إشكالية الدين والدولة الحديثة – 12

التنظير للدولة في الإسلام الوسيط - 3 الكتابات الفلسفية: كيف اشتغل المثير اليوناني ؟

-1-

موضوع هذه المقالة هو الفلسفة السياسية في كتابات الفارابي وابن رشد. الأول هو الذي افتتح هذا النوع من الكتابة في الشرق الإسلامي عند القرن الرابع، والثاني يمثلها في مرحلة النضج المتأخرة في الغرب عند نهاية القرن السادس. كيف تأثرت هذه الكتابات بالفكر السياسي اليوناني؟ وكيف أثرت بدورها في الثقافة السياسية، التي كانت تتشكل في المحيط الإسلامي تحت هيمنة “الفقه”.

بالطبع، كانت النظرية السياسية قد تكونت في بنيتها الأساسية تقريباً على يد الفقه قبل الفارابي المتوفى سنة 339 هـ، وكانت قد اكتملت تماماً في نسختها المدرسية قبل ابن رشد المتوفى سنة 595هـ . ولذلك فالسؤال المطروح هنا ليس عن دور للفلسفة في بناء النظرية – فهذا الدور كان حكراً على الفقه بأدواته النقلية المباشرة وطابعة الحرفي المتوجس من التفكير العقلي – السؤال يتعلق بتمثل الفلسفة الإسلامية، أعنى بمستوى استجابتها للمثير السياسي اليوناني من جهة، وبأدائها النقدي حيال النظرية من جهة ثانية :

1 – هل أدى بها هذا المثير إلى انغماس حقيقي في التفكير الفلسفي، وإنتاج نظرية كلية حول فكرة ” الدولة في ذاتها”، أو نظرية كلية خاصة بالدولة الإسلامية ” بما أن الفلسفة هي، بشكل ما ، تعقل كلى لأجزاء الواقع ؟

2 – هل أدى بها هذا المثير إلى الوقوف على الطابع الأوتوقراطي الفج للنظرية في نسختها السنية ، والطابع الثيوقراطي الفح في النظرية الشيعية، ومن ثم إدراك ” ظاهرة الاستبداد” الكامنة في النظريتين، وتعقلها كفعل فلسفي، بوصفها ظاهرة سلبية مناقضة للعقل وهو أساس الفلسفة ، ومنافية للحرية وهو شرط الفلسفة ؟

3- أم أن هذا التساؤل من جانبنا الآن ينطوي على إسقاط تعسفي لمفاهيم الحداثة السياسية على نسق ثقافي اجتماعي ينتمى إلى العصور الوسطى حيث لم تكن الأوتوقراطية أو الثيوقراطية تمثل مشكلة كبرى في الوعى العام ؟

-2-

أي مثير يوناني؟

حضرت الفلسفة اليونانية في البداية عبر مصادر فارسية وسريانية مسيحية، وكما سيظهر من كتابات الفارابي وابن رشد ومجمل الترجمات المبكرة، كان الفكر السياسي اليوناني الذي استجلب إلى الساحة الإسلامية هو حصراً فكر أفلاطون وأرسطو. ومعنى ذلك أن التواصل مع هذا الفكر تم من خلال جانبه المعادي للديموقراطية، أو الأكثر تأييداً للحكم الفردي. لم يتصل الفكر الإسلامي في هذه المرحلة بشكل مباشر بالتيار الديموقراطي اليوناني كما عبرت عنه مثلاً تشريعات صولون، أو أفكار بروتاجوراس، وأنطيفون، أو كتابات ثوسيديدس، وفلطرخس. (هل كان ذلك مجرد مصادفة نظرية، أم كان فعلاً ثقافياً، ينطوي على           “انتقائية” مضمرة، قد تكون لا واعية، لكنها تعكس حقيقة التوافق في المزاج السياسي العام.). كان أفلاطون قد وجه سهام النقد في محاورة ” الجمهورية” إلى فكرة الديموقراطية بوصفها صيغة حكم “جماعي” غير منضبطة، وتؤدى بالضرورة إلى الفوضى ومن ثم الاستبداد. ورغم أنه عاد في محاورتي ” السياسي” و ” القوانين” فتكلم عن صيغة صالحة من الديموقراطية بشرط خضوعها لحكم القانون والمعرفة الصحيحة، إلا أنه ظل يضع هذه الصيغة في المرتبة الثالثة أي قبل الأخيرة في ترتيب الحكومات، بعد الحكومة الملكية و هي حكومة ” الفرد” العادل، والحكومة الأرستقراطية وهي حكومة “القلة الخيرة” (انظر أفلاطون، القوانين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986 ، ص 84 ).

تبنى أرسطو سلم الترتيب الذي وضعه أفلاطون ، ووجه بدوره  سهام النقد إلى ديموقراطية أثينا البريكلية لأنها كانت تقدم سلطة الشعب على سلطة القوانين من خلال التصويت على تغييرها باستمرار، مما حول “الجمهور” إلى طاغية مؤلف من “كثرة” ديماجوجية تنحصر مهمتها في تملق الشعب وتحريضه. وانتهى أرسطو إلى تحبيذ الحكومة الأرستقراطية أو حكومة القلة التي يقودها ملك أخلاقي ومتميز عقلياً.

في الفكر السياسي الحديث، سيصنف أفلاطون وأرسطو كمفكرين رجعيين: فيهما بحسب ” كارل بوبر” من “المعارضين الأوائل للمجتمع المفتوح” الذين روجوا لأفكار سياسية “مضادة للعقل والحرية”

The open Society and its enemies, London, 1968 Vol. I. p. 17))

ويتكلم ” جورج سارتون ” عن خيانة أفلاطون الكبرى، في “الجمهورية” لمبادئ أستاذه سقراط ولقيم أثينا التي تأسس مثلها الأعلى على الاعتقاد الراسخ بوجود فارق بين الخضوع لسلطة القانون والخضوع لإرادة مخلوق آخر من البشر مهما كان متفرداً بالحكمة”      ( سارتون ، تاريخ العلم ، الترجمة العربية، دار المعارف، القاهرة 1970 ، ط 2 ، ج 3 ، ص 32). أما “جورج سباين” ،فيعتقد أن أفلاطون قدم في محاورة القوانين “أول دفاع عقلي عن الاضطهاد الديني في تاريخ الفلسفة” عندما حضَّ على سن قانون يلزم الدولة بمحاربة الإلحاد وتوقيع عقوبة الإعدام على الملحدين. (سباين، تطور الفكر السياسي، الكتاب الأول، الترجمة العربية، دار المعارف، القاهرة، 1974 ، ط 4 ، ص 106).

-3-

ومع ذلك، يصعب اختزال الفكر السياسي الأفلاطون وأرسطو في ترويج الحكم الفردي. فأفلاطون في النهاية يقبل بحكومة ديموقراطية مشروطة وأرسطو يشير إلى حكومة قانونية وسط بين الأرستقراطية والديموقراطية. وربما ساد هذا الانطباع بعد الانتشار الواسع لمحاورة “الجمهورية ” وهي المحاورة الأكثر حضوراً في طرح الفارابي، والمحاورة الوحيدة التي تناولها ابن رشد في كتابه “تلخيص السياسة”.       الجانب الأقل أوتوقراطية يظهر لدى أفلاطون في محاورتي السياسي والقوانين، ولدى أرسطو في كتاب الأخلاق وكتاب السياسة الذي تطرق فيه لمفهوم الفصل بين السلطات. ومن المفترض أن الفارابي وابن رشد قد اتصلا بهذا الجانب، حيث لخص الأول محاورة “القوانين” أو “نواميس أفلاطون “، ولخص الثاني كتاب الأخلاق، لأرسطو. ومع ذلك ظلت أطروحات المفكرين الإسلاميين تدور أساساً على محاورة الجمهورية، الأكثر تناسباً مع سياقات الواقع السياسي وصياغات النظرية.

في الحد الأدنى، كانت كتابات أفلاطون وأرسطو تجلب إلى مسامع الفكر السياسي الإسلامي مفاهيم ومصطلحات من تراث الديموقراطية الأثينية مثل مفهوم ” المؤسسات” المفارقة لشخص الحاكم الفرد كالجمعية العامة أو المؤتمر الشعبي، ومجلس الخمسمئة، ومحكمة الشعب ، وفكرة التصويت، ومفهوم الفصل بين السلطات، فضلاً عن مبدأي الحرية والمساواة بمدلولها السياسي. وفوق ذلك كل ما جلبته هذه الكتابات على مستوى المنهج، منهج تناول الموضوع السياسي بآليات عقلية برهانية، أوسع من آلية الفقه اللغوية بطابعها الحرفي، وحتى من آليات الكلام المذهبية ذات الطابع الجدلي. لكن حضور هذه المفاهيم والمصطلحات لم يؤد إلى خلق استثارة حقيقية داخل الفكر “الفلسفي” الإسلامي، ولم تدفع به إلى تطوير صياغة نظرية ممكنة لفكرة “الشورى”، أو تقديم أطروحة نقدية شاملة حيال ظاهرة “الاستبداد الثيوقراطي” المقنن في نظرية السلطة بشقيها السني والشيعي. هل كان بإمكان الفكر الفلسفي الإسلامي – في سياقه الثقافي الاجتماعي- تحقيق مثل هذا الإنجاز المزدوج؟

سنختبر هذه الفرضية في كتابات الفارابي وابن رشد.

-4-

الفارابي

لم يكتف الفارابي بالتعليق على أفلاطون واسقاط مصطلحاته على تاريخ الدولة الإسلامية كما سيفعل ابن رشد لاحقاً في تلخيص السياسة، بل أصدر مؤلفات مستقلة، وقدم مادة سياسية نظرية تحمل نوعاً من النقد المبطن لنظام الخلافة “السني”.

أسفر الفارابي بوضوح عن نزعته الأفلاطونية، واصطنع نموذجاً خاصاً لمدينة مثالية يشبه كثيراً مدينة أفلاطون الفاضلة، لكنه مطعم ببعض المفاهيم “الدينية” ومسحة من الأفلاطونية المحدثة (الأسبق حضوراً إلى المنطقة من أفلاطون الأصلي): مثلما عند أفلاطون تقوم المدينة / الدولة على الرئيس الذي يجب أن يكون فيلسوفاً، أو – وهنا تظهر إضافة الفارابي – نبياً أو إماماً (بالمفهوم الشيعي كما سيضح من نصوصه بعد قليل) .

أكد الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة على مركزية الرئيس وسموه بالنسبة إلى الدولة فشبهه بالقلب بالنسبة إلى الجسم الحي، فالمدينة الفاضلة “تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان وعلى حفظها عليه ، وكما أن البدن أعضاء مختلفة متفاضله الفطرة والقوى وفيها عضو واحد رئيس هو القلب، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس ، وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها ابتغاءً لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس، وأعضاء أخرى فيها قوى تفعل أفعالها على حسب أغراض هذه التي ليس بينها وبين الرئيس واسطة، ثم هكذا إلى أن تنتهي إلى أعضاء تخدم ولا ترأس أصلاً ، فكذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة متفاضلة الهيئات ، وفيها إنسان هو رئيس، وآخر يقرب مرتبة من الرئيس، وفي كل واحد منها هيئة و ملكة يفعل بها فعلاً يقتضى به ما هو مقصود ذلك الرئيس… ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى أخر يفعلون على حسب أغراضهم فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون ويكونون في أدنى المراتب.” (آراء أهل المدينة الفاضلة تحقيق البير نصری ، بیروت 1959، ص151-155).

وفي “تحصيل السعادة” يجعل الفارابي الرئيس بالنسبة إلى الدولة کالسبب الأول بالنسبة إلى الكون: ” فإن السبب الأول نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة تلك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها، فإن البريئة من المادة          ( يقصد الأجزاء غير المادية ) تقرب من الأول، ودونها الأجسام السماوية، ودون الأجسام السماوية الأجسام الهيولانية، وكل هذه تحتذى حذو السبب الأول وتقتفيه .. وكذلك تبتغى أن تكون المدينة الفاضلة، فإن أجزاءها كلها ينبغي أن تحتذى بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب”. ( تحصيل السعادة ، تحقيق جعفر آل ياسين، بیروت ، ط2، 1983 ،ص 64،63 ).

في هذين النصين يبدو وكأن الدولة توجد لتحقيق أغراض الحاكم وليس الحاكم يوجد لتحقيق أغراض الدولة، وهو معنى لا يظهر في جمهورية أفلاطون، الذي استخدم آلية أخرى للتأكيد على أهمية وضرورة الرئيس بالنسبة إلى المدينة ، وهى تشبيهه بـ ” النفس العاقلة” بالنسبة إلى القوى الأخرى المرتبطة بها ( الغضبية والشهوية ) .

-5-

في مدينة أفلاطون يجب أن يكون الرئيس الفيلسوف مفطوراً على الحكمة مستعداً للمعرفة النظرية، وكذلك الحاكم في مدينة الفارابي “الدينية”: ” ليس يمكن أن يكون أي إنسان اتفق، لأن الرئاسة إنما تقوم بشيئين، أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معداً لها، والثاني بالملكة والإرادة.. ولا يصلح لرئاسة المدينة الفاضلة إلا من بلغ عقله المنفعل وبلغت قوته المتخيلة أقصى درجات الكمال. و بلوغ العقل المنفعل أقصى درجات الكمال يكون بامتزاجه بالعقل الفعال امتزاجاً يجعله يستحيل إلى عقل ويفيض عليه بالمعقولات كلها فيصبح حكيماً وفيلسوفاً ومتعقلًاً على التمام، وبلوغ قوته المتخيلة أقصى درجات الكمال يكون بتذكرها المعقولات والمثل التي سبق أن أدركتها النفس من عالمها الأول قبل أن تتصل بالأجسام تذكراً يفيض عليها به العقل الفعال عن طريق الإشراق فيكشف بذلك الحجاب عن صاحبها ويصبح في مرتبة الأنبياء المصطفين” ( آراء أهل المدينة الفاضلة ، السابق ).

بحسب هذا النص يلزم في الحاكم أن يكون متصلاً “بالعقل الفعال” إما عن طريق العقل المنفعل وهو الفيلسوف ، أو عن طريق “المخيلة” وهو النبي أو الإمام المعصوم، وهو لا يأتي باختيار الناس بل بطبيعة الفطرة أو بفيض من الله ، ولذلك أيضاً يكون الرئيس رئيساً ولو لم يحكم “فالملك أو الإمام هو بماهيته وبصناعته ملك وإمام ، سواء وجد من يقبل منه أو لم يجد، أطيع أو لم يطع ، وجد قوماً يعاونونه على غرضه أو لم يجد” (تحصيل السعادة ، السابق ، ص 97).

في هذا النص الأخير يكاد الفارابي يكشف عن توجهاته الشيعية: فالإمامة فطرية، ولا تثبت بالاختيار، وهي مستحقة لصاحبها و لو رفضها “المحكومون” أو اغتصبها غيره من “الحكام” ، وهي صورة مطابقة لصورة الإمام في المفهوم الشيعي الإمامي ، من حيث هي إمامة مفترضة مقابلة لإمامة الواقع السنية التي تقوم على التغلب .

طور الفارابي فكرة أفلاطون عن الحاكم الفيلسوف لتشمل الإمام المفطور، فكلاهما قادر على إدراك الحكمة عن طريق الاتصال بالعقل الفعال واجب الوجود، الأول عن طريق العقل النظري والثاني عن طريق المخيلة والفيض، ومن هنا ينتهي الفارابي إلى أن “معنى الفيلسوف والرئيس الأول، وواضع النواميس، والإمام معنى، واحد.. فمعنى الإمام في لغة العرب إنما يدل على من يؤتم به ويتقبل، وهو إما المتقبل كماله أو المتقبل غرضه، فإن لم يكن متقبلاً بجميع الأفعال والفضائل والصناعات التي هي غير متناهية لم يكن متقبلاً على الإطلاق”.( تحصيل السعادة ، ص 93 ) .

ولذلك، فسلطة الرئيس أو الإمام هي بطبيعتها سلطة مطلقة أو يجب أن تكون مطلقة، لأنها لا تكون سلطة على الحقيقة ما لم تكن كذلك: ” فاسم الملك يدل على السلطة والاقتدار. والاقتدار التام هو أن يكون أعظم الاقتدارات قوة، وأن لا يكون اقتداراً على الشيء بالأشياء الخارجة عنه فقط ، بل بما يكون في ذاته من عظم المقدرة بأن تكون صناعته     وماهيته وفضيلته عظيمة القوة جداً، وليس يمكن ذلك إلا بعظم قوة الفكرة وعظم قوة الفضيلة والصناعة” (تحصيل السعادة ، السابق )

كان أفلاطون في “الجمهورية” ، قد منح “الرئيس / الفيلسوف “سلطة شبه مطلقة اعتماداً على معرفته الطبيعية الصحيحة المفترضة ، ثم عاد في” القوانين ، فقيد هذه السلطة تقييداً نسبياً بحكم القانون.

لكن سلطة الحاكم عند أفلاطون ظلت، على كل حال، سلطة مدنية علمانية لا تقوم على الحق الإلهي.

أما الفارابي، فبعد أن جعل ” الرئيس / الإمام ” بالنسبة إلى الدولة كالمبدأ الأول واجب الوجود بالنسبة إلى العالم، جعل سلطة الإمام تقوم على معرفة إشراقية صادرة عن الفيض الإلهي. الأمر الذي ينقل المسألة إلى أجواء ” ثيوقراطية، فجة، بعيدة عنه مقدمات أفلاطون وأرسطو.

وهكذا يمكن القول بأن كتابات الفارابي السياسية لم تسهم فقط في تكريس حالة الحكم المطلق السائدة في الواقع والنظرية، بل أيضا في تكريس الفكرة الثيوقراطية الغامضة تحت غطاء فلسفي.

وفي واقع الأمر، كان النقد المضمر في طرح الفارابي موجهاً إلى نظرية الخلافة السنة بالذات، أي كان مذهبيًا، ولم تقدم كتاباته اختراقاً حقيقياً للمشكل السياسي الإسلامي العالم.

-6-

ابن رشد

لم يطرح ابن رشد نظرية شاملة في الدولة ولا في الحكومة الإسلامية. واكتفى بعرض آرائه السياسية حول التاريخ الإسلامي والحقبة الأندلسية المعاصر لها، من خلال تعليقاته على أفلاطون وأرسطو. بالدرجة الأولى، كان ابن رشد أرسطي المزاج والتكوين العقلي، واستطاع بسهولة توطين أرسطو في دائرة الكلام الإسلامي من خلال كتابه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال” لكنه استطاع أيضا تكييف أفلاطون مع ظاهرة الحكم الإسلامي من خلال كتابه ” تلخيص السياسة ” المعروف بكتاب الجمهورية، أعنى أنه استطاع شرح هذه الظاهرة عبر مراحل تطورها بمصطلحات أفلاطون ومفاهيمه السياسية التي شرعها في محاورة الجمهورية.

كان الفارابي قد سبق إلى استحضار أفلاطون السياسي وشرحه في كتبه ” آراء أهل المدينة الفاضلة” و “تحصيل السعادة” و” السياسة المدنية” ووظف فكرته عن المدينة الفاضلة التي يرأسها فيلسوف لتطوير رؤية، دينية – لمدينة فاضلة “عالمية” يرأسها إمام مفطور، لكن ابن رشد كما يقرأ أفكار أفلاطون بروح أرسطيه ، أعنى أكثر عمليه، واتجه إلى تطبيقها بشكل مباشر على أبنية الواقع السياسي القائمة .

والأهم أنه استخدم المنهجية اليونانية بطابعها الأرسطي الوضعاني في تفسير التاريخ السياسي الإسلامي وتحولاته المختلفة من حكومة الراشدين في القرن الأول حتى حكومات الطوائف الأندلسية في القرن السادس. وهي منهجية غريبة على ثقافة التفكير الديني الفقهي التي لا تزال سائدة، ولا تزال تقرأ التاريخ بمصطلحات الكلام التقليدية الموروثة، وقد ألمح ابن رشد نفسه إلى هذا المعنى في ” تلخيص السياسة” فأشار إلى أن العديد من الذين يتمسكون بالسنن والشرائع الدينية تنقصهم …. هذه الحكايات ..”

-7-

استخدم ابن رشد ترتيب أفلاطون لأنظمة الحكم وفكرته عن تحول المدن/ الدول من المدينة الفاضلة، إلى مدينة المجد والشرف ( التيماركية) إلى مدينة الثراء والغنى ( الأوليجاركية ) ، إلى المدينة الجماعية ( الديموقراطيه ) إلى المدينة الاستبدادية التي ترد في نهاية الترتيب كنقيض كامل للمدينة الفاضلة) في تفسير تطور نظام الحكم في تاريخ الإسلام عموماً وفي الأندلس بوجه خاص :

يشرح ابن رشد، “وإنك لتدرك مما يقوله أفلاطون عن كيفية تحول الحكم الفاضل إلى حكم المجد والشرف، وتحول الرجل الفاضل إلى رجل المجد والشرف. وهو أمر يشبه ما حدث للعرب في أول عهدهم حيث اعتادوا على النزوع إلى الحكم الفاضل حتى جاء معاوية فتحول حكمهم إلى حكم قائم على المجد والشرف، وهو ما يشبه الحكم القائم الآن في جزيرتنا”. ( تلخيص السياسة، ترجمة حسن العبيدي وفاطمة الذهبي ، بيروت 2002 ، ص 198).

بحسب هذا النص، دولة الخلفاء الراشدين عند ابن رشد تقابل المدينة الفاضلة عند أفلاطون، والفلسفة أو الحكمة التي تسبغ على مدينته وصف الفاضلة يقابلها الشرع الذي قامت عليه الدولة الأولى، أما دولة معاوية فتقابل الدولة التيماركية التي تقوم على المجد والشرف لأجل ذاته ولأجل السمعة والجاه، على خلاف المدينة الفاضلة ، التي لا يعتبر الشرف فيها غاية بحد ذاته، وانما مرتبط بالفضيلة ( تلخيص السياسة، ص 179).

وطبق ابن رشد هذه المقابلة على دولة المرابطين التي أسسها يوسف ابن تاشفين سنة 500 هـ وسقطت على يد الموحدين سنة 539هـ

“حيث أنهم في عهد أول ملوكهم كان دستورهم قائماً على الشرع ، لكنهم فيما بعد تبدلوا في عهد ابنه إلى دستور المجد والشرف وقد ما زجته الرغبة في المال، وحدث مع مجيئ الحفيد أن تحولوا إلى دستور قائم على اللذة وما يتعلق بها من الأشياء اللذية والترف فتفسخ حكمهم وهلكوا. ويعود أمر هلاكهم إلى قيام دستور معارض لهم في زمانهم، وهو دستور قائم على الشرع” ( تلخيص السياسة ، ص 203 ) .

في مقدمة ترجمته الانجليزية “لتلخيص السياسة ” يشير إرفين روزنتال إلى أن تطبيق ابن رشد لمفاهيم أفلاطون على تاريخ الدولة الإسلامية ” نابع من إقرار ابن رشد بان الفكر السياسي اليوناني ملائم للفكر السياسي العربي وممارسته كذلك” ( ترجمة كامبردج1956).

في واقع الأمر، كان الشق السياسي من أفلاطون خصوصاً في “الجمهورية”(المحاورة الوحيدة التي عرضها ابن رشد في تلخيص السياسة) هو الشق الأكثر تلاؤماً مع السياق الإسلامي لأنه الشق الأكثر    أوتوقراطية، أعنى أن ابن رشد اتصل بالفكر السياسي اليوناني من جانبه المناسب لحكومات الخلافة الوراثية ذات الطابع الفردي المتدثرة مع ذلك بغطاء شكلي ينتسب إلى الشريعة. وقد اتسمت محاورة الجمهورية بنزعة تجريدية نظرية مما يسهل تعدية مقولاتها خارج التجربة اليونانية.

لكن ذلك لا يعنى أن ابن رشد كان يعتقد بالتطابق الكامل بين الفكر السياسي اليوناني والفكر السياسي الإسلامي، أو يروج لفكرة سمو الشريعة على المثل الأعلى الأفلاطوني، وهذا ما تنبه له المفكر الألماني ليو شتراوس الذي اعتبر في كتابه “الفلسفة والشريعة” أن ابن رشد وسائر الفلاسفة الإسلاميين كالفارابي وابن سينا اعتبروا النظام السياسي الذي أتى به أفلاطون في الجمهورية والقوانين النظام السياسي الفلسفي الأمثل الذي يمكنهم من استيعاب الإسلام فلسفياً”.

ويؤكد رالف لرنر في ترجمته الانجليزية الأحدث لتلخيص السياسة (1974) على هذا المعنى نافيًا أن يكون ابن رشد قد اعترف بتفوق الشريعة على المثل الأعلى الأفلاطوني ، أو أن يكون قد كيف الجمهورية مع الإسلام تكييفاً كاملاً ، كل ما هنالك أنه كان يقدم لقرائه أمثلة من التاريخ الإسلامي معروفة لديهم لشرح فكرة أفلاطون .

بما هو فيلسوف ذو نزعة أرسطية ، كان ابن رشد يفكر من خارج النسق الديني السائد والخاضع لهيمنة الفقه ، لكنه ظل محكوماً في النهاية بالحدود التي يفرضها هذا النسق . ورغم انغماسه المباشر في المثير اليوناني، وقربه من ميدان السياسة العملية ، عجز أو امتنع عن تقديم أطروحة نقدية متكاملة كانت تستحقها النظرية السياسية.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete