من تنوير الظاهرة الدينية إلى إنارة العقل

تمكين

ابتداءً، التنوير سيرورة عقلية مستمرة، وأي توقُّفٍ لهذه السيرورة هو بمثابة الانتحار. وعندما يأخذ هذا التوقُّف طابعاً جمعياً، أي عندما يتجاوز توقُّف العقل الفردي عن السير والتقدُّم وفقاً لتطوّره المعرفي، ويتحوَّل هذا التوقُّف على مستوى الأمة أو الشعب، يكون فعل الانتحار أكثر ألماً ومأساوية. يُصبح، والحالة هذه، انتحاراً حضارياً، إذ تخرج الأمة من إطار الفعل بالعالَم وموجوداته إلى إطار الانفعال به؛ وفي درجات اسوأ تنتقل إلى مستوى المفعول بها من قبل الأمم والشعوب الأخرى، بعد أن تعجز عن تقديم أي رؤية للعالَم الذي تعيش فيه. تخرج عن نطاق الخدمة الحضارية، وتصبح محض مُتلقٍ سلبي لما يدور حولها أو عليها، دون أن يكون لها أي دور إيجابي أو فاعل في ذلك.

ما معنى التنوير الفكري؟

وأنْ يتم الاصطلاح على وضعٍ حضاري لا يتحرَّك فيه العقل تحرُّكه الطبيعي، لا يمكن أن يكون وضعاً تنويرياً، أياً كانت مواضعات هذا الفعل التنويري، حتَّى ولو كانت على أيدي أناس يدَّعُّون ويتبجحون بالتنوير. فهو فعل، أعني فعل التنوير، (هدمي/ بنائي) في الأصل، بما هو سيرورة دائمة. فهو يجترح أبنية معرفية جديدة، لكنها مؤقتة لأسئلةٍ حادثة في العقل البشري، وعليه أن يتقبَّل أي اقتراحات وإجابات جديدة تأتي من غيره، غير تلك التي تَوَصَّلَ إليها بنفسه، ولا يتعامل مع إجاباته حصراً، بإزاء إجابات الغير، بسلفيةٍ مُتزمّتة، بحيث يتمثَّل كراهية التنوير، التي كان يُعاديها ويعيب مسلكية أصحابها منذ البداية. فالبناء الذي يجترحه العقل ينبغي تأقيته (من الوقت) وعدم منحه صفةً أبديةً مُطْلَقة؛ فالأبد والإجابات الأبدية، حتَّى وهي تُزيح إجابات قديمة وتهدمها وتبني إجابات جديدة مكانها وتُثبّتها، فعلٌ مضادٌ لاشتراطات الوجود الإنساني؛ شرط الحالة ونقيضها بشكلٍ مبدئي، أي من اللحظة الأولى، وبشكلٍ دائم، لغاية الحفاظ على دفقية سيرورته. فهي اشتراطات زمانية غير أبدية، فانية غير خالدة، ومن مميزاتها أنها تتجلَّى في جدلٍ دائمٍ، ولا يمكن أن تقرّ في كينونةٍ أخيرة ونهائية. فاقتراح إجابات جديدة وبناء معمار معرفي جديد، حتَّى وهو ينقضّ على إجابات خاطئة ويريد تصحيح المسارات الحياتية التي دمرتها تلك الإجابات؛ هو اقتراح بشري غير خالد وغير عابر للأزمنة، بإزاء مآزق التواجد الإنساني الآني في الزَّمن والمكان، وليس اقتراح لإجابات أبدية عن حالةٍ زمانية، بما يُدخل الوضع برمَّته في أزمة منهجية. بمعنى من المعاني، لا يمكن النَّظر إلى التنوير إلا كنوعٍ من الطبابةٍ الدَّائمة لحالة الوجود الإنساني التي يعتورها النقص والمرض بشكلٍ دائمٍ وأصيل، ومنذ اللحظة الأولى.

وفقاً لما سلف، العقل أصلٌ زمانيٌّ مُعْتَلٌّ، مريضٌ وبحاجةٍ، من ثمَّ، إلى طبابةٍ معرفيةٍ دائمة، وإلا تعمَّق اعتلاله، فتخمَّجَ وزاد مرضه ومات؛ ومع موته تموت حيوات الأمم والشعوب والحضارات. ولا شيء أضرَّ على العقل، بما هو أصل زماني مُعْتَلّ، من إقحام الأبد السوي، العفي، المُضاد للمرض وحادثات الزمن، المُطْلَق، اللامُتناهي، المُتعالي على الأخطاء بشكلٍ مبدئي وحاسم؛ إلى مسيرة حياته في العالَم، إذ يحدث اختلال منهجي منذ اللحظة الأولى، بين نمطين أنطولوجيين مختلفين اختلافاً جوهرياً: 1- الأبد من جهة. و2- الزَّمن من جهة ثانية. وبطبيعة الحال يبقى الاختلال قائماً في أي مقاربة للعلاقة بين الأبد والزمن، مهما جُمِّلَّت هذه العلاقة وزُينَّت فضائلها وحسناتها، وأياً كان مصدرها. ويتعمَّق هذا الاختلال ويتحوَّل إلى مأساة كبرى، إذا ما تمَّ فرض مُطْلَقات الأبد الخالد على مقتضيات الزمن الفاني. ويتعمَّق هذا الاختلال بشكلٍ كارثي ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل على مستوى الأمة كاملة أيضاً، ساعة يتم تأبيد العلاقة بين مُطْلَقات الأبد ومقتضيات الزمن، دون قدرة على تغيير تلك العلاقة وزحزحتها وفقاً لمواضعات الحالة المعرفية التي قرَّ عليها العقل في زمنه الآني، أو بالأحرى في تطوُّره الأخير.

ما هي أفكار التنوير؟

السؤال المُلحّ ها هنا: ما الذي يحول دون القدرة على إحداث تغيير في العلاقة بين مُطْلَقات الأبد الخالد ومقتضيات الزمن الفاني؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، أطرحُ سؤالاً سابقاً عليه، وهو: ما هي: 1- مُطلقات الأبد الخالد. و2- مقتضيات الزَّمن الفاني؟ وأية علاقة (تصلها/ تفصلها) عن موضوع التنوير، والتنوير الدِّيني على نحو مخصوص؟

مُطْلَقات الأبد، هي ما تخارج عن الزَّمن واستعصى على الفناء، بصفته نابعاً من قوةٍ لا يجري عليها مَجْرَى الزَّمَن وحادثاته، من مرضٍ وتفسُّخٍ واعتلالٍ وموتٍ وفناء. تاريخياً، كان هذا الأبد المُطْلَق من اختصاص الآلهة حصراً، وإنْ تعدَّدت اهتماماتها وتحدَّدت اختصاصاتها[1]. لكنه برز أكثر ما برز بشكلٍ واضح وصريح مع الأديان التوحيدية: 1- اليهودية. 2- المسيحية. 3- الإسلام. وقد أخبرتنا محلمة جلجامش[2] أن سعي جلجامش للحصول على عشبة الخلود، كان قد مني بفشلٍ ذريع، إذ تطلَّع بشريٌ إلى الخلود! لذا جرى عليه، في النهاية، ما يجري على أيِّ كائن زماني، من تعبٍ ووسخٍ وضَنَكٍ ومرض وتفسُّخ وفناء!

أما مقتضيات الزَّمن فهي حادثات تُفضي إلى الموت والفناء، بعد أن يُصيبها العناء والتعب والمرض والتفسُّخ. وإذا كانت مُطْلَقات الأبد من اختصاص الآلهة قبل الأديان التوحيدية، ومن اختصاص يهوه في اليهودية واختصاص الربّ في المسيحية واختصاص الله في الإسلام؛ فإنَّ مقتضيات الزمن من اختصاص الكائن الزوجي؛ من أعلى الكائنات في المرتبة الوجودية إلى أدناها، أو من الإنسان إلى الخلايا. فكل ما يدبّ ويجري في الزمن مصيره، بلا شكّ، إلى الموت والفناء.

لذا، فإنَّ إقحام الأبد في الزمن ينطوي على خطأ منهجي منذ اللحظة الأولى؛ لكن ما الذي فعله الأتباع والمؤمنون لكي يُؤمِّنوا هذه النقطة ويحسموا الجدل حولها؟ لقد قالوا: إنَّ أهل الأبد أعلم وأدرى من أهل الزمن، بصفتهم أقدم وأعرف، لذا يُصبح تدخلهم في تصريف أمور العالَم والكائنات في الزمن، تدخلاً مقبولاً وضرورياً، بل ومصيرياً لكي يبقى العالَم في حالةٍ من التوازن الدَّائم. بالتقادم قرَّ، بشكلٍ إيماني حاسم، في أذهان الناس، لا سيما أصحاب الديانات التوحيدية الثلاث، ضرورة تدخُّل الأبد في حادثات الزمن. وشيئاً فشيئاً تمَّت حماية هذه الضرورة، وتمَّ اعتبارها جزءا لا يتجزأ من هُويَّة الإنسان المُوحِّد وكينونته العميقة. لكن، مما يُحسب لهذه التجربة في الأديان الثلاث أنها نظرت نظرات مختلفة ومتنوعة لعلاقة الأبد بالزَّمن، أو كيف يتدخَّل الأبد بالزَّمن؟ أين يبدأ وأين ينتهي؟ أين يتصلان وأين ينفصلان؟ ففي اليهودية وفي المسيحية وفي الإسلام، خيضت نقاشات طويلة وحادة حول هذا الموضوع. وإذا أخذنا الدِّين الإسلامي كحالةٍ نموذجية، فقد نشأت مدارس فكرية مختلفة ومتعددة، وكان لكل مذهب أو فريق وجهة نظر تختلف عن وجهات النظر الأخرى، فالمعتزلة كونوا وجهة نظر عن علاقة الأبد بالزمن أو الإلهي بالإنساني، وكذلك الأشاعرة، وكذلك الفقهاء والفلاسفة والمتصوفين والعلماء والأدباء…إلخ. وكان يمكن لهذه التجربة أن تأخذ طابعاً ملحمياً؛ كبيراً ومترامي الأطراف ونتائجه عظيمة، لو استمرت تلك التجربة حتَّى عصرنا الحالي، لكن ما حدث للأسف كان غير ذلك بالمرة. إذ تمَّ الاصطلاح على نسخة أخيرة ونهائية[3] من علاقة الأبد بالزَّمن، أو من علاقة تدخُّل الإلهي بالمسار الإنساني في الزمن، وقد كانت المُدونة الفقهية قد استأثرت بتلك النسخة، صياغات ومآلات، وما زالت تستأثر بها حتى لحظتنا الرَّاهنة، عبر مجموعة من: 1– المفاهيم. 2- الأشخاص. 3- السياسات. 4- التشريعات القانونية. 5- وجدان الناس.

المفاهيم، مثل: 1- الحلال. 2- الحرام. 3- التقوى. 4- الترغيب بالجنة. 5- الترهيب بالنار وعذاب القبر. 6- فقدان المعنى. 7- الوقوع في المعاصي. 8- دوائر الإفتاء. 9- وزارات الأوقاف. 10- دوائر القضاة الشرعيين. 11- كُليَّات الشريعة… وغيرها الكثير من هذه المفاهيم.

الأشخاص، مثل: 1- الفقهاء. 2- الأئمة. 3- الدُّعاة. 4- رجال الدِّين. 5- المفتون. 6- القضاة الشرعيون. 7- خُطباء المساجد. 8- آيات الله. 9- الملالي… وغيرهم الكثير من الأشخاص.

السياسات، إذ ما كان للسُّلطة الدينية كما قرَّت إقرارها الأخير في المُدونة الفقهية، أن تصطلح على النسخة الأخيرة والمُعتمدة من الدِّين، لولا إقرارها أولاً من قبل السُّلْطَة السياسية القائمة. فالإقرار الدِّيني بحاجةٍ إلى قوة كبيرة تُعمّمه وتنشره بين الناس ولو بالقوة، وهذه القوة لا يمتلكها أحد إلا القوة السياسية. وهذا ما حدث يوم أن تعاضدت السُّلطة الدينية مع السُّلطة السياسية على إقرار النسخة الأخيرة من الدِّين الإسلامي وما زالت، بعد أن حاربت كل النسخ الأخرى وعاقبت أصحابها، وحطمَّت النسخ الأخرى التي جاءوا بها، أو تلك التي كان يمكن أن تُثري الاجتماع السياسي لو بقي باب الاجتهاد المعرفي قائماً، مع صونه وحمايته؛ قانونياً وسياسياً.

التشريعات القانونية، إذْ تمَّ سن جُملة من القوانين لضبط أي مُخالف أو مُعارض أو مُجْتَهد أو مُضيف أو مُعقِّب على الصيغة النهائية للدِّين التي اصطلحت عليها كُلٌّ من السُّلطتين: الساسية والدينية. مثل عقوبة الإفطار في رمضان، أو عقوبة الإساءة للشعور الديني… وغيرها الكثير من التشريعات التي تمَّ تأطيرها قانونياً.

وجدان الناس، إذ تمَّ بناء هذا الوجدان بما ينسجم مع مقتضيات النسخة الأخيرة من الدِّين، فصار الناس يسألون رجال الدِّين عن كل كبيرة وصغيرة في حياتهم، لكي تبقى ضمائرهم مرتاحة مما يُقدمون عليه من أفعال وأقوال وأحلام في حياتهم اليومية؛ ابتداءً من دخولهم دورات المياه، وليس انتهاءً بخروجهم من قبورهم يوم الحشر. فالمفاهيم التي يعمل رجال الدِّين والأئمة وآيات الله والشيوخ… إلخ، على صونها وحمايتها، مُنسجمة انسجاماً تاماً مع وجدان الناس وضمائرهم، بل تمَّت صياغة ضمائرهم وفقاً لتلك المفاهيم أساساً.

ما هو التنوير في الإسلام؟

فمع المُدونة الفقهية لم يتم الاصطلاح على النسخة الأخيرة من الدِّين الإسلامي فحسب، بل تمت عمليات شطب للمُدونات الأخرى، أو بالأحرى لم يعد لتلك المُدونات الأخرى أي مفعول في الاجتماع السياسي، وإنْ حصل فعلى المستوى الفردي، مع إمكانية التهديد بملاحقتهم ومعاقبتهم والنيل منهم، لا سيما إذا ما خرجت أفكارهم ورؤاهم إلى العلن[4]، وأصبحت تشكلاً تهديداً لنسخة الدِّين المحمية سياسياً ودينياً وقانونياً. والخطورة في إزاحة الرؤى الدينية المُغايرة للرؤية المقبولة والمتعارف عليها، حَرَمَ مجتمعاتنا من آفاق جديدة للعلاقة بين الأبد والزمن أو بين الإلهي والإنساني، هذا مع التسليم بالعلاقة المبدئية بينهما أصلاً، رغم انطواء ذلك على خطأ منهجي كما أشرت إلى ذلك قبل قليل.

بإزاء هذا الخطأ المنهجي، ينبغي تجاوز فكرة التنوير الدِّيني كاملة، والانتباه إلى أن الأساس في التنوير هو حالة معرفية مُتقدمة مقابل حالة جهل مُستعصية، أو ما هي آليات النَّظر، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والفلسفية والعلمية والأدبية والنفسية، التي طورها العقل في تعامله مع الوجود؛ من عالَم ما تحت الذَّرة إلى عالَم ما فوق المجرة.

لكن، إذا تمَّ التغاضي عن هذا الخطأ، واعتباره صحيحاً بالتقادم، فينبغي مراعاه أن التنوير الدِّيني ينبغي أن يشتغل على خمسة محاور رئيسية لكي يُصبح تنويراً فاعلاً في الاجتماع السياسي، وليس محض مناورات ومناوشات لا تُقدِّم ولا تؤخِّر. وهي محاور منسجمة بطبيعة الحال مع المحاور الخمسة التي ذكرتها آنفاً، وجعلت من المُدونة الفقهية مدونة فاعلة، وهي: 1- الأشخاص. 2- المفاهيم. 3- السياسات. 4- التشريعات القانونية. 5- وجدان الناس.

وهذه المرة ستكون الأولوية للسُّلطة السياسية، فبدونها سيبقى مشروع التنوير الدِّيني مشروعاً فردياً ليس إلا، ولن يكتب له النجاح إلا بعد مرور زمن طويل. نعم، بلا شكّ، لقد ابتدأت عصور التنوير على الدوام بأفراد، وانتهت بتغيّر الأمم والشعوب، ولكن بعد عذابات طويلة وأزمان أطول. فأوروبا لم تتنور دينياً بشكلٍ جماعي إلا بعد أن أسَّس لذلك التنوير أفراد بعينهم، لكنهم دفعوا أثماناً باهظة من حيواتهم المختلفة، التي وصلت في كثير من الأحيان إلى حدِّ الكُره والتحريض والنبذ والسلخ والسحل والقتل، ولم يُعاد لهم الاعتبار إلى بعد زمن طويل، وبعد أن نالوا ألواناً مختلفة من العذاب.

إقرأ أيضاً: العقل العربي بين الأخلاقي والديني عند الجابري

السؤال: كيف للسُّلطة السياسية أن تتبنى مشروع التنوير الدِّيني في ظلِّ استحكامات: 1- مفاهيمية. 2- تشريعات قانونية. 3- وجدانية، أوجدت أشخاصاً لا معنى لحياتهم خارج نطاق سردية واحدة وأحادية، من سرديات الدِّين المُتعدِّدة؟

الإجابة على هذا السؤال تتطلب:

أولاً: إيجاد حاضنة ثقافية كبيرة ومتعددة ومتنوعة: فكرية، علمية، أدبية، تنتصرُ للخُلاصات المعرفية بما هي جوهراً من صُلب التجربة الدينية المتنوعة.

ثانياً: صون المجال العام بجُملة من التشريعات القانونية التي تشتغلُ على محورين: 1- محور، يُشذَّب عبر تعاليمه ما ساهم في تبنِّي وجهة نظر واحدة للدِّين. 2- محور، يُفعَّل عبره ما يصون حرية الفكر داخل الحقل الديني، بطريقةٍ تُفضي إلى حماية تعدُّد وجهات النظر المختلفة، وليس حماية وجهة نظر بعينها.

ثالثاً: وهذا بدوره سيثري التجربة المعرفية التي تتحرَّك في الاجتماع بحمايةٍ سياسية، ومع الزَّمن ستترسخ هذه التجربة كجزءٍ من وجدان الناس، لا سيما بعد إنتاج مفاهيم جديدة حول التجربة الدينية على المستوى المعرفي، ونشر هذه المفاهيم وترسيخها وتعميمها عبر المناهج التعليمية المختلفة. فوجدان الناس القائم فيما يتعلق بأن لا خلاص للناس في الحياتين الدنيوية والأخروية، إلا عبر المُدونة الفقهية وتعاليمها والقائمين عليها، تأتَّى بعد أن تمَّ تثبيت تلك المدونة بقرارٍ من السُّلطة السياسية، والتجربة يمكن إعادتها لكن مع توسيع للتجربة الدينية على المستوى المعرفي، بحيث تصبح فكرة الثراء والسِّعة جزءاً من وجدان الناس وعاطفتهم الدينية، وهذا ليس مستحيلاً بل يمكن إنجازه بيُسرٍ وسهولة، إذا ما توافرت الإرادة والإمكانات.

الفكر الاجتماعي في عصر التنوير

والفرصة الآن مواتية أكثر من أي وقت مضى في العالَم العربي، وذلك لعدد من الأسباب، من أهمها:

أولاً: تراكم خبرة قرنين من الحراك المعرفي فيما يتعلق بالتجربة الدينية ومواضعاتها في الاجتماع السياسي.

ثانياً: الثورة التكنولوجية الحديثة.

فيما يتعلق بالسبب الأول، فمع بدايات القرن التاسع عشر بدأ بعض الأفراد في العالَم العربي بطرح أسئلة بقدر ما كانت شائكة بقدر ما كانت شائقة، فبعد ما يقارب الألف عام من العطالة المعرفية التي تسببت بدورها في عطالة حضارية شاملة، بدأت تخرج بعض الأصوات الواعيو، وسط مجتمعات غارقة في لذة جهل عميق، وتطرح تلك الأسئلة (الشائكة/ الشائقة). وظهرت جُملة من الأسماء ما زالت حضارة بقوةٍ في السياق المعرفي، أمثال: إبراهيم اليازجي ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين ومحمد عبده…إلخ، إذ بدأوا –ولهم الرِّيادة في ذلك- في تمديد جسدنا المريض على أريكة الأسئلة (الشائكة/ الشائقة) لغاية إجراء عملية جراحية، مُستخدمين مبضع العقل، كبيرة ومؤلمة له، وللأجيال التي حلَّ فيها هذا الجسد المريض على مدار قرون طويلة، وسبَّبَ لها أمراضاً مُزمنة وخطيرة للغاية. وقد تعالق الجزء الأكبر من حراك أولئك الأفراد الشجعان، مع الحالة الدينية، إذ تمَّ السَّعي لتنويرها وإحداث ثغرة معرفية في بنيتها القائمة، وهذا ما تعزَّز مع الزَّمن، بعد أن بقيت الحالة المعرفية (المتعالقة مع الدين/ المُتعلقة به) محصورة في مجموعة من الأشخاص، أخذت الدَّائرة بالإتسَّاع، وهذا ما ظهر بشكل جلي في كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لعبد الرحمن الكواكبي، وكتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، وكتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق. التي ما زالت فاعلة في المجال الثقافي العام حتَّى اللحظة. لكن مع كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين تحديداً، توسعت دائرة السجال والنقاش والجدل، المؤيد والمعارض، بشكل واضح وصريح، ليس في الأوساط الثقافية فحسب، بل وفي الأوساط الأدبية والسياسية والقضائية أيضاً، فقد شغل الكتاب “الرأي العام، وأحدث دوياً هائلاً في جميع أنحاء البلاد، وأهتز له البرلمان ومجلس الوزراء وجميع الأوساط العلمية والسياسية كأنها قضية العصر”[5] لكني أظن أن أكثر تطوُّر إيجابي، ليس بشأن كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين فحسب، بل في عموم النقاش العربي الحديث حول سؤال التنوير والنهضة والتحديث ايضاً، هو قرار النيابة العامة الذي صاغه النائب العام للديار المصرية “محمد نور” سنة 1927م في الردِّ على كتاب في الشعر الجاهلي، إذ كتب مرافعة كبيرة وعميقة ومميزة[6]، ليس من ناحية قانونية فحسب، بل ومن ناحية فكرية وأدبية أيضاً، ما وسَّع دائرة النقاش الحُر، النزيه، الموضوعي، الهادئ، البعيد عن الانفعالات التي لا تليق بأي حالةٍ فكرية صحية ومتطورة.

وشيئاً فشيئاً أخذت الحلقات التي تُخضع الحالة الدينية لنقاش معرفي مختلف ومتعدّد تتمدد وتتوسع، ما ساهم في تعزيز وجود رؤى مختلفة في الفضاء العام حول الظاهرة الدينية بكافة تجلياتها. وهذا ما ساهم في تعويد الناس على فكرة الاختلاف وإنْ تمَّ تحويلها، في أغلب الأحيان، إلى خلافات مؤذية، دفع أصحابها أثماناً باهظة من حيواتهم وأرزاقهم وأعمارهم. كما حدث مع إسماعيل أدهم صاحب الكتاب الصغير (لماذا أنا ملحد؟)، إذ انتحرَ في نهاية المطاف، ليس لأنه تعثَّر في فهم مُشْكل الوجود الإنساني، فاستعصى الأمر على عقله فحسب، إذ لم يجد حلاً إلا في الذهاب إلى العدم، بل لأنه تعثَّر اجتماعياً أيضاً، فأفكار مثل أفكاره كان المجتمع، بأطيافه المختلفة، يُعاند عناداً شديداً في قبولها وتبيئتها وإحلالها بسلامٍ في فضاءاته، تحت وطأة عقوبات شديدة للمخالفين. وكما حدث مع أسماء كثيرة وعديدة أمثال: معروف الرصافي، وصادق جلال العظم، ونجيب محفوظ، ومحمود محمد طه، ونصر حامد أبو زيد…إلخ. إلا أن ذلك، ورغم حجم الألم الكبير الذي سبَّبه لأولئك الأشخاص نظراً لغياب، بالأساس، أي حماية سياسية لهم، ساهم في توسيع دائرة النقاش الديني على المستوى المعرفي، ومن زوايا مختلفة ومُتعددة.

ولا شكَّ أن مثل هذا الحراك الفكري والأدبي، رافقته أفعال واقعية على المستوى الاجتماعي، ساهمت في إعادة النظر، بطريقٍ مختلفة، بالأطر الدينية الفاعلة في الاجتماع السياسي؛ مثل صعود حركة الإخوان المسلمين بقوة في العالم العربي، وحادثة جهيمان في المملكة العربية السعودية، وثورة الخميني في إيران، والمجاهدون العرب في أفغانستان…إلخ.

بإزاء مثل هذه الحوادث وشبيهاتها، برز نمطان، بشكلٍ عام مع عدم إطلاق حكم نهائي وأخير في هذا المقام، ليبقى الباب مفتوحاً على خيارات أخرى، من أنماط التعامل مع الحالة الدينية على المستوى المعرفي:

النمط الأول: نمط تثبيتي، سعى جاهداً إلى التمسُّك بما هو قائم على المستوى الدِّيني، على اعتبار أن المشكلة الأساسية، ليس في الرؤية الدينية القائمة وقاعدها الناظمة للحياة، بل في تطبيقات التابعين لتلك القواعد؛ إذ حدثت فجوة بين طوبى تلك الرؤية، وبين التطبيقات العلمية لتلك الطوبى كما تمثّلها الأتباع والمؤمنون. وقد برز هذا النمط في العديد من الكتابات أمثال كتابات محمد قطب وكتابات سيد قطب ومحمد الغزالي ومحمد سعيد رمضان البوطي ومحمد عمارة وابن عثيمين وابن باز…إلخ.

النمط الثاني: نمط تغييري، سعى جاهداً إلى إحداث خروقات في البنية المعرفية الدينية القائمة، على اعتبار أنها بنية يعتورها النقص، لا سيما بعد أن تقادمت ومرَّ عليها زمن طويل، ولم تعد صالحة لزماننا هذا. وكما أشرتُ سابقاً، فقد ظهرت العديد من الأسئلة (الشائكة/ الشائقة) لدى العديد من روَّاد اقلرن التاسع عشر، الذين أخذت أفكارهم بالتمدد والانتشار من بدايات القرن العشرين وصولاً إلى لحظتنا الرَّاهنة، ولو رصدنا، بعجالة، أبرز محطات –إضافة إلى بعض المحطات التي ذكرتها سابقا- هذا التطوُّر لوجدنا مدى قابلية وجاهزية الفضاء العام الحالي لأي رؤية سياسية تتبنَّى خيار إحداث تغير معرفي حقيقي في رؤية الإنسان العربي للدين. فتأسيساً وتجاوزاً لكتابات الروُّاد الأوائل، ظهرت كتابات أدباء المهجر ونقاشات جماعة أبولو والنقد الأدبي والكتابات الأدبية والنقاشات العلمية…إلخ. إضافة إلى السجالات بين المفكرين أنفسهم، مثلما حدث مع “صادق جلال العظم” و”محمد أبو القاسم حاج حمد”. وكما حدث أيضاً مع “محمد أبو القاسم حاج حمد” و”محمود محمد طه” وكما حدث مع “محمد عابد الجابري” و”جورج طرابيشي”…إلخ.

نقد الفكر الديني

فالموقف الديني القديم –بحسب صادق العظم في كتابه نقد الفكر الديني- الممتلئ بالطمأنينة والتفاؤل في طريقه إلى انهيار تام. وفي فترة لاحقة سيتعرض كتاب (نقد الفكر الديني) لنقد شديد من قبل المفكّر السوداني “محمد أبو القاسم حاج حمد” في كتابه (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة). الذي حاول تقديم أطروحة فكرية في كتابه تعالج مسألتين في غاية الأهمية من وجهة نظره: الأولى إخراج البشرية من كبوتها الحضارية، بالرجوع إلى النص القرآني بصفته معادلاً موضوعياً للنصّ الكوني، فأي تقدّم باتجاه قراءة الكون ينبغي عليه أن يتزامن مع قراءة للنص القرآني، كنوعٍ من المواءمة بين ما هو مسطور في القرآن وما هو منثور في الكون. وهذا يتطلّب ضمناً التحقّق في المسألة الثانية ألا وهي إعادة الاعتبار لضلع الغيب الذي اقتلعه العقل الغربي من الجسد الإنساني، فتركه نهباً لعلاقة غير سليمة مع الطبيعة.

وعلى جبهة أخرى كان “محمد أبو القاسم حاج حمد” يخوض حرباً معرفية ضد “محمود محمد طه” صاحب أطروحة (الرسالة الثانية في الإسلام)، فقد حاول إظهار مكامن الاختلاف بين كتابه (العالمية الإسلامية الثانية) وكتاب (الرسالة الثانية في الإسلام) لابن بلده المُفكر “محمود محمد طه” الذي انتهى به المطاف إلى الإعدام، وبقرارٍ سياسي، بعد أن أثارت آراؤه الفكرية حول الدِّين والسياسة غضب الكثيرين.

فكر التنوير

وعلى جبهة أخرى، خاض “جورج طرابيشي” سجالاً كبيراً[7] في مشروعه النقدي (نقد نقد العقل العربي)، ضد مشروع “محمد عابد الجابري” (نقد العقل العربي). ففي بداية الثمانينيات سيصدر الجزء الأول من مشروع المفكر محمد عباد الجابري الموسوم بنقد العقل العربي، والذي سيصدر منه أربعة أجزاء تباعاً: 1- تكوين العقل العربي، 2- بنية العقل العربي. 3- العقل السياسي العربي، 4- العقل الأخلاقي العربي. وسيشغل هذا المشروع جزءاً كبيرا من الحِراك الثقافي العربي على المستوى الديني، إلى درجة أن مفكّراً آخر هو جورج طرابيشي، سيخصّص زمناً طويلاً من حياته [حوالي ربع قرن] للرد على مشروع الجابري (نقد العقل العربي) بمشروع مضاد وسمه بـ (نقد نقد العقل العربي) وسيشتمل على: 1- نظرية العقل العربي، 2- إشكاليات العقل العربي، 3- وحدة العقل العربي، 4- العقل المستقيل في الإسلام. ودائماً ما يضاف كتاب (المعجزة أو سبات العقل في الإسلام) إلى مشروع الطرابيشي في نقده لمشروع الجابري. وسيكون لهذين المفكرين دور بارز في تعزيز شُعلة النقد في العالم العربي، وتفكيك لُحمة الخطاب الديني، سواء في صيغته التراثية كما فكّكها الجابري أو في صيغته الطرابيشية بعد أن كشف النقاب عن زيف كثير من الرواية الجابرية حول التراث وبيَّن تهافتها وعدم مصداقية كثير مما جاءت به. ومعهما، مع محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، سيتمكن الإنسان العربي من تجاوز ما أمكنني تسميته بـ (فوبيا التراث)، نظراً للمادة المعرفية التراثية الضخمة التي جمعاها وفكّكاها. فتلك الهالة المقدسة في التعامل مع التراث ستخبو لدى هذا الإنسان، وسيتمكن من التعامل تعاملاً نقدياً معرفياً مع هذا التراث، لا تعاملاً سيكولوجياً يقوم على منظومتي: الخوف الداخلي والتخويف الخارجي.

ضمن خطٍّ موازٍ ستشتغل الرواية العربية جنباً إلى جنب مع الكتب الفكرية في تناولها للظاهرة الدينية، ومحاولة البحث عن آفاق جديدة؛ فإنْ كانت الكتب الفكرية تقارب تلك الظاهرة من زاوية معرفية، فالرواية تقاربها من زاوية أدبية، بما يمنحها قدرة في التفكيك شبه الغائب عن الدراسات الدينية في العالم العربي. وستكون الفاتحة الخجولة مع الرواية الصغيرة (قنديل أم هشام) ليحيى حقي، التي سيحافظ بها على توازن ما بين الشعور الديني ومتطلبات العصر الحديث. ثم ستكون الصدمة مع رواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، والتي بقي الجدل حولها محتدماً حتى لحظتنا الراهنة، لا سيما حول شخصية “الجبلاوي” الشخصية الرئيسية في الرواية[8].

إقرأ أيضاً: إشكالية التنوير في عالم ما بعد الحداثة؛ هل ينبغي نزع السحر من العالم؟

ثم ستنشر رواية (وليمة لأعشاب البحر) لحيدر حيدر بداية ثمانينات القرن الماضي، إلا أنها ستُنسى قرابة العشرين عاماً إلا أن يُكْتَب عنها بصفتها نصاً يستهدف الحالة الدينية في العالم العربي ويسعى إلى المسّ بمشاعر المسلمين، ساعتها ستنتشر الرواية انتشاراً كبيراً، وستأخذ حيزاً واسعاً من نقاشات المثقفين العرب. وبالتقادم أصبحت الرواية أكثر حضوراً في تفكيك المشهد الديني، وظهرت روايات لها ما لها في الشأن الثقافي العربي الحديث، مثل: رواية “حج الفجار” لموسى ولد ابنو، و”يحيى” لسميحة خريس، و”فسوق” لعبده خال، و”منافي الرب” لأشرف الخمايسي، و”الطريق إلى تل المطران” لعلي بدر، و”الآخرون” لصبا الحرز، و”مولانا” لإبراهيم عيسى، و”ساق البامبو” لسعود السنعوسي، و”عزازيل” ليوسف زيدان، وثلاثية تركي الحمد “الكراديب/ العدّامة/ الشميسي”، و”شوق الدرويش” لحمور زيادة، و”ملامح” لزينب حفني، و”وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر، و”جحيم الراهب” لشكري النوري، و”نساء المنكر” لسمر المقرن، و”خرائط” لنور الدين فرح، و”الشطَّار” لمحمد شكري، و”المتمردة” لمليكة مقدّم، و”لا حمام يطير في بريدة” ليوسف المحيميد، و”جنة البرابرة” لخليل صويلح، و”المترجِمة” لليلى أبو العلا، و”حُبّ ليس إلا” لنادية الكوكباني، و”ظلال الجفر” لوليد أحمد دماج… إلخ[9]. فهي أعمال تتحرَّك إلى جانب الأعمال الفكرية في تفكيك الظاهرة الدينية، والبحث عن آفاق جديدة للعلاقة بين الأبد والزمن أو بين الإلهي والزمني.

وغيرها العديد من المشاريع ضمن النموذجين السابقين: أمثال مشاريع علال الفاسي ومحمد الطاهر بن عاشور ومالك بن نبي وطيب تيزيني وزكي نجيب محمود ومحمود أمين العالم وسليمان بشير وفهمي جدعان وحسن حنفي ومحمد شحرور وعبد المجيد الشرفي وعلي الوردي…إلخ. التي تراكمت، أعني تلك المشاريع، على مدار قرنين من الزمان واختمرت مادتهما، وانتشرت بشكلٍ واسع وعريض، وهذا ما ظهر جلياً مع الورفة التكنولوجية التي وفرتها ثورة الاتصالات الحديثة [السبب الثاني المُواتي لتعميم تجربة التنوير الديني بقرارٍ سياسي]. فمع هذه الثورة انخرطت أعداد كبيرة وكثيرة من الناس في العالم العربي، في الحراك المعرفي المُتعلق بالحالة الدينية، لا سيما أنها ظاهرة مُتعالقة مع كل كبيرة وصغيرة في حياتهم، ابتداءً من دخولهم دورات المياه، وليس انتهاءً بمستقبلهم الميتافيزيقي. وإذا كانت، سابقاً، النقاشات والحوارات والسجالات الفكرية والأدبية المُتعلقة بالظاهرة الدينية، من اختصاص الأكاديميين والمفكرين والأدباء والمُهتمين والقُرَّاء المُتابعين، وفي أماكن بعينها؛ فمع الثورة التكنولوجية، لا سيما مع مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت الظاهرة الدينية بكل حمولاتها في مرمى الجميع، ما أسَّس لمفاهيم جديدة حولها، وتأثير تلك المفاهيم على وجدانيات الناس، إذ صار متداولاً أن يرى الناس، من أبسطهم عيشاً إلى أعقدهم تفكيراً، نقاشات وسجالات حول أبسط المسائل وأعقدها في الظاهرة الدينية.

وهذا بطبيعة الحال، ليس محض طفرة عشوائية ستُفضي إلى أفول وزوال، بل هي نتاجات طبيعية لقرنين من الحراك المعرفي المتعلق بالظاهرة الدينية. فالتأسيسات التي قادها أفراد شجعان في القرنين الماضيين، ها هي تتحوَّل إلى نسق عام وكبير. والفرصة مواتية الآن، كما اعتقد، أكثر من أي وقت مضى، لتبنِّي مشروع نهضة تنويري تجاه الحالة الدينية. فعلى مدار قرنين طويلين ومؤلمين تراكمت خبرات كبيرة وهائلة ومفيدة، واختمرت إلى درجة تحوُّلها إلى نسق عام، لكنها بحاجةٍ إلى قرار سياسي، يُؤطّر مسلكياتها قانونياً، بطريقة تُفضي إلى الحدِّ من غلواء أصحاب الفكر الخلاصي، والانتصار لأصحاب الخُلاصات المعرفية، بحيث تُصبح الظاهرة الدينية جزءاً لا يتجزأ من مشروع التنوير العقلي، بصفته الضامن من أيِّ زللٍ حضاري، لا سيما إذا ما بقي في حالة فعل وتفاعل بشكلٍ دائم ومستمر.

 

المراجع:

[1]  في الحضارات القديمة تعدَّدت الآلهة، وقد كان لكُلِّ إلهٍ اختصاص مُحدَّد، إلا أن تعدُّد الآلهة وتعدُّد اختصاصاتها لم يكن يُنبي، في العموم، عن ثراء روحي يقود بدوره إلى صون مبدئي لحرية التعبير، بل قد يحدث العكس تماماً. وهذا عينه ما حدث مع سقراط، إذ تمَّ إعدامه، رغم وجوده في بيئةٍ من أخصب البيئات الفكرية عبر التاريخ كُلِّه.

[2]  كُثُر اعتنوا بملحمة جلجامش، لكن ربما كان الأستاذ “طه باقر” من أكثرهم عناية بهذا النص الخالد، لا سيما أنه مُلمّ إلماماً كبيراً بالمحلمة والنصوص القريبة منها، كألواح سومر. لذا يمكن الرُّجوع إلى نسخة “طه باقر” من المحلمة.

[3]  يمكن العودة إلى مقالتي: (أيدي الإمام الغزالي: 1- يد الفيلسوف. 2- يد الصوفي. 3- يد الفقيه: عن مواضعات المشروع الهُويَّاتي الإسلامي)، موقع تكوين، على الرَّابط التالي:

https://taqueen.com/%D8%A3%D9%8A%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A-1-%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81-2-%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84/

 

[4]  حدث هذا على الدّوام في تاريخنا العربي الإسلامي، وتفاوتت العقوبات إلى حد أنها وصلت، في كثير من الأحيان، إلى القتل. ما شكَّل تهديداً دائماً لفكرة الحرية بشكل عام، والحرية الفكرية على نحو مخصوص.

[5]  خيري شلبي، محاكمة طه حسين، دار ومطابع المستقبل بالفجالة والإسكندرية، مصر، مؤسسة المعارف، بيروت، لبنان، د ت، ط2، ص6.

[6]  في عددها الأول والثاني من المجلد التاسع، قامت مجلة (فصول)/ أكتوبر 1990، بنشر وثيقة (قرار النيابة في كتاب الشعر الجاهلي) كاملاً، من الصفحة 191 إلى الصفحة 224.

[7]  يمكن العودة إلى مقالة: (جورج طرابيشي: من المنزع الفردي إلى سيرورة عصر النهضة)، معاذ بني عامر، موقع تكوين، على الرَّابط التالي:

https://taqueen.com/%d8%ac%d9%88%d8%b1%d8%ac-%d8%b7%d8%b1%d8%a7%d8%a8%d9%8a%d8%b4%d9%8a-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b2%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d8%af%d9%8a-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d9%88/

 

[8]  من المفارقات العجيبة أنَّ صاحب واحد من أشهر الأصوات الخطابية السلفية في العالم العربي الشيخ “عبد الحميد كشك” قد أصدر كتاباً ضخماً ينتقد فيه، من وجهة نظر دينية صرفة، رواية أولاد حارتنا، وهو بعنوان: (كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا).

[9]  الأمثلة كثيرة، اخترتُ منها ها هنا عينَّات، بعيداً عن قيمتها الأدبية من ناحية نقدية. فالحديث عنها بإسهاب وتفصيل بحاجةٍ إلى مقالات ومقامات أخرى.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete