في الهرمنيوطيقا الإسلامية: الجزء الثالث…حول إشكالية التراث

تكوين

-1-

انتهت الهرمنيوطيقا المعاصرة إلى أن المعنى يتولد من الموقف التفسيري، فهو ليس شيئاً موضوعياً كامنًا في جوف النص يقوم المفسر باستخراجه، بل هو شيء ينتج عندما تبدأ عملية التأويل ومن خلالها، وبالتالي يظل المعنى، في جميع الأحوال، مرتبطًا بسياقات المؤول، أي بسياقات المؤلف التي ترجع إلى الماضي. بحسب جادامير، تتعلق المسألة بفهم النص وليس فهم مؤلفه، والمعنى ينتج عن التقاء أفق التأويل (الراهن) بأفق النص ( المبكر) الذي هو أوسع من المؤلف. ومن هنا تظهر الوظيفة الأهم للهرمنيوطيقا: رفع التوتر الناجم عن المسافة الزمنية بين لحظة النص ولحظة التأويل، بغرض الوصول إلى الفهم، فهمنا نحن الآن للنص.

التأويل هنا ليس مجرد كاشف للمعنى، بل يؤدى دوراً إنشائياً في عملية إنتاجه. لكن سياقات التأويل الحاضرة – كما يطرحها جادامير ليست منفصلة تماماً عن سياقات النص في الماضي، لأن هذا الماضي حاضر فينا على الدوام من خلال “التراث”. فالتراث هو ثقافتنا الراهنة المستمدة من الماضي، أو هو الجزء الماضوي من ثقافتنا الراهنة، وبناء على ذلك لا يمكن تجاوز “ذاتية” المؤول وأحكامه السبقية جريًا وراء “موضوعية” متوهمة في قلب النص. الفهم الموضوعي ليس الفهم الذي يستبعد الأحكام السبقية – فهذا الاستبعاد غير ممكن أصلاً – بل هو الفهم الذي يأتي من الجمع بينها وبين الأفق الدلالي الأول للنص.

توجهات الحداثة

-2-

هذا الطرح الهرمنيوطيقى يتجاوز توجهات “الحداثة” الكلاسيكية التي تتوجس إجمالاً من فكرة ” الماضي “، وتنظر إلى التراث، والتراث الديني خصوصاً، بوصفه تركة قمعية، تضغط على العقل وتعطل حركة التطور. ومن هذه الزاوية تظهر الهرمنيوطيقا لا كمجرد أداة لفهم النص، بل كأداة نقدية لكشف “الزيف”، الذي قد ينطوي عليه النص. هدف التأويل لم يعد هو الفهم، بل نقد الفهم. لأن في جوف الفهم تكمن حمولات أيديولوجية” مضمرة، تسربت بالتراكم الطويل إلى بنية “اللغة” ذاتها، ويمكن لها أن تتخلل نسق التفكير الكلى، الذى يوجه رؤيتنا للعالم، ويشكل “الأفق” الدلالي الذي يتحدث عنه جادامير. اللغة ليست تلك الآلية البريئة المحايدة التي يمكن الوثوق بها لإنجاز المعنى الحقيقي:

في الفكر الماركسي – الذي صدر عن مناخات الحداثة الكلاسيكية – تتستر هذه الحمولات على المعنى الحقيقي المضمر في النص الديني : فهذا النص الذي يبدو في ظاهره معنياً بسمو الروح وخلاص الإنسان وتثبيت القيم العليا، يقوم في الواقع بوظيفة التعتيم على الأوضاع غير الإنسانية للعمل البشرى، وتبرير البؤس لجعله أكثر احتمالاً، أي يستخدم كـ “أفيون للشعوب”. الوعى – كما يؤكد ماركس – “لا يحدد الحياة، بل الحياة تحدد الوعي”، والتراث هو الوعي السائد في المجتمع كما كرسته “الطبقة المهيمنة ” التي صنعت النص أو تلك التي تفرض مجاله التأويلي.

وبالنسبة إلى “نيتشه” – الذي شرع في تجاوز الحداثة- تلعب الحمولات الأيديولوجية في النص التراثي / الديني دوراً “تضليلياً” أبعد من تزييف الوعى الطبقي: ثمة تزييف للوعى الإنساني العام. فهي تغطي على المعنى الفعلي للفضيلة، وتحجب الأصل الأنثروبولوجي البشري لمنظومة الأخلاق. هذه المنظومة ليست شيئًا أكثر من تقاليد الذل والخنوع التي فرضت على الضعفاء بقهر الأقوياء عبر التاريخ، والتي قننها الكهنوت الديني تحت إسم الشفقة والمودة والتسامح والرحمة، كي تجعل الحياة أكثر احتمالاً لدى الجمهور. فكرة “الروح المحض والخير في ذاته”، التي ستؤصلها المثالية الأفلاطونية في إطار نظري موسع، هي بحسب نيتشه ” الأضلولة الأكثر خطراً والأطول عمراً في تاريخ الفكر”.

وبحسب نيتشه – أيضا – كرس التراث الديني أضلولة أخرى لا تقل خطراً عن مقولة “الخير” هي مقولة “الحقيقة” التي جرى فرضها على الفكر بجميع مستوياته (بما في ذلك الفلسفة، وحتى العلم) بوصفها كينونة مرجعية عليا لا يحتاج وجودها إلى تبرير من خارجها، أي كمعنى واحد مفارق مجهز “للمطابقة”، الأمر الذي ثبت فرضية الاتجاه الأحادي للفهم (ليس ثمة إلا معنى واحد للنص، وغرض الفهم هو الوصول إليه). وهكذا يظل الفهم محكوماً بخلفية الأصلين الزائفين: إرادة القوة أو مطابقة الحقيقة.

-3-

تأويلية هابرماس

التراث والأيديولوجيا واللغة

قدم هابرماس في “نظرية الفعل التواصلي” رؤية تأويلية مناقضة لطرح جادامير الذي ينفى إمكانية التخلص من التراث، وهي رؤية تلتقي مع الأفكار المبكرة للحداثة “التنويرية”. ينتمي هابرماس إلى مدرسة فرانكفورت ذات الخلفية الماركسية، ورغم تجاوزه المتكرر لتقاليد الحداثة الكلاسيكية، لا يمكن حسابه على التيار ما بعد الحداثي سواء على المستوى المنهجي أو الموضوعي، بل يمكن تقديمه مثل كارل بوبر، كنموذج معاصر للانقلاب المضاد، أعني لانقلاب الحداثة من جديد على أفكار ما بعد الحداثة. لا يسلم هابرماس بفكرة الخضوع الحتمي لسلطة التراث التي يكرسها طرح جادامير وهيدجر؛ فالتراث ليس قدراً طبيعياً يتعذر تجنبه، بل يستطيع الوعى من خلال الحاسة النقدية أن يفصل نفسه عن مكوناته الداخلية، وأن يمارس حيال مادة التراث نوعاً من التصفية أو الانتقاء الموضوعي، يستبعد العناصر السلبية والقمعية خصوصاً، لكي يتوافق مع حاجاته الراهنة.

يمكن للوعي مستعيناً بالهرمنيوطيقا النقدية – أن يقف على الخلفية الاجتماعية التاريخية الكامنة خلف النص، والتي تخفي مغالطة أيديولوجية. وهذه هي وظيفة البراجماطيقا العامة، أو التداولية Pragmatics، التي تدرس العلامات اللغوية في “الكلام” أي في الاستخدام العملي الدارج للغة، وليس في بنائها النظري كما اعتادت الدراسات التأويلية، وهي تستطيع تعقب أخفى التحريفات الأيديولوجية التي تتسرب إلى نسيج اللغة.

شاهد أيضاً: التراث وكيفية وجوب التعامل معه

بحسب هابرماس، يلزمنا الانعتاق من سلطة التراث، فهو يحتوى بالضرورة على تحريفات أيديولوجية، وكثير من الزيف والتعمية والقمع. وهو إلى ذلك، ليس شيئًا ثابتاً موصولاً، بل يتعرض دائما للتمزق والانقطاع بفعل ممارسة التعقل.

هاجم ها برماس فكرة جادامير / هيدجر حول عبثية التخلص من الأفكار السبقية التي يفرضها التراث، فهذه الأفكار تضع قيوداً على حركة العقل، وإخضاعها للتمحيص النقدي ليس أمراً ممكنًا فحسب، بل واجب أيضًا. يبدو هابرماس وكأنه يقلل من أهمية النزعة الذاتية، ويستعيد “للموضوعية” شيئًا من موقعها داخل الهرمنيوطيها المعاصرة.

-4-

وفقاً لهابرماس، اللغة بناء أيديولوجي مليء بالزيف والخرافة والاستلاب. والحال كذلك فإن فهم اللغة لا جدوى منه ما لم يتم تمحيص الأيديولوجيا المختبئة فيها. لا أهمية كبري للفهم من خلال اللغة، ومن المتيقن أن “المبادرة السياسية بتصحيح الموقف أهم بكثير من مجرد تفسير الألفاظ. والحاصل أن تشويهات اللغة لا تأتى من استعمال المفردات، بل من ارتباطها بالعمل والسلطة، وهو ارتباط يظل أعضاء المجتمع غافلين عنه أو غير متفطنين إليه، المسألة إذن تنطوي على “تشويه منظم للفهم”، وليس مجرد، سوء فهم “.

في تعقيبه على فكرة جادامير حول التقاء أفق النص وأفق المؤول لإنتاج المعنى، يلاحظ هابرماس أن هذا الالتقاء لن يؤدى إلى المعنى الحقيقي ما لم يتم تمحيص الأيديولوجيا داخل اللغة: فالمحتمل أن لعبة الفهم والتفسير الجارية يمكن أن تشوهها القوى الأيديولوجية المسيطرة والعنيفة والفاسدة، وهي قد تكون دقيقة ومضمرة بحيث لا يشعر بها اللاعبون أنفسهم.

يتوافق ها برماس و جادامير حول ضرورة ” الحوار” كوسيلة للتواصل، وعلى أنه يجب أن يجرى من خلال تفاعل متبادل بين قوى “حرة” لكنه يعتبر أن هذه الحرية مهددة من أساسها. فعندما يصاب الحوار بعدوى الأيديولوجيا، تنهار حريته ويصبح الاتفاق الذي ينتج عنه زائفًا. الأيديولوجيا تستطيع أن تنفذ إلى نظرة العالم، وتتخلل الأفق (الذي يوجه تفكيرنا وطرق فهمنا) و بإمكانها التسرب أصلاً إلى نسيج اللغة ذاتها. وهكذا تصبح اللغة، وهي الآلية اللازمة للحوار، وسيطاً حاملاً للعدوى.

التأويل يعنى ممارسة لعبة اللغة، ومن ثم ممارسة التحريف الحقيقي، والسيطرة والعنف، ولكي تستطيع الهرمنيوطيقا الوصول إلى المعنى الحقيقي عليها أن تشتغل من خارج اللعبة، أي على المؤول أن يقف في موقع الملاحظ الخارجي المفارق، كي يتمكن من تشخيص العمليات الشريرة التي ترتكبها الأيديولوجيا واللغة. وهي بحسب هابرماس تستطيع أن تؤدى هذه المهمة باستخدام آليتين منهجيتين: 1- التحليل النفسي الفرويدي، 2 – والتحليل النقدي الماركسي.

التراث الإسلامي

-5-

إسلاميا، لا تفهم المسألة على هذا النحو، ولا تناقش في هذا الإطار، بل من خلال شبكة مفاهيمية مختلفة تماماً على مستوى المنهج والموضوع: فالتراث ليس مجرد ثقافة زمنية موروثة تحكم تفكيرنا في النص، بل هو النص. وهو بحكم مصدره الإلهي معطى ثابت غير قابل للانزياح أصلاً وغير جائز التحول. وهو -أيضا- بحكم مصدره الإلهي، لا يقبل التحمل بالمضامين المزيفة التي يفرزها الاجتماع، الأمر الذي ينطبق على اللغة بوصفها مادة “توقيفية” ترجع بدورها إلى المصدر الإلهي ذاته.

في هذا السياق يلعب “المفهوم” الموروث للنص في التصور الإسلامي دوراً فاعلاً في عملية التأويل: وفقاً لهذا المفهوم النص معطى نهائي مفارق قادم من خارج الاجتماع، ولم يشكل بفعل الظروف التاريخية البيئية السائدة في مراحل التأسيس، وهو حتى لم يتأثر جزئياً لدى تشكله بهذه الظروف. ولذلك فهو مطلق، أي ثابت مؤبد في الزمن، وينطوي على معنى واحد ملزم ومقصود من قبل الإرادة الإلهية. وهو كذلك في جميع أجزائه بما في ذلك الشق التشريعي، بغض النظر عن تناقض هذا المعنى مع قوانين الاجتماع الطبيعي التي تفرض التطور والتنوع، وتنفي الثبات والحصرية.

في العقل الديني الكتابي عموماً، حيث يرتبط النص بحقبة التأسيس، يظل “الماضي” حاضراً في كل الحقب اللاحقة لا بوصفه إطاراً تاريخياً للدين، بل كجزء من بنية الدين ذاته. ورغم أن العقل الإسلامي النظري يسلم أحيانا بوجود فارق بين الشريعة والفقه، وبين العقيدة والكلام، أي بين النص والمدونة الاجتهادية التي تشكلت حوله، يصعب عملياً فصل النص عن المدونة التفسيرية الفقهية بأدواتها الكلامية والأصولية، التي تشكلت في عصر التدوين، والتي تنطوي على أيديولوجيا تاريخية مخبأة. أدت عملية التدوين إلى تداخل عضوي مؤكد بين الفقه وحركة التحديث التي كانت تجرى على قدم وساق، وأسفرت عن “تنصيص” جزء من مادة المدونة ( أي تحويل جزء من الفقه إلى أحاديث مرفوعة ). كما أدت إلى تثبيت سلطة المدونة كشارح حصري ملزم للنص الأصلي. أي خلقت سلطة الفقهاء كوسيط کهنوتي مهيمن على النص.

في الوعي الإسلامي لا يحضر الماضي كتعبير عن حنين عاطفي للعصر الأول فحسب، بل كسلطة معرفية مفروضة على جميع الأجيال. ظهرت هذه السلطة مبكراً على يد أهل الحديث، وجرى تكريسها بشكل منظم عبر تنظيرات الشافعي والأشعري في أصول الفقه وعلم الكلام. قدم الشافعي في كتابية “الرسالة” و “الأم” تأصيلاً وافيًا لسلطة التراث الماضي من خلال تقنين الاجماع والقياس كمصدرين رسميين للتشريع  (مصدرية الإجماع تعنى إلزام كل جيل برؤية الأجيال السابقة، ومصدرية القياس تعنى الزام جميع الأجيال بحدود النص الأول )

إقرأ أيضاً: العدالة في الفكر السياسي العربي الإسلامي؛ بين التراث وقُرّائه

يلخص الشافي المسألة كالآتي: ” لم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله” (الرسالة، ص 508). الماضي هنا بصريح لفظه هو جهة العلم الوحيدة في الإسلام، فلا يحل لجيل أن يحكم أو يفتي أو يفكر لنفسه إلا بالاستناد إلى حكم الأجيال الثلاثة الأولى، أو بوجه عام إلى حكم جيل سابق عليه، ويؤكد الشافعي هذا التنصيب الصريح للماضي في كتابه الأم : “لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكماً أو مفتياً أن يحكم ولا أن يفتى إلا من جهة خبر لازم” ( ص 298 ) والخبر اللازم كما يشرح الشافع هو “الإجماع والآثار وما وصفت من القياس”

عبارة الشافعي “إلا من جهة علم مضى قبله” توجه مباشرة إلى منع الحاضر أي الواقع في كل حين أن يحكم نفسه حتى إذا ما أصبح هذا الحاضر ماضياً أي تراثاً، كان له أن يحكم العصر اللاحق عليه. هذا الطرح يلخص جوهر السلفية العقلية كطريقة في التفكير وفي ممارسة التدين. الماضي هنا ليس محض النص، ولا حتى إجماع الصحابة فحسب، بل كذلك الآثار أي أقاويل الصحابة والتابعين. يشرح الشافعي: ” المحدثات من الأمور ضربان؛ أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهذه البدعة الضلالة”.

في أي مقاربة تأويلية للنص ستحضر هذه الرؤية التي تحتم المرور على “فهم السلف” وهي الرؤية التي تحولت إلى جزء غير مرئى من الوعي الديني السائد، وتشتغل على نحو لا شعوري حتى بالنسبة إلى التيارات التأويلية الأكثر تحرراً، أعنى أن أي تدين كتابي ينطوي بالضرورة على درجة من درجات السلفية، وحتي الموقف النقدي من فكرة “فهم السلف “يخرج مشرباً بشيء من فهم السلف، طالما ظل ينطلق من تحت سقف النص.

هل التراث هو المشكل؟

الشيخ أحمد الطيب التراث

مناقشة للآراء شيخ الأزهر

-6-

فيما يلي سأناقش رؤية الشيخ أحمد الطيب حول مسألة التراث، كنموذج لنمط التفكير الإسلامي المعاصر، المأزوم بحالة البؤس الحضاري المزمنة وضغوط المواجهة مع الحداثة. يقدم الشيخ رؤيته في كتاب صدر سنة 2016 تحت عنوان ” التراث والتجديد… مناقشات وردود” وهو عبارة عن تعليق موسع على كتاب حسن حنفي “التراث والتجديد”: الذي يروج من خلاله لعملية تغيير ثقافي واسعة تتجاوز آليات التراث الديني الموروثة من عصر التدوين.

يقرر الطيب – ببساطة – أن التراث ليس المشكل بل هو الطريق الوحيد لحل المشكل، ف “التراث بثوابته ومتغيراته يعود اليوم ليمثل شرطاً ضرورياً لنهضة العرب والمسلمين، نهضة تحاكي أنموذجها الحضاري”. ويشرح رؤيته في عدد من النقاط على النحو الآتي:

” أولًا: ثمة فرق بين التجديد والتغيير، الأول حفاظ على الأصول وإضافة إليها، ونفض لما يتراكم عليها من غبار يحجبها عن الأنظار، والثاني هدم وبدء من فراغ يتم تحت أي اسم إلا اسم التجديد، اللهم إلا إذا كان القصد هو تغييب الوعي أو خداع الجماهير”

يحمل هذا النص خصائص “العقل الفقهي”، التقليدي التي تتسم بالخطابية، وإهمال الواقع، وتجاهل السؤال الرئيسي الذي يمثل صلب الموضوع، فهذا السؤال كما صار يطرحه الوعي الحداثي في مواجهة الفكر الإسلامي، لم يعد يتعلق بتفاصيل السردية الفقهية فحسب، بل يمتد إلى مفاهيم أولية واردة في صلب النصوص. المطروح للنقاش الآن في العملية التجديدية هو هذه ” الأصول” ذاتها، وبالتالي فالاحتجاج بفكرة “الحفاظ على الأصول ” لنفى مشروعية التجديد هو احتجاج بمحل النزاع ومصادرة على المطلوب.

السؤال المحوري الراهن ينبش النقاش حول وجود تناقض جوهري بين أصول الدين كما تطرحها المدونة السلفية، وقوانين الاجتماع الطبيعي كما يفهمها الوعي الإنساني المعاصر؛ الأولى تقول بالحصرية والثبات، والثانية تقول بالتعددية والتطور. وهو السؤال الذي يجرى تجاهله بإصرار من قبل العقل الفقهي، الغارق حتى الآن في مشاغله النظرية ومنهجياته الكلامية القديمة المنحدرة من صراع الخوارج والشيعة وأهل السنة، وجدل المعتزلة والأشاعرة والأحناف والحنابلة، وهو لا يزال يتوجس من الاحتكاك بمناهج البحث العلمي، ونتائج الدراسات الإنسانية الحديثة في الاجتماع والأنثروبولوجيا، والأركيولوجيا، والتاريخ، وعلم النفس، واللسانيات فضلاً عن الفلسفة ومقارنة الأديان، بوصفها مناهج مستحدثة صادرة عن الغرب، أي عن معسكر الخصوم، وتمثل من ثم خطراً يهدد الدين الذي يختزل هوية الأمة.

بحسب فهم الشيخ، يجب على النهضة أن ” تحاكي أنموذجها الحضاري” أي تقلد تراثها القديم. والمعنى أن ثمة نموذج حضاري واحد ثابت ولصيق بهوية الأمة. وهو معنى تقليدي موروث من ثقافة التدين الكتابي ذات الطابع الحصري المؤبد، لكنه صار بدوره – عرضة لإشعاع السؤال الحداثي المطروح بموجاته المتعددة :

هل التراث في ذاته مفهوم أحادي ثابت لا يقبل التعددية والتطور؟ هل الهوية معطى نهائي مغلق لا يرد عليه التغير؟ إلى أي مدى يمكن الحديث الآن عن ” أمة” بالمعنى الديني السياسي (العابر للأقطار) في ظل النموذج السائد للدولة الوطنية ؟ وعلى سبيل المثال، إلى أي مدى يمكن الحديث عن تحول كلاني شامل في هوية الأمة المصرية بعد الغزو العربي الإسلامي؟ وإلى أي مدى كشف الانتقال إلى نموذج الدولة المدنية عن أصالة العناصر الوطنية القديمة ؟ هل يستغرق التراث الإسلامي بنية الثقافة المصرية الراهنة، أم يمثل جزءاً من بنية ثقافية متعددة، ذات روافد ماضوية أقدم؟ وهل تعود هذه الروافد الآن لمساءلة التراث الإسلامي عن مشروعية حضوره في القرن السابع، بوصفه تغييراً – تم عن طريق الغزو – لهوية الأمة ونموذجها الحضاري ؟

-7-

يواصل الطيب:

ثانياً: التراث والتجديد ينتهي بنا في التحليل الأخير إلى المتاهات الآتية:- 1- اعتبار الإسلام معطى تاريخيا، وواقعة حضارية حدثت في التاريخ، يهمنا منه ما نشأ بوصفه حضارة وليس مصدره من أين أتى ؟ تهمنا حضارته بعد حدوثه بالفعل، وتجديد التراث ليس هو البحث عن النشأة بل عن التطور. 2- البداية العملية للتغيير تعنى البدء بالواقع واعتباره المصدر الأول والأخير لكل فكرة…. ”

يعتبر الشيخ أن مناقشة الإسلام ” كمعطى تاريخي وواقعة حضارية ” أي كظاهرة اجتماعية نشأت داخل العالم، إخضاعه لمنهجية البحث العلمي التي تنطلق من نقاط بدء محسوسة في الواقع، هو من قبيل الدخول في “متاهات”، يلزم تجنبها.

وهو يكشف هنا عن التوجس المعتاد في الوعي الفقي من مغادرة حدوده الجدلية الموروثة ذات الطابع المذهبي، ومقاربة الأسئلة الجديدة التي تعيد فتح النقاش حول علاقة الدين بسياقاته التاريخية البيئية، سواء في مرحلة التأسيس المبكرة أو مرحلة التأويل الحاضرة.

بشكل اعتيادي، ينزع العقل الديني (الكتابي عمومًا) إلى تغييب الواقع البشرى لحساب الحضور الإلهي المطلق في بنية الظاهرة الدينية، فهو يكاد ينكر أي بعد اجتماعي في الديانة، خلافًا للعقل الوضعي العلمي، الذي ينظر إلى الدين كظاهرة اجتماعية خالصة مصنوعة بكاملها داخل العالم. لكن – كما ناقشت سابقاً في كتابي “اللاهوت” – “سواء نظرنا من زاوية العقل الأول فأثبتنا للمطلق وجوداً عينياً خارج الذات والعالم، أو من زاوية العقل الثاني الذي يتعامل مع المطلق كموجود افتراضي لا وجود له خارج ذهن الديانة، يلزم الإقرار بأننا لا نعرف المطلق إلا داخل العالم ، أي أنه لا يتجلى إلا من خلال التمثل في الاجتماع (” بحسب السوسيولوجيا الوضعية ، التعاطي مع المطلق هو تعاط مع فكرة مجردة، لا تدخل في نطاق التجربة الحسية ، وبالتالي تخرج عن اختصاصها المحكوم بموضوعه وأدواته المنهجية. ومع ذلك فكرة المطلق تظل هناك. أعنى تظل ماثلة في الواقع حين نفهم الذات، والعقل، والوعى على أنها من مفردات الواقع” انظر، اللاهوت، أنثروبولوجيا التوحيد الكتابي ، 2019 ، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الفصل الأول ، ص17) .

والمعنى أنه حتى مع الإقرار بفكرة الوحى، يصعب إنكار حضور الاجتماع في بنية الديانة وفى صلب النص، بما أن الإنسان هو موضوع الدين ومجاله من ناحية، وهو الذات التي تتلقى الدين وتمارسه من ناحية ثانية، أي أن الدين في جميع الأحوال معطى تاريخي وظاهرة اجتماعية. وهذا معنى ضروري يظهر بوجه خاص عندما يجرى تناول الدين بما هو تراث.

-8-

“ثالثًا: لا ننكر أننا بحاجة إلى التجديد، بل مشكلتنا الأم هي غيبة التجديد؛ لكن شريطة الوضوح والفصل بين مجال الثوابت ومجال المتغيرات، والتفرقة الحاسمة بين أصول الدين وتراث أصول الدين.”.

في هذا المقطع تظهر خلفية الشيخ الأشعرية ذات الطابع التوفيقي: فهو يعترف بوجود مشكلة تحتاج إلى تجديد، بل ويكونها المشكلة الأم، لكنه يسارع فيتحفظ بشأن حدود التجديد المسموح. وهو موقف مختلف نسبياً عن موقف التيارات السلفية القح (التي ترفض الإقرار بقابلية التراث للتجديد، حيث المشكل لا يتمثل في عجز التراث عن مواكبة الواقع المتطور، بل في انحراف الواقع عن خط التراث). لكنه في الوقت نفسه لا يتطابق مع موقف التيارات الحداثية (التي تطلب مساحة تجديد أوسع مما يسمح به مجال الثوابت كما يطرحها الوعى الديني السائد) من وجهة نظر سلفية يبدو الموقف الأشعري متساهلاً أو منبطحاً، فيما يبدو قاصراً من وجهة النظر الحداثية، عملياً – وكما ناقشت سابقا – يحدث التجديد بشكل تلقائي عندما تصل حركة التطور الاجتماعي إلى حد التناقض الجذري مع النظام التراثي. لكن طالما كانت حركة التطور دون هذا الحد، ويبقى عملية التجديد بحاجة إلى إقرار من قبل ممثلي النظام التراثي، وبقى حجم التجديد خاضعاً لمستوى التدافع بين ضغوط التطور ومقاومة التراث، أي بين قوة المطلوب وقوة المسموح.

وعند هذه النقطة تظهر إشكالية “التمثيل”؛ من الذي يمثل النظام التراثي في السياق الإسلامي الراهن ؟ أعنى في ظل التعدد المذهبي الطائفي الموروث، والتعدد السياسي القطري الذي فرضه نموذج الدولة الوطنية، وقبل ذلك في ظل غياب نص تأسيسي يشير إلى “مؤسسة ” جامعة ذات صلاحيات إنشائية تملك التحدث باسم الديانة. ما يفتح النقاش، دائما حول مشروعية السلطة الدينية وأحياناً السياسية – التي يتقمصها الأزهر، والتي تتفاقم في المراحل الأخيرة بفعل التمدد الأصولي وتراجع وعي الدولة بدورها التجديدي، إضافة إلى السمات الشخصية للشيخ الطيب الذي استغل حالة الترهل والارتباك الناجمة عن أحداث يناير 2011 لتصعيد حضوره السياسي، وخلق موقع للطبقة الفقهية داخل الدستور المصري.

ينزع الوعى الأشعري بطبيعته إلى اتخاذ موقف وسطي بين النقلية السلفية والتأويل العقلي، ويبدو أقل تشددًا حيال الواقع المتغير، لكنه يظل في جوهره سلفياً يحاول التعبير عن نفسه بآليات عقلية. وهذا واضح في طرح الطيب وعيًا لمسألة التراث؛ فرغم حديثه عن قابلية التراث للتجديد خارج مجال الثوابت، يعود فيعمم موقفه الدفاعي على التراث في مجمله، ويبدو متحفزًا وشديد الحساسية حيال أي مقاربة لفكرة التراث (هاجم رئيس جامعة القاهرة بمجرد حديثه عن مسئولية التراث رغم أنه لم يقرب منطقة الثوابت). وفي حديثه عن ” الشرط الضروري لنهضة العرب والمسلمين” يتكلم صراحة عن “التراث بثوابته ومتغيراته”.

وكما ستكشف الفقرات التالية سينتهي شيخ الأزهر – ربما بطريقة لا واعية – إلى محاكاة السلفية القح في فكرة أن المشكل لا يكمن في التراث بأي من شقيه، بل في انحراف الواقع عن التراث بشقيه.

-9-

“رابعاً، لا أرى أن التراث هو المحرك لتصرفاتنا، والمسئول الأول والأخير عن أزمتنا المعاصرة، بل أستطيع أن أنطلق من نقيض هذه الدعوى وأزعم أننا لا نستلهم تراثنا الإسلامي في كثير مما نفعل أو نترك.. والا فاين في أمتنا العربية؛ والتي يعلقون تخلفها على مشجب التراث أين فيها هذا المجتمع الذي تنضبط قواعد حياته على أصول الحلال والحرام في التراث؟

المشكل إذن هو أننا لا نستلهم التراث بالقدر اللازم، فالمجتمع لا تنضبط حياته على أصول الحلال والحرام في التراث. ما لا يدركه الشيخ، أو ما يتغافل عنه بوعيه السلفي التقليدي، هو أن هذه الحالة تشرح حجم التطور الاجتماعي الذي طرأ على أرض الواقع، و استطاع بالفعل أن يقلص حضور الضوابط التراثية، وهذا هو بعينه كنه المشكل الذي تفرضه ضغوط الحداثة على النظام التراثي، والذي يستدعى الحديث عن التجديد.

مع ذلك، وبسبب المستوى الراهن للتطور الاجتماعي، لا تزال هذه الضغوط عاجزة عن تنحية النظام التراثي بشكل كلى أو على نطاق واسع، ولا يزال هذا النظام قادراً على البقاء و التأثير ؛ أولاً : من خلال هيئاته العضوية الظاهرة ( المؤسسات والجماعات والقوى المسيسة )، ومواده التكليفية المباشرة ( أحكام وتعاليم الفقه التي تحول بعضها إلى جزء من القانون كما في الأحوال الشخصية ). ثانيًا : وهو الأهم، من خلال حضوره الكامن داخل الثقافة اللاواعية.

يعتاد العقل الديني السلفي على قراءة المجتمع من منظور أحادي هو المنظور الفقهي، ولا يكاد يشعر بفكرة “الثقافة” الخام التي تتسع لروافد ومثيرات متعددة ومركبة، أبعد من فكرة التكليف الفقهي الدينية. وهو أيضا لا يكاد يستوعب فكرة “التدين الشعبي” الذي لا يتطابق في أي سياق ديني مع مدونته الرسمية، ثمة دائماً فارق بين نسق التدين النظري الذي يأمر به الكتاب / الفقه، ونمط التدين العملي الذي يمارسه الناس في الشارع. التدين الشعبي- المحكوم في المقام الأول بالغرائز البيولوجية والاجتماعية – أسرع استجابة لضغوط التطور من أي مدونة رسمية.

في هذا السياق يمكن قراءة حالة “الازدواجية الثقافية” الراهنة في المحيط العربي الإسلامي، حيث تتجاور مفردات ومفاهيم التراث الفقهي مع مفردات ومفاهيم معارضة لها مستمدة من الحداثة (راجع التجاور القائم بين قواعد الفقه النظري المتشددة، والسلوكيات الدارجة المناقضة لها في مجالات الفن والموسيقى، والملابس، وعمل المرأة، واختلاطها بالرجال، والبنوك والصرافة،..).

التراث المظلوم

-10-

يشرح شيخ الأزهر: ” ولنضرب لذلك مثلاً موقف مجتمعاتنا الإسلامية من المرأة.. إن بعض هذه المجتمعات ينظر إليها في إطار “العورة” ويصادر في هذا الإطار كثيراً من حقوقها التي يقررها الإسلام والإنسانية في وضوح لا لبس فيه. هل هذا الموقف مقولة تراثية إسلامية، أو هو مرض ورثناه من عصر ما قبل الإسلام؟

والبعض الآخر من مجتمعاتنا ينظر إليها في إطار غربي تختلط فيه الإيجابيات والسلبيات معاً، فهل هذه نظرة تراثية اسلامية أو هو انسحاق في تراث آخر غير تراث الإسلام ؟ ونحن لا ننكر أن في تراثنا أقوالاً منغلقة وفهومًا قبلية قدمت لنا أحكاماً خالية من روح النص ومقاصده . بل ومتعارضة مع روح النص ومقاصده. ولكن وبكل تأكيد ليه هذا هو التوجيه السائد أو التوجه الأغلب في هذا التراث المظلوم.”.

يتساءل الشيخ بصيغة استنكارية عن اعتبار المرأة عورة هو مقولة تراثية إسلامية ؟ والجواب : نعم هو مقولة تراثية إسلامية مؤكدة، لا ترجع إلى تقريرات الفقه الاجتهادية فحسب، بد تستند إلى مرجعية “نصية” ثابتة بالأحاديث المسندة إلى النبي حسب الصحاح لمسانيد، وفى الكتاب التأسيسي ذاته حسب تفسيرات السلف متوارثة ( يجمع الفقه السني على النظر إلى المرأة كجسد مثير يجب ستره إما كلياً كما يذهب الشافعية والحنابلة، أو جزئيًا كما يذهب الأحناف والمالكية). وفي الوعي المعاصر، تبدو مشكلة المرأة مع التراث الإسلامي، أكبر من فكرة العورة. يتعلق الأمر بالإطار التميزي العام الذى يسلبها الكثير من الحقوق الإنسانية الطبيعية (لا يستوعب الوعي الحداثي أحكاماً فقهية مستقرة من قبيل التمييز بين الرجل والمرأة في دم القصاص، والولاية العامة والخاصة، والقوامة التي تعرضها للعقاب بالهجر والضرب، والميراث، والمهر بوصفه أجراً لعملية النكاح،…، )، وفي واقع الأمر تمثل مسألة المرأة واحدة من أخطر نقاط الضعف في التراث الإسلامي، ومن الغريب أن يستدعيها الشيخ وهى شاهد ضده لا في صالحه.

يستخدم الطيب هنا آلية “الدفاع الانتقائي” الشائعة لدى التيارات الوسطية (المعتدلة ). وهي آلية جديرة بالأوساط العامية أو الجمهور الدارج، الذي يكون فكرته عن الإسلام من التصورات العامة ذات البعد الأخلاقي المفترض، وليس من مفردات الفقه التفصيلي، في عملية الدفاع الانتقائي يجرى الخلط – بشكل عمدي غالباً – بين القيم الكلية الأخلاقية الواردة في النص، وهي مشتركة في الوعي الإنساني، ومنظومة التكاليف التشريعية والاعتقادية التي أنتجها عصر التدوين. تستخدم القيم الكلية كحائط صد نظري في مواجهة النقد الحداثي، فيما تظل المنظومة فاعلة على مستوى السلوك ومستوى الوعي.

-1-

بحسب شيخ الأزهر، اختزال المرأة في فكرة العورة هو “مرض ورثناه من عصر ما قبل الإسلام،”، وهو يقدم هذا التقرير بوصفه دليلاً على براءة التراث الإسلامي من تهمة ازدراء المرأة. ولست أدرى كيف يغفل الشيخ – الذي يفترض أنه احتك بالعلوم الإنسانية خارج الإطار السلفي التقليدي – أن هذا بعينه دليل إدانة التراث.

صحيح أن هذه الرؤية موروثة من ثقافة الجاهلية العربية لكن الصحيح أيضا أن هذا التوريث جاء إلينا عبر التراث الإسلامي و بسببه، وذلك من خلال النصوص التي قننت الرؤية، وقواعد الفقه التي قامت بتكريسها في المدونة، وتصديرها كأحكام ملزمة إلى الأجيال اللاحقة. كان بالإمكان كما يفترض من منظومة دينية “مطلقة” استبعاد المفاهيم الجائرة أو غير الإنسانية الخاصة بالمرأة، ولم يكن مرجحاً حضور هذه المفاهيم واستمرارها لو لم تأت محمولة على حامل الدين المقدس.

التراث الإسلامي هو المسئول عن استحضار المفاهيم الجاهلية.

وهذا هو المسار الطبيعي لأي عملية تشريعية حتى ولو كانت تجرى في إطار ديني. لا يستطيع النص -ومن ورائه الفقه – أن يتجنب  خصائص الثقافة  الاجتماعية التي يزامنها في مرحلة التأسيس والتدوين كل ما هنالك أن العقل الديني يتجاهل هذه الحقيقة بسبب تضخم الوعي بالحضور الإلهي على حساب البعد الاجتماعي البشري حتى داخل الإطار التشريعي          ( الفرعي والمتغير بطبيعته).

-12-

داحس والغبراء

البيكادلي والشانزليزيه

“إذا فقدر كبير جداً من أنماط سلوكنا لا يعكس تراثنا الإسلامي بقدر ما يعكس إما تأثيرات مزمنة من مجتمعات قبلية سابقة على ظهور الإسلام، أو تأثيرات مستجلبة من بيئات غربية، أو خليط غير متجانس ولا متوازن من هذين المصرين المتضادين.

فليس صحيحاً ما يؤكده كتاب حسن حنفي من أن سبب خلط الأوراق في أذهانا هو أن نعمل بالكندي ونتنفس بالفارابي، ونرى ابن سينا في كل الطرقات، بل المشكلة فيما أرى أننا نعيش عصرنا وإحدى قدمينا في ميدان “داحس والغبراء” والأخرى في ميدان البيكادلي والشانزليزيه”.

وغياب التراث الحقيقي كان دائماً مصدر الخلل”.

يعترف الطبيب بأننا نعيش عصرنا وإحدى قدمينا في ميدان داحس والغبراء أي في قلب الثقافة العربية الجاهلية بنزوعها القبلي العنيف المطبوع على الغزو والقتال، ومرة أخرى يستدعى واحدة من أخطر نقاط ضعف التراث في معرض الاحتجاج على تبرئة التراث. يستنكر الطيب حالة الازدواجية الثقافية، ليس اعتراضًا على مسالب التراث، بل على حركة الواقع المتطور. ومرة أخرى ينسب العنف الحاضر في حياتنا إلى ثقافة الجاهلية وليس إلى التراث الذي نقل إلينا هذه الثقافة في شكل نصوص هجومية صريحة تأمر بقتال الناس وغزوهم في بلادهم لنشر الذين. وهي النصوص التي تم تحويلها إلى أحكام الهية ملزمة باسم جهاد الطلب، من خلال الفقه وعبر تاريخ “الدولة” الطويل المشرب بدماء الفتح. في واقع الأمر نحن حيال مغالطة ساذجة حين نحاول تبرئة التراث الإسلامي من تهمة العنف.

-13-

التناقض الجوهري

من المغالطة الساذجة أيضا استخدام الشيخ لمفهوم “التوجه السائد” “أو التوجه الأغلب” في التراث؛ المسألة لا تتعلق بقياس كمي، یكفي وجود تناقض جوهري بين مجمل التراث وثقافة الوعي الإنساني المعاصر التي تنزع بوضوح إلى عقلانية العلم وقيم السلام والحرية:

يتكلم الطيب عن أصول ثابتة محصنة بالنص، وهذا يعنى تجاهل صلب المشكل كما يطرحه الوعي الحداثي في مواجهة التراث. المشكل أو محل النزاع صار يتعلق مباشرة بسلطة النص. ينطوي النص- كما يقدمه الطرح السلفي – على تناقض جوهري مع الوعي الإنساني، وينطوي أيضاً على تناقض داخلي مع الشق المطلق من منطوق النص ذاته، أعنى مع قيم الأخلاق الكلية التي يثبتها النص.

لم يعد هذا التناقض يقتصر على الأحكام الاجتهادية الفقهية، بل يمتد إلى أحكام ثابتة في المتون. ومن هنا فإن أي محاولة لإعادة التوافق مع الوعي الحداثي تحتاج إلى إعادة النظر في “مفهوم النصية”، الموروث من المدونة، ولا مفر والحال كذلك من معاودة النظر في مفهوم “الأصول الثابتة” ذاته أعني في المقولات التي يعتبرها التراث أصولاً ثانية، وأولها مقولة “الخلاص الحصري” التي تنفي الآخر وتعارض واقعة التنوع كقانون اجتماعي طبيعي، أي كسنة من سنن الخلق الإلهي حسب المصطلح الإسلامي، وكذلك مقولة ” التشريع الأبدي” التي تنفي قابلية القانون للتغير وتعارض مبدأ التطور، وهو بدورة قانون اجتماع طبيعي. هذا القانون – بسبب جسامة التحولات الاجتماعية – صار يفرض نفسه على مضمون النص الأصلي، وليس فقط على مادة الفقه الثانوية.

العقل التراثي في مجمله يتجاهل هذه المشاكل الحقيقية، وهو مشغول بفكرة الدفاع عن نفسه، وعن مصالحة الموروثة. وهي المصالح التي تراكمت وصنعت طبقة الفقهاء عبر تاريخ طويل من التحالف مع السلطة الحاكمة. هذه الطبقة تمثل النسخة الإسلامية من “الكهنوت” وهي نسخة تشكلت كقوة “واقع” في سياقات الاجتماع الديني السياسي منذ عصر التدوين رغم افتقارها إلى أي إسناد نصى.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete