إشكالية الدين والدولة الحديثة – 14

نقد نظرية الخلافة - 2 آليات إسناد السلطة

-1-

أي عملية نقدية تعنى أننا نحاكم النظرية إلى قيم معيارية معينة فهل سنحاكمها إلى قيم الحداثة السياسية السائدة ؟ بالنسبة لي ، هذا طبيعي تماماً لسببين : الأول هو أننا لا نستطيع تجاهل أو تجنب هذه القيم بوصفها جزءاً من ثقافتنا اللاوعية على الأقل ، والثاني هو أن هذه النظرية لا تزال تطرح نفسها على لسان الأصوليات الإسلامية كنظام سياسي ملزم ، و صالح للتطبيق عبر العالم في ظروف الواقع المعاصر. لكننا بالطبع سنحاكم النظرية – أيضا – إلى قيمها المرجعية الخاصة التي يفترض أنها دينية أخلاقية، أي مثالية مطلقة، وخيرة في ذاتها. وفي الحالتين سنقف أمام سياقات تشكلها التاريخية والإقليمية التي تنتمى إلى ثقافة العصر الوسيط العربي.

-2-

ناقشت سابقاً كيف أن نظرية الخلافة جرى تشكيلها بواسطة الفقه لا عن تأمل نظري ، ولا تطبيقاً لنص قرآني، بل ترجمة لحركة الواقع السياسي بعد وفاة النبي ، أعنى ترجمة لتداعيات الصراع على السلطة بين الحكومة المتغلبة وفرق المعارضة التي خرجت عليها، ولذلك لم تظهر النظرية دفعة واحدة ، بل ظلت تتطور وفقاً للتحولات المتتالية في شكل الدولة وعلاقاتها بالقوى السياسية المناوئة.

بدأ التنظير للخلافة قبل منتصف القرن الثاني في إطار الجدل الكلامي مع الطرح الشيعي الإمامى وحركة الخوارج المسلحة، لكنه سيستدعي بأثر رجعي حوادث الصراع السياسي منذ السقيفة كي يعيد تفسيرها وأحيانًا تركيبها على ضوء الوقائع الجديدة ، ولما يقرب من قرنين تاليين ظلت النظرية تتمدد بحيث استطاعت في النهاية أن تحتوي جميع صور الدولة المفروضة بقوة الأمر الواقع :

تاريخياً ، يمكن الحديث عن ثلاث دول “سنية ” متعاقبة بثلاثة أشكال للسلطة : دولة الخلفاء “الراشدين” التي نتجت عن السقيفة ، والدولة الملكية التي انبثقت من “الفتنة الكبرى” ودولة التفويض السلطانية التي أنشأها البويهيون في القرن الرابع . هذه الأشكال الثلاثة ستظهر تباعاً في النظرية بوصفها صوراً “مشروعة” للحكم، رغم التناقض الصريح بينها على مستوى الأهداف والبنية السياسية :

بالتأسيس على الدولة الأولى ، سيظهر في النظرية مبدأ “الاختيار” كآلية رسمية لإسناد السلطة من خلال “أهل الحل والعقد” ، أو من خلال “الاستخلاف” أي التعيين بالعهد. وذلك في مقابل المبدأ الشيعي الذى ينكر شرعية الاختيار البشرى للحاكم ، ويقول بالتعيين الإلهي أو الوصية الثابتة بالنص. كما ستظهر فكرة القرشية كشرط لازم لصحة ولاية الخليفة، وهي الفكرة التي ستصبح من المبادئ الأساسية في النظرية بعد تحويلها من مفهوم سياسي. “واقعي” ظهر في سياق الرد على مطالبة الأنصار بالسلطة عند السقيفة ، إلى “نص” نبوي صار مطلوبًا – الآن – لدفع مطامع الحميريين والخوارج في الخلافة.

وبالتأسيس على الدولة الثانية ، ستضيف النظرية مبدأ القبول بـ ” ولاية المتغلب” كآلية مشروعة لإسناد السلطة. وسيظهر مفهوم ” السمع والطاعة” ، ومفهوم ” الخروج ” ومفهوم ” البغي” وهي المفاهيم التي ستوظف في تكريس السلطة المطلقة للحاكم الفرد ،و تحريم فعل المعارضة ولو كانت سلمية. ومع الدولة الأخيرة ، سيتم إقرار النمط السلطاني أو حكومة التفويض التي ظهرت في العصر العباسي الثاني ، كتقنين جديد لولاية المتغلب غير القرشي، الذى يرغم الخليفة على تفويض الحكم له مع بقاء سلطته الإسمية. وهو تطور ينطوي على خرق مضاعف من قبل النظرية لمبدأ الاختيار ولمبدأ القرشية معًا.

في المراحل الثلاث استطاعت النظرية تقديم التغطية الشرعية اللازمة باستخدام أدوات الفقه التقنية، والاعتماد خصوصاً على روايات “الحديث ” التي صارت متوفرة على نطاق واسع بوصفها “سنة” نبوية صادرة عن الوحي. فمنذ بداية التنظير وحتى القرن الرابع، ظلت قنوات الاتصال مفتوحة بين الفقه والرواية، وظهرت النتائج الفادحة لهذا التداخل في عملية “التنصيص” التي حولت المفاهيم السياسية والآراء الكلامية إلى ” نصوص” دينية ملزمة.

-3-

أهل الحل والعقد

في كتابه “الأحكام السلطانية” يشير الماوردي إلى وسيلتين أصليتين لاسناد السلطة في الإسلام: “الإمامة تنعقد من وجهين أحدهما باختيار أهل العقد والحل، والثاني بعهد الإمام من قبل ” (ص 33). وفي كتابه “الأحكام السلطانية” أيضا، يكرر الفقيه الحنبلي أبو يعلى نص الماوردي لكنه يضيف إليه وسيلة ثالثة هي التغلب بالقوة: “وروى عنه ( يقصد أحمد بن حنبل ) ما دل على أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد . فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه أميراً للمؤمنين برأ كان أو فاجراً. قال أيضا في رواية أبى الحرث ، في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم : تكون الجمعة مع من غلب ، واحتج بأن عبد الله بن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة وقال نحن مع من غلب ( ص (33) .

نظرياً، يتفق الفقه السنى على أن الآلية الأصلية لإسناد السلطة هي الاختيار ببيعة أهل الحل والعقد ، وهذا هو مفهوم الشورى في المصطلح الفقهي ، ويأتي الاستخلاف في المرتبة الثانية ، وباستثناء الحنابلة تقريباً، لا يدرج الفقهاء السنيون واقعة ” التغلب” ضمن الوسائل الرسمية ، لانعقاد الإمامة ، لا لأنهم ينكرون مشروعية السلطة المكتسبة بالتغلب، بل على اعتبار أنها حالة من حالات الضرورة التي تفرض نفسها بقوة الأمر الواقع، وتؤخذ على علاتها دفعاً للفتنة. والمعنى أنهم يضفون عليها نوعاً من ومشروعية الواقع، مقابل المشروعية النظرية للشورى.

على أرض الواقع تحولت حالة الضرورة إلى وضعية قارة دائمة، وبامتداد مراحل التنظير، لم يعرف تاريخ الإسلام السياسي انتقال السلطة باختيار أهل الحل والعقد على الوجه المقرر في الفقه، حيث ظلت السلطة تنتقل بإحدى الوسيلتين: القهر والغلبة، أو ولاية العهد الوراثية. ولا يستثنى من ذلك فترة الخلفاء الراشدين بما فيها خلافة أبي بكر. فرغم أن الفقه السني يشير إلى هذه الفترة كنموذج مثالي لحكومة الشورى التي نشأت بالاختيار، إلا أنها لم تسلم من الشكوك التي تثار حول اكتمال البيعة من قبل أهل الحل والعقد.

لا أشير هنا إلى مطاعن الشيعة التي تصل إلى حد الاتهام بالمؤامرة من قبل أبي بكر وعمر لسلب حق على في الولاية فحسب، بل إلى الشكوك التي تنطوي عليها المرويات السنية نفسها، والتي مفادها أن “بيعة أبى بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها وهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن خضير، وبشير بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة “( الماوردي الأحكام السلطانية ، ص 33 ، 34 ) ، وبحسب البخاري ومسلم وصف عمر هذه البيعة بأنها ” كانت فلتة ، إلا أن الله وقى شرها ….

وإن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة، وتخلفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة ” (انظر الطبري أحداث سنة 11. و السيوطي، تاريخ الخلفاء، 77، 78، وانظر أيضا الرواية الواردة عند ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ”  ص 19 ، على لسان العباس والتي تشير إلى التفاف بنى هاشم وجمع من الصحابة حول علي، وإلى تأخرهم في بيعة أبى بكر ثم أدائهم لها كارهين إن لم يكونوا مكرهين”.

-4-

حيال مثل هذه الروايات، ذهب الفقه السني في مجمله إلى عدم استلزام الإجماع على الخليفة من قبل أهل الحل والعقد، بل ولم يشترط أن تصدر البيعة عن غالبيتهم؛ يشرح الماوردي: “قالت طائفة : لا تنعقد الإمامة إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد ليكون الرضاء به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع بيعة أبي بكر – رضى الله عنه – على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر بيعته قدوم غائب عنها. وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد بهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالاً بأمرين: أحدهما أن بيعة أبى بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها. والثاني أن عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين. وقالت طائفة أخرى تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلى – رضوان الله عليهما – أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليه اثنان، ولأنه حكم وحكم الواحد نافذ”. (الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 33، 34 ) .

في هذا النص يعود الفقه فيفرغ مفهوم الشورى من مضمونه الحقيقي فجماعة الحل والعقد التي ينحصر فيها مبدأ الشورى، تنحصر بدورها في عدد محدود من الأفراد يتراوح بين خمسة وثلاثة (لهم حيثية دينية)، ويجوز تمثيلها بفرد واحد. الإمامة هنا “حكم” فرعى من الأحكام الفقهية قابل للقياس على عقد النكاح، ويجرى تأسيه على حجية غير نصية ليست محل اتفاق وهى حجية أفعال بعض الصحابة، يبدو الفقه بأدواته التقليدية “نظرياً” ومنفصلاً عن الواقع السياسي القائم ، الذي لم يعد يعتمد مبدأ الحل والعقد بمعناه الديني الفقهي ( النخبة ذات الحيثية الدينية )، والذى لا يحفل أصلاً بالأقيسة الفقهية، وبشكل واضح تبدو المسألة كما يطرحها الفقه، بعيدة عن أبنية الواقع السياسي المعاصر.

-5-

نظرية الشوكة: كل حكومة شرعية

كان على الفقه السني إعادة تأسيس مبدأ الاختيار، وتقديم دفاع جديد عن شرعية خلافة أبى بكر وبقية الراشدين، وفي سياق الجدل مع الكلام الشيعي سيطرح ابن تيمية قراءة مختلفة للروايات السنية التي تبنى هذه الخلافة على بيعة عدد محدود من الصحابة، وسينتهي إلى تقديم نظرية خاصة به حول مفهوم ” الشرعية” التي تنعقد للحاكم بوجه عام. لكنه كعادته السلفية سينسب آراءه النظرية الخاصة إلى “أئمة السنة” وهي عبارة تنصرف غالبا إلى أحمد بن حنبل.

يرفض ابن تيمية القول بأن إمامة أبي بكر تمت بمبايعة عمر ورضا أربعة، فهذا زعم من مزاعم “الرافضة”: ” ليس هذا قول أئمة السنة وإن كان بعض أهل الكلام يقول: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعه ، كما قال بعضهم تنعقد بيعة اثنين، وقال بعضهم تنعقد ببيعة واحد. فليست هذه أقوال أئمة السنة، بل إن الإمامة تثبت عندهم بموافقة أهل “الشوكة عليها”

وفي كتابه “منهاج السنة النبوية” يشرح ابن تيمية مفهومه عن الشوكة: ” لا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة بالسلطان صار إماماً. ولهذا قال أئمة أهل السنة: من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة ، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضى موافقة غيرهم بحيث يصير ملكاً بذلك، وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه ولهذا لما بويع على رضى الله عنه وصار معه شوكة صار إماماً .. القدرة على سياسة الناس تحصل إما بطاعتهم له وإما بقهره لهم ، فمتى صار قادراً على سياستهم بطاعتهم أو بقهره فهو ذو سلطان مطاع إذا أمر بطاعة الله ، والإمام متى صار إماماً فذلك بمبايعة أهل القدرة له ، وكذلك عمر صار إماماً لما بايعوه ، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماماً سواء كان ذلك جائزاً أو غير جائز ، فالحل والحرمة متعلق بالأفعال ، وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر وامتنع سائر الصحابة لم يصر إماماً بذلك ، وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة. ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية.

فمن قال: إنه يصير إماماً بموافقة واحد أو اثنين أو أربعه ليسوا هم ذوى القدرة والشوكة فقد غلط ، كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين أو العشرة يضر فقد غلط ” ( منهاج السنة النبوية ،ج12)

 

معيار الاعتراف بسلطة الحاكم إذن هو ” القدرة على سياسة الناس” حيث تتحقق بها غاية الحكم، وهى تتوفر بالطاعة : إما اختياراً و إما جبراً بالقهر، ولذلك فإن شرعية الاختيار من أهل الحل والعقد تؤسس بدورها على المعيار ذاته، أي على ما تؤدى إليه من قدرة للحاكم على سياسة الناس. ومعنى ذلك أن مجرد البيعة من أهل الحل والعقد لا تكفي بذاتها لانعقاد إمامة الحاكم ما لم تمكنه على الحقيقة من الشوكة والقدرة، وبالتالي فإن حصول هذه البيعة في الواقع ليس شرطاً لازماً في الإمامة طالما كان من الجائز عقدها لمن غلب بالسيف بغير بيعة ولا رضا، وهذا في التحليل الأخير هو مضمون مذهب أحمد.

وفقاً لهذا التصوير: الحاكم هو من يقدر على الحكم، أي من يستولى على السلطة، ومن ثم فإن كل حكومة شرعية. نحن أمام نمط صريح من البرجماتية التي ترتب الحكم على نتائجه، وتمنح الشرعية لمن حصل عليها بالفعل.

(عملياً، هذا هو إكراه الواقع، الذي يفرض سلطته دائما فوق سلطة الفكر، حتى ولو كان فقهاً متذرعاً بنص ديني، وخصوصاً في منطقة الدولة. لكن النص الذى يجرى تجاوزه، يظل حاضراً داخل الوعي الديني، محتفظاً بسلطته النظرية وملوحاً بالإثم والحرمة).

يظهر هذا المعنى في طرح ابن تيمية وهو يفرق بين “السلطة في ذاتها” و “السلطة الشرعية” بالمعنى الديني “فالحل والحرمة متعلق بالأفعال، أما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة”،

“التي قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين”، فكأنه يفصل بين حكومة شرعية في ذاتها لقيامها على طاعة الله، وحكومة شرعية بحكم الواقع لقيامها على القهر “فمتى صار قادراً على سياستهم بطاعتهم أو بقهره فهو ذو سلطان مطاع إذا أمر بطاعة الله”. هذه العبارة الأخيرة تفيد أن طاعة حكومة الواقع مشروطة بتوافقها مع أمر الله. وهو شرط لا معنى له، لأن قبول “القهر” ليس أمراً بطاعة الله ، ويظهر السؤال: لماذا يكون على المحكومين أن يطيعوا الحاكم بقبول قهره لهم على السلطة ، ثم لا يطيعونه إذا أمر بمعصية أخرى لاحقة على استيلائه قهراً على السلطة ؟

واقعياً، كانت تأصيلات ابن تيمية مجرد شرح لرؤية أحمد التي تقر بشرعية التغلب ، وتفرغ شرط البيعة باختيار أهل الحل والعقد من مضمونه. كان كلاهما محكوماً بواقع القهر الذي فرضته السلطة وبدا وكأنه لا نهاية له، و محكوماً بالغرض الدفاعي في مواجهة الشيعة الإمامية التي كانت تطعن في شرعية نظام الخلافة السنية من جهة، وتسبغ على قادتها من أهل البيت وصف “الأئمة ” رغم أنهم لا يملكون السلطة، من جهة ثانية، في جوهرها كانت نظرية الشوكة محاولة للجمع بين مبدأ الاختيار بأهل الحل والعقد، ومبدأ الإقرار بولاية المتغلب، ما يعنى تثبيت شرعية الخلفاء السنة ونفى ولاية الأئمة الشيعة، حيث الإمامة لا تثبت إلا لمن يملك السلطة بالفعل.

-6-

التأصيل الفقهي

يشرح الماوردي عملية تنصيب الإمام من قبل أهل الحل والعقد على النحو التالي : “إذا اجتمع أهل الحل والعقد تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته. فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه ، فإن أجاب بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة ، فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته ، وإن امتنع عن الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار. ”           ( الأحكام السلطانية ، ص (35).

من خلال هذه الصورة المثالية البعيدة عن الواقع، يكيف الفقه عملية تنصيب الإمام من قبل أهل الحل والعقد بوصفها         ” عقد مراضاة واختيار”. الفقه هنا لا يتكلم عن نوع من العقد         “الاجتماعي” بالمعنى الذي سيطرقه هوبز ولوك ورسو بغرض طرح تأصيل سياسي عقلي لمشروعية الحكم ، بل يشير إلى عقد ” قانوني ” بالمعنى الفقهي الضيق مثل عقود البيع والنكاح ، للعقد طرفان هما المرشح للإمامة وجماعة الحل والعقد. وفيما يجيز الفقه للحاكم المتغلب أن يجبر أهل الحل والعقد وكامل الأمة على الإذعان لسلطة السيف، يهتم بنفي حصول الإجبار على الإمام إذا امتنع عن الإمامة.

من الواضح غياب الشعب أو جمهور الناس الذي يمارس عليه الإمام سلطته، والذى يجب عليه الدخول في بيعة أهل الحل والعقد .

الجمهور هنا هو محل العقد أو موضوعه، وموقعه من عقد الإمامة كموقع المرأة من عقد الزواج، الذي ينعقد بين الزوج وولى الزوجة فعند التنازع على الإمامة – يشرح الماوردي – يجب عقدها ” لأسبقهما بيعة وعقداً كالوليين في نكاح المرأة إذا زوجاها باثنين كان النكاح لأسبقهما عقداً “. (الماوردي، الأحكام السلطانية ، ص 38 . وانظر أبو يعلى ، الأحكام السلطانية ، ص 35) .

في خضم الجدل الشيعي السني تتوافق النظريتان على تغييب الجمهور. خلافاً للشيعة، يقر الفقه السنى بمبدأ الاختيار ” البشرى” للحاكم، لكنه يرفض إشراك الجمهور في عملية الاختيار لأن ذلك ” يؤدى إلى إهمال فرض الإمامة ” (انظر القاضي عبد الجبار ، المغنى ، الإمامة، ص 230 وما بعدها ) . وفى كتاب نصيحة الملوك ” ينصح الماوردي الملك

” ألا يسلط الرعية والعامة بعضها على بعض ، ولا يجعل في المملكة آمراً غيره وغير خلفائه، فإنه لا أحد آلم ظفراً ولا أسوأ رعاية ولا أجفى مقدرة من العامي إذا نال رئاسة أو ولى ولاية”.

-7-

بحسب النظرية “إذا بايع أهل الحل والعقد رجلاً صار إماماً .. ولزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته “. لكن النظرية لم تناقش الأساس الذي ينبني عليه هذا الالتزام : ما الذي يجعل بيعة أهل الحل والعقد ملزمة للأمة ؟ هل جماعة الحل والعقد طرف أصيل في العملية، أم وكيل عن الأمة ؟

في القرن الثامن عشر سيتساءل جان جاك رسو : “إذا لم يكن هناك اتفاق سابق ( يشير إلى عقد اجتماعي مفترض بين جميع أفراد  الشعب) فمن أين يكون – في حالة عدم الإجماع – الإلزام بالنسبة للعدد الصغير على الخضوع للعدد الأكبر ؟ . ومن أين مصدر الحق لمائة شخص يريدون سيداً في التصويت نيابة عن عشرة لا يريدون سيداً قط” ( العقد الاجتماعي ، الترجمة العربية ، دار العلم بيروت ، ص 47).

بوجه عام، لا يحفل الفقه بطرح تأصيل اجتماعي سياسي للأحكام، بل فقط بتقديمها كتكاليف مسندة إلى الشريعة . تعترف النظرية بغياب النص السمعي، ولذلك اكتفت بالاستناد إلى الإجماع في تأسيس مسألة اختيار الحاكم برمتها. وفى هذا السياق نفهم إغفال الفقه مناقشة المصدر الحقيقي لمبدأ أهل الحل والعقد وهو تقاليد القبيلة العربية، التي فرضت نفسها كمرجعية طبيعية مباشرة – منذ السقيفة – للكيان السياسي البسيط الذي سيصبح الدولة الإسلامية، وفيه كان الأداء السياسي للخليفة الأول يشبه أداء شيخ كبير لقبيلة كبيرة.

كانت الشورى عرفاً من أعراف الثقافة القبلية، ومارستها القبائل في اختيار رؤسائها خصوصاً عند عدم وجود وريث للرئيس أو عند التنافس على الرئاسة، وينصرف معنى الشورى على وجه التحديد إلى أهل الحل والعقد، أي أعيان النخبة من شيوخ القبيلة وكبرائها دون غيرهم من سواد الناس وجمهور القبيلة، وفي كتب التفسير عن الضحاك في آية “وأمرهم شورى بينهم” أنها نزلت وصفاً للأوس والخزرج قبل الإسلام كانوا إذا أرادوا أمراً قبل قدوم النبي اجتمعوا وتشاور ثم عملوا عليه، فأثنى الله عليهم بذلك “.

كان من الطبيعي أن تنتقل صيغة البيعة من الثقافة السياسية السابقة على الإسلام إلى الثقافة السياسية اللاحقة على ظهوره، لأن الحامل الاجتماعي ظل واحداً في الثقافتين، وهو النظام القبلي، الذي يقوم على الانتماء للقبيلة والعشيرة والبطن، حيث المجتمع السياسي لا يتكون من أفراد، بل من هذه الحواضن الاجتماعية التي تمثل الفرد وتنوب عنه.

وبالطبع، وضع الإسلام بصمته على مبدأ أهل الحل والعقد. ففي المرحلة المبكرة التي استغرقها عصر الخلفاء الراشدين، تحول تكوين هيئة الحل والعقد، حيث صارت صحبة الرسول وأسبقية الدخول في الإسلام أهم الاعتبارات التي ينبني عليها الانضمام إلى صفوف النخبة، وأصبح مصطلح الصحابة يشير إلى نوع من ” الأرستقراطية ” الدينية والسياسية، ظلت نواتها الرئيسية من المهاجرين والأنصار.

لم يتغير جوهر المبدأ الذى ينطوي على تغييب دور الجمهور ، فقط تغيرت أسباب الوجاهة التي تؤهل لموقع الصدارة ، فصارت دينية اجتماعية بعد أن كانت اجتماعية بحتة بالمعنى القبلي التقليدي.

لاحقاً، مع الفتنة الكبرى ، حيث ستبدأ إرهاصات الدولة  الطبيعية، ستبدأ الاعتبارات الدينية من التراجع تدريجياً أمام اعتبارات السياسة ومؤهلاتها العملية : في مقابل الستة الشورى على وطلحة والزبير وعثمان وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، الذين تكونت منهم هيئة الحل والعقد عند وفاة عمر، ستظهر على مسرح الأحداث أسماء من صحابة الصف الثاني أو الثالث مثل معاوية ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وابن أبي سرح ومروان بن الحكم كلاعبين نشطاء في الحل والعقد.

ومع التحول إلى النظام الملكي (الأموي / العباس) ستظل الحاجة قائمة لاستخدام نفوذ شيوخ وزعماء القبائل ، لكن ذلك كان يتم في إطار التبعية والخضوع لسلطة الحاكم وليس من منطلق الانتماء لهيئة لها حق الشورى وإبداء الرأي، وفى النهاية سيظهر مفهوم البطانة أو الحاشية أو بلاط القصر.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete