب الشافعي ومناقبه،دار الكتب العلمية،بيروت٢٠٠٣.

١٣-الشافعي،الرسالة،تحقيق أحمد شاكر،١٣٠٩هـ ص٥٠٧.

١٤-راجع:أرابيكا،ج١، ١٩٥٤، ص٣٦٠

١٥-راجع:أبو حامد الغزالي،المستصفى في علم الأصول…:فريد جبر،حدّ العقل،مجلة الفكر العربي،عدد٤٢

١٦-راجع:محمد عابد الجابري،نحن والتراث:قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي،مركز دراسات الوحدة العربيةط٣، ٢٠٢٠؛محمد أركون،الفكرالاسلامي:قراءة علمية،المركز الثقافي العربي،١٩٩٦

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete